15.12.08

وداع بالنعال

The Farewell G.W. Bush Deserved

في يوم 17/11/2007 نشرت شبكة سي إن إن نبأ اختطاف الصحفي العراقي منتظر الزيدي، والذي يعمل في قناة البغدادية العراقية التي وصفها مراسل سي إن إن بأنها "تنتقد النظام والوجود الأمريكي في العراق" و كما اختطف الزيدي في غموض أطلق سراحه بعدها بأيام في غموض دون أية مطالب من قبل مختطفيه! و إذا أخذنا في الاعتبار أنه كان مهاجما على الدوام للاحتلال و الحكومة التي تكرس الاحتلال، فمن يكون الخاطفون؟ و يبدو أن الزيدي تعلم في أسره القصير هذا الكثير عن حقيقة ما يجري على المسرح العراقي، ولهذا كان قراره الجريء و البطولي، بأن يعلن على العالم موقف الشعوب العربية الحقيقي من جورج بوش و أبيه من قبله، بعيدا عن الدياثات الرسمية و فنون الانبطاح التي تمارسها الحكومات العربية تجاه ساكن البيت الأسود، فقذف فردتي حذاءه في شجاعة باتجاه جورج بوش واصفا إياه بالكلب و هو يقول

هذه هي قبلة الوداع يا كلب
فكان هذا هو الوداع الذي استحقه ابن باربارا من الشعوب العربية، و ما هالني هو تعليقات الرسميين العراقيين على الحدث، و قد دارت في مجملها حول عدم المامهم بسبب ما فعله الزيدي تجاه ضيفهم الأمريكي!! لا و النبي؟؟ صحيح السبب غامض تماما، ده حتى بوش راجل سكرة و يتحط ع الجرح يبرد! مالكم خيبكم الله؟ لو أردنا أن نجازي بوش و ادارته اليمينية المتطرفة و الفساد العالمي الذي دفع بهم جميعا لسدة السلطة على كل ما فعلوه بالعرب لما كفانا أن نعدمهم ضربا بالقباقيب

غير هلاهيلك يا خواجة
تذكرني محاولة التجميل التي كان بوش يقوم بها في العراق لسياساته التي انتهت بكارثة انسانية غير مسبوقة، و نهايتها بجزمة الزيدي، بأغنية للثنائي الرائع نجم-إمام في مسرحية العقد، و تقول كلماتها

غير هلاهيلك يا خواجة
وهدوم دلاديلك يا خواجة
كلنا كاشفينك يا خواجة
أغا بايع دينك يا خواجة
ونشالله تخش في تلاجة
يا خواجة الناجة كوناجة
هتلم نقارك في شكارك
وهتطلع واكل بالصرمة

قد يقول قائل أن ما فعله الزيدي بلا جدوى، فأرد قائلا: بل مجد للغاية، فمجرد احقاق الحق بصرخة في مؤتمر صحفي يذاع في الدنيا بأسرها كان انجازا و بطولة تستحق أن نحييها و نحترمها، و نستعد جميعا للتضامن من خلال مؤسسات المجتمع المدني مع منتظر الزيدي حتى لا يفترسه الكلاب ليكون عبرة لكل من يفكر في تذكيرهم بحقيقتهم الكلبية و لقاءهم بالجزم التي يستحقونها، و أرجو من الأصدقاء أن يتطوعوا لنشر الصورة الرئيسية في المقال على أوسع نطاق تعبيرا عن مشاعرنا جميعا التي ترى في وداع بوش بالجزم أقل ما يستحقه من جانب العرب جميعا، و أن سلوك الزيدي لم يكن سلوكا غير حضاري، و لكنه السلوك الطبيعي لمن في عروقه دماء حارة، و السلوك الموضوعي المنتظر من زينهم السماحي و طه السماحي و حسن آرابيسك و علي الزيبق و الشاطر حسن راس الغول و عاشور الناجي و كل الفتوات و الصبوات و القبضايات على طول الوطن العربي و عرضه، و أقل ما يمكننا قوله للزيدي في هذا بالمصري "تسلم ايديك يا مجدع" و بالعراقي "يسلموا يالنشمي" و بالشامي "تكرم عينك يا قبضاي" و بالتركي كمان "عفارم" هنيئا لك رغم الضرب و الاهانة من عسس السلطان بكرامتك الأبية

10.12.08

تاريخ الوعـــد

لقطات من تاريخ الرقيق الأبيض

لا هو وعد "بلفور"، و لا أي وعد تاريخي هام، أو حتى وعد محترم! أتذكرون الفنانة "ملك الجمل" حين كانت تلوي شفتيها و هي تلعب دور القوادة في فيلم شفيقة و متولي للرائع "علي بدرخان" و تقول:
و احنا فيه في ايدينا حاجة؟ ده كله وعد و مكتوب!!

إنه الوعد بلغة أهل الكار، و تجارة الرقيق الأبيض بلغة صفحة الحوادث، و الآداب بلغة البوليس، و الدعارة بالفصحى، و المشي البطال بلغة أولاد البلد، و البغاء بلغة المثقفين

مع تاريخ الدعارة نلتقي اليوم، نعم، لقاع المدينة أيضاً تاريخ، و للجواري أيضاً تراثهن الممزوج برائحة العرق و الخمر المغشوشة و البنكنوت، و قاع المدينة يروي دائما حدوتة الوجه الآخر، الوجه الذي لا نحب أن نراه فينا، و لا نحب أن نعترف به في إطار الإزدواجية الاجتماعية، لكن هذا لا ينفي وجوده، و لا ينفي أن التاريخ كما يحفظ سير العظماء و النبلاء، يحفظ شذرات من سيرة ملح الأرض، الناس العاديين و ما تحت العاديين، فاليوم موعدنا مع أحد الطوائف، و التي ينظر لها المجتمع كطائفة تحت عادية

و يتناول المقال تاريخ و تطور الدعارة في مصر مع عرض و رؤية نقدية لبحث الدكتور عبد الوهاب بكر في هذا المضمار

كلمات ليست كالكلمات

بين النوم و اليقظة، كما بين الموت و الحياة، يصل الإنسان لذروة تجرده العقلي، حيث يتجرد من الجسد بآلامه و آماله، فيتهيأ لرؤية النور الذي تتخلل خيوطه نسيج الكون المادي، و على ضوء هذه الخيوط النورانية، تتفتح للعقل البشري كثير من الحقائق كتفتح الزهور، و نفس الحالة يمر بها من يشفى بعد ألم مبرح، فعندما يهدأ الألم، يتلاشى شعور الإنسان بجسده المادي تماماً، و يتحول إلى عقل محض طهره الألم من شوائب الزيف

في مثل هذه اللحظات، تلمع بالرأس كلمات، عادة ما تكون كلمات ليست كالكلمات، و هنا أكتب بعضا من زهور لحظات النشوة بعد مبرح الآلام، لا أدعي أن بها حكمة، لكنني أدعي أن بها شيئا من تجربة، و شيئا من صدق، و أشياء من مراعاة مقتضى الحال
  • أنت لا تقتل من تكره و لا تجدع أنف من تضيق به، فلماذا يجب أن تتزوج من تحب؟
  • شعورك ملكك تماما مادام في قلبك، لكن تحوله لفعل مادي قد يؤدي إلى كارثة، فانظر أين تضع قدمك
  • الحب طاقة للبناء، و الألم دافع للهدم ، فكيف لشعب أن يبني مجدا، لو كانت دوافع الهدم فيه أضعاف طاقة البناء؟
  • ليس ما نشعر به أو نكتبه عن أوطاننا دليلا على وطنية، لو كانت المسافة بين الحس و القول ميلاً، فالمسافة بين القول و الفعل أميالا
  • فتاة الأحلام كرأس ميدوسا، تهيم على وجهك باحثا عنه حتى تجده، و حين تنظر إلى عينيه، تفقد الحياة لفورك و تتحول إلى حجر
  • تزوجت "ليلى" و جن "قيس"، تزوجت "جولييت" و تعذب "روميو"، أهي مازوشية الرجل مقابل واقعية المرأة؟ أم مثالية الرجل مقابل وصولية المرأة؟
  • الحياة قداحة سجائر معتمة، لا ترى الغاز في مستودعها، و كل مرة تشعل فيها سيجارة، هناك احتمال ألا يتأجج اللهب، كذلك كل ليلة تنام فيها، هناك احتمال لا بأس به ألا تفتح عينيك في الصباح، فاستمتع بالسيجارة التي في يدك قدر جهدك، و احرص ألا تنفث دخانك بوجه الآخرين، عش حقك في الحياة، و اجعل حياتك في الحق فلا تجور على الناس و أنت تعلم
  • ما العمر إلا ثلاث لحظات، لحظة صدق، أو لحظة حب، أو لحظة مجد، فكم لحظة بلغت من العمر؟
  • العلوم و الآداب و الخبرات تورث، لكن الحكمة الناتجة عنها جميعا لا تورث، هذه هي مأساة البشر
  • نأتي للحياة بلا حكمة، و عندما تكتمل لدينا حكمة الحياة، نرحل عنها، فكأن الحكمة و الحياة ضدان لا يجتمعان!
  • الطريق للجنة هو طريقك لعملك أو لمن تحب، فبالعمل و الحب وحدهما تتحقق نجاة الإنسان
  • طريق الجنة يبدأ من عقلك، و طريق الجحيم يبدأ من عيون الناس
  • هل نلوم القلوب على تقلبها؟ أم نلوم النار التي تلفحها من كل جانب فتتقلب؟
  • لطالما كان تراث الآباء و الأجداد ذريعة للكفر و العناد، القائلين بتقديس التراث البشري اليوم، هم من كانوا كفارا معاندين بالأمس، أما أبو الأنبياء فكان يقلب وجهه في السماء بحثا عن إجابات
  • لا يأت من كلام الله عذاب لبشر، فوكلاء العذاب المعتمدون حصرياً هم الحمقى منا نحن البشر
  • الحب كالإدمان، حتى تقلع عنه يتعين عليك أن تترك كل ما ارتبط به من عادات و ذكريات
  • الوسطية في الحب غير ممكنة، إما جوع و إما تخمة، فوسطية الحب تجلب الجنون
  • لقد جعلنا من لوحة الحب زينة لإطار الزواج، و مع الوقت نستغني عن اللوحة و نكتفي بالإطار فارغاً على حائط، فما أغبانا؟

السبت للإنسان

بين الإطار و المضمون

حكمة خالدة قالها السيد المسيح يوما في القدس، لتكون من أعظم ما قيل من كلمات جامعة على مر الزمان:

"إنما جعل السبت للإنسان .. و ليس الإنسان للسبت" (مر 2:23)

قالها المسيح حين سمح لحوارييه بجمع المحاصيل الزراعية يوم السبت، فلامه الفريسيون، لأن اليهود يرون السبت يوماً مقدساً لا يجوز العمل فيه، فرد المسيح عليه السلام بحكمته المفحمة ، لقد جعل الله السبت للإنسان يوم راحة أسبوعي، حتى لا ينسى الإنسان حاجته للراحة في خضم الحياة العملية، لكن جمود اليهود حول السبت من راحة لهم، إلى قيد عليهم، فيالها من عبارة تلخص كل معاناة البشرية و تصف طريق نجاتها في كلمات!

لو نظرنا في الحياة الخاصة أو العامة، في الزواج أو التعليم، في العمل أو السياسة، في الدين أو العلاقات الإنسانية، الفارق في هذا كله بين الحكيم و الساذج هو إدراك هذه الجملة البسيطة حق إدراكها، و احسان العمل بها، فالحكيم يدرك أن سعادة الإنسان و خيره هما الهدف الأسمى، و أن كل ما عدا ذلك وسائل لتحقيقه، و يدرك أن الإطار- أي إطار- غايته أن يحفظ الصورة و يظهر جمالها، فلا يمكن أن يفوق الصورة أهمية حتى لو صنع من ذهب نضار، أما العاطل من الحكمة، فينسى الصورة مع الوقت، و يصير الإطار عنده مقدسا في ذاته، و لكن أليس هذا ما يفعله الكثيرون منا صباح مساء؟دعونا نرى، و سنضرب أمثلة هنا بأربعة إطارات، هي إطارات الدين و الزواج و التقاليد و العمل، لنرى هل نحن نحفظ السبت أم نحفظ الإنسان بالسبت؟

و يتناول الكتاب هذه الأطر الإنسانية الأربعة و مدى الحفاظ عليها مقارنة بالحفاظ على مضامينها في حياتنا

مبارك شعبي مصر

حديث في المسألة الطائفية
قرأت منذ فترة كتاباً هاماً للدكتور "نبيل لوقا بباوي"، و أهمية الكتاب لا تقل عن أهمية كاتبه، فالدكتور "بباوي" مصري مسيحي مستنير، تعده الكنيسة المصرية وفقا لمعلوماتي علمانياً، لا بالمعنى الصحيح للعلمانية، و لكن بالمعنى الذي يقصده رجال الكهنوت دوماً، لواء سابق و مثقف حقيقي، و لقب دكتور الذي يحمله مدعم بثلاثة رسائل دكتوراه في القانون و اللاهوت و الشريعة الإسلامية! و الكتاب تناول جريء للمشاكل المزمنة، و التي أوضح المؤلف أن تسميتها مشاكل قبطية أمر غير منطقي، لأنها مشاكل كتلك التي يعاني منها كل أبناء الوطن، و أعتقد أن تشخيصه و تلخيصه للمشاكل المتعلقة بالمسيحي المصري هو تلخيص وافٍ متكامل، حيث حددها في عشرة نقاط أساسية هي:

و يتناول الكتاب طرح الدكتور بباوي و تناولا نقديا له مقدما ما يراه المؤلف طرحا بديلا

بيت العنكبوت و أبوابه السبعة

الطلاق في مصر في الألفية الثالثة
شهد عام 2007 في مصر أكثر من ربع مليون حالة طلاق، منها أكثر من مائة ألف حالة طلاق خلال السنوات الأربعة الأولى للزواج[1]، و هذا الرقم بذاته صادم، فلو أضفنا إليه النصيب الوافر الذي حازته الطبقة الوسطى المثقفة منه، و الذي تجاوز نسبة 24% من إجمالي الحالات، يصبح الرقم أكثر ايذانا بمشكلة اجتماعية متفاقمة، فهذه هي الطبقة المفترض فيها أنها مركز اتزان المجتمع، و المنتجة لقادته و رواده!

في الوقت ذاته نشرت الجارديان البريطانية أن المملكة المتحدة شهدت خلال 2007 عدد 129.000 حالة طلاق، فلو نسبنا عدد حالات الطلاق في البلدين لتعداد السكان لحصلنا على معدل طلاق بريطاني خام[2] حوالي 2.1% و معدل طلاق مصري حوالي 3.1%، أي بزيادة أكثر من ثلاثين بالمائة عن المملكة المتحدة!

و فوق هذا، لو كان في بريطانيا مائة و ثلاثون ألف حالة طلاق، فبإمكاننا أن نتوقع عددا مماثلا من حالات الزواج التعيسة و التي تستمر لسبب أو لآخر، فيكون الإجمالي ربع مليون حالة فشل، أما في مصر، فلنا أن نتوقع حالات تعاسة زوجية و أسر آيلة للسقوط أربعة أضعاف حالات الطلاق، فتصبح المحصلة مليون أسرة، لأننا مازلنا أكثر تقبلا لحياة تعيسة و لمبدأ التضحية من أجل الأطفال

فما هو الخلل الذي أصاب علاقة الرجل و المرأة في مجتمعنا بصفة عامة؟ ليعاني من ذلك الجميع، مطلقين و مطلقات، أزواج في حالة ترقب للانهيار، و فتيات في انتظار الزوج، و شباب عازف عن الزواج أو غير قادر عليه، ما الذي جرى لبيوتنا؟

أرى أن أسباب الفشل تتعقد و تتجذر في مصر لتصل إلى نشأتنا الأولى، و لا أعني بالفشل هنا الطلاق فقط، و لكن الفشل في بدأ علاقة مثمرة مع الجنس الآخر و الحفاظ عليها، فتندرج تحت مسمى الفشل كل من حالات التعايش السلمي بين الأزواج لتربية الأطفال، و حالات الأسر الآيلة للانهيار في مرحلة ترقب و انتظار، و مع كامل احترامي للمنظمات المدنية التي أرجعت أسباب الطلاق لغرفة النوم في 51% من الحالات، فأنا أرى للفشل الزوجي في بلادنا سبعة أسباب، أو سبعة أبواب ينفذ منها للمجتمع و لوحدة بنائه الأولية، و ليست هذه كل أسبابه، و لكنها الأهم في تقديري من حيث الانتشار العددي و عمق الآثار الناجمة عنها، فلنستطلع معا هذه الأبواب و نطرقها سوياً

يتناول الكتاب الأسباب السبعة باستفاضة مقدما بعض المقترحات لرأب التصدعات التي تنجم عن هذه الأسباب



---------------
[1] وفقا لما أعلنته جمعية المأذونين الشرعيين على لسان رئيسها في تصريحه للأخبار
[2] معدل الطلاق الخام = عدد حالات الطلاق/ تعداد السكان في منتصف العام مضروبا في عشرة

حكايات ألطف الكائنات

أشكال و ألوان من بنات بلدي
بمناسبة الهجوم الشرس و السخونية ع الرجالة اللي ماشية في البلد اليومين دول، و تقطيع فروتهم في الجرايد، و في المدونات البناتي ع الإنترنت، تحت شعار: البلد ماعادش فيها رجالة، و ده طبعا نتيجة لإحجام الشباب عن الجواز تحت شعار: ليه تدفع أكتر لما ممكن تدفع أقل؟ و برغم عدم إنكاري لوجود نماذج سيئة بوفرة بين رجالنا النهاردة، إلا إني حبيت أفتكر مع السيدات و الآنسات الغاضبات بعض النماذج المشوهة على الجانب الآخر، جانب نون النسوة، علشان كلنا نفهم إن زي ما فيه أشباه رجال فيه كمان أنصاف و أرباع ستات، و إنها مشكلة مجتمع و قصور في بناء الشخصية المصرية عامة، مش مشكلة رجالة بس أو ستات بسو لما فكرت و بصيت حوالية في الشارع و النادي، في الشغل و الكافيه، لقيت صندوق الدنيا، و فيه عجايب و غرايب حريمي لا تقل تشوها عن الرجالة النص كم اللي بيحكوا عليهم، بالعكس، أنواع الرجالة التعبانين محدودة في كام صنف، أشهرها تلات ماركات: الندل و البخيل و ننوس عين ماما! أما أنواع الستات المضروبة فمن غير عدد، تعالوا نشغل صندوق الدنيا و نشوف مع بعض، و اتفرج يا سلام ..


و يتناول المقال العديد من النماذج الموجودة حولنا في المجتمع في قالب ساخر تحت عناوين
  • فُرجة و زيطة ... الهانم عاوزة حيطة! حين تتمحور الحياة حول الحصول على ضل حيطة!
  • فُرجة بأمانة .. ع الحلوة الولهانة

و مع ذلك أثبت العلم أن الرجل أكثر رومانسية من المرأة و أخصي خيالا!

  • فُرجة المجنون .. على ما يطلبه المستمعون! كيف يكون مظهرك على طراز ما يطلبه المستمعون؟

  • فُرجــة جريئة .. ع الأمورة البريئة
  • فُرجة العصرية .. ع المسكينة الضحية
  • فُرجـــة الفاضي .. على الحلوة القاضي
  • آخر مقال ... لعدوة الرجال

مقدمــــــة الطبعة الأولى

هل تفتقد مصر التي عرفتها طفلا و صبيا؟
هل تشتاق لرائحة الياسمين تهب من حدائق البيوت العتيقة في الشوارع الفرعية الهادئة؟ و رائحة الخبز الساخن من الأفران القديمة؟ و رائحة أرض القرية الطينية بعدما ترتشف المطر؟ و رائحة البخور في المساجد العريقة، و رائحة العطارة في الأزقة الضيقة؟ عبق التاريخ و الأحداث في الجدران القديمة الرطبة؟ و عبق المسك من عباءات الجوخ؟ و رائحة ثمار المانجو الطازجة؟ كل هذا الأريج يا صديقي مجتمعا، يمكنك أن تسميه .. رائحة مصر

هل تحب طعم الشاي بالنعناع الطازج، مصنوعا على راكية نار على رأس حقل أخضر؟ و طعم الذرة النيلية مشوية على الحطب؟ و مذاق ماء الزهر من أيدي الدراويش؟ و مذاق البطاطا المشوية على بحر الإسكندرية في الشتاء؟ و طعم رغيف الخبز البلدي الساخن، مغموسا في القشدة الطازجة و عسل الموالح؟ كل هذا يا صديقي يمكنك أن تسميه .. طعم مصر

هل تحب أذان الفجر؟ و سورة مريم بصوت الشيخ "رفعت"؟ و مولاي إني ببابك بصوت "النقشبندي"؟ هل تهزك مسحة الشجن في صوت "فايزة أحمد"؟ و رنة الدلع في صوت "شادية"؟ و هدير النهر في صوت "أم كلثوم"؟ و تربيت صوت "نجاة" الصغيرة على كتفك يهدهدك؟ هل تشتاق وطنيات "حليم"؟ و مواويل "قنديل"؟ و بدايات "محمد منير"؟ فأنت يا صديقي .. تحب صوت مصر
لو كانت إجابتك على كل ما سبق بنعم، فغالبا .. ستقرأ هذا الكتاب لآخره، لأنه كتاب يسأل أين ذهب كل هذا؟ و كيف نستعيده؟ أو نرحل إليه حيث كان! كتاب يسأل أين اختفت مصر؟

هناك صنف مُتعِب و متعَب من البشر، يعتاد منذ طفولته أن يسأل كثيرا فيما لا يعنيه، يريد أن يفهم كل شيء في الكون من حوله، فينشأ و أكثر الكلمات ترددا في رأسه هي كيف؟ و من؟ و متى؟ و لماذا؟ لهذا يبقى جهاز دماغه في أزيز متصل ليل نهار، فإذا آوى للفراش كان كثير الأحلام، تتراقص أمام عينيه في نائما نفس الأسئلة التي كانت تأز برأسه صاحياً، فلا حل لمثل هذا الصنف إلا أن يعرف ليهدأ، و ما أن يهدأ حتى تطرح رأسه سنابلا جديدة من الأسئلة تطلب إجابات، و هكذا، فهذا الصنف من البشر هو الموجوعة دماغه مادام حيا، فلا الأسئلة ستنتهي، و لا هو سيهدأ دونها! هذا قدره، و لكل صنف من صنوف البشر قدر، و وجع الدماغ أخف من غيره من الأقدار، فلله الحمد و المنة
و كتابي بين يديك، هو حصاد وجع دماغي في أربعة أعوام، فهو مجموعة دراسات و مقالات و نصوص كتبت في الفترة الممتدة ما بين نهايات 2004 و نهايات 2008م، متفاعلة في مجملها مع همومنا المؤقتة أو المؤبدة، متنوعة و متباينة بتنوع و تباين هذه الهموم، فمنها ما يتناول ظواهرنا الاجتماعية، و منها ما يتعامل مع فكرنا الديني، و منها ما يتعرض لقضايانا السياسية و الاقتصادية، منها ما يحكي قصصا من ماضينا و منها ما يسبر أغوار حاضرنا، ثم منها بعد ذلك ما وجدنا العامية المصرية أنسب لطبيعته، و منها ما لم تصلح له إلا الفصحى، لكنها و إن بدت متشعبة متباينة، يربطها نسق فكري عام يكاد يكون واحدا

فلعل الناظر المدقق لمجمل تاريخ مصر المعاصر، يمكنه أن يرى منحنى حضاريا صاعدا، يمتد ما بين 1826 و 1973م، يعقبه منحنى هابط بدأ عام 1974م و مازال مستمرا حتى اليوم في تقديري، أما المنحنى الصاعد، فبدأ مع البعثات الكبرى لأوروبا خلال حكم "محمد علي"، كجزء من مشروعه الحضاري الطامح لتطوير مصر، و استمر صاعدا و إن شابته فترات تعثر أو توقف كما حدث خلال حكم "عباس" الأول ما بين 1848-1854م، و كان المعول الأساسي في هذا المنحنى الحضاري هو أبناء مصر، ممن هالهم الفارق الشاسع بين ما في بلادهم من مظاهر التخلف و التدني و ما رأوه في أوروبا من معالم التطور و المدنية، ثم قامت ثورة يوليو عام 1952 لتكسب المشروع الحضاري المصري أبعادا جديدة، كان أهمها الالتزام بمصالح الجماهير من الطبقات الكادحة و المتوسطة، فضلا عن الاهتمام بالصالح العام للشعب بكامل طبقاته و فئاته، فزادت سرعة المنحنى الحضاري الصاعد بزخم المدنية و الحداثة مع الثورة و قائدها الشاب، الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، ثم فترت حرارة المسيرة مع هزيمة 1967م لتوجه طاقات البلد نحو المجهود الحربي، و امتد الفتور حتى تحقق النصر عام 1973م، و برغم الفتور، كانت هذه السنوات الستة في مجملها و ما تحقق فيها من بطولات الاستنزاف و العبور هي التاج الذي كلل جبين مصر، كحصاد شرعي لفترة النهضة الحضارية الممتدة قبله، لكننا بكل الأسف، بدأنا في تغيير اتجاهاتنا بداية من عام 1974م، لنتبنى منهجا أثبتت تجربتنا معه في خمسة و ثلاثين عاماً أنه لا يناسبنا، هو المنهج البترو-أمريكي، القائم على الثقافة الأمريكية و نمط الحياة الاستهلاكي في المقام الأول، و على إطلاق يد تيارات الأصولية الإسلامية في المقام الثاني، لتمهد الأرض لهذا النمط و تحارب نيابة عنه، بعد أن أثبتت كفاءة عالية في مهمتها التمهيدية تلك خلال تجربة الخليج العربي، التي بدأتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أورثتها الولايات المتحدة الأمريكية

هذا هو الخط العام الذي يلملم وجع دماغي من الشرق و الغرب، فينظمه في عقد واحد، لعله عقد من الفرص الضائعة في مصر المعاصرة، فسواء كان موضوعي عن منظومة قيم غيرت، أو عن ثوابت سياسية عامت، أو توجه اقتصادي ارتد على عقبيه، أو حتى عن فهم للدين تم تسطيحه و تدجينه ليناسب كل ما سبق، فأنا في كل الأحوال أكتب عني و عنك، و عما أحببناه في مصر، ثم فقدناه خلال الهبوط الاضطراري للمنحنى الحضاري

في كتابنا سنتناول بالنقد التحليلي أحيانا و بالسخرية حينا، بعض أعراض و ملامح الخلل الذي انتابنا فكريا و حضاريا، بعد خمسة و ثلاثين عاما من الهبوط، و قد ترتفع حدة النقد أو تنخفض، وفقا لحدة الظاهرة التي نعالجها، لهذا فقد تجد عزيزي القاريء موضوعاً أو أكثر، يخالف منظومة فكرية أو نمطا معرفياً تعودت عليه و استسغته، فلو حدث هذا، فرجائي إليك أن تتعامل مع أطروحتي بشيء من رحابة الصدر، و بقلب مفتوح، و قابل للاقتناع لو قدمت له الأدلة الكافية على رأي آخر، فطريق التعددية الفكرية الذي يبدأه الشرق العربي اليوم، بفضل تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات، طريق طويل ما زلنا بأول مراحله، و لن نمضي فيه قدماً بغير قبول الفكر و الفكر المغاير
شكرا قارئي العزيز لأنك أتحت لي فرصة للتواصل معك، و شكرا لدار أكتب للنشر و التوزيع لأنها جعلت هذا التواصل ممكنا

د/ إياد حرفوش
القاهرة في ربيع 2008

1.12.08

انهيار برج بابل- 44-45


(44)
انهيار برج بابل

بعد العشاء تسلم "علي" و"ماري" من "كاظمي" الصور الضوئية للمخطوطات وقرصا مدمجا عليه نسخة إلكترونية من النصوص التي استطاعوا قراءتها حتى الآن مرتبا ترتيبا زمنيا تقريبيا، وحين سألاه عن مكان الكشف وكيفيته، أخبرهما أن بداية الخيط كانت انفجارا حدث في المئذنة الملوية في سامراء بمنتصف عام 2005م على يد ميليشيا موالية لتنظيم القاعدة، بعد أيام من الانفجار، وبينما كانت مجندة أمريكية تصعد المئذنة في مهمة إدارية فوجئت بلفافة جلدية داخل كيس من الكتان البالي، فسلمتها لرؤسائها، ويبدو أنها ثرثرت بالأمر مع بعض زملائها، فشاع الخبر حتى وصل للدكتور "فريد"، والذي تقدم بحكم موقعه بطلب للحصول على اللفافة التي وجدت لدراستها، فوجد بداخلها نص بالخط الكوفي الحديث نسبيا، وقد جاء فيه[1] "هذا تمام وصية القطب العلوي الحسيني، وعترة النبي الأمي، حين وافته المنية في السجن المروزي العباسي، والتي عهد بها لجدنا المغفور له "رافع بن زيد القرشي"، وقد وضعنا كتابنا في موضعه هذا، حتى تخرج المكنونات الجعفرية، من أصلح عقود المنارة الجعفرية، حين يفيض الكيل بالطغيان، وتوسم الأمة بميسم الهوان، فتتصدع مآذن الإيمان، فيكون خروجها بمشيئة الله رحمة، لأن فيها منهج الأئمة، وبمثلها تنصلح أحوال الأمة، ولولا انقطاع الولد واقتراب الأجل، ما حفظناها في غير القلوب، ولا زدنا عنها بغير الصدور والنحور، فهي خبيئة الآباء، ووصية العترة الغراء"
علق "علي" مستبينا فقال: المنارة الجعفرية هي المئذنة الملوية ذاتها؟ نسبة إلى الخليفة "المتوكل على الله جعفر" الذي بناها؟
- نعم، وظاهر من نص الرسالة التي أتتنا من الماضي، أن أحد الأئمة أراد أن يحفظ ما لديه من علوم وهو سجين في مرو، فأسر بموضعها في بيته لواحد من خاصة أتباعه ليأخذها أمانة عنده، وقال ما فهم منه التابع أن الله سوف يظهرها حين تضج الأرض بالمظالم وتضعف الأمة، لتعين المسلمين على إصلاح أمرهم ورأب ذات بينهم، ويفهم من الرسالة أن صاحبه قد التزم بالوصية، وأورث السر المكنون أولاده، حتى وصلت ليد أحد أحفاده - هو كاتب الرسالة - ونفهم من كلامه أنه لم ينجب، ولهذا اختار أن يحفظها في مئذنة مسجد "المتوكل" حين عدم من يوكلها إليه
- وبهذا لا تظهر إلا إذا فسدت الدنيا فسادا يصل لدرجة تهدم منارات المساجد، وهو ما حدث بالفعل؟
هكذا علقت "ماري" فأومأ "كاظمي" موافقا، ثم أردف قائلاً: يغلب على ظني بدرجة كبيرة أن صاحب الوديعة هو الإمام "علي الرضا"، لأنه الإمام الذي نعرف تاريخيا أن "المأمون" حدد إقامته في مرو، وإن لم يسجن سجنا فعليا كما تقول الرسالة، إلا لو كان كاتبها قصد السجن كناية عن تحديد الإقامة، وما يدعم ظني هذا هو موت الإمام "الرضا" وعمر ولده "محمد الجواد" سبع سنين، لهذا لم يتمكن من توريثها له، والأهم من هذا وذاك أن الرقوق تتحدث عن خلاف بين كاتبها وبين خليفة من الخلفاء بتفاصيل تشبه إلى حد كبير ما نعرفه عن خلافه مع "المأمون"
سأله "علي": كيف حددتم مكان البحث في المئذنة؟
- لقد وصفت المخطوطة مكان الخبيئة بأنه أصلح عقود المئذنة، ولتلك المئذنة ستة عقود تزين قمتها وتشكل دائرة كاملة الاستدارة! فحصنا العقود للاستدلال على مكان الخبيئة، وافترضنا أنها تكون في أكثر العقود استواء واتساقا، ووجدنا أحدها مستوي الملاط تماما لا عيب فيه، فحفرنا جداره، لكننا فشلنا في التخمين الأول، ثم حفرنا في آخر كان ثاني العقود استواء وتماثلا فكان هو عين المرام
- هل كان العقد المواجه للجهة الجنوبية الغربية منها؟
هكذا علق "علي" مبتسما وهو يراقب رد فعل "كاظمي" الذي رد بالإيجاب والدهشة تعلو وجهه، وهم أن يسأله كيف حدد هذا، لكن "عليا" عاجله مجيبا: أصلح العقود ليس أكثرها استواء واعتدالا يا عباسي المنطق والاستنتاج، لكنه العقد الذي يقتبل القبلة منها
هكذا قال "علي" مداعبا "كاظمي" حول تخصصه في التاريخ العباسي الذي سادته أجواءه الأبهة والفخامة، وميز معماره الحرص على تماثل الجانبين في واجهات المنشآت، فقال صديقه والدهشة لازالت تعلو وجهه: الأكثر صلاحا هو ما اقتبل القبلة!
- هكذا سيفكر رجل من أتباع الأئمة، علينا أن نفكر بعقل من كتب الرسالة لا بعقل من يقرأها، ولكني أعتقد أنه قصد هذا الجناس اللفظي للخداع، فإذا وجد الرسالة عباسي ظن كما ظننت أنت
- استنتاج عبقري
- بل العبقري هو من بحث وكشف يا "أبا موسى"
- إنما كشفه لنا أصحاب "أبو مصعب الزرقاوي" الذين حاولوا تفجير المئذنة
هكذا قال "كاظمي" مداعبة وتواضعا، قبل أن يترك "علي" وزوجته في غرفة المكتب المخصصة لهما، وبينما اختارت "ماري" أن ترتاح لبضع ساعات حتى يصفو ذهنها قبل أن تبدأ في قراءة المخطوطات الحجازية، لم يستطع "علي" صبرا، فاستأذنها أن يبدأ هو من فوره حتى يشعر برغبة في النوم، وبينما كان يتهيأ لسهرته بدش بارد، أخذ يفكر في كل ما مر به من أحداث اليوم، حتى وصل لقصة اكتشاف اللفائف، واسترجع جملة صديقه إذ قال " إنما كشفه لنا أصحاب أبو مصعب الزرقاوي" فتذكر على الفور قصة برج بابل في سفر التكوين، حيث أراد البابليون بناء برج يبلغ عنان السماء وتكون قمته في الفردوس! فجعله الله وبالا عليهم، إذ تباينت لغاتهم ول يستطيعوا إتمام بنائه لفقدهم لغة التواصل، قبل أن يرسل الله عليه ريحا فينهار، فكأن القصة تعيد ذاتها رمزيا، إذ أراد الأمريكان استغلال ورقة التطرف الديني لتحقيق نصر رخيص على السوفيت في الحرب الباردة، فكان لهم ما أرادوا، لكن الحركات الجهادية المتطرفة التي صنعوها تحولت وبالا عليهم، ففقدوا تواصلهم مع صنيعتهم، والتي استدارت فصفعت كبرياءهم في سبتمبر، فكأن انهيار برجي مركز التجارة كان كانهيار برج بابل، إيذانا بانهيار الصرح الذي بنوه على التطرف والكراهية والدماء، واليوم يفجر أتباع "الزرقاوي" المئذنة الملوية شديدة الشبه في طرازها ببرج بابل، ليخرج من بين أركانها المتصدعة علم لن يكون مؤيدا لهم بحال من الأحوال، فسبحان من يحبط الشر في أرضه بذراع الشر ذاته دون سواها!
...

(45)
ملك وإمام

طالع "علي" المخطوطات الأحدث نسبيا، وهي ستة وعشرون مخطوطا كتبت بالخط الكوفي البسيط المعروف بالليِّن، وستة مخطوطات كتبت بالخط المصحفي الميسر، وبيد شخصين كما يظهر من تباين الخط فيها، فبدأ بهذه المخطوطات الست، وفتح جهاز الحاسب واضعا القرص المدمج في موضعه ليفيد من الجهد الذي بذله "كاظمي" وصحبه، مدققا القراءة في المخطوطات ومقارنا إياها بالنص الرقمي على الكمبيوتر، فلم يجد إلا نذرا يسيرا من التعديلات، وقد استقر في ذهنه وهو يدققها أن النصوص في الغالب لمؤلف واحد، لتوحد الأسلوب فيها وإن خطت بيد اثنين، ومن الجائز أن صاحبها أملاها على كاتبين أو كتب بعضها بنفسه وأملى بعضا، وهي تتناول موضوع "المأمون" والإمام "الرضا" لا شك في هذا، لكن من كتبها يتحدث عن الإمام بضمير الغائب، وهو أسلوب يجيز أن يكون الإمام هو كاتبها متحدثا عن نفسه بضمير الغائب على العادة المتعارف عليها في زمانه، لكنه كذلك يجيز أن يكون كاتبها أحد أتباعه ممن اضطلع على الخلاف وألم بجوانبه
وعلاقة الإمام والخليفة أمر اختلف فيه المؤرخون، فمنهم من قال أن "المأمون" رأى البيت العلوي أحق بالخلافة من البيت العباسي، فأراد التنازل عن الخلافة لعلي الرضا فأبى، فأرغمه على قبول ولاية عهده، وينكر هؤلاء أنه حبسه أو اغتاله بالسم، بينما فريق مقابل يرى الأمر حيلة من "المأمون" لكسب ود العلويين والسيطرة على ثوراتهم لتثبيت ركائز ملكه، لم يلبث أن دس بعدها السم لعلي الرضا حين ثبت له الأمر، وكان "علي" أميل للرأي الثاني، لأن من يقتل أخاه ليجلس على عرش الخلافة كما فعل "المأمون" بأخيه "الأمين"، لا يترك هذا العرش لغيره طوعا! لكنه وجد في مخطوطات "الرضا" تفصيل الأمر في عبارات موجزة مفيدة غيرت رأيه هذا، وجاء فيها: "فقل لمن أكثر القول في شأن الإمام علي بن موسى مع الخليفة عبد الله بن هارون، أن الثاني كان مكدود النفس من قتله ابن أبيه طمعا في الحكم، فحان عليه حين كره فيه الدنيا لما أوقعته فيه من دم حرام، قطع فيه رحمه وآذى به روح أبيه، وأراد التقرب من الله تعالى، فعهد للطالبي بالولاية بعده، لكن آل العباس مازالوا به ينقلون إليه كل وشاية، ويرمون بين يديه بكل فرية وسعاية، حتى أوغروا صدره على الإمام الفقير إلى ربه، فحبسه في بيته، حتى ظن الأول أن الثاني قاتله وإن طال الأمد، فما يرتاح الوشاة إلا بهذا، لتطمئن قلوبهم بدوام الملك في عترتهم، والله في علاه على الجميع رقيب وحسيب"
إذن فالحقيقة لو صدق المخطوط بين الأمرين، لم يعرض "المأمون" الخلافة على الإمام "الرضا"، لكنه ولاه عهده ليحكم بعده، مخلصا في ذلك ومدفوعا بالندم، لكن هذا أقض مضاجع بني العباس، فدأبوا على الوقيعة بين الخليفة وولي عهده حتى أفسدوا الأمر بينهما، فانقلب الخليفة عليه وحدد إقامته في مرو بعيدا عن أتباعه وخاصته من العلويين، ولا يستبعد وفقا للنص أن يكون الخليفة أو واحد من بني العباس هو من دس له السم!
كذلك وجد في المخطوطات عبارة تقول "وقد ميزت الأمة الخلفاء الأربعة الأوائل عمن تلاهم من خلفاء أموية وعباسية، فاختص الراشدون بطيب الطوية، وإخلاص العزم والنية، والحدب على خير الرعية، وباينهم الملوك من بني العباس وقبلهم بني أمية، فكانوا لكبرياء الملوك أقرب منهم لزهد الخلفاء، وكانوا لأثرة الطامعين أرقب منهم لإيثار الأتقياء، عدا الرجلين الصالحين من بني أمية، معاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز، فقد أعرضا رحمهما الله عن صولة الملوك واعتصما بسمت الخلفاء"، وعى "علي" في سعادة ما احتوته الكلمة من احترام وتقدير للخلفاء الراشدين إجمالا، يثبت نظريته في استحداث التعدي باللفظ على الراشدين بين الطوائف المتأخرة من الشيعة، وفي عصر متأخر، فهذا نص كتب في عهد الإمام "الرضا" تقريبا، سواء كتبه الإمام أو أحد معاصريه، وفيه إقرار برشد الراشدين ومغايرتهم في المنهج والنوايا للأمويين ثم العباسيين!
بعد فراغه من الرقاق الستة المكتوبة احتمالا في زمن الإمام "علي الرضا" ثامن أئمة الإثنى عشرية، بدأ في مطالعة ثلاثة رقاق، صنفها "كاظمي" زمنيا في ترتيب سابق لزمن الإمام "الرضا" مباشرة، إذ ضمت نسخة مما يعرف بالصحيفة السجادية، والمنسوبة لرابع الأئمة "علي بن الحسين" الملقب بالسجاد، وقد كتبت بالخط الكوفي الميسر، ولم يجد فيها جديدا يمكن أن تقدمه من الناحية التاريخية أو في الفكر الديني، فهي تضم قرابة الستين دعاءً، وهي متداولة على نطاق واسع بين الشيعة والصوفية، لكنه لاحظ اختلافا بين بعض ألفاظها وبين ما يرد في النسخ المتداولة، مما يجعلها مرجعية مفيدة للتنقيح والضبط، لأن أقدم مخطوطات الصحيفة السجادية المتداولة توجد في مكتبة مكة المكرمة وترجع للقرن الحادي عشر، بينما ترجع هذه المخطوطة لنهايات القرن الأول الهجري
صنف الرفاق المخطوطات التسعة عشر التالية زمنيا في عهد الإمام "جعفر الصادق"، اعتمادا على زمن نسخها كما بينه الكربون المشع، وكانت مكتوبة بيد واحدة كما هو ظاهر من الخط، وقد نبهت هذه المخطوطات حواس "علي" لأقصى حد، فجعفر الصادق هو سادس الأئمة، وهو من جمع فقه آبائه وغيرهم فصاغ المذهب الجعفري في الفقه، والذي ينتمي إليه الشيعة الإثنى عشرية اليوم، ويعترف به الأزهر الشريف، وكان رحمه الله في ذاته عمادا من عمد التقريب بين المذاهب، فوالدته هي "فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر" حفيدة الصديق، وفي نسبها برهان مبين على استحداث العداء بين الصديق وبين آل البيت في زمن متأخر، فالتصاهر بين بيوت العرب وعشائرهم لم يكن ليتم على الضغائن وسوء الظن بين الأصهار، فضلا عما روي عن الإمام "الصادق" ويفيد براءته ممن يتبرأ من الشيخين "أبي بكر" و"عمر"، أي أنه ألزم أتباعه بالاعتراف بخلافة الشيخين والإقرار بها، لكل هذا تحفزت حواس "علي" لمخطوطات من زمنه، وقد وجد المخطوطات الستة الأولى رسالة في الرد على الخوارج، فسعد بها سعادة غامرة، فقد ورد في بعض المصادر أن للإمام "الصادق" رسالة في الرد على الخوارج، لكن لم يصل إلينا أي أثر منها، فهل تكون هذه المخطوطات هي الرسالة المفقودة؟ حين قرأها "علي" وجدها رسالة كاملة من الاستهلال للختام، ووجد فيها الكثير من الإضافات النافعة في التعرف على فكر الخوارج، فهم لم يحرصوا على تدوين مذهبهم، فكان ما وصلنا عنهم أكثر مما وصلنا منهم، وقد حرص كاتب المخطوطات الستة على عرض كل أطروحة من فكرهم وافية ثم تفنيدها بالعقل وبالنقل، وبأسلوب قريب من أسلوب "الصادق" وإن لم يكن مطابقا له، ومن أهم ما ورد في المخطوطة تعريف للخوارج، كان أوفى وأصوب ما قرأ، جاء فيه "فاعلم حفظك الله أن الخارجي هو من شق عن صدور الناس فقال يؤمن هذا ويكفر هذا، ومن استحل دم الخلق في غير قصاص، وعلامة الخوارج في فقههم تعميم الخاص في الحرمة وتخصيص العام في الإباحة، خلافا لعموم فقهاء الأمة، ممن يرون الأصل في الأمور حلها مالم تحرم! يضيقون على الناس ما جعل الله فيه سعة، ويفهمون الكتاب والسنة على المنطوق دون المضمون، وهم لضعاف النهى في كل حين مآل ومثابة، فلا تجد فيهم عالما أو عاقلا مشهود له بالعلم والعقل إلا على غرض أو إلى حين"، كانت يدي "علي" تهتز من الانفعال وهو يخط ملحوظاته حول هذا الجزء من المخطوطات، ويسبح الله في سره عجبا وحبورا، فقد كان التعريف لصيقا بفهمه الذي أورده في كتابه الذي أثار زوبعة في البرلمان، مما يشكل مرجعية جديدة لفكرته
تلى تلك الرسالة حول الخوارج في الترتيب الزمني رقان من جلد الغزال، فيهما تناول لبعض المسائل الفقهية، وضمنها مسائل الزواج والطلاق، وكانت مطابقة لمذهب الإمام "الصادق" المعروف عنه، والذي ذهب فيه لعدم وقوع البينونة الكبرى بطلاق الثلاث لفظا، بل تحتسب طلقة واحدة، وكذلك ما روي عنه من اشتراط حضور شاهدين عدلين لوقوع الطلاق، وهو ما أثبت مرور الزمن وواقع الحياة أنه أكثر مواءمة لمقتضى الحال وأحفظ للأسرة، هذا الخط الفكري الباحث عما ينفع الناس هو الخط العام في فقه الإمام "الصادق"، ولطالما أعجب "علي" بهذا المنهج، وحمد للشيخ الجليل "محمود شلتوت" شيخ الأزهر السابق رحمه الله الاعتراف بالمذهبين الجعفري والزيدي من مذاهب الشيعة الإمامية والزيدية على الترتيب[2] وتدريسهما في الأزهر
كانت سعادته كبيرة بثالث المخطوطات المنسوبة لزمن "الصادق" لأنها صححت مفهوما شائعا عن فكر الإمام، فقد حوت المخطوطة رسالة موجزة في القياس العقلي اجتهادا، وهي بهذا تؤكد قبول المذهب الجعفري للقياس العقلي على عكس ما شاع في التراث، وأشهر ما روي في ذلك منسوبا للإمام هو قوله لأبي حنيفة النعمان: لا قياس في دين الله، فقد احتوى الرق الأول في مقدمته على عبارة جاء فيها "ومن أمثلة قياس سلفنا الصالح، ما قاس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أمر عقوبة شارب الخمر على عقوبة قذف المحصنات، بأن السكران إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فعقوبته كعقوبة الفرية وهي ثمانون جلدة"[3]
ثم كانت رابع المخطوطات المنسوبة لزمن "الصادق" متصلة في ثمان رقاق، لاحظ فيها مع إمعان النظر اختلافا في رسم الحروف، مما يفيد باختلاف شخص من خطها، وكانت رسالة تجمع العديد مما ينسب للصادق من مأثورات، وأروع ما جاء فيها عبارات عن صفة المؤمن تقول "فاعلم أصلحك الله أن المؤمن يحب ويبغض، وهل الإيمان إلا حب في الله أو بغض فيه؟ وسمته التي يعرف بها سروره بحسنة يرجوها من الله، وحزنه لذنب ألم به، صومعته بيته، يكف فيه بصره ولسانه وفرجه، فإذا غادره لم يغتب ولم يكذب ولم يحسد ولم يصانع ولم يماليء على جور، لا يسخط الله برضى واحد من خلقه، ولا يتباعد منه تعالى بتقرب إلى الناس، مركبه في الحياة حسن خلقه، لا يستبدل به غيره على شدة أو بلهنية، لا يستوحش في طريق الهدى لقلة أهله، فوالله لقد اجتمع الناس على مائدة شبعها يسير قصير، وجوعها شديد طويل"
تنبه "علي" من سبحته مع درر الحكمة تلك على أذان الفجر، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتي الفجر، وتمدد فوق سجادة الصلاة يفكر ويرتاح من طول السهر، وقد ألمت به فكرة أهمته، فقد صدقت تخريجات "كاظمي" والرفاق في مجملها في تحديد زمن المخطوطات، لكن القول بأنها كتبت بيدي الأئمة أنفسهم أو بإملائهم على غيرهم هو قول لم يختبر، فليس في واحد منها تأكيد لهذا أو نفي له، فعلى عادة هذا الزمان، كان الكاتب يستخدم صيغة الغائب وليس المتكلم حين يتحدث عما مر به، فلا يقول: قال فلان لي كذا وقلت له كذا، ولكنه يقول: قال فلان لعلي كذا فأجابه بكذا، فيصعب علينا أن نعرف هل يروي كاتب النص عن نفسه أو عن غيره، كذلك لم تكن النصوص تختم بخاتم كاتبها إلا ما كان مكاتبة رسمية، لهذا خلت كل المخطوطات من أختام أو إشارات مباشرة لشخص كاتبها! ولم يكن الافتقار للدليل القطعي مفاجأة له، فهذا حال دارس التاريخ دوما، لكن ما شغله هنا ليس الجانب الأكاديمي والتاريخي، إنما أهمه الهجوم المؤكد الذي سيتعرض له الكشف على مستوى الإعلام والجماهير بنفي نسبه للأئمة أو خلصائهم ورجالهم المقربين، وأخذ يقلب الأمر على وجوهه جميعا حتى نام متوسدا ذراعه على السجادة، وعندما صحت "ماري" بعد الفجر بقليل وجدته على هذه الحال، فأيقظته ليبادلها المواقع، فرقد في الفراش بغرفة النوم، وبدأت هي عملها مع النصوص الأقدم والأخطر، نصوص القرن الأول للهجرة