24.7.10

أدبيات الحقبة الكافرة


كانت تهمة البعد عن الدين أحد العناصر الأساسية التي توافقت عليها مجموعة عمل مخابراتية تكونت من عناصر مصر السادات، وسعودية فيصل، ومغرب الحسن، فضلا عن المخابرات الفرنسية والأمريكية، لتشويه الحقبة الناصرية في وجدان الشعب العربي بالإلحاح الإعلامي، مع تلميع القشرة الدينية فوق جلود السادات رئيس دولة العلم والإيمان ورقاعة جيهان، وفيصل خادم الحرمين الشريفين وخادم الأمريكيين، والحسن أمير المؤمنين الذي شيد مسجدا عملاقا على المحيط وجوع شعبه

أليس منطقيا أن تعبر أدبيات وفنون حقبة ما عن توجهاتها؟ خاصة في ظل إعلام كان للدولة فيه دور حصري، مختلف تماما عن إعلام اليوم، فهل كانت أدبيات وفنون يوليو كافرة؟؟و هل كانت أدبيات وفنون الحقبة اللاحقة، عصر الانحطاط المصري المعاصر بعهد مبارك والسادات مؤمنة؟ اليوم في ذكرى يوليو نبدأ بفنون وآداب الحقبة المتهمة بالكفر، وقريبا نعقب بأدبيات وفنون الحقبة التي ادعت الإيمان

سينما العروبة والإيمان
  • فيلم بلال مؤذن الرسول إنتاج 1953م
  • فيلم السيد البدوي إنتاج 1954م
  • فيلم الله معنا إنتاج 1955م
  • فيلم أرض الإسلام 1957م
  • فيلم حملة أبرهة إنتاج 1957م
  • فيلم خالد بن الوليد إنتاج 1958م
  • فيلم الله أكبر إنتاج 1959م
  • مسلسل رابعة العدوية الإذاعي 1961م
  • فيلم وا إسلاماه إنتاج 1961م
  • فيلم شهيدة الحب الإلهي 1962م
  • فيلم الناصر صلاح الدين إنتاج 1963م
  • فيلم رابعة العدوية إنتاج 1964م
  • مسرحية جزيرة الله 1967م
  • فيلم فجر الإسلام إنتاج 1970م
إنتاج ضخم لأفلام دينية في دولة يتهمها قليلي الدين والضمير والشرف بالبعد عن الدين

صوت العنفوان والإيمان
  • على مدد الشوف مدنة ومدنة .. دي لصلاتنا ودي لجهادنا، مدخنة قايدة قلوب حسادنا .. تحتها صلب كأنه عنادنا
  • دي بلدنا مصر العربية صورة منورها الإيمان
  • إلى فلسطين خذوني معكم .. إلى القباب الخضر والحجارة النبية
  • الله أكبر يا بلادي كبري .. وخذي بناصية المغير ودمري .. قولوا معي الله أكبر (التكبير صيحة قتالية للجيش المصري منذ تكوينه في عهد محمد علي، ولم يكن هتافا جديدا في أكتوبر كما ادعى البعض) سبحان الله
  • طول ما أملي معايا وفي إيديا سلاح .. هافضل أناضل وأمشي من كفاح لكفاح .. طول ما أيدي ف إيدك هاهتف وأقول .. حي على الفلاح
الإشعاع الإسلامي في الحقبة الناصرية
في الحقبة المفترى عليها فتح الأزهر أبوابه لاستقبال المسلمين من أقاصي آسيا، وفي نفس تلك الحقبة طبعت ترجمات القرآن لكل اللغات الحية حصريا، وتلتها ترجمات عديدة لكتب الصحاح وكتب التراث الإسلامي للعديد من تلك اللغات، وخرجت بعثات الأزهر لإعادة الهوية العربية والإسلامية بعد أفول الاحتلال عن الجزائر، وخرجت بعثات دينية للبنان وسوريا وماليزيا من واعظي الأزهر بكثافة غير مسبوقة

كانت هذه يا سادة هي أدبيات الحقبة الكافرة

20.7.10

ولد وبنت

سعدت بحضور عرض خاص لفيلم ولد وبنت بمركز الإبداع الفني بالأوبرا، بناء على دعوة الصديق العزيز والسينمائي الرائد دكتور/ محمد العدل، الفيلم هو العمل الأول لمخرجه كريم العدل، عن قصة وسيناريو وحوار علا عز الدين، وبطولة مجموعة من الوجوه الجديدة الشابة بجوار النجمين سامي العدل وسوسن بدر، في دورين مميزين عمقا وثراء رغم الوجود الزمني القصير على الشاشة، وأول ما لفت نظري هو أفيش الفيلم العادي جدا، والذي أثير حوله لغط يبدو أنه يصنف تحت بند "عدوك ابن كارك" والله أعلم، حتى لو كان هذا الكار أو الكاريير هو الفن السابع للأسف، ورغم عدم تخصصي ومحدودية خبرتي السينمائية، إلا أن الفيلم يستحق رصد إيجابياته وسلبياته وأهم ملامحه، فهو أعمق مما كتبه عنه أغلب المتخصصين، والذين اختزلوه في قصة رومانسية بين ولد وبنت من الطفولة وحتى العقد الرابع. وضاع من معظمهم الخط الذي أراه محوريا في الفيلم، وهو خط شهد-حامد رضوان، العلاقة الحاكمة في الفيلم.

في ظلال حامد رضوان
شخصيات الفيلم بصورة عامة مرسومة بكفاءة احترافية، هي أهم مميزات نص علا عز الدين، زاد من تألق الشخصيات الذكاء البصري لكريم العدل، والملابس والمكياج المنضبط زمنيا وسيكولوجيا مع الشخصيات وتطورها (ريم العدل)، كأحد أهم عناصر القوة في الفيلم، وأكثر تلك الشخصيات وضوحا وثراء هي شخصية الأب، الروائي حامد رضوان (سامي العدل، والذي لعب الدور بخبرة وسلاسة زادت من ثراء الشخصية ومصداقيتها)، المبدع والروائي الرومانسي المتيم بأميرته الصغيرة، أو سندريلا بابا كما دعاها، والمصاب بتضخم الذات، والذي يفصح عنه العباقرة عادة للخاصة ويسترونه بالتواضع بين العامة "حامد رضوان فقط هو من يقرر كيف تربى ابنة حامد رضوان" ، وعلاقته الإنسانية الخاصة جدا بابنته الطفلة ثم المراهقة شهد (لعبت دورها مريم حسن بجمالها الواثق)، كعلاقة بجماليون بجالاتيا التي لا يستطيع أن يجدها في دنيا الناس فينجبها، لتحمل صفات السندريلا، ويتم هو بعينه المبدعة ما لا تحمله من صفات، أما علاقته بالأم (سوسن بدر) فلم يوفها الفيلم حقها بلفتات كاشفة، عدا مشهد دكتاتورية حامد رضوان في تربية ابنته، وتعليقه عليها بأنها أفضل امرأة في العالم، بينما يقارنها بصديقاته اللائي يصفهن بمجرد بطلات لقصصه، في أحد ملامح متلازمة تضخم الذات، والتي تبيح له -في نظره- أن يكون حريما ثقافيا خاصا من الملهمات، حيث تتغذى الذات الإبداعية المتضخمة على نظرات وعبارات الإعجاب كتلك التي صورها مشهد الحديقة

حياة المبدع الكبير ومن حوله هي مأساة في أحد وجوهها، فحتى بموته لا تزول ظلال الروائي الكبير، حيث تبهت صورة الحبيب سامح، (والذي جسدها الشاب أحمد داوود ببساطة رائعة الصدق)، والحقيقة أن شخصية سامح أقل شخصيات الدراما عمقا، فجفاف الأم طبيبة أمراض النساء العملية للغاية، وضعف شخصية الأب، وقسوة التمرجية التي تقوم بدور الدادة، كل هذا لم يرسم شخصية سامح بوضوح، وبعد موت والدها وتجربة الدراسة في أكسفورد تعود شهد فتاة ناضجة متفجرة بالحيوية والعناد، ويبهت حضور الحبيب سامح خاصة بعد ظهور المثقف اليساري الأفاق المنحاز للمهمشين حتى يتخلص من الانتماء إليهم فقط، ليظهر الانتهازي من داخله، فيفقد دوره في حياة شهد كمعادل موضوعي للأب المفقود، والممثل الشاب أدى دوره هنا كذلك بشكل مرضي تماما، وإن اعتمد على طريقة الشرير التقليدية في تعبيرات الوجه والنظرات قليلا، آية حميدة لعبت دور الفتاة الظل بصدق وسلاسة، وعبقرية الملابس والمكياج والإضاءة تجلت واضحة في الحفاظ عليها دائما باهتة الملامح بجوار شهد المتألقة

الحوار والموسيقى .. القادم أفضل
كتجربة أولى كان الفيلم بصورة عامة أكثر من مفاجأة، ولو أردت حصر أهم المناطق التي تحتاج لجهد وعناية أكثر في العمل القادم لكريم سأجدها كالتالي
- إيقاع السيناريو أصابه الترهل أكثر من مرة خلال الفيلم
- الموضوع والشخصيات تحتمل جملا حوارية أعمق وأقوى بكثير مما كان الحوار عليه فعليا
- النقلات الزمنية تمت بسلاسة شديدة، وهذا جميل، وإن أثرت السلاسة على الوضوح أحيانا
- الموسيقى التصويرية أحد أهم نقاط القصور في الفيلم
- لو حمل أفيش الفيلم صورة الطفل والطفلة في صدر البوستر والأبطال في خلفيته كان سيعبر عن المضمون أفضل ويميز الفيلم أكثر

في النهاية فيلم فاق توقعي وقد كنت مهيأ لفيلم شبابي تسيطر عليه لغة خنيق .. وحد كويس قوي ,. وقد إيه مش عارف إيه .. وسيس وتيت، فوجدت فيلم إنساني جميل ومواهب شبابية متفجرة

17.7.10

دمشق يا مهد الدنيا


محظوظة بين المدن هي بيروت، إذ باسمها صدحت فيروز "لبيروت من قلبي سلام"، ثم غنت ماجدة الرومي "يا بيروت يا ست الدنيا يا بيروت" ليثبت اسمها في وجدان كل عربي، لكن مدينة أخرى تبقى عندي في الصدارة، فلو كانت بيروت ست الدنيا، فهي مهدها، هي مهد الدنيا من نظرة تاريخية، لأن الحفريات تؤكد أنها واحدة من أقدم المدن المعمورة عمرانا متصلا في التاريخ، وهي مهد الدنيا لأن منها انطلقت ممالك غيرت وجه العالم القديم، وهي مهد الدنيا لأنك تشعر فيها براحة الطفل في مهده، إنها مدينة الياسمين، وجنة الغوطتين، وحاضرة الأمويين، الشام، دمشق الحبيبة

ودمشق المدينة لا تستطيع أن تفصلها عن دمشق البشر، فالدمشقيون هم ساحة الأمويين ببساطتها الممزوجة بجلالها، هم شموخ جبل قسيون تلطفه خضرته اليانعة، هم عراقة المسجد الأموي وتعدديته، هم عبق التاريخ في سوق الحوامدية وراحة المكدود في البيوت الدمشقية، هم النسيم العليل والسيف النضيد والقهوة الفواحة والخبز الشهي وماء الزهر والعباءة الدمشقية

كل هذا يراه كل زائر لدمشق ويستمتع به، لكن دمشق تبقى للناصري حالة وجد صوفية، تبقى له نيرفانا من زمن الحلم، فالساعة ونصف الساعة التي تطير فيها من القاهرة لدمشق تأخذك فعليا لقرابة الأربعين عاما للوراء، لتجد نفسك في قاهرة الستينات المفقودة، يوم كانت القاهرة أنظف وأجمل وأهدأ، ويوم كانت محتفظة بثراء شخصيتها، وحدها دمشق لم يشوهها النفط الخليجي بذوقه الفج، وحدها دمشق احتفظت بمقاهيها ولم تحل محلها مشارب القهوة أمريكية النمط، وحدها دمشق لم تغزها المولات التجارية في كل شارع ولم ترقص بعد على موسيقى أمريكية، وحدها دمشق تحتفظ بلافتات محالها وشوارعها وميادينها عربية، ووحدها دمشق لم تدخل سبق الفيران الرأسمالية، حتى فنادق النجوم الخمس صبغتها دمشق بصبغتها وليس العكس، فدمشق مدينة تعتد بذاتها في شموخ كأهلها، وترفض أن تميع أو تزول صفاتها المميزة

لكل هذا وأكثر .. لدمشق مهد الدنيا من قلبي ألف سلام وسلام، فلي بجنوب الغوطتين شجون

15.7.10

الثلاثة يشتغلونها

فيلم خفيف وفكرته ذكية وإن كانت قريبة من فكرة رامي الاعتصامي، ربما عابه التمادي في بعض المواقف الكوميدية لدرجة الركاكة أو السذاجة، خاصة في نقل المدرسة الشابة لمنهج الأنماط الثلاثة التي التقت بها لأطفال المدرسة، اليساري المزيف والداعية الانتهازي، والشاب الرقيع، فالرمز كان شديد المباشرة والتسطيح، طبيعة السيناريو والحوار يجعلك تجزم أن الفكرة أمريكية، وهي بالفعل كذلك، لكن ما أزعجني هو الرسالة السياسية السلبية التي حملها الفيلم، ممثلة في
  1. السخرية من شباب 6 أبريل في صورة جماعة 6 فبراير والحديث الساخر عن اليوم الذي سيغير التاريخ، وفي هذا تسفيه لأفضل ظاهرة سياسية مصرية معاصرة بعد حركة كفاية
  2. تسفيه المظاهرات، والتيارات المطالبة بالتغيير، وكان أوقحها اللافتات التي رفعها الأطفال مكتوب عليها "عاوز بيزا" و "عاوز مصاصة" وما إلى ذلك من مشاهد مقصودة توحي بلا جدوى المظاهرات وأساليب الاحتجاج السلمي


13.7.10

جسر الكرامة-08


ناصر ومصدق .. والإحجام عن التعددية السياسية
كانت تجربة الدكتور مصدق في إيران وإجهاضها على يد المخابرات المركزية الأمريكية ماثلة أمام عيني ناصر طوال الوقت، ففي عام 1951م أمم الدكتور محمد مصدق، رئيس الوزراء الإيراني المنتخب، صناعة البترول في إيران بتأميم الشركة الآنجلو-إيرانية للبترول، وبعد شد وجذب يشبه ما حدث مع ناصر عند تأميم القناة، حركت المخابرات المركزية الأمريكية في شراكة مع نظيرته البريطانية انقلابا أطاح بمصدق وأعاد للشاه الموالي للغرب يدا مطلقة في القرار الإيراني.

كانت شعبية ناصر في الشارع المصري، بل والعربي، منذ 1956م فصاعدا أكثر من كافية لاستمراره في الحكم، فلم يكن نموذج التنظيم السياسي الواحد الذي انتهجته الثورة هادفا لتثبيت الزعيم الراحل في موقع الرئاسة، لكن دافعه الجوهري كان تجنب مصير حكومة مصدق الوطنية، والتي أطاحت بها المؤامرة الآنجلو-أمريكية بيد معارضة إيرانية، وكان التقارب الزمني للتجربتين مبررا نفسيا لهذا الهاجس.

لكن ما نراه الآن، وما كان متعسرا رؤيته في مطلع الخمسينات، هو بعد الحالة الإيرانية عن الحالة المصرية، بحيث لا تجوز المقارنة بين الحالتين، وبحيث يصبح الخوف من ثورة مضادة في مصر هاجسا ينقصه التبرير الكافي. فما هي الفروق بين تجربة مصدق وتجربة ناصر؟

1. كان ناصر مؤيدا من المؤسسة العسكرية ولم يكن لمصدق نفس درجة التأييد من المؤسسة العسكرية الإيرانية.
2. مناطق النفوذ البترولي المقسمة بين القوى العظمي الدولية كانت ومازالت خطوطا حمراء، تقدم هذه القوى على أي فعل أو موقف لحمايتها، بعيدا عن أية معايير خلقية أو إنسانية. لهذا حاول اللوبي الآنجلو-أمريكي الرجعي الإطاحة بناصر لكنه لم يتفانى في هذا بنفس الدرجة التي أظهرها في حالة الدكتور مصدق.
3. وجود الشاه وسرعة تكليف رئيس وزراء جديد بعد الإطاحة بحكومة مصدق وسجنه وفرت غطاء شرعيا لم يكن متاحا في التجربة المصرية لو حاولت الإطاحة بناصر.
4. المحيط الإقليمي لإيران من دول الجوار لم يكن كثير الارتباط أو الاهتمام بنظام مصدق، وإن قدره كل أحرار العالم تقديرا سلبيا، أما في حالة ناصر، فعملية إطاحة به كانت كفيلة بغليان المنطقة العربية البترولية، خاصة في العراق والكويت، لهذا كانت محاولات المخابرات الأمريكية مع ناصر محاولات اغتيال سرية دائما ، وليست محاولات انقلابية.

ولهذا نقول أن الإحجام عن التعددية السياسية منذ 1956م فصاعدا كان قصورا يفتقر للتبرير الكافي

جسر الكرامة-07


أوجه القصور في التجربة الناصرية الأولى
بقيام حركة الجيش في يوليو 1952م، ثم إعلان الجمهورية برئاسة اللواء محمد نجيب رحمه الله، بدأت الدولة المصرية الثانية في تاريخنا المعاصر، لكن تراثا من الحقبة الانتقالية التي بيناها في القسم السابق كان نارا تحت الرماد في الأعوام الثلاثة من 1952م وحتى 1954م، فقد كانت خطة الضباط الأحرار أول الأمر هي تسليم السلطة في مصر للمدنيين، وتحديدا لحزب الوفد الذي كان ممثلا للأغلبية رغم الانشقاقات وتداعيات معاهدة 1936م ثم إلغائها. وكان شرط الضباط الوحيد هو تصحيح عثرة قانون الاحتكار الذي نفذه محمد علي، نازعا ملكية الأرض الزراعية من المصريين، وهذا من خلال قانون لتحديد الملكية الزراعية. من هذه النقطة بدأ أول وجوه القصور في التجربة الناصرية الأولى.

مجلس قيادة الثورة .. التركيب والجدول الزمني
حدث تفاهم بين كل من الإخوان المسلمين والوفديين على رفض شرط الضباط الأحرار، وكان تقديرهم أن الشارع معهم، واستطاعوا جذب اللواء محمد نجيب لمعسكرهم، وتصاعدت الأزمة عام 1954م، مع تصريحات للواء نجيب للصحف المصرية حول حل مجلس قيادة الثورة وعودة الضباط للثكنات العسكرية، وذلك دون الاتفاق على المناطق الخلافية مع الضباط، فحدث الصراع الشهير، بين نجيب مدعوما من الإخوان المسلمين والإقطاعيين القدامى والوفديين، وجمال عبد الناصر رحمه الله مدعوما بالقطاع الأكبر من الجيش ومجلس قيادة الثورة وقاعدة عمالية وطلابية ناشئة، وهو الصراع الذي حسمه ناصر لصالحه. مستجيبا لرأي الفقيه الدستوري الأكبر عبد الرازق السنهوري، في استمرار حكومة ثورية إصلاحية تتحرك بخطوات واسعة نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبسرعة لا توفرها الديمقراطية عادة، وتأجيل خطوة الديمقراطية حتى تقطع الحكومة الثورية خطوات واسعة في مضمار التغيير، وتستقر الأمور. وهنا كان أول قصور في التجربة الناصرية الأولى.

نفهم أن تكون البلاد في عام 1952م بعد ما تردت إليه أوضاعها سياسيا واجتماعيا بحاجة ملحة لنظام ثوري لفترة مؤقتة، ينهض بحاجاتها الملحة تنمويا وإصلاحيا، أو دعنا نقول أنها بحاجة إلى حكومة فترة انتقالية، لمدة تتراوح بين العامين والخمسة أعوام، فهذا الشكل الانتقالي معهود في الظروف المشابهة عالميا، لكن القصور في ثورتنا المصرية نتج عن عاملين محوريين، وهما

1. عدم تحديد مدة زمنية قصيرة يصدر خلالها الدستور الدائم وتعود للحكم مدنيته المطلقة، ولا يمنع هذا من استمرار قائد الثورة في موقعه الرئاسي بانتخابات نزيهة، كان سينجح فيها ولا ريب بحكم شعبيته الهائلة في الشارع المصري، كذلك لا يمنع عودة الحكم للشكل المدني من استمرار الأكفاء من العناصر العسكرية في مواقعهم بعد استقالتهم من الجيش.
2. استمرار مجلس قيادة الثورة عسكريا صرفا، وكان الأولى والأقرب لكفاءة صناعة القرار ضم عناصر مدنية مشهود لها بالنزاهة والوطنية كأعضاء في المجلس لا كمستشارين

جسر الكرامة-06


محمد علي والدولة المصرية الأولى
برغم جنسية محمد علي الألبانية ولغته الأجنبية، كانت دولته التي أسسها في مصر واستقل بها عن نفوذ الآستانة زمنا طويلا دولة مصرية لا متمصرة، فلماذا؟ لأن الباشا عول على المصريين للمرة الأولى منذ عهد الفراعين، فكان منهم الوزراء والقادة والساسة والوجهاء، ومن استعان بهم من الأجانب كانوا قلة حين نقارنهم بالمصريين، كذلك كان جنود جيشها الوطني وصغار ضباطه مصريين، وإن كان قواده وكبار ضباطه أتراكا من بني جلدة الحاكم، واستقلت إرادة مصر الوطنية، وتنامى نفوذها الإقليمي في السودان والشام والجزيرة العربية، وازدهر التعليم وبدأ المتعلمون حملة ضد الخرافات التي تأصلت في العقلية المصرية زمن الترك والمماليك، ومرت البلاد بنهضة صناعية وزراعية وتجارية لم تعرفها من قبل عبر تاريخها، ولم تعرفها من بعد عدا في حقبة الستينات، ولم يعب دولة محمد علي من الناحية الاقتصادية غير قانون الاحتكار الذي اغتصب به الباشا حيازات الفلاحين الزراعية وأعلن نفسه مالكا وحيدا للأراضي المصرية المنزرعة.

هكذا كان لمحمد علي الفضل في أول مشروع حضاري لدولة مصرية في العصر الحديث، وإن كانت المؤامرة الأوروبية العثمانية قد قهرت حلمه وهو فوق سنام المجد، تماما كما كسرت القوى الآنجلو-أمريكية الصهيونية بتحالفها مع الأنظمة العربية الرجعية الحلم الناصري وهو في أوج العنفوان. ولو كانت الدولة المصرية قد انكفأت داخل حدودها بعد انهيار الحلم الامبراطوري لمحمد علي، إلا أنها حافظت على استقلالها النوعي رغم التبعية الاسمية للباب العالي بقية عهد محمد علي ثم عهد ولديه إبراهيم باشا وسعيد باشا، ثم عهد حفيده الخديو إسماعيل، حتى ثار المصريون على عسف الخديو توفيق بقيادة القائمقام المصري أحمد عرابي، فاستغاث الخديو العلوي بالإنجليز، ليحتلوا مصر عام 1882م، تاركين تبعيتها اسميا للباب العالي حتى قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، ففصل الإنجليز مصر عن الباب العالي وأعلنوا الحماية عليها.

وبرغم الاحتلال العسكري المباشر والهيمنة الإنجليزية الوقحة خلال الفترة ما بين 1882م و1952م، لم يحل بمصر ما يمكننا أن نطلق عليه عصر انحطاط جديد، لكنها دخلت عصرا انتقاليا هذه المرة، لتوافر سمات الحقبة الانتقالية التي فصلناها سابقا فيه

مصر في العصر الانتقالي المعاصر (1882-1952م)
لا يمكننا نعت هذه الحقبة بعصر الانحطاط، ولا يمكننا كذلك وصف أي من مراحلها بالدولة المصرية المستقلة حقيقة، لماذا؟
كانت مقاومة الإرادة المصرية للتبعية الأجنبية خلال تلك الحقبة هي الأروع في تاريخها كله برأينا، فقد كانت مقاومة لم تعرف الانقطاع إلا لتتصل من جديد، وكان هذا بفضل مسيرة التنوير التي أطلقها محمد علي باشا وأسهم فيها حفيده إسماعيل إسهاما ملموسا، فبفضل العلم أدرك المصريون قيمة الحرية واستقلال الإرادة الوطنية، وأن الحرية ليست جوهر كرامة الفرد والمجتمع فحسب، لكنها كذلك لقمة الخبز على مائدة كل أسرة، والماء النظيف في كل بيت، والأمن على الأنفس والأموال والأعراض في كل حي، لهذا كانت بسالتهم واتصال نضالهم ملحمة لعلها الأروع بطول تاريخهم، والأكثر فاعلية، وذلك رغم الحقبة الخاملة قرب نهاية تلك الفترة الانتقالية. وكانت أهم مراحل النضال الوطني هي:

1. واجه الاحتلال أول ما واجه جيش مصر الوطني في التل الكبير بقيادة عرابي، وهزم الجيش المصري بعد تضحيات جليلة قدمها رجاله.

2. مات توفيق ليتولى الحكم بعده أكبر أولاده الذكور وهو عباس حلمي الثاني، وكان الخديو عباس أو "أفندينا عباس" كما سماه المصريون حبا وتكريما وطنيا بما يكفي لينحاز للشعب في مناوئة سلطة الاحتلال، فكان شوكة في حلق المستعمر ما بين 1892م وقيام الحرب العالمية الأولى، حين عزله الإنجليز وولوا مكانه خائنا جديدا من الأسرة العلوية بعد توفيق هو السلطان حسين كامل. وأعلنت الحماية رسميا. وقد تزامن حكم عباس حلمي مع مقاومة الزعيم مصطفى كامل ثم محمد فريد.

3. بانتهاء الحرب العالمية ظهر دور الوفد المصري بقيادة الزعيم سعد زغلول في المقاومة السلمية للاحتلال، واندلعت ثورة 1919م في الأحداث الشهيرة التي كانت من أروع صفحات النضال الوطني، حتى أعلن الاستقلال الشكلي عام 1922م بتولية فؤاد الأول ملكا على مصر.

4. منذ 1928 وحتى 1952 دخلت مصر حقبة تبادل الوفد مع وزارات الأقليات السلطة فيها، حتى شكل النحاس الذي تزعم الوفد خلفا لسعد زغلول خمسة وزارات في تلك الفترة التي لم تتجاوز الأربعة عشر عاما، وفقد النحاس الإجماع الشعبي بعد معاهدة 1936م التي حالف فيها الإنجليز في زمن الحرب ضد النازي وإن كان دافعه لعقدها وطنيا وهو خروج الإنجليز من القاهرة للقناة. وفقد المزيد من التعاطف الشعبي بعد خروج مكرم عبيد باشا أحد أقطاب الوفد من الحزب ونشره الكتاب الأسود الذي ألقى ظلالا كثيفة على الذمة المالية للسيدة زينب الوكيل زوجة النحاس وعلى دور فؤاد سراج الدين الذي بدأ يهمش دور مصطفى النحاس.

5. بعد تصاعد الأحداث وحريق القاهرة عام 1952م، وتأسيسا على تداعيات معاهدة 1936م وحرب فلسطين 1948م، قامت حركة الجيش في 23 يوليو 1952م، لتبدأ مسيرة الدولة المصرية الثانية، بعد دولة محمد علي باشا في تاريخنا الحديث والمعاصر.

11.7.10

جسر الكرامة-05

العثمانيون ونزح الحضارة
وشهدت مصر ظاهرة جديدة تمثلت في السطو على حضارتها وثقافتها بنزح الفنانون والصناع إلى استانبول، ليؤسسوا مجدا معماريا ومدنيا للباب العالي، ولولا اختلاف اللغة لنقل الترك علماء الأزهر وخطباء المساجد لحاضرتهم.

أما عن المعاناة الاقتصادية في مصر العثمانية فحدث ولا حرج، ويكفي أن عبارة أليمة تجدها مكررة في تاريخ الجبرتي كل بضعة صفحات، يقول فيها "وزادت الأسعار، وحل بالناس مالا يوصف، فتغيرت القلوب والطباع، وكثر الحسد والحقد، وعربدت أولاد الحرام وفقد الأمن، ورحلت الفلاحون عن بلادهم وانتشروا في المدينة بأولادهم وهم يصيحون من الجوع، وأكلوا ما كان يتساقط في الشوارع من قشور البطيخ وغيره، فلا يجد الزبال شيئا يكنسه، وأكلوا الحمير الميتة، ومات كثير من الفقراء من شدة الجوع وعز الدرهم والدينار في أيدي الناس"، فهل بعد هذا العناء عناء؟

سمات الانحطاط

بغض النظر عن أوهام بعض التيارات السياسية اليوم والتي تكثر الحديث عن مآسر الدولة السنية، والخلافة الإسلامية، وتمن علينا برفض السلطان عبد الحميد تمكين اليهود من وطن قومي بفلسطين، وتنسى أن تبرر لنا لماذا احتل هو وقومه فلسطين أساسا؟ وقد كانت مسلمة قبل أن يسمع أجداد عثمان طغرل اسم النبي عليه الصلاة والسلام! بغض النظر عن كل هذا، كانت مصر العثمانية هي عصر الانحطاط الرابع في تاريخنا، والذي رأينا معا في هذا الفصل من كتابنا أن عصور الانحطاط فيه اشتركت في سمات أهمها:

1. فقدان مصر لاستقلالها وحرية إرادتها الوطنية، سواء بالاحتلال الكلي أو الجزئي أو التبعية لغيرها، سواء صحب هذا تسيد بطانة أجنبية على أهم المواقع في الدولة والجيش أم لا.

2. استنزاف خيرات مصر بنهبها على يد الغزاة والمتعاونين معهم من المصريين، ومعاناة المصريين من ضغوط اقتصادية تراوحت بين الفقر والبؤس والمجاعة الحقيقية في بعض الأحيان.

3. انكفاء مصر داخل حدودها الجغرافية، واختفاء نفوذها من محيطها الاستراتيجي.

وختمت حلقات الانحطاط العثماني المتصلة بتزايد نفوذ المماليك مرة ثانية ممثلين في مناصب شيخ البلد وأمير الحج التي احتكروها، فقد استعان بهم الترك على قهر الانتفاضات المصرية التي أثارها الجوع والطغيان، كما استعانوا بهم في جباية الضرائب والمكوس، وقل عدد الحاميات العثمانية في مصر، وهمش دور الباشا العثماني وصار شكليا، حتى جاءت الحملة الفرنسية فلم يتصد لها البكوات المماليك ولا الباشا التركي. فاحتلت مصر وكان الاحتلال الفرنسي هو قاع الهوان العثماني المملوكي في مصر، ولم تخرج الحملة بغير المقاومة المتصلة في الأقاليم والصعيد فضلا عن ثورتي القاهرة، وبخروج الفرنسيين وثورة المصريين على خورشيد باشا العثماني وخلعه، وترشيح محمد علي باشا للباب العالي سلفا له، بدأت نهضة مصر الحديثة، وأول دولة مصرية مستقلة منذ عهد الفراعنة، مصرية وليست متمصرة.

جسر الكرامة-04

فتح وغزو واحتلال .. معاً

أشرت في كتابي "وجع الدماغ" للخلاف السفسطائي الدائر حول وصف دخول العرب لمصر في عهد الخلافة الراشدة، هل كان فتحا أم غزوا أم احتلالا؟ وفصلت رأيي بأنه كان الثلاثة معا، وهذا شأن كل حدث تاريخي، يعتمد وصفه على الموقع الذي تصفه منه، فقد كان في نظر العرب الفاتحين فتحا عظيما ثبت ركائز دولتهم الناشئة بثرواته وتراثه. وكان من وجهة نظر النسر الروماني المتعجرف غزوا بربريا من بدو الصحراء يقتطع أطراف الامبراطورية المقدسة، وكان من وجهة نظر المصريين احتلالا جديدا يحل محل القديم. وهذا ما سجله ساويرس بن المقفع ويوحنا النقيوسي في حولياتهم. فهل خرج المصريون مرحبين بالعرب الغزاة حقا؟ تلك أسطورة نسميها أسطورة السمن والعسل. وخطورتها تكمن في ترسيخ صمرة المصريين كشعب خنوع طوال الوقت ومنذ فجر تاريخه، حتى اليوم، وهي مقولة لم تختبر.

أكاذيب السمن والعسل

من يقرأ الفتح العربي في كتبنا المدرسية يتكون لديه شعور بالامتعاض من خنوع الشعب الطيب الذي رحب بالاحتلال العربي، ليخلصه من الروماني، كأن الاحتلال قدر لا فكاك منه، والحقيقة غير ذلك، فقد قاوم المصريون الفتح واستمرت بعض جيوب المقاومة مثل دمياط لعدة عقود، وتمردت الاسكندرية وساعد المصريون وفي طليعتهم بطريرك الكرازة المرقسية حملة رومانية بقيادة إيمانويل الخصي لاستردادها، لكن عمرا بن العاص تصدى للحملة وأجهضها، ثم عاقب السكندريون بجباية باهظة جعلت المصريون يتحدثون للمرة الأولى في أدبهم الشعبي عن "بيع عيالهم"، كناية عن شدة العوز.

كذلك ثار المصريون على الحكم الأموي أربعة ثورات في 725، 726، 739 و 750 ميلادية، وقهرت كل تلك الثورات بحمامات الدم والعنف المدمر. وكانت ثورات المصريين ضد الأمويين قبطية مسيحية في مجملها. ثم زادت الجباية أكثر وأكثر مع دولة البذخ العباسية، فثار المصريون جميعا، المسلم منهم يدا بيد مع المسيحي، واشتعلت ثورات عامي 828 و831م ضد الولاة العباسيين. حتى انتهى الاضمحلال الثالث الطويل باستقلال مصر للمرة الأولى على يد أحمد بن طولون، فكانت الدولة الطولونية أول الدول المتمصرة المستقل

الدول المتمصرة المستقلة

أبتسم متعجبا لقصور رؤية من يتحدث عن حركة الضباط الأحرار في يوليو وكأنها أول حركة سياسية استولت فيها المؤسسة العسكرية على مقدرات الحكم في مصر، فتجربة حكم العسكر متكررة في تاريخنا القديم والحديث بكثافة، ولو كان "حور-محب" أول قائد عسكري يستولي على حكم مصر في تاريخها الفرعوني، فقد شهدت الخلافة العباسية قائدا عسكريا آخر يستولي على السلطة، ويشق عصا طاعة الخليفة في بغداد، كان القائد هو الضابط التركي أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية، أول الدول التي نسميها "الدول المتمصرة المستقلة"، وهي دول استقلت فيها إرادة مصر الوطنية، لكن في ظل حاكم أجنبي، وإدارة أجنبية تعاونه ففي عام 871م، وإثر الفوضى التي أعقبت ثورة الزنج في البصرة، استغل حاكم مصر أحمد بن طولون انشغال الخليفة المعتمد بحال العراق وأعلن استقلاله عن الخلافة، وبنى لجيشه وبطانته التركية مدينة القطائع، وهزم جيش الخلافة الذي حاول استرداد مصر من قبضته، وبقيت مصر مستقلة حتى خضعت لبغداد في نهاية عصر خمارويه بن طولون، ثم استعادت استقلالها بوصول عسكري جديد للسلطة واستقلاله عن الخلافه، هو محمد بن طغج، إخشيد مصر ، واستمرت دولته ودولة عبده الخصي كافور الذي خلفه على عرش مصر حتى الغزو الفاطمي من شمال أفريقيا عام 969م. وبعد قرابة المائة وستين عاما من الازدهار الذي كانت مصر عاصمته وكانت القاهرة حاضرته، ضعفت الخلافة الفاطمية وبدأ عصر الوزراء العظام، وفي ظروف معقدة يضيق بها المقام وصل ضابط كردي من أكراد العراق لعرش مصر، مسقطا الخلافة الفاطمية، ليؤسس دولة عسكرية متمصرة جديدة، هو السلطان صلاح الدين الأيوبي، وامتازت مصر في عهده بدور قيادي في المنطقة العربية، حيث انضوت تحت إمرته أراض سوريا وفلسطين ولبنان حاليا، وقاد الجيش المصري النضال ضد الحملات الصليبية على الشرق في صفحات مجيدة من تاريخنا.

لكن ما حققه صلاح الدين من مجد لا يلغي ما حدث بعهده من قمع، فإنجازات صلاح الدين الأيوبي في الخارج لا تنفي طغيان وزيره "قراقوش" الذي تعسف في جباية ضرائب باهظة من المصريين حتى ضربت به الأمثال حتى اليوم، ولا تنفي سماحة صلاح الدين الدينية دموية أخيه العادل في قمع تمرد أقباط قفط، والذي سجل المقريزي في خططه قتل 3000 قبطي على أثره. وفي كل الأحوال كانت الدولة الأيوبية متمصرة لا مصرية، حيث كان حكامها أكرادا وكانت الإدارة والمناصب الرفيعة فيها للكرد والمماليك الذين اصطنعهم الأيوبيون وتوسع في استعمالهم الصالح أيوب آخر الملوك الأيوبيين.

العصر المملوكي آخر الدول المتمصرة

بدأت الحقبة المملوكية في مصر بسلطانين مملوكيين عظيمي الهمة، هما الملك المظفر سيف الدين قطز، قاهر التتار في عين جالوت، ثم الملك الظافر ركن الدين بيبرس محرر القدس للمرة الثانية ، وانتهت بسلطانين شريفين هما قنصوة الغوري ثم طومان باي، إذ استشهد كلاهما في مواجهة الاحتلال العثماني دفاعا عن استقلالها، أما بينهما فكان عصر تدهورت فيه أحوال مصر، وزاد البون الشاسع بين المصري الكادح من أولاد الفلاحين، والمملوكي المرفه من "أولاد الناس" كما أطلق عليهم المصريون. لكن مصر في كل الأحوال حافظت على استقلال إرادتها، وازدهرت فيها فنون العمارة والمنمنمات وهي فنون ارتبطت براحة ورفاهية ومجد المماليك أولاد الناس دون معظم أولاد البلد، وبوفاة السلطان طومان باي الذي قاوم العثمانيون في معركة الريدانية وبعدها زمنا، وتعليق جثمانه على باب زويلة، توفيت آخر دولة متمصرة مستقلة في التاريخ، ودخلت مصر عصر انحطاط جديد فقدت فيه إدارتها الوطنية واستقلالها وصارت تابعة للباب العالي في الآستانة، وعانى المصريون أسوأ أنواع القمع في تاريخهم على الإطلاق تحت هيمنة أبناء عثمان طغرل القساة غلاظ القلوب، وعادت مرحلة نزح خيرات مصر لخارجها.

جسر الكرامة-03

عصر الانحطاط الثاني

من نظرة عملية بدأ الاضمحلال الثاني مع حكم الملكة "سوبك-نفرو"، والذي دام ثلاث سنوات عاطلة من الإنجازات، فرغم أن أغلب المراجع التاريخية تربط نهاية حكمها وليس بدايته بالانحطاط الثاني، إلا أن دروس التاريخ تعلمنا أن توقف الإنجازات والنماء والبناء هو طليعة الانحطاط.

زادت الفوضى مع حكم الأسرة الثالثة عشرة ضعيفة النفوذ، واستمرت مع الأسرة الرابعة عشرة، فتكرر غزو الهكسوس لمصر، واستقر لهم حكم الدلتا، وتكررت مشاهد الانحطاط الأول وامتدت حتى تجاوزت قرنين من الزمان، حكمت فيها أسرتان من الهكسوس هما الخامسة عشرة والسادسة عشرة.

الفجر الجنوبي من جديد

من حكام طيبة تأسست الأسرة السابعة عشرة التي شكلت البيت الحاكم المصري في ظل احتلال الهكسوس للدلتا، وتزايدت قوتها حتى قاد حاكم طيبة "سكنن-رع-تاو" حملة قوية ضد الهكسوس واستشهد فيها، فخلفه ولده "كا-موس" في قيادة الجيش ولحق بوالده شهيدا، ليخرج ولده الثاني "أحمس" من الجنوب طاردا الهكسوس في الملحمة الشهيرة للتحرير المصري، وتبدأ المملكة الحديثة من تاريخ مصر الفرعونية، وفيها حكم مصر أعظم فراعنة وسعوا سلطتها وأمنوا حدودها، في عصر عرف بمصر الإمبراطورية، ومن طيبة قلب الجنوب حكم فراعنة عظام بحجم "آمون-حتب الأول"، "تحتمس الثالث" ، "حتشبسوت" ، و"رمسيس الثاني" . ودام المجد لأكثر من خمسة قرون قبل أن ندخل في ثالث عصور الانحطاط. وأطولها على الإطلاق!

أطول عصور الانحطاط

انتهى حكم الأسرة العشرين من الدولة الحديثة والمعروف بحقبة الرعامسة بفرعون ضعيف هو "رمسيس الحادي عشر"، ودخلت مصر عصر الانحطاط الثالث حوالي عام 1050 ق.م.، حين حكمت المؤسسة الدينية من كهنة آمون الجنوب من طيبة، وعلى رأسها الأميرات حاملات لقب "زوجة الرب آمون" ، وحكم الفرعون الدلتا، وكان هذا هو الخلط الأول في مصر القديمة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، حيث اعتاد الفراعنة منذ عهد "أحمس" وضع أحد سيدات البيت الملكي على قمة المؤسسة الدينية، حتى يتحكموا فيها، ولكن بمرور الوقت، ولوجود حق إلهي للأميرات في الحكم بفضل الدم الملكي، بدأت المؤسسة الدينية بقيادتهن تظهر ولاء متناقصا للسلطة المركزية، حتى صارت أشبه بسلطة مستقلة في عصر الاضمحلال الثالث هذا. واستعانت المؤسسة الدينية على هذا الاستقلال بشبه تحالف مع حكام النوبة جنوب الشلال الثالث. وخضعت مصر في مطلع الانحطاط الثالث لسلطة غير مباشرة للآشوريين.

والسواد الأعظم من المؤرخين يعتبرون انفصال "بسماتيك الأول" عن الدولة الآشورية في عام 656 ق.م. هو نهاية هذا الاضمحلال، وبهذا يكون امتداده لقرابة الأربعة قرون فقط، لكننا نرى أن هذا العصر امتد حتى الدولة الطولونية في العصر العباسي المتأخر، فلماذا؟

استبدل "بسماتيك الأول" نفوذ الآشوريين بنفوذ جديد لليديين ، كما استعان في جيشه بكبار ضباط من المرتزقة اليونان، وأقطعهم أراض واسعة في مصر، وبهذا وحد "بسماتيك الأول" المملكة وحقق استقرارا نوعيا دام بعده حتى حكم حفيدة "بسماتيك الثالث"، أي لأكثر من المائة عام، لكن الاستقرار هنا كان على حساب استقلال مصر وحريتها، وكانت نتيجة طبيعية لتلك التبعية أن تسقط مصر كثمرة ناضجة في يد الفرس إثر موقعة بيلوسيوم في عهد ذلك الحفيد. فالدول التابعة لقوى خارجية تكون هشة ومفرغة من الداخل بطبيعتها، ذلك أن التبعية والحس الوطني والترابط والتماسك في الجبهة الداخلية أضداد لا تجتمع، وحالنا اليوم خير دليل.

من هذا التاريخ، 1050 ق.م.، وحتى اعتلى الضابط المغامر أحمد بن طولون سدة الحكم في مصر في القرن التاسع الميلادي، أي لأكثر من ألفي عام، كافح الشعب المصري كفاحا اتصل حينا وانقطع حينا، وشهد لحظات مجد تاريخية لا ريب فيها، لكن تلك اللحظات كانت فلاشات في ليل طويل بهيم، لا يمكننا أن نجد بينها عصر استقلال إرادة وطنية كامل، أو مشروع حضاري نهضوي شامل وممتد.

حاول ملوك الحقبة المتأخرة من تاريخ مصر القديمة التمرد على النفوذ الفارسي، وحقق بعضهم نجاحات لكنها كانت عادة بدعم من اليونان والاسبرطيين، ثم صارت مصر قطرا من أقطار الامبراطورية الهيلينية التي أسسها الإسكندر الأكبر، وورثها عنه البطالمة، ثم قنصها الرومان. وهكذا صار تاريخنا مسلسلا من التبعيات لقوى وشعوب خارج حدود مصر.

النظام العالمي القديم والنزح الاقتصادي

كما تحكمت الولايات المتحدة وحليفتها الأصغر المملكة المتحدة في مقدرات العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى اليوم، وزادت سطوة قبضتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد حكمت روما القديمة العالم تحت شعار السلام الروماني (باكسا رومانا)، ونزحت ثروات شعوبه، وزعم الرومان أنهم بهذا يحققون رخاء البشر بضمان السلام والاستقرار والأمن عبر الأراضي الخاضعة للنسر الروماني. وكغيرها من الأقطار بدأت سياسة النزح الاقتصادي المنظم لمصر، والتي لم تنته إلا في نهاية العصر العباسي لفترات متقطعة، تخللها عودة للنزح كل حين.

فرض الرومان الضرائب المالية والعينية على الغلال والمحاصيل والبهائم بنسب باهظة وعشوائية، وغير مرتبطة بفيضان النيل طبعا، حتى جاع المصريون بينما سفن النسر الروماني تعبر بالغلال من الإسكندرية لروما في العهد الروماني الأول ثم للقسطنطينية في عهد الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية). واستمر الحال على ما هو عليه رغم تحول الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطورية مقدسة إثر تبني قيصر قسطنطين للمسيحية، عقيدة الرحمة والسماحة والحب، لم تقل الجباية حبة قمح واحدة، فلو كان يسوع الناصري عليه السلام قال بأن دخول الجمل من سم الخياط أصعب من دخول الغني لملكوت الرب، فقد قال كذلك "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وفسرها بولس الرسول على هوى قيصره، والذي كان يرى أن ما لقيصر هو ببساطة كل شيء يريده قيصر! وقد ركزت كتب التاريخ المدرسية كما أذكر دوما على اضطهاد المصريين الأقباط الأرثوذكس على يد الرومان الملكانيين، والحقيقة أن القاريء المدقق لتاريخ مصر الذي سجله الآباء الأقباط يرى المعاناة الاقتصادية أفدح بكثير من الاضطهاد المذهبي.

ثم انتصر العرب بقيادة عمرو بن العاص على الرومان وأخرجوهم من مصر، فصارت تابعة لدولة الخلافة العربية في عهد عمر بن الخطاب، ثم للامبراطوريتين الأموية فالعباسية. فهل تغيرت الصورة كثيرا مع انتقال مصر لقبضة العرب بعد الروم ؟ ربما اختفى الاضطهاد المذهبي وقتيا مع الفتح العربي، لكن النزح الاقتصادي لمصر استمر قطعا، بل زاد تحت حكم ولاة مثل "عبد الله بن أبي سرح"، والذي زاد الجباية ليتمكن من توسيع فتوحه في أفريقيا، بينما كان ولاة معتدلون مثل "عمرو بن العاص" يجبون وفقا لمنسوب النيل وبنسب معقولة لا تقصم ظهور المصريين.

جسر الكرامة-02


الأسر الحاكمة اللقيطة والعهد القديم
مشكلة كبيرة وجد مؤرخو العهد القديم من الكتاب المقدس أنفسهم فيها بعد أن فك شامبليون شفرة الكتابة المصرية القديمة بفك رموز حجر رشيد، وترجمة متون الأحجار واستنطاقها لتحدثنا بتاريخ مصر المجيد، تلك المشكلة هي غياب أي ذكر للأحداث الجسام التي ذكرها العهد القديم حول مصر من برديات المصريين وحجارتهم التي سجلوا فيها أحداثا أبسط وأقل أهمية من تلك الواردة في الكتاب المقدس، فكيف غاب التاريخ اليهودي المقدس من ذاكرة دولة كانت تسجل حوليات دقيقة منذ فجر التاريخ؟
لا يوجد ذكر في التاريخ المصري لأحداث ترتبط بدخول النبي إبراهيم لمصر وموجات اللعنة التي حلت بمصر من جراء استئثار الفرعون بسارة زوجة إبراهيم عليه السلام لنفسه،لم يذكر تاريخ مصر شيئا عن تحول ماء النيل إلى دماء، ولا عن غزو من القمل والضفادع والجراد. كذلك لم يسجل التاريخ المصري غرق جيش مصري بقيادة فرعون شخصيا في البحر الأحمر أثناء مطاردة للعبرانيين. ولا سجلت قصة وزير أو موظف كبير في مصر من أصل عبراني هو النبي يوسف عليه السلام، فكيف يتصرف مؤرخو الكتاب المقدس في هذه المعضلة؟

لم يكن عصر الاضمحلال الذي شهد أسرا من الملوك الرعاة (هكسوس) من خارج مصر عصر تدوين بحال من الأحوال، فلم يكن الملوك الرعاة مشغولين بالأبدية كالمصري القديم، لم يهتموا بحفظ تاريخهم، ولذلك كانت الأسرات المالكة الأجنبية من السابعة للعاشرة بغير تراث تقريبا، إلا شذرات، وفي هذا وجد مؤرخو الفاتيكان ضالتهم، فألصقوا كل تلك الأحداث بالملوك الرعاة، وإن لم يعجب هذا الحل اليهود كثيرا، حيث فضلوا دوما إلصاق تلك الأحداث بملوك عظماء من الدولة الحديثة أشهرهم "رمسيس الثاني".
الشمس في مصر تشرق من الجنوب!

ظاهرة تسترعي نظر الباحث المتأمل في تاريخ مصر بكافة مراحله، فبعد فترات الاضمحلال والفوضى، والتدخل أو الاحتلال الأجنبي، يخرج أبطال التحرير غالبا من جنوبها، وبعد حقب الجهل والظلام تشرق شمس التنوير كذلك من جنوبها في أغلب الحالات.
دائما الجنوب، صعيد مصر، وجنوب أسيوط تحديدا، ولهذا أسباب ليس هذا مقامها. فكما خرج "مينا" موحد القطرين من طيبة، ليؤسس الأسرة الأولى التي حكمت مصر الموحدة لأول مرة في تاريخها قرابة عام 3200 ق.م.، خرج منها "مونت-حتب" الثاني مؤسس الأسرة الحادية عشرة والدولة الوسطى لينهي الفوضى ويضم مصر بكل أقاليمها تحت حكمه، ويتم ما كان سلفه نخت-نتب-نفر قد بدأه بالتعاون مع حكام أسيوط لطرد الملوك الرعاة من الدلتا تدريجيا، واستأنفت مصر مشوار الحضارة والعمران وعمرت المعابد، وعادت للآلهة سلطتها القديمة، واستقرت العادات والتقاليد التي كانت فترات الجوع والفوضى قد رجتها بعنف مبرح.

وازدهرت الدولة الوسطى وعرفت أسماء فراعين لامعة في غرة التاريخ، فكان منهم الفرعون الشعبي المغامر الذي استولى على السلطة وأسس الأسرة الثانية عشرة، "أمنمحات الأول" أو "سي-حتب-رع"، والذي نقل العاصمة للفيوم لمواجهة محاولات الرعاة العودة لمصر من الحدود الشرقية، وخلفه ابنه "سنوسرت الثالث"، صاحب قناة سيزوستريس الشهيرة، وأول فرعون اهتم بالفتوح الكبرى خلف الحدود، فضم لنفوذ مصر النوبة حتى الشلال الثالث وجبل لبنان وفلسطين. واستمر النماء والبناء في عهد ولده "أمنمحات الثالث".

جسر الكرامة-01

اضمحلال أم انحطاط أم انتقال؟

كما عرفت مصر منذ فجر التاريخ الحضارة والإنجازات الإنسانية الشامخة، عرفت كذلك عصورا تردت فيها حضارتها وتقزمت إنجازاتها، كما عرفت فراعنة وملوكا وحكاما كبارا صاغوا سيرتهم في تاريخها بحروف الذهب والنور، عرفت فراعنة وملوكا وحكاما كرهت مصر أسماءهم فتناستها، أو احتفظت بها في قبو الظلمات، مكتوبة بمداد أسود بلون الهم والرماد، ضمن عصور التدهور والتردي التي اختلف علماء المصريات والمؤرخون في تسميتها، فمنهم من كان شديد الصراحة فأسماها باسم يناسب واقعها، هو "عصور الانحطاط"، ومنهم من كان مجاملا بعض المجاملة فأطلق عليها "عصور الاضمحلال"، ونراها تسمية مجاملة قليلا لأن الاضمحلال يناسب الفترات المبكرة من تلك العصور، حيث كانت المدنية والحضارة تتقزم والإنجازات تتضمحل، ولا تختفي تماما، لكنه لا يناسب قلب تلك العصور الذي كان فوضويا في مجمله، فهو محاق للحضارة وليس مجرد اضمحلال، كذلك كان من المؤرخين من خرجت به المجاملة واللهجة الإيجابية عن الموضوعية برأينا فسماها "عصورا انتقالية"، وهو اسم غير موضوعي، وإن كان الأحدث والأكثر شيوعا في الوقت الراهن في المقالات التاريخية التي تتناول تلك الفترات، نراه غير موضوعي لأن للعصر الانتقالي سمتان مفترضتان فيه منطقيا:

1. جذور في العصر السابق عليه أدت لبدايته، وهذا العنصر متوافر في حالتنا.

2. بذور للعصر التالي متجانسة معه، وتؤدي لبزوغه بغير تغيرات جذرية ولا ثورية، وهو ما تفتقر إليه عصور اضمحلالنا بصفة عامة.

ومن أمثة المراحل الانتقالية مثلا نجد الفن القبطي كمرحلة انتقالية بين الفن المصري القديم والفن في مصر الفاطمية، فقد كان انتقاليا لأنه حمل سمات السابق عليه وبذور اللاحق به. وهو ما يغيب عن عصور التدهور السياسي في تاريخنا الطويل والممتد، والتي كانت تنتهي عادة بأحداث ثورية أو استثنائية أو مبادرات فردية. لكل هذا كانت تسمية عصور الانحطاط – والتي نعترف بقسوتها- هي الأقرب للموضوعية برأينا.

عصر الانحطاط الأول

بعد الازدهار والمجد التليد الذي بنته الدولة القديمة في مصر الفرعونية، وبعد فراعنة بوزن "مينا" موحد القطرين، و"سنفرو" و"خوفو" و"كاف-رع" و"منكاو-رع"، ممن دلتنا الأهرام على عظمة حضارتهم، اعتلى عرش مصر في نهايات الأسرة السادسة حاكم ضعيف الهمة والشخصية والطموح هو "بيي الثاني"، وقد استمر في الحكم حتى نيف على التسعين، واهترأت في عصره أجهزة الدولة وشاخت بشيخوخته، واكتملت الكارثة في نهاية عهده الطويل بأعوام جفاف متتالية انخفض فيها منسوب النيل، ورفض الفلاحون سداد الضرائب في بعض الأقاليم وطردوا جباة السلطة المركزية، لتنهار تلك السلطة التي ميزت مصر الموحدة المتماسكة عما حولها من أقطار، وعندما فسد الجسد من الداخل ضعفت مناعته فهاجمه الوباء، واجترأ الرعاة على حدود الدولة الشرقية عليها لأول مرة منذ مطلع حكم بيبي الأول، والذي أحبط هجمتهم البربرية الأولى، قبل أن يجترأوا على خلفه الضعيف، وعاث البدو حاملي السهام كما يحدثنا مانيتون في البلاد سلبا ونهبا فتضاعف القحط والخراب، وانتهت الأسرة السادسة بموت الفرعون العجوز ودخلت مصر عصر الانحطاط الأول، والذي امتد لقرابة الأربعمائة عام.

وتسهب البرديات القديمة في وصف الشقاء الذي حاق بالمصريين جراء انفكاك الأمر في دولتهم المركزية، ففضلا عن البدو الساميون الذين حكموا الدلتا وصاروا سادة فيها واستعبدوا المصريين، احتل البدو الليبيون مصر الوسطى وأسسوا مملكة فيها ما بين أقاليم الشمال الخاضعة لبدو الشرق وأقاليم الجنوب التابعة لحكام طيبة المصريون. وانهارت منظومة القيم والأديان وعمت فوضى أخلاقية سنراها دائما مصاحبة للتردي الاقتصادي في مصر عبر العصور، تحل معه وتزول بزواله. وقد عرضنا لعصر الاضمحلال الأول هذا كمثال لغيره من عصور الانحطاط التي مرت بنا عبر تاريخنا، قبل أن نرصدها في عجالة لننفذ لمحتوى هذا العمل الأساسي.

8.7.10

جاهين يكتبني

ماذا لو كتب صلاح جاهين بنفسه موجزا لأهم معالم شخصيتك وحياتك؟ سيكون أمرا رائعا، أليس كذلك؟ لقد كتبني جاهين، من حسن طالعي أن الراحل الرائع صلاح جاهين كتبني دون أن يعرفني، بل حتى قبل أن أولد، كتبني في واحدة من قصائدة التي كتبها بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وحالة الاغتراب التي مر بها، تحدث صلاح جاهين، عبقري الرباعيات ومؤرخ الأحداث الغير مرئية في حياتنا، ليوجزني عرضا في أبياته تلك، وصف الثلاثيني الحائر بين شباب الروح وتوثبها كروح العشرين، وكهولة القلب ورصانته كقلب في الأربعين، وصف الشيب الذي يسارع للرؤوس الصلبة قبل الأوان، وصف علاقة الإلهام بيني وبين الزعيم الراحل، وصف عشقي الأبدي للتاريخ، قال كل شيء، فماذا قال؟
عشرين سنة .. عمري أنا

أنا العجوز الشايب الحزين

أنا العجوز من غير ما تمضي السنين

أنا العجوز من قبل سن الأربعين

عمري النهاردة .. رغم المرار ده

في عمر وردة .. عشرين سنة
***

كان لي صديق .. وكان حبيب عمري


هو اللي علمني المشيب بدري

حضرت مولد كل شعراية بيضا

عبرت سوالفه كما الشهاب تجري

كما برق سيف الحق في الهيضا

وسط الضلام تبرق .. هلال هجري
***

تحسب تاريخ الكون .. حقيقة ومجاز

كالأبجدية بالقلم الاردواز

بالشعر الأبيض كان يعلمني

أستاذ تاريخ .. وفي التاريخ أستاذ
***

قابلته من عشرين سنة .. وكلمني

وأنا لسة باحبي في الظلال

علمني مشية الرجال

سلمني راية النضال

ولحد هذا اليوم .. بيلهمني

وخياله كل ما أقع .. يقومني

وكل ما اتبعتر .. يلملمني

وأنهض وأقوم بأمل جديد

وبقلب أقوى م الحديد

وليد .. عجوز .. شايب .. حزين

لكن عمري .. عشرين سنة

4.7.10

خيوط الوجدان

طفل مصري أسمر من الطبقة المتوسطة المثقفة المصرية، يشبه ملايين الأطفال بطول مصر وعرضها، يسكن مدينة طنطا التي كانت حينها هادئة، ويزور القرية حيث مسقط رأس والده في الأعياد، يرتاد المدارس المصرية الحكومية منذ الابتدائي وحتى التخرج من الجامعة، ويتردد على نادي طنطا الرياضي، يتشكل وجدانه يوميا بين المدرسة والبيت وعالم الكتب الملونة المسحور، منذ نيف وثلاثون عاما كنت ذلك الطفل، واليوم مع حوار حول تشكل وجدان الطفل المصري، تتداعى الذكريات ومكونات الوجدان في فلاشات متلاحقة
(1)
مدرسة رقي المعارف الابتدائية المشتركة بطنطا، كانت أبلة منيرة بمثابة أمي الثانية، كنت أرى في نظرة عيونها مزيج الفخر والحنان حين ألقي مادة الإذاعة المدرسية في الصباح، أخبار الصباح من جرنال الأهرام ثم أبياتا شعرية كانت تسمح لي باختيارها، كانت مسيحية فنشأت أحب إخوة الوطن بغير تكلف ولا افتعال، مازلت أذكر فرحتها الصاخبة في غرفة المدرسين يوم تحرير سيناء وأذكرها وهي تغني أغنية وطنية وتصفق مع باقي المدرسين، ثلاث سنوات كنا في احتضان كامل من أمنا الرؤوم أبلة منيرة وفق نظام ذلك الزمان، كانت تدرس لنا كل شيء من ألف باء وحتى الآداب العامة، هي من علمتني نشيدنا الأشهر على لسان كل طفل بجيلي: لي أخ مجند .. اسمه محمد، قام في الصباح .. يحمل السلاح، قال إني ذاهب .. يا أخي أحارب، وهي من قرأ معي دروس القراءة، عمر هات الكرة .. أمل خذي الكرة، أمل أنا أطول من أبي .. أتذكرون؟
(صور الكتاب المدرسي من مدونة تباريح آدم)
(2)
عم محروس مبروك السوداني، البواب داكن السمرة، في ليالي الشتاء كانت مكافأتي عن انتهائي من واجباتي مبكرا هي أن تتركني والدتي أنزل ليحكي لي عم محروس السيرة الهلالية، كان جنديا متطوعا بالجيش وطاف كل أطراف مصر الصحراوية وتعلم السيرة من شعرائها الشعبيين، ووضعت الخضرة فجابت غلام أسود غطيس اللون، وسمته سلامة وكنيته أبو زيد زايد عن الناس .. ولما الهلالي رفع سيفه وقال يا حاس، طارت رؤوس الفوارس والرؤوس تنداس، رزق بن نايل وخضرة الشريفة، أبوزيد والجازية، الزناتي خليفة وبنته سعدى، دياب بن غانم الزغبي، في يوم الجمعة كان الطفل المبهور يعيد تمثيل كل ما سمع من ملاحم ومعارك بسيفه الخشبي، ممتطيا صهوة جواده الخشبي كذلك

(3)
أعود من المدرسة في ذلك اليوم المطير لأجد والدتي قد اشترت لي مجلة كابتن سمير وبضعة كتب أخرى ذات صور ملونة، تعد لي غذائي الساخن فأتناوله بسرعة وأنا أقلب صفحات مجلتي التي كانت تأت في المرتبة التالية لسوبر ميكي عندي، لم أكن أحب كابتن ماجد بجلبابه الأبيض الخليجي، ربما لبعده عن بيئتي، انتهيت من وجبتي ومجلتي في وقت واحد، منذ الطفولة لازمتني عادة السرعة في تناول الطعام وفي القراءة والكتابة

(4)
في المساء تضمني أمي في فراشي، فيسري الدفء في كل كياني، تردد على سمعي حكاية مسجوعة هي النسخة الممصرة التراثية من سندريلا، تنتهي بوقوع زوجة الأب الشريرة وبناتها في بير عميق تلتف حولهم فيه الحيات والعقارب، جميلة تلك الحكايات التي تنتهي بردع الشر، كم نفتقدها كلما كبرنا يوما فيوم

(5)
بعد عملية اللوزتين قدمت لي صديقة أمي مجموعة كتب عالمية تتناول أزياء العالم وتاريخه المبسط والعادات والتقليد الشهيرة في كل بلد من البلاد، كانت ككنز صغير صار عندي أغلى حتى من الجيلي البارد والآيس كريم الذي كان تناوله بإفراط متاحا فقط إثر هذه العملية الجراحية

في الإجازة الصيفية في الإسكندرية كانت أمي رحمها الله تستجيب لحب صغيرها لعالم التاريخ المسحور، فتصحبني تارة إلى كوم الشقافة وعمود السواري، وتارة إلى المسرح الروماني بكوم الدكة، وثالثة للمتحف اليوناني الروماني بالرمل، ثم تأخذني للبحر حين تكون شمس الظهيرة قد خف هجيرها، لم أحب الحر ولا شدة الضوء يوما في حياتي وحتى اليوم

حين ينقضي شهر المصيف ونعود إلى طنطا، كانت مكتبة جدي لأمي، أو ما أفلت منها من الدمار على أيد آثمة هي ملاذي، ألف ليلة وليلة في طبعتها الأصلية، مجلدات صنعها جدي بنفسه من مجلات الرسالة القديمة، روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان، عبقريات العقاد، الأيام لطه حسين، دعاء الكروان، ترجمات الأدب العالمي، جميع إصدارات دار الهلال، أعداد مجلة العربي وملاحقها

3.7.10

مناجاة إمام المتقين


رضي الله عنك يا سيدي يا كريم الوجه يا ابن الأكرمين، يا ربيب حجر المصطفى وأحضان خديجة الخير، كلما مرت بنا محنة تذكرنا محنتك، وكلما ضاق الصدر بتدني البشر وانحطاط خلقهم تذكرنا ضيقك وضائقتك بمن خانوا ومن باعوا ومن ضاعوا، فنحن شعوب ضالة مضلة، بلا ركيزة مبدأ ولا وثيقة منهج، وصدق مظفر النواب حين قال (قتلتنا الردة يا مولاي كما قتلتك بجرح في الغرة .. قتلتنا الردة .. إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده) فالردة لم تكن حدث في تاريخنا مضى وانقضى، الردة في وطني أسلوب حياة، والفتنة الكبرى ليست أكبر فتننا، لأن حياتنا فتنة كبرى مستمرة مطردة عبر السنين، فتنة كقطع الليل الأسود لا تنقضي، وكلما بزغ فيها نجم خنقته ريح السموم، وكلما اكتمل فيها بدر حجبته الغيوم، فلكل نبي في مجتمعنا ألف مسيلمة، ولكل علي ألف معاوية، ولكل حسين ألف ألف يزيد

الزمن الفاجر يا سيدي يراودنا عن أنفسنا، عن كل ما هو جميل ونظيف فينا، حتى لا يترك فينا غير القبح والأدران، يجيش لنا كتائب الوعود والوعيد، لكننا على العهد يا سيدي، نتحسس الذؤابتين، لنشعر وخزة الشرف والألم، فيلمع سيف الحق في ظلمة الليل لينير الطريق، منك تعلمنا يا سيدي أن لثوب الرجال ثمن باهظ، ومنك تعلمنا أن الباطل خفيف وبيء والحق ثقيل مريء، منك تعلمنا أن الحق ليس بحاجة لأن يصانع أو يهادن، فإذا صانع وهادن فقد ميزته عن الباطل، منك تعلمنا وعملنا بما علمت فما خذلنا الله يا صهر رسول الله، ما خذلنا في الماضي لنخشى خذلانه تعالى في المستقبل، فبحق من شرفك بالنسب والصهر والعمل والشهادة، لنمضين فوق الحسك والشوك لا نبتغي لهما بديلا، ولنركبن الصعب الحرون في الحق ما كان للحق سبيلا، والله المستعان على ما يصفون

في بارحة تشبه اليوم من عام 2008م، كتبت هذه الأبيات

ذوالفقار مش سـيف "علي"

ذوالفقار رمـــز وشعـار


شعار لخـــير فاعل قوي


يمده ربك جــسر للغلبان


ويسلطه على رقـبة المفتري

***


وأنا .. أنا إيه أكـــــون؟


أنا نقطة تايهة وسـط بحر الكون


أنا لون من بين مـيت ألف لون


حاد وعـنيد .. وساعـات غبي


وساعات حزين .. وساعات حنون


لكن ..لا باعرف أوطي للسلطان


ولا عقلي يتمــايل لكل زبون


وصوتي حُــر .. من قلب حُر


لا هي شجـــاعة ولا يحزنون


نبت في حلقي .. لقيته كده


ربي اللي خلقه صوت مــسنون

***


يا موكب السلطان .. يا أفواج الحرس


حاسب رقبتك يا غلام


ولم دلاديل النظام


في إيدي سيف .. وتحت مني فرس


وحلفت ما أنزل ولا السيف ينـام


غير لو تفوتي يا سنين الخرس


في راسي نار .. وبإيدي ماسك جرس


حلفت لا أطفيها .. ولا الصوت يموت

غير لو تفوتي يا سنين الهوس