10.12.08

مقدمــــــة الطبعة الأولى

هل تفتقد مصر التي عرفتها طفلا و صبيا؟
هل تشتاق لرائحة الياسمين تهب من حدائق البيوت العتيقة في الشوارع الفرعية الهادئة؟ و رائحة الخبز الساخن من الأفران القديمة؟ و رائحة أرض القرية الطينية بعدما ترتشف المطر؟ و رائحة البخور في المساجد العريقة، و رائحة العطارة في الأزقة الضيقة؟ عبق التاريخ و الأحداث في الجدران القديمة الرطبة؟ و عبق المسك من عباءات الجوخ؟ و رائحة ثمار المانجو الطازجة؟ كل هذا الأريج يا صديقي مجتمعا، يمكنك أن تسميه .. رائحة مصر

هل تحب طعم الشاي بالنعناع الطازج، مصنوعا على راكية نار على رأس حقل أخضر؟ و طعم الذرة النيلية مشوية على الحطب؟ و مذاق ماء الزهر من أيدي الدراويش؟ و مذاق البطاطا المشوية على بحر الإسكندرية في الشتاء؟ و طعم رغيف الخبز البلدي الساخن، مغموسا في القشدة الطازجة و عسل الموالح؟ كل هذا يا صديقي يمكنك أن تسميه .. طعم مصر

هل تحب أذان الفجر؟ و سورة مريم بصوت الشيخ "رفعت"؟ و مولاي إني ببابك بصوت "النقشبندي"؟ هل تهزك مسحة الشجن في صوت "فايزة أحمد"؟ و رنة الدلع في صوت "شادية"؟ و هدير النهر في صوت "أم كلثوم"؟ و تربيت صوت "نجاة" الصغيرة على كتفك يهدهدك؟ هل تشتاق وطنيات "حليم"؟ و مواويل "قنديل"؟ و بدايات "محمد منير"؟ فأنت يا صديقي .. تحب صوت مصر
لو كانت إجابتك على كل ما سبق بنعم، فغالبا .. ستقرأ هذا الكتاب لآخره، لأنه كتاب يسأل أين ذهب كل هذا؟ و كيف نستعيده؟ أو نرحل إليه حيث كان! كتاب يسأل أين اختفت مصر؟

هناك صنف مُتعِب و متعَب من البشر، يعتاد منذ طفولته أن يسأل كثيرا فيما لا يعنيه، يريد أن يفهم كل شيء في الكون من حوله، فينشأ و أكثر الكلمات ترددا في رأسه هي كيف؟ و من؟ و متى؟ و لماذا؟ لهذا يبقى جهاز دماغه في أزيز متصل ليل نهار، فإذا آوى للفراش كان كثير الأحلام، تتراقص أمام عينيه في نائما نفس الأسئلة التي كانت تأز برأسه صاحياً، فلا حل لمثل هذا الصنف إلا أن يعرف ليهدأ، و ما أن يهدأ حتى تطرح رأسه سنابلا جديدة من الأسئلة تطلب إجابات، و هكذا، فهذا الصنف من البشر هو الموجوعة دماغه مادام حيا، فلا الأسئلة ستنتهي، و لا هو سيهدأ دونها! هذا قدره، و لكل صنف من صنوف البشر قدر، و وجع الدماغ أخف من غيره من الأقدار، فلله الحمد و المنة
و كتابي بين يديك، هو حصاد وجع دماغي في أربعة أعوام، فهو مجموعة دراسات و مقالات و نصوص كتبت في الفترة الممتدة ما بين نهايات 2004 و نهايات 2008م، متفاعلة في مجملها مع همومنا المؤقتة أو المؤبدة، متنوعة و متباينة بتنوع و تباين هذه الهموم، فمنها ما يتناول ظواهرنا الاجتماعية، و منها ما يتعامل مع فكرنا الديني، و منها ما يتعرض لقضايانا السياسية و الاقتصادية، منها ما يحكي قصصا من ماضينا و منها ما يسبر أغوار حاضرنا، ثم منها بعد ذلك ما وجدنا العامية المصرية أنسب لطبيعته، و منها ما لم تصلح له إلا الفصحى، لكنها و إن بدت متشعبة متباينة، يربطها نسق فكري عام يكاد يكون واحدا

فلعل الناظر المدقق لمجمل تاريخ مصر المعاصر، يمكنه أن يرى منحنى حضاريا صاعدا، يمتد ما بين 1826 و 1973م، يعقبه منحنى هابط بدأ عام 1974م و مازال مستمرا حتى اليوم في تقديري، أما المنحنى الصاعد، فبدأ مع البعثات الكبرى لأوروبا خلال حكم "محمد علي"، كجزء من مشروعه الحضاري الطامح لتطوير مصر، و استمر صاعدا و إن شابته فترات تعثر أو توقف كما حدث خلال حكم "عباس" الأول ما بين 1848-1854م، و كان المعول الأساسي في هذا المنحنى الحضاري هو أبناء مصر، ممن هالهم الفارق الشاسع بين ما في بلادهم من مظاهر التخلف و التدني و ما رأوه في أوروبا من معالم التطور و المدنية، ثم قامت ثورة يوليو عام 1952 لتكسب المشروع الحضاري المصري أبعادا جديدة، كان أهمها الالتزام بمصالح الجماهير من الطبقات الكادحة و المتوسطة، فضلا عن الاهتمام بالصالح العام للشعب بكامل طبقاته و فئاته، فزادت سرعة المنحنى الحضاري الصاعد بزخم المدنية و الحداثة مع الثورة و قائدها الشاب، الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، ثم فترت حرارة المسيرة مع هزيمة 1967م لتوجه طاقات البلد نحو المجهود الحربي، و امتد الفتور حتى تحقق النصر عام 1973م، و برغم الفتور، كانت هذه السنوات الستة في مجملها و ما تحقق فيها من بطولات الاستنزاف و العبور هي التاج الذي كلل جبين مصر، كحصاد شرعي لفترة النهضة الحضارية الممتدة قبله، لكننا بكل الأسف، بدأنا في تغيير اتجاهاتنا بداية من عام 1974م، لنتبنى منهجا أثبتت تجربتنا معه في خمسة و ثلاثين عاماً أنه لا يناسبنا، هو المنهج البترو-أمريكي، القائم على الثقافة الأمريكية و نمط الحياة الاستهلاكي في المقام الأول، و على إطلاق يد تيارات الأصولية الإسلامية في المقام الثاني، لتمهد الأرض لهذا النمط و تحارب نيابة عنه، بعد أن أثبتت كفاءة عالية في مهمتها التمهيدية تلك خلال تجربة الخليج العربي، التي بدأتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أورثتها الولايات المتحدة الأمريكية

هذا هو الخط العام الذي يلملم وجع دماغي من الشرق و الغرب، فينظمه في عقد واحد، لعله عقد من الفرص الضائعة في مصر المعاصرة، فسواء كان موضوعي عن منظومة قيم غيرت، أو عن ثوابت سياسية عامت، أو توجه اقتصادي ارتد على عقبيه، أو حتى عن فهم للدين تم تسطيحه و تدجينه ليناسب كل ما سبق، فأنا في كل الأحوال أكتب عني و عنك، و عما أحببناه في مصر، ثم فقدناه خلال الهبوط الاضطراري للمنحنى الحضاري

في كتابنا سنتناول بالنقد التحليلي أحيانا و بالسخرية حينا، بعض أعراض و ملامح الخلل الذي انتابنا فكريا و حضاريا، بعد خمسة و ثلاثين عاما من الهبوط، و قد ترتفع حدة النقد أو تنخفض، وفقا لحدة الظاهرة التي نعالجها، لهذا فقد تجد عزيزي القاريء موضوعاً أو أكثر، يخالف منظومة فكرية أو نمطا معرفياً تعودت عليه و استسغته، فلو حدث هذا، فرجائي إليك أن تتعامل مع أطروحتي بشيء من رحابة الصدر، و بقلب مفتوح، و قابل للاقتناع لو قدمت له الأدلة الكافية على رأي آخر، فطريق التعددية الفكرية الذي يبدأه الشرق العربي اليوم، بفضل تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات، طريق طويل ما زلنا بأول مراحله، و لن نمضي فيه قدماً بغير قبول الفكر و الفكر المغاير
شكرا قارئي العزيز لأنك أتحت لي فرصة للتواصل معك، و شكرا لدار أكتب للنشر و التوزيع لأنها جعلت هذا التواصل ممكنا

د/ إياد حرفوش
القاهرة في ربيع 2008

No comments: