11.7.10

جسر الكرامة-01

اضمحلال أم انحطاط أم انتقال؟

كما عرفت مصر منذ فجر التاريخ الحضارة والإنجازات الإنسانية الشامخة، عرفت كذلك عصورا تردت فيها حضارتها وتقزمت إنجازاتها، كما عرفت فراعنة وملوكا وحكاما كبارا صاغوا سيرتهم في تاريخها بحروف الذهب والنور، عرفت فراعنة وملوكا وحكاما كرهت مصر أسماءهم فتناستها، أو احتفظت بها في قبو الظلمات، مكتوبة بمداد أسود بلون الهم والرماد، ضمن عصور التدهور والتردي التي اختلف علماء المصريات والمؤرخون في تسميتها، فمنهم من كان شديد الصراحة فأسماها باسم يناسب واقعها، هو "عصور الانحطاط"، ومنهم من كان مجاملا بعض المجاملة فأطلق عليها "عصور الاضمحلال"، ونراها تسمية مجاملة قليلا لأن الاضمحلال يناسب الفترات المبكرة من تلك العصور، حيث كانت المدنية والحضارة تتقزم والإنجازات تتضمحل، ولا تختفي تماما، لكنه لا يناسب قلب تلك العصور الذي كان فوضويا في مجمله، فهو محاق للحضارة وليس مجرد اضمحلال، كذلك كان من المؤرخين من خرجت به المجاملة واللهجة الإيجابية عن الموضوعية برأينا فسماها "عصورا انتقالية"، وهو اسم غير موضوعي، وإن كان الأحدث والأكثر شيوعا في الوقت الراهن في المقالات التاريخية التي تتناول تلك الفترات، نراه غير موضوعي لأن للعصر الانتقالي سمتان مفترضتان فيه منطقيا:

1. جذور في العصر السابق عليه أدت لبدايته، وهذا العنصر متوافر في حالتنا.

2. بذور للعصر التالي متجانسة معه، وتؤدي لبزوغه بغير تغيرات جذرية ولا ثورية، وهو ما تفتقر إليه عصور اضمحلالنا بصفة عامة.

ومن أمثة المراحل الانتقالية مثلا نجد الفن القبطي كمرحلة انتقالية بين الفن المصري القديم والفن في مصر الفاطمية، فقد كان انتقاليا لأنه حمل سمات السابق عليه وبذور اللاحق به. وهو ما يغيب عن عصور التدهور السياسي في تاريخنا الطويل والممتد، والتي كانت تنتهي عادة بأحداث ثورية أو استثنائية أو مبادرات فردية. لكل هذا كانت تسمية عصور الانحطاط – والتي نعترف بقسوتها- هي الأقرب للموضوعية برأينا.

عصر الانحطاط الأول

بعد الازدهار والمجد التليد الذي بنته الدولة القديمة في مصر الفرعونية، وبعد فراعنة بوزن "مينا" موحد القطرين، و"سنفرو" و"خوفو" و"كاف-رع" و"منكاو-رع"، ممن دلتنا الأهرام على عظمة حضارتهم، اعتلى عرش مصر في نهايات الأسرة السادسة حاكم ضعيف الهمة والشخصية والطموح هو "بيي الثاني"، وقد استمر في الحكم حتى نيف على التسعين، واهترأت في عصره أجهزة الدولة وشاخت بشيخوخته، واكتملت الكارثة في نهاية عهده الطويل بأعوام جفاف متتالية انخفض فيها منسوب النيل، ورفض الفلاحون سداد الضرائب في بعض الأقاليم وطردوا جباة السلطة المركزية، لتنهار تلك السلطة التي ميزت مصر الموحدة المتماسكة عما حولها من أقطار، وعندما فسد الجسد من الداخل ضعفت مناعته فهاجمه الوباء، واجترأ الرعاة على حدود الدولة الشرقية عليها لأول مرة منذ مطلع حكم بيبي الأول، والذي أحبط هجمتهم البربرية الأولى، قبل أن يجترأوا على خلفه الضعيف، وعاث البدو حاملي السهام كما يحدثنا مانيتون في البلاد سلبا ونهبا فتضاعف القحط والخراب، وانتهت الأسرة السادسة بموت الفرعون العجوز ودخلت مصر عصر الانحطاط الأول، والذي امتد لقرابة الأربعمائة عام.

وتسهب البرديات القديمة في وصف الشقاء الذي حاق بالمصريين جراء انفكاك الأمر في دولتهم المركزية، ففضلا عن البدو الساميون الذين حكموا الدلتا وصاروا سادة فيها واستعبدوا المصريين، احتل البدو الليبيون مصر الوسطى وأسسوا مملكة فيها ما بين أقاليم الشمال الخاضعة لبدو الشرق وأقاليم الجنوب التابعة لحكام طيبة المصريون. وانهارت منظومة القيم والأديان وعمت فوضى أخلاقية سنراها دائما مصاحبة للتردي الاقتصادي في مصر عبر العصور، تحل معه وتزول بزواله. وقد عرضنا لعصر الاضمحلال الأول هذا كمثال لغيره من عصور الانحطاط التي مرت بنا عبر تاريخنا، قبل أن نرصدها في عجالة لننفذ لمحتوى هذا العمل الأساسي.

No comments: