25.5.08

انهيار برج بابل- 04-05-06

(4)
اعتزال الإمام

...
المدينة المنورة .. أرى أمامي المسجد النبوي بأعمدة من جذوع النخل وجدران من لبِن شيدت فوق أساس من حجر، تلك صورته التي كان عليها بعد توسعته عشية خيبر، وهي ذات الصورة التي تركه عليها الرسول يوم لقي ربه، أقف أمام الباب الشمالي، فأرى المنبر النبوي الشريف على الجهة المقابلة ملاصقا للجدار الجنوبي، مجرد مقام من خشب لوقوف النبي بغير نقوش ولا عقود، بسيط كبساطة الإسلام ونقائه على عهد الرسول والراشدين، شرقي المسجد وعلى بعد خطوات منه، قامت حجرات أمهات المؤمنين، تلك التي هدمها الوهابيون في مطلع القرن العشرين بعد أن صمدت للدهر ثلاثة عشر قرناً[1]، وفي واحدة من تلك الحجرات يرقد الجسد الطيب حيا وميتا، جسد الرسول صلوات الله وسلامه عليه .. أنظر عن يميني فأرى عريشة من جريد النخل، تفصلها عن صحن المسجد ستائر من قماش خشن حال لونه، في وسطها يرتفع عمود من جذع نخلة علقت به سلة تمر، هي الصِفَّة إذن! تلك التي أنشأها الرسول ليثوب إليها فقراء المهاجرين ممن لا دار لهم ولا أسرة، ومعهم المنقطعون للعلم من الأنصار، فكان لساكنيها هؤلاء ممن عرفوا بأهل الصفة ذكرا كثيرا وأموراً جلالاً[2] .. أجيل بصري فيما حولي، فأرى المدينة نائمة في هذا النزع الأخير من الليل، عدا بيت واحد مازال الضوء ينبعث من كوة في طرفه، بيت بسيط يبعد عن المسجد قرابة المائة متر وتمتد خلفه صحراء البقيع التي توسدتها الأزهار اليانعة من الشهداء والصحابة .. بيت يقع ما بين المسجد والبقيع؟ إذا .. هو بيت "علي" و"الزهراء"[3] .. أقترب أكثر من الكوة التي ينبعث منها النور في جداره فأرى ظهر "علي" كرم الله وجهه جالسا في صحن داره، أعرفه من هيئته وقد احتمى من برد الصحراء ببردة صوفية، فهل هي ذاتها بردة النبي[4]؟ تلك التي أهداه إياها في ليلة الهجرة المباركة التي غيرت وجه التاريخ؟ أتراه يتحرز بها من برد الليل، وبذكرى صاحبها من هموم الدنيا؟ أراه متكئا على ركبته وقد بسط فوقها رقاً[5] سميكا يبدو كأنه مدبوغ من جلد الثور، وفي يده قلم من بوص يكتب به، ويغمس طرفه في محبرة أمامه كل حين، أقف مراقبا في صمت رغم شعوري بأني رأيت هذا المشهد ألف مرة، أراه ينظر لأعلى مفكرا متأملاً تارة، وينظر في صحائف ورقاق بين يديه تارة، ويكتب في رقهِّ تارة، وهكذا مضت دقائق وأنا ثابت في وقفتي خلفة نافذة الإمام، حتى قطع هدأة الليل صوت جميل مجلجل يؤذن للفجر : الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر .. أشهد ألا إله إلا الله .. ما أندى هذا الصوت الذي أتاني من ناحية المسجد! جاء الإسلام رسالة للجمال في كل شيء، حتى اهتم الرسول باختيار أجمل صوت ليدعو الناس للوقوف بين يدي بارئهم[6]، لهذا يبقى الإسلام دين الفطرة البشرية التواقة للجمال، سواء في ذلك ما كان جمالا مسموعا أومنظورا أوملموسا ومحسوسا!
أرى "علياً" يضع رقه وقلمه جانباً ويقوم وهو يحكم لف بردته حول جسده اتقاء لبرد الليل، أحسبه سيخرج للصلاة في المسجد، فإذا به يقتبل القبلة ويتمتم كأنه يردد الأذان قبل إقامة الصلاة! "علي" يصلي في بيته ومسجد النبي على بعد خطوات منه؟ لا يبدو مريضا، فلماذا يصلي الفجر في بيته؟ لابد أنه في فترة الاعتزال، تلك التي لم يخرج خلالها إلا لصلاة الجمعة، وتفاوتت تقديرات المؤرخين لها بين ثلاثة أسابيع على أقل تقدير وستة أشهر على أكثره، مازلت أراه يتهيأ للصلاة، لكن الصورة أمامي تبدو ضبابية بعض الشيء، وقد وصل المؤذن لعبارة "حي على الفلاح"
...
(5)
كرب وبلاء

الخميس، السادس من سبتمبر
حي على الفلاح
يفتح عينيه ليجد الفجر يؤذن بالفعل متمما أذان المسجد النبوي في حلمه! نعم .. كالعادة! هكذا فكر وهو يقوم من فراشه ثقيل الجفن شارد الذهن، فيفتح باب الغرفة المؤدي للطرقة الطويلة، ويرى نور الحمام مضاءً فيفهم أن "عزة" سبقته تتوضأ للصلاة، يتجه للمطبخ في نهاية الطرقة ماراً بالحمام، فيأتيه صوتها من الحمام وقد شعرت بحركته: صباح الخير
- صباح الخير يا عزيزة قومك
هكذا تعود أن يناديها مدللاً كما كان والدهما يناديها، فهي بالنسبة له أكثر من أخت، هي أمه الصغيرة وصديقته وأثيرته من البشر، وصل للمطبخ ففتح الثلاجة وتناول زجاجة مثلجة رفعها إلى فمه يعب الماء عب من أضناه الظمأ، فقد نضح جسده بعرق غزير في حلمه فقام والظمأ يشق حلقه كالسكين، لماذا يقترن هذا الحلم تحديداً بنوبة العرق الغزير تلك؟ وما خطب هذا الحلم المتكرر الذي بدأ إلحاحه عليه يقلقه ويدفعه للبحث عن معنى؟ نعم .. قد يتغير الحلم في بعض الليالي كحلمه أمس بالنهروان، لكن هذا الحلم تحديدا هو وجبته المكررة في أغلب الليالي، وجبة من الإرهاق العصبي الغير مبرر، يعقبه شعور بالإرهاق والعطش الشديد، كل ليلة يرى "علي بن أبي طالب" يخط في رق قبيل صلاة الفجر، ثم ينطلق الأذان، ويفتح عينيه كل مرة ليجد أذان الحقيقة يتمم أذان المنام، فلماذا؟ هكذا كان يفكر حين دخلت "عزة" المطبخ قائلة: هل أعد لك الشاي معي؟
- شكرا، سأصلي وأعود للنوم
- ماذا تفضل للغداء؟
سؤال لا تمل النساء من القائه ولا يمل الرجال من الرد عليه بلا شيء، وقد أجابها بلا شيء ولكن بطريقته الرقيقة المدللة قائلا: كل طعام من يديك شهي مريء يا "عباسة" آل الإمام
علقت وهي تملأ الغلاية بالماء قائلةً: "العباسة"[7] مرة واحدة؟
- هاشمية مثلها بشهادة نقابة أشراف مصر، وأثيرة أبوكِ وأخوكِ مثلها، فماذا ينقصك لتكوني كعلية بنت المهدي؟
هكذا علق "علي" ناظراً إليها بودٍ، فردت: وإذا تكون أنت "الرشيد"؟
- نعم، وسآمر "مسرورا" أن يأت برأس "زياد" في صحن كما أتى للرشيد برأس "جعفر" زوج أخته
- أهذا حديث نبدأ به يومنا؟
هكذا أجابته مقطبة حاجبيها وهي تضع ملعقة من الشاي في كوب زجاجي وتضيف إليه السكر انتظارا لغليان الماء، "زياد" هو طليقها الذي لم تداوي السنون المتعاقبة جراحها منه ومعه، هز "علي" رأسه وقال بصوت هاديء ينهي به حوار الفجر القصير: آسف .. تصبحين على خير
قالها ثم استدار ليتجه نحو الحمام متثائبا، وأمام الحوض مزج الماء ليصبح دافئا على خلاف عادته، فالليلة الخريفية كانت باردة بعض الشيء، وحين شرع في الوضوء وثبت لعقله صورة "زياد" طليق أخته، "زياد عبد الله" أستاذ مساعد جراحة القلب بتلك الجامعة القاهرية العريقة، والمثقف اليساري عندما كان طالب طب في السبعينات، قبل أن ينقلب مائة وثمانين درجة ليصبح عضو هيئة تدريس محسوب على جماعات الإسلام السياسي في الثمانينات والتسعينات، فسبحان من يغير ولا يتغير! لم يحبه "علي" منذ اليوم الأول، لم يمنعه ذلك من ملاحظة تدنيه في دركات الازدواج والانتهازية دركا دركاً، طرد صورته من ذهنه وهو يتمم وضوءه قبل أن تستفزه الذكريات فتفقد عينه خيط الكرى، فلطالما استفزته ذكرى زوج أخته الذي أضناها وأطفأ شعلة شبابها، جفف ذراعيه ووجهه ثم توجه لغرفته فدخلها، وقع بصره على هاتفه المحمول فوق الخوان، وخطرت له فكرة فأطرق لحظة لم تطل، ثم التقط المحمول وفتح قائمته ليكتب رسالة، وفي خانة الاسم اختار اسمها من قائمة هاتفه .. "ماري ماكسيميليان" .. ثم كتب رسالته بالإنجليزية "ماري الجميلة للأبد، هاتفيني عندما تقرأي رسالتي في أي وقت، أفكر بنهاية أسبوع قصيرة في الإسكندرية لألقاكِ، فهل يسمح جدولك؟" .. وضع الهاتف مكانه ثانية واتجه لموضع السجادة في غرفته فاقتبل القبلة، قفزت لذهنه صورة الإمام "علي" وهو في بيته قائم يصلي، فدعا له برضوان الله وأخذ يستعد وجدانيا للصلاة، فصلاتي الفجر والعشاء هما أكثر صلواته خشوعاً، يتهيأ لهما ويصليهما على مهل في هدأة الكون، فيشعر بنور الله يسري بقلبه، كبر للصلاة وصلى مغمض العينين، تعود أن يغمض عينيه ولم يقتنع بكلام من نبهوه أكثر من مرة لكراهة ذلك، إذ كان يرد عليهم قائلاً: لا أستطيع التركيز إلا مغمض العينين، وكراهة السهو عن الصلاة أكثر من كراهة اسدال الجفون، المضمون أهم من الظاهر! ولو أدركنا هذا في كل أمر من أمور دنيانا لكان حالنا نحن المسلمون والعرب غير هذا الحال!
عندما وصل في التشهد لعبارة "وعلى آل محمد" قفزت لذهنه صورة الإمام "علي" ثانية، وطرق ذاكرته حديث رسول الله حين أحاط "علياً" و"فاطمة" و"الحسنين"[8] ببردته مشهداً الله أنهم آل بيته[9]، وداعيا لهم بالطيب والطهر، سلم "علي الإمام" منهياً صلاته ثم قام فتمدد على فراشه شارد الذهن، وترددت في رأسه الآية الكريمة: "قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ"[10] .. فابتسم في ألم، كيف كانت مودتنا في قربى النبي هي سفك دماء قرباه وعترته؟ فبالأمس عاش بيننا من صلوا وسلموا وباركوا آل النبي في كل يوم تسع مرات، ثم أعملوا السيف في آل البيت يوم كربلاء من أجل دنيا يصيبونها! واليوم يعيش بيننا من يصلي ويبارك عليهم كذلك ثم يدَّعي أن قاتليهم كانوا على شيء من حق أو شيء من نبل المقاصد! ويدعي أن حال هؤلاء السفاحين كحال من اجتهد فأخطأ، فهم على جريمتهم مأجورون! ما أحرى مأساة اجتثاث العترة النبوية في موقعة الطف[11] بالتفكر والاعتبار؟ لكن المسلمين لا يتفكرون ولا يعتبرون، وإنما يحيي بعض الشيعة ذكراها بأداء تراجيدي وطقوس قاسية لجلد الذات، وليس أهل السنة أحسن منهم حالا، فمنهم من يجهل كربلاء ولا يعرف بمصيبة قتل نسل النبي في ساعة من نهار! ومنهم من يعرف ولكنه لا يدرك ولا يعتبر من ذلك الكرب والبلاء!
حاول "علي" طرد أفكاره تلك لينام، أغمض عينيه وترك أوتار جسده ترتخي طلبا للنعاس، لكن هيهات .. فالنوم كالمرأة الجميلة، تقتحمك لو أعرضت عنها وتنأى عنك لو طلبتها، وبقيت عدة كلمات تتردد في عقله فتتقافز المشاهد التي تعبر عنها في خلفية من ظلام جفنيه المسدلين .. البصرة .. كربلاء .. المختار .. علي بن الحسين .. وهكذا .. حتى أخذه النوم، وأصفى النوم وأطيبه ما كان بين الفجر والشروق، ولكن .. هل يهنأ أحد بنوم بعد هذه الخواطر والمشاهد؟
...

(6)
حصاد الوهم

رفعت "عزة" الطالبة في السنة الخامسة بكلية الطب سماعة الهاتف فأتاها صوت خطيبها "زياد" المدرس المساعد في قسم الجراحة بنفس الكلية، يطلب منها مراجعة الرسم التوضيحي لأعصاب القدم جيدا، لأن أغلب اختبار الغد مرتبط به، اقتحمتها حيرة وانتابها توجس، فردت: كيف عرفت؟
- راجعيها وحسب
- لن أفعل حتى أفهم
أجاب مستسلما لعنادها بأن زميله الدكتور "بكري" أخ فاضل، يعرف أن خطيبته في السنة الخامسة، وقد لاقاه خارج مسجد الكلية بعد صلاة العشاء فأسر له بهذا همسا، وبين لها أنه لم يطلب منه ذلك .. بل هو من تطوع خيراً!
- يخرج من المسجد ليسرب الامتحان! وتسمي هذا تطوع خير!
هكذا علقت هي، فأجابها بحدة ظاهرة كأنه ينهرها: ألا تعرفين أنه يُسرَّب بالفعل؟ رئيسة القسم المتعصبة تسربه كل عام للطلبة الأقباط في الدفعة؟ أنتركهم يحتكرون وظائف هيئة التدريس ونضيع نحن؟
- نحن وهم! هل أصبحنا فريقين؟
- عدنا لشعارات "علي"
- دع "علي" وشأنه
قالتها بحدة لتوترها، توترت بسبب دلالة الموقف على منطق خطيبها وليس بسبب الموقف فقط، حاول "زياد" أن يتحكم في حدته، فاصطنع صوتا هادئا اجتهد ليجعله مقنعا، وقال: الرجل يساعد العناصر الملتزمة حتى تقوى الجامعة بهم كأعضاء في هيئة التدريس، فهل ترين هذا خيرا أم شرا؟
- أراه منطق حق يراد به باطل، وهو منطق يربو في رأسك كل يوم .. ويقلقني أكثر كل يوم، أين القصائد التي كنت أسمعها من "زياد" طالب البكالوريوس وأنا بالسنة الأولى؟ أين الحديث عن الدولة المدنية والهوية القومية؟ أين ذهب كل هذا؟
- ذهب مع زمنه، وحل محله الأفضل، حل محله المنطق الإلهي يا سليلة الأشراف
- وهل يوصينا المنطق الإلهي بالغش؟ سأنام من فوري، ولن أراجع غير ما راجعت بالفعل
في الفراش أكل القلق قلبها، تكاد لا تتذكر من تشريح أعصاب القدم شيئا، واختبار الفترة أو "الشيت" كما يطلق عليه في الكلية يمثل عشرين بالمائة من درجات المادة، قامت من فراشها وراجعت أعصاب القدم وما يرتبط بها من اختبارات تشخيصية، غلبها الخوف فقامت تستفيد من المعلومة المختلسة وضميرها يخزها وخزاً أليماً، لكنها بشر، أغرتها المعلومة المتاحة فانزلقت، وكانت هذه القدم بداية طريق من التنازلات انزلقت فيه قدمها، تنازلات كثيرة قدمتها في حياتها معه ولم تتوقف إلا عندما أمسكت في يدها وثيقة طلاقها منه .. من بين كل ذكرياتها المريرة مع طليقها، تذكرت "عزة" حوارهما هذا بعد تعليق أخيها في المطبخ منذ دقائق، ربما لأن هذا الحوار كان قرينا لبداية تنازلاتها؟ بداية وحسب، فبعد أن تنازلت حين استغلت المعلومة المختلسة، وسعدت حين حصلت على عشرين درجة كاملة نتيجة لها، اجترأت على التنازل زمنا .. تنازلت يوم عرفت بأمر الدروس الخصوصية التي يعطيها "زياد" - والذي صار زوجها- سرا لطلبته، وما اقترن بهذه الدروس من تسخير موارد المستشفى الجامعي وأجهزته لهذه المجموعة من الطلبة ميسوري الحال، اقتنعت بكلامه حول الفارق بين الغير قانوني والحرام، ولكن .. هل اقتنعت حقا أم أرادت أن تقتنع لتستمر الحياة؟ ثم تنازلت يوم طلب منها أن تتقرب لزوجة المشرف على ورقته للترقية لدرجة أستاذ مساعد، وأن تهديها هدية ثمينة، أقنعها أنه يرشي حتى يتجنب الظلم وليس طلبا لمنفعة، فلا حرمة في ذلك! كم كان ماهرا في تبرير كل ما يحتاجه ليصل لهدفه! أو حتى لمتعه الرخيصة! مهارة تصل لدرجة الاحتراف، فقد كان يبرر لنفسه أولا فيقنعها تماما، ولهذا يفيض وجهه بالصدق حين ينتقل لمرحلة التبرير للآخرين واقناعهم، وربما كانت هذه الموهبة التمثيلية الفذة هي ما أهله لما هو فيه اليوم من نفوذ رخيص وكريه مثله
رشفت رشفة من كوب الشاي وهي ترخي جفنيها المثقلين بينما تنهيدة حارة تخرج من صدرها، إنها "عزة الإمام" .. في الثامنة والثلاثين، معتدلة القوام، شرقية الجمال، شعرها أسود طويل رفعته خلف رأسها في شنيون بسيط، سمرتها رائقة راقية، أما عيناها النجلاوان فهما أجمل ما في وجهها السمح، شعرت بهبة من نسيم الفجر البارد تأتي من الشرفة المفتوحة، فضمت أطراف الروب المنزلي البسيط على صدرها وهي تزدرد الشاي بصعوبة، يختنق حلقها قليلا بسبب تلك العبرة التي تكتمها في أحداقها .. لو أنها تنبهت وقتها .. لو أنها فقط أدركت حقيقته في الوقت المناسب .. لما ضاع من العمر ما ضاع، تسع سنين كاملة أهدرتها معه، ثم أهدرت بعد طلاقها سنينا طوالا في حزنها، تمر الأيام .. وكل يوم يمر يحيل حلم أمومتها وهما بعيد المنال، أهكذا يضيع العمر من أجل وهم تصورت ذات يوم أنه رجل؟ أمن العدل أن يحكم اختيار اللحظة على مصيرنا للأبد؟ أمن الحق أن نخسر كل شيء في لعبة واحدة غبية؟ لقد خسرت أمومتها ومستقبلها كطبيبة، خسرت إيمانها بذاتها، بل كادت تفقد إيمانها بكل شيء لولا هذا البيت الذي نشأت فيه على إيمان هادئ راسخ متين الأركان، بغير تشنج ولا تصنع، إيمان يحب الحياة ولا يعاديها أو يجافيها، ولم تعرف الكراهية في حياتها قبل أن تعرف حقيقة "راسبوتين"[12] هذا الذي كانت زوجة له! ويوم عرفت حقيقته .. اقتحم الكره صدرها كحمم بركان غضوب .. آه .. "مشيناها خطا كتبت علينا .. ومن كتبت عليه خطا مشاها"! هكذا رددت في نفسها وهي تقوم للمطبخ لتبدأ يومها بإعداد الغداء كحالها في كل يوم، فهي طائر مبكر يعشق ساعات ما قبل الظهر عكس شقيقها العزيز، يحتاج الهدوء ولا يجده إلا في قلب الليل، فلا ينام قبل الثانية صباحا ولا يصحو قبل العاشرة، يقول أنه كان في بريطانيا ينام مبكرا ويصحو مع الشمس لأن الهدوء اللازم لعمله كان متوفرا ليل نهار، عندما مرت بالصالة الرحبة وقعت عيناها على صورة والدها وقد جلس "علي" على ركبته طفلا في الخامسة، يشبه أباه شبها يجعلها تخلط أحيانا بين الأب والأخ في عقلها، ولم يكن الشبه قاصرا على الوجه، ولكن في الروح كذلك

15 comments:

ايوية said...

طبعا تعليقى هيكون فى النهاية لكن مقدرشى امنع نفسى من ابداء الاعجاب بتسلسل الحوار والمزج السلسل بين الفلاش باك والحاضر
بس فية احساس غريب حسيتة وانا بقراء اظن ان شخصية الدكتور على قريبة جدا من شخصية الدكتور اياد دة احساسى

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي أيوية:
منورة الفصل الثاني يا آية المدونين

أكرمك الله، أما الدكتور علي و شبهي به، فقد يكون "علي" هو من أتمنى أن أكون، لكنه يشبهني في بعض الامور منها التعلق بشخص سيدنا علي، و الذي يجعل البعض يعتقد احيانا اني شيعي، لكني بكل تأكيد لست من الدوحة الشريفة نسبا
تحياتي و تقديري

Miss Egyptiana "Trapped Soul" said...

من المؤكد انك تعرف رأيى وكيف اقع فى حب كل ما تخطه يدك

لغتك العربية ثرية الى درجة تجعلنى احس بضآلة ما اكتب... اكيد الى بكتبه مش عربى :)

لا-ادرية ؟؟ كيف تقولها بالانجليزية؟!
اريد ان اعرف!!

تحياتى يا عزيزى وفى انتظار الاجزاء القادمة بكل شوق

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي إيجيبسيانا
أهلا و سهلا بك، و شكرا جميلا على اثنائك الرقيق، لكن أين الجديد عندك؟ أدخل كثيرا ولا أجد جديدا؟

اللا-أدرية بالانجليزية هي agnosticism أو اللا-معرفة، متكونة من شقين ، a للنفي، و gnosis بمعنى المعرفة، و هي اصطلاحا للمعرفة الدينية

تحياتي و تقديري

Egypt Rose said...

اياد طول الوقت بحترمك و مش فهماك في نفس الوقت .. ربما ينطبق علينا مسطلحك الصداقة المستحيلة بدل الحب المستحيل .. عندك نزعت تحرر في قولك "مدت يدها لتحتوي يده الممدودة في مصافحة واثقة ، لطالما أحب "علي" الثقة و الكبرياء في طريقة مصافحة المرأة الأوروبية المعاصرة، في مصر و أغلب البلاد العربية، عدا سوريا و لبنان ربما، تمتد يد المرأة للمصافحة في تردد و خفر اصطناعي كأنها ستمس عقرباً عندما تمس يد الرجل" ودائما اشعر انك متدين متشدد.. وبرغم ذلك اكن لك كل الاحترام و التقدير و الندم على عند رائتك حتى الان

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي وردة مصر
لقد لخصت يا عزيزتي مأساتي الفكرية في تعليقك هذا العميق، مأساتي كمأساة سيزيف المعلق بين قمة الجبل و سفحه، معلق أنا بين القبائل، العلمانيون يرونني دينيا أكثر مما ينبغي، و المتأسلمون يرونني شيطانا رجيما، الشيعة يكرهون مني نقدي لمنطق ولاية الفقيه و الإمامة الأبدية، و السنة يكرهون مني أني لا أساوي بين الإمام علي و من ناؤوه قائلاً كلهم على راسي من فوق، أكره ما على قلبي الحزب الوطني و دعاته و رجاله، ليس أكره منهم علي غير الإخوان المسلمين

أما أنا، فأراني رجلا بحث كثيرا فهاله كم التزييف و الغش الذي وضع في الدين على مر التاريخ، و رأى الدين بحالته النقية يتفق مع كل معالم الحضارة و المدنية و العلمانية، قد أكون مخطئا، و لكن هكذا أراني

تحياتي و تقديري

Che Ahmad said...

دكتور اياد

اعشق اكثر ما اعشق من صنوف ودروب الادب والمجالات المختلفه للقراءة فن الرواية واستلذه وحتى الان وفى فصلين من الرواية انتظر عمل ادبي يستحق ان يحتفي به

مش بحب اضع حكم غير مع اسدال ستار النهاية ولكن كما بيداية القصيدة عندهم كفر فبداية الرواية هنا روعه ما بعدها روعه

على فكرة كمان اعتقد ان شخصية الكاتب فى الغالب تنعكس منها لا اراديا بعض الامور الملموسه وبعض النفحات الروحانية والنفسيه علي بطل الرواية

منتظر على احر من الجمر باقي الراوية

ارق التحيات
تشي أحمد

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي Che The Hermit

يسعدني يا صديقي أن أرى تعليقك هنا بعد تعليقك على للفجر نغرد، و الحمد لله أن الرواية في بداياتها حازت اعجابك، سأنشر فصلا جديدا عما قريب يا صديقي، و تعليقك سوف يزيد من حماسي للفراغ منه ، فانا يا صديقي اكتب لاتفاعل مع صنف أحبه من صنوف الناس، مع اهل العقول، و على راسهم ياتي الرياحين من شباب الفكر مثلك يا عزيزي، شكرا لحسن الظن بي، قد اكون اضع في دكتور علي ما احب ان اكون، لكنني ابسط و اقل كثيرا منه،

شكرا لتعليقك ، مع تحياتي و تقديري

eshrakatt said...

دكتور اياد
صباح الفل انها من المرات القلائل التى تاخذنى رواية لدجة المعايشه
اعجبى تحليلك لشخصية خالد وهذ الحالة التى نعيشها من النقيد الى لنقيد ووصفك المبدع للحب المستحيل وحبك للامام على
شدنى تعليقك على زهرة مصر لان هذه معاناتى
منذ فتره غير قليله وانا ابحث فى التاريخ الاسلامى والمقارنه بين المذهبين الشيعى والسنى والمسلم العلمانى او العلمانى المسلم
فهل لى ان استعين بك فى بعض ما يشغلنى ولا اجد له اجابات

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي eshrakatt

أهلا و سهلا بك في تعليقك الأول، نورتينا، و كلي سعادة ان الرواية حازت منك اعجابا و جذبتك

أنا تحت أمرك في أي شيء تريدين مناقشته ، لكي أن تناقشيه هنا لو أردت، او على بريدي الالكتروني
eharfoush@gmail.com
أو على المسنجر، وفقا لما تفضلين و وفقا لطبيعة النقاط هل يمكن تغطيتها بسؤال و جواب ام تحتاج لنقاش و حوار
مع تحياتي و تقديري

مـ~ـاجدولين said...

أشيد بالروايه

ربما أجمل حب هو الذي يصل لعقل الرجل

ويعجبني وسطيتك لا تطرف ديني ولا علماني

نحن أمه الوسط

تحيتي لك

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي Che
أهلا بك في الرواية الجديدة تحت الانشاء

أما الحب فكله جميل برأيي، لكن لعلك على حق في أن أكثره دواما ما كان حب عقل لعقل، فالقلوب قلب حول، اما العقول فأطول أمدا و أكثر ثباتا في رؤاها

اما الوسطية، فادعو الله أن أكون كما قلت وسطيا، فالوسطية هي ديننا، كل شيوخنا يقولون ذلك، ثم لعلهم ينسوه في نفس الحلقة و يتحدثون بمنطق متطرف لا يقبل الاخر

تحياتي و تقديري

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي مجدولين
عفوا للخلط البصري بين تعليقك و تعليق الصديق شي، عذرا

أما الحب فكله جميل برأيي، لكن لعلك على حق في أن أكثره دواما ما كان حب عقل لعقل، فالقلوب قلب حول، اما العقول فأطول أمدا و أكثر ثباتا في رؤاها

اما الوسطية، فادعو الله أن أكون كما قلت وسطيا، فالوسطية هي ديننا، كل شيوخنا يقولون ذلك، ثم لعلهم ينسوه في نفس الحلقة و يتحدثون بمنطق متطرف لا يقبل الاخر

تحياتي و تقديري

Meero Deepo said...

هناك درجة من صداقة الرجل و المرأة هي في أحد جوانبها حب مستحيل، لأنه حب فهو لا يموت، و لانه مستحيل فهو ينزوي في القلب كالعضو الضامر، متخذا شكل صداقة لا نستطيع أن نعيش بدونها ، هذه هي "ماري ماكسميليان" ، قول الحق الذي فيه يمترون



ياليتها كانت بتلك البساطة ياعزيزى
فهذا العضو الضامر يتحول أحيانا كثيرة إلى ورم خبيث شرس لا ينتهى سوى بالإستئصال أو بالموت

تحياتى

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي ميرو ديبو
لا أدري يا صديقتي، قد تختلف رؤانا هنا، فأنا يصعب علي رؤية ذكرى حب أو أطلال حب تتحول لشيء أشرس من الوردة الجافة بكتاب، أما سرطان؟؟ يصعب هذا على خيالي، لكن لكل تجاربه و احساسه بها

تحياتي و تقديري و منورة الدنيا يا دكتورة