أشرت في كتابي "وجع الدماغ" للخلاف السفسطائي الدائر حول وصف دخول العرب لمصر في عهد الخلافة الراشدة، هل كان فتحا أم غزوا أم احتلالا؟ وفصلت رأيي بأنه كان الثلاثة معا، وهذا شأن كل حدث تاريخي، يعتمد وصفه على الموقع الذي تصفه منه، فقد كان في نظر العرب الفاتحين فتحا عظيما ثبت ركائز دولتهم الناشئة بثرواته وتراثه. وكان من وجهة نظر النسر الروماني المتعجرف غزوا بربريا من بدو الصحراء يقتطع أطراف الامبراطورية المقدسة، وكان من وجهة نظر المصريين احتلالا جديدا يحل محل القديم. وهذا ما سجله ساويرس بن المقفع ويوحنا النقيوسي في حولياتهم. فهل خرج المصريون مرحبين بالعرب الغزاة حقا؟ تلك أسطورة نسميها أسطورة السمن والعسل. وخطورتها تكمن في ترسيخ صمرة المصريين كشعب خنوع طوال الوقت ومنذ فجر تاريخه، حتى اليوم، وهي مقولة لم تختبر.
أكاذيب السمن والعسل
من يقرأ الفتح العربي في كتبنا المدرسية يتكون لديه شعور بالامتعاض من خنوع الشعب الطيب الذي رحب بالاحتلال العربي، ليخلصه من الروماني، كأن الاحتلال قدر لا فكاك منه، والحقيقة غير ذلك، فقد قاوم المصريون الفتح واستمرت بعض جيوب المقاومة مثل دمياط لعدة عقود، وتمردت الاسكندرية وساعد المصريون وفي طليعتهم بطريرك الكرازة المرقسية حملة رومانية بقيادة إيمانويل الخصي لاستردادها، لكن عمرا بن العاص تصدى للحملة وأجهضها، ثم عاقب السكندريون بجباية باهظة جعلت المصريون يتحدثون للمرة الأولى في أدبهم الشعبي عن "بيع عيالهم"، كناية عن شدة العوز.
كذلك ثار المصريون على الحكم الأموي أربعة ثورات في 725، 726، 739 و 750 ميلادية، وقهرت كل تلك الثورات بحمامات الدم والعنف المدمر. وكانت ثورات المصريين ضد الأمويين قبطية مسيحية في مجملها. ثم زادت الجباية أكثر وأكثر مع دولة البذخ العباسية، فثار المصريون جميعا، المسلم منهم يدا بيد مع المسيحي، واشتعلت ثورات عامي 828 و831م ضد الولاة العباسيين. حتى انتهى الاضمحلال الثالث الطويل باستقلال مصر للمرة الأولى على يد أحمد بن طولون، فكانت الدولة الطولونية أول الدول المتمصرة المستقل
الدول المتمصرة المستقلة
أبتسم متعجبا لقصور رؤية من يتحدث عن حركة الضباط الأحرار في يوليو وكأنها أول حركة سياسية استولت فيها المؤسسة العسكرية على مقدرات الحكم في مصر، فتجربة حكم العسكر متكررة في تاريخنا القديم والحديث بكثافة، ولو كان "حور-محب" أول قائد عسكري يستولي على حكم مصر في تاريخها الفرعوني، فقد شهدت الخلافة العباسية قائدا عسكريا آخر يستولي على السلطة، ويشق عصا طاعة الخليفة في بغداد، كان القائد هو الضابط التركي أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية، أول الدول التي نسميها "الدول المتمصرة المستقلة"، وهي دول استقلت فيها إرادة مصر الوطنية، لكن في ظل حاكم أجنبي، وإدارة أجنبية تعاونه ففي عام 871م، وإثر الفوضى التي أعقبت ثورة الزنج في البصرة، استغل حاكم مصر أحمد بن طولون انشغال الخليفة المعتمد بحال العراق وأعلن استقلاله عن الخلافة، وبنى لجيشه وبطانته التركية مدينة القطائع، وهزم جيش الخلافة الذي حاول استرداد مصر من قبضته، وبقيت مصر مستقلة حتى خضعت لبغداد في نهاية عصر خمارويه بن طولون، ثم استعادت استقلالها بوصول عسكري جديد للسلطة واستقلاله عن الخلافه، هو محمد بن طغج، إخشيد مصر ، واستمرت دولته ودولة عبده الخصي كافور الذي خلفه على عرش مصر حتى الغزو الفاطمي من شمال أفريقيا عام 969م. وبعد قرابة المائة وستين عاما من الازدهار الذي كانت مصر عاصمته وكانت القاهرة حاضرته، ضعفت الخلافة الفاطمية وبدأ عصر الوزراء العظام، وفي ظروف معقدة يضيق بها المقام وصل ضابط كردي من أكراد العراق لعرش مصر، مسقطا الخلافة الفاطمية، ليؤسس دولة عسكرية متمصرة جديدة، هو السلطان صلاح الدين الأيوبي، وامتازت مصر في عهده بدور قيادي في المنطقة العربية، حيث انضوت تحت إمرته أراض سوريا وفلسطين ولبنان حاليا، وقاد الجيش المصري النضال ضد الحملات الصليبية على الشرق في صفحات مجيدة من تاريخنا.
لكن ما حققه صلاح الدين من مجد لا يلغي ما حدث بعهده من قمع، فإنجازات صلاح الدين الأيوبي في الخارج لا تنفي طغيان وزيره "قراقوش" الذي تعسف في جباية ضرائب باهظة من المصريين حتى ضربت به الأمثال حتى اليوم، ولا تنفي سماحة صلاح الدين الدينية دموية أخيه العادل في قمع تمرد أقباط قفط، والذي سجل المقريزي في خططه قتل 3000 قبطي على أثره. وفي كل الأحوال كانت الدولة الأيوبية متمصرة لا مصرية، حيث كان حكامها أكرادا وكانت الإدارة والمناصب الرفيعة فيها للكرد والمماليك الذين اصطنعهم الأيوبيون وتوسع في استعمالهم الصالح أيوب آخر الملوك الأيوبيين.
العصر المملوكي آخر الدول المتمصرة
بدأت الحقبة المملوكية في مصر بسلطانين مملوكيين عظيمي الهمة، هما الملك المظفر سيف الدين قطز، قاهر التتار في عين جالوت، ثم الملك الظافر ركن الدين بيبرس محرر القدس للمرة الثانية ، وانتهت بسلطانين شريفين هما قنصوة الغوري ثم طومان باي، إذ استشهد كلاهما في مواجهة الاحتلال العثماني دفاعا عن استقلالها، أما بينهما فكان عصر تدهورت فيه أحوال مصر، وزاد البون الشاسع بين المصري الكادح من أولاد الفلاحين، والمملوكي المرفه من "أولاد الناس" كما أطلق عليهم المصريون. لكن مصر في كل الأحوال حافظت على استقلال إرادتها، وازدهرت فيها فنون العمارة والمنمنمات وهي فنون ارتبطت براحة ورفاهية ومجد المماليك أولاد الناس دون معظم أولاد البلد، وبوفاة السلطان طومان باي الذي قاوم العثمانيون في معركة الريدانية وبعدها زمنا، وتعليق جثمانه على باب زويلة، توفيت آخر دولة متمصرة مستقلة في التاريخ، ودخلت مصر عصر انحطاط جديد فقدت فيه إدارتها الوطنية واستقلالها وصارت تابعة للباب العالي في الآستانة، وعانى المصريون أسوأ أنواع القمع في تاريخهم على الإطلاق تحت هيمنة أبناء عثمان طغرل القساة غلاظ القلوب، وعادت مرحلة نزح خيرات مصر لخارجها.
No comments:
Post a Comment