31.8.08

انهيار برج بابل- 15-16-17


(15)
نمور ورقية

انحرف السائق بالسيارة الأمريكية الفارهة يمينا ليهبط من فوق كوبري أكتوبر عبر مخرج الشهيد "عبد المنعم رياض" في طريقه للبرلمان، كان "زياد" في مقعده الخلفي يطالع أوراقه التي سيلقي منها طلب الإحاطة الذي تقدم به لرئيس المجلس، موجها لكل من وزير الثقافة ووزير التعليم العالي بصفتهم، وأدرج على جدول أعمال المجلس في جلسته الصباحية التي تنعقد في غضون الساعة
يقطع تفكيره صوت السائق وهو يسأل: هل أمر على هيلتون النيل لتشرب قهوتك؟
أجابه دون أن يرفع عينيه عن الأوراق: المجلس مباشرة .. لا وقت لدينا اليوم
يمد "زياد" يده لعلبة صدفية بين المقعدين الأماميين للسيارة ويسحب سيجاراً، يشعله ويفتح النافذة الزجاجية قليلاً لتقلل من تراكم دخانه قوي الرائحة، تواجهه نسمة صباح منعشة في أواخر الخريف، يعود لأوراقه لتقع عينه على الاسم الكامل لعلي الإمام في الصفحة الأولى، ينظر له لحظة ثم يشرد .. "علي الإمام" .. لماذا أنت دائما في طريقي؟ مجرد مغرور، هذا هو أنت، تعيش في وهم النبل الرومانسي ظاهرياً، بينما باطنك الاستعلاء على كل من حولك، من اليوم الأول لم تحبني ولم تردني زوجاً لها، لماذا؟ من تظن نفسك؟ وماذا حققت في حياتك؟ مجرد فتى محظوظ ولد في أسرة هادئة ميسورة الحال فوجد وقتاً يهدره في التفكير في أحاجيه التي لا تفيد وكتاباته السقيمة، هذا هو أنت، لو جربت المبيت في مستوصف في عين شمس القبلية مقابل خمسة جنيهات لليلة كاملة، لعرفت أن في الحياة ما هو أهم من الخوارج والمعتزلة، لو تجرعت علقم اليتم صغيرا، ولو جربت النوم على فراش مشترك مع ابن خالتك الأكبر منك بعشرة أعوام، وعاينت الحياة في كنف زوج خالة لاختلفت حياتك تماماً، أنا تفوقت برغم كل هذا وأصبحت الأغنى والأنجح والأكثر نفوذاً، فلماذا كنت دائما تنظر إلي تلك النظرة؟ حتى بعد أن سبقتك في كل شيء؟ .. يفيق من شروده على توقف السيارة أمام بوابة المجلس الخارجية، فيهبط منها بعد أن لملم أوراقه مسرعا في حقيبته الجلدية السوداء، ويتجه نحو المبنى التاريخي المهيب، عليه أن يسرع ليشرب فنجانا من القهوة قبل الجلسة حتى يكون رائق الذهن وهو يلقي بيانه الخاص بطلب الإحاطة، أجرى جراحتي قسطرة علاجية اليوم من الخامسة والنصف فجراً حتى الثامنة، كلما زادت المسئوليات قلت ساعات نومه وقل عمق النعاس، كأنه يخطف منه خطفا مسرعا، لماذا يتعين علينا في هذا البلد إما الجري دائما أو الوقوف التام؟ لماذا لا يوجد وسط في أي شيء؟ ثراء فاحش أو فقر مدقع، تطرف ديني أو لاديني، حملة دكتوراه بلا عدد وأميون بلا عدد! ذات يوم سيرحل عن هذا البلد، إلى بلاد تشرق فيها الشمس فلا يحجبها الغبار، ويقبل الناس فيها غيرهم كما هو، دون وضع أنوفهم في أدق خصوصياته، سيرحل .. هو واثق من ذلك، ولكن متى؟ تلكم هي المسألة؟ فهذا البلد برغم كل شيء له ميزات بلا حصر عندما تملك ما يكفي من المال والنفوذ، يمكنك حينها أن تحي حياة لا يحياها مليارديرات العالم، لأن المال هنا يشتري أشياء لا تباع ولا تشترى في بقية بلاد الله!
في غضون الساعة كان يقف في القاعة الرئيسية ليلقي بيانه حول كتاب "النهروان أولاً"، والمودع في دار الكتب والوثائق القومية برقم 721115/2005م، من تأليف الأستاذ الدكتور "علي عزمي الإمام"، وقد وجه طلب الإحاطة لكل من وزير الثقافة ووزير التعليم العالي، أما وزير الثقافة - وهو رجل أعمال بارز وصديق شخصي لرئيس الوزراء - فبصفته المسئول عن الحفاظ على السلام الفكري للمجتمع كما ذكر في طلب إحاطته، السلام الفكري! عبارة بلا معنى، لكن لها بريقا يروج في دنيا السياسة والإعلام، هكذا علمته التجارب، وأما وزير التعليم العالي فبصفته الجهة التابع لها المؤلف وظيفيا، حيث يشغل منصبا تعليميا ييسر له نشر فكره المسمم بين شباب الوطن، ووزير التعليم العالي كما هو معروف كان عضوا في جماعة إسلام سياسي محظورة، قبل أن ينتقل لعضوية الحزب الحاكم قبيل اختياره كنائب رئيس جامعة بشهرين، ومعروف بميله المستتر مع تيار الإسلام السياسي
بعد الديباجة التقليدية استأنف "زياد" بيانه قائلاً: الكتاب موضوع الإحاطة تم طرحه في المكتبات من خلال دار الشهاب للنشر والتوزيع منذ شهرين تقريباً، ونجده أولاً يحتوي على أطروحات تاريخية مضللة ومخالفة لحقائق التاريخ الإسلامي كما يرد في كل المراجع التي وافق عليها مجمع البحوث، معتمدا بالأساس على مصادر ومراجع رافضية[1] متعصبة، تشوه التاريخ الأغر للإسلام عمداً، وهذه المراجع يذكرها الكاتب نفسه ضمن قائمة المراجع في نهاية كتابه، ثانياً: الكتاب يهدد السلام الفكري والاجتماعي للوطن، ويستعدي أبناء الوطن على بعضهم بعضا من خلال الطرح الأساسي للكتاب، وهو دعوته لمواجهة التطرف الديني بالحسم الكافي، فمن يحدد الخط الفاصل بين ما هو تطرف وما هو التزام؟ وما نوع الحسم الكافي في نظر سيادته؟ ثم تأتي ثالثة الأثافي، الأستاذ الجامعي يشبه من يخلط الدين بأمور الحكم بالخوارج، ممن كان شعارهم: لا حكم إلا لله! سبحان الله! سبحان الله! يا سادتنا الدستور المصري في المادة الثانية ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، والاعتراض على عبارة "لا حكم إلا لله" وادعاء أن من يقولها يكون خارجيا، معناه تحريض الشعب ضد الدستور، ودعوته لمواجهة التطرف كفرض عين على كل مسلم معناها تهديد السلام الاجتماعي للوطن! هذا لا يمكن أن يسمى فكراً .. بل تخريب وتحريض على القلاقل! إما أن نكون علمانيين مثله وإما نكون خوارجا ويجب على المسلمين مواجهتنا! الإسلام دين ودولة، والدستور المصري يؤيد ذلك، وسنظل نقول هذا ما بقيت في صدورنا أنفاس تتردد، الإسلام دين ودولة، وسنبقى محاربين من أجل إعلاء كلمة الحق في هذا الوطن ولو كره الذين ظلموا! كيف يريدون مصر؟ كيف يريدونها يا نواب الأمة؟ يريدونها علمانية إباحية تناسب هواهم، لا والله إنا لهم بالمرصاد
يمد "زياد" يده لكوب الماء أمامه فيرشف جرعة ثم يجفف العرق الذي تجمع فوق جبهته بمنديل وهو يقول: سيدي الرئيس، أرجو عرض الموضوع على اللجنة الثقافية في المجلس الموقر للحصول على رأي مجمع البحوث الإسلامية في الكتاب، كذلك أهيب بالسيد وزير التعليم العالي، لاتخاذ ما يلزم من تدابير لتجنب الأثر التخريبي لوجود صاحب هذا الفكر المشبوه في هيئة التدريس بكلية الآداب، فمثل هذا ..
يقاطعه رئيس المجلس من منصته وهو يستند برأسه إلى كفه المضمومة ويقول بغير اهتمام: وقف أستاذ جامعي ليس بهذه البساطة، السيد وزير الثقافة يتفضل بالرد على طلب الإحاطة، بإيجاز لو تكرمت يا سيادة الوزير، فمازال بالجدول الكثير من الأعمال
يضع الوزير أربعيني العمر نظارة القراءة المذهبة ماركة "فريد" على عينيه ويبدأ بالديباجة التقليدية، ثم يشرع في الرد: بالنسبة للكتاب موضوع الإحاطة، تم انتداب لجنة قراءة من الوزارة فور تقديم الطلب وتقرير اللجنة معي الآن، اللجنة ترى أن مراجع الكتاب كلها معتمدة، ووجود بعض المراجع الشيعية بينها لا يدين الكاتب، لأن المذهبين الجعفري والزيدي - اللذان استعان ببعض مراجعهما - معترف بهما من الأزهر الشريف كمذاهب فقهية لا تخالف صحيح الدين[2]، ثانيا لا يوجد إنكار لمعلوم بالضرورة كما أشار العضو في طلب الإحاطة وفقا لتعريف المعلوم بالضرورة، والذي أفاد به مجمع البحوث في حالات سابقة، لكن لا مانع لدينا في كل الأحوال من عرض الموضوع برمته على المجمع لابداء الرأي المتخصص ثم نتخذ قرارنا على ضوء هذا الرأي
يرد رئيس المجلس قائلاً: شكرا سيادة الوزير، يحول الموضوع للجنة الثقافية بالمجلس لعرضه على الجهات المعنية بإبداء الرأي، طلب الإحاطة التالي المقدم من السيد العضو..
لم يسمع "زياد" ما جاء بعد ذلك، فقد سبح بذهنه بعيداً، لقد اتسم رد فعل الوزير بالبرود، لكن المهم أنه ألقى الكرة في ملعب مجمع البحوث، وهذا هو دوره المطلوب منه، أما طلبه وقف "علي" عن العمل فمفهوم ضمنا أنه مستحيل، كان مجرد إحماء للجو، وهذه مرحلة لها ما بعدها، فحين يقول مجمع البحوث رأيه يكون لكل حادث حديث .. هكذا هنأ نفسه على الإنجاز الكبير، ومناها بمكافأة على هذه الإجادة، فأرسل رسالة قصيرة لصديقه الشاب "عبد الله" يسأله عن ارتباطاته في المساء، ثم انقضت بقية الجلسة الصباحية هذا اليوم وهو نائم مفتوح العينين، فلديه بعدها اجتماع في مجلس القسم، وبعده العيادة، حياة كفاح وتعب وعرق لمساعدة الناس بعلاجهم وتخفيف آلامهم، وليست حياة أوهام كحياة ذلك المأفون! هكذا كان "زياد" يردد في نفسه حين وصله الرد من صديقه .. بالإيجاب
...

(16)
مرض اسمه الغرض

السبت، الثامن من سبتمبر
استقر "علي" في جلسته المفضلة في شرفة شقته على ترام الإسكندرية، تبدو على وجهه ملامح اهتمام وهو يستمع لمحدثه على المحمول، ثم يرد قائلاً: لن يجد المجمع شيئا يبرر التوصية بالمصادرة كما يحلمون، الكتاب مؤسس على مرجعيات صلبة
يتطلع للشارع أسفل الشرفة، ويراقب الترام الذي هدأ من سرعته ثم توقف وهو ينصت لصاحب دار النشر الذي يجيبه قائلا: بالأمس طلب الإحاطة واليوم تغطية كاملة في جريدة الهلال الأخضر، فضلا عن مقال رئيس تحرير جريدة الأمس المتعاطف معهم، حدسي كناشر يقول أن الموضوع يستحق القلق
- وحدسي ككاتب هو العكس، ربما كانت هذه الدعاية المجانية لصالح الكتاب، فسارع بإعداد الطبعة الثانية
- كل هذا يمثل ضغطا على قرار المجمع؟ سمعت أن لهم يد طولى داخله؟
- زوبعة في فنجان، وإنما يراهنون على صلابة أعصابنا كدأبهم، أعد الطبعة الثانية على ضمانتي الشخصية، وأنا متكفل بأي خسائر تترتب على قرار المجمع
- لست قلقا من خسائر، لكن قلقي عليك، تعرف تاريخهم مع الدكتور "نص[3] وغيره
- كان قانون الحسبة القديم يمكن كل من هب ودب من الشق عن قلوب الناس، لكن الزمن تغير، لهذا قدموا طلب الإحاطة، مجرد ظاهرة صوتية
- فلتكن مشيئه الله
- ونعم بالله، وشكرا لاهتمامك، فلولاك ما علمت بالأمر
يأتي صوت "ماري" من خلفه فور إغلاقه للخط قائلة: ألم نتفق على إجازة لمدة أسبوع؟ ستضطرني لمصادرة محمولك لو استمرت المشاغبات
- إنه ناشري، يخبرني بطلب إحاطة حول كتابي في البرلمان، قدمه طليق أختي "عزة"
ترتسم على وجها علامات الدهشة والاهتمام وهي تجلس على كرسي الخيزران المقابل له في الشرفة، وتقول: ألم يكن جراحا؟ ماله وكتاب كهذا؟
- ألا ينتمي للتيار الذي يناقش الكتاب شرعية وجوده على الساحة السياسية
- هذا دافعه، فما هي صلاحياته؟
- من حقه كنائب برلماني أن يقدم طلب إحاطة لأي وزير، يحيطه علما بموضوع في دائرة اختصاصه لاتخاذ ما يلزم بشأنه، وهو مخلب قط لا أكثر، أحسبهم اختاروه لعلاقتنا السابقة، لعله مع تصاعد الحملة إعلاميا يلقي بأي ظلال على حياتي الخاصة، فلو عجزوا عن منع تداول الكتاب يسببون لي ضررا أدبيا أو نفسيا
تقلب شفتها السفلى في امتعاض وتقول: منع تداول؟ هل هناك من يفكر بهذه الطريقة في زماننا؟ لو منعوه مطبوعا فكيف سيمنعوه على شبكة الإنترنت؟ ألا يفهمون معنى السموات المفتوحة؟
- لا تهمهم فاعلية المنع، ولكن صدور قرار المنع في ذاته، ففيه إظهار لنفوذهم وردع لغيري من الكتاب ودور النشر، استعراض عضلات لا أكثر، ولنفس السبب يهتمون بانتخابات النقابات والمحليات واتحاد الطلاب، فنحن نعيش مرحلة التمكين وفقا لمخططات بعض فصائلهم
- قلت لك حين قرأت المسودة أن الكتاب سيسبب مشاكلا بلا حصر .. لا حدود لعنادك الذي يورطك في المعارك
- أحب أغنية من أغاني الستينات تقول "يا أهلا بالمعارك .. بنارها نستبارك .. ونطلع منصورين"
هكذا رد مبتسما، فعلقت: ألا تكفيك أشباح الأحلام لتستدعي أشباح الحاضر؟
- كلهم سواء في الماضي والحاضر، فالخوارج والمرتزقة على موائد الأمويين أمس هم البروفة الأولى للمتطرفين والانتهازيين اليوم، وما بين مؤامرات الخوارج وفساد المرتزقة يختفي كل جميل ونظيف في حياتنا
ينظر بعينيه لأسفل للحظات كعادته حين يخطر له أمر، ثم ينظر نحوها ويسألها: هل تسمح لي راعية فؤادي باستخدام الكمبيوتر لمدة ساعة واحدة؟ أحتاج للرد عليهم بمقال ينشر بأسرع وقت
- لا فائدة، تصادمي للنهاية
- لو لم أرد على الهجوم الصحفي فلن يقفوا عند حد، سيغريهم السكوت ويحسبونه ضعفا
تقول و على وجهها تعبير الاستسلام: أنت أدرى بهم، لتكن ساعة واحدة أرجوك
- أعدك يا خيزراني[4] العزيزة ألا أتجاوزها، أعطني دقيقة لأجري مكالمة ثم ابدأي العد التنازلي
يعبث بأزرار المحمول حتى يطلب رقم صديقه "إبراهيم موسى"، وهو رئيس تحرير إحدى الصحف المستقلة في زمن قل فيه الاستقلال، ينتظر لحظات حتى يرد "إبراهيم" على الجهة فينطلق صوت "علي" قائلا: لا أصدق أن جناب رئيس التحرير يرد من أول محاولة؟
- أنت من يغلق هاتفه لأيام، حاولت مكالمتك أمس حين قرأت طلب الإحاطة في التغطية البرلمانية، ماذا تنوي؟
- أنوي الرد طبعا، فهل أجد مكانا لنشر ردي؟ أم أنك شفيت من إدمان المشاكل؟
- لو أقلعت أنا عن المشاكل لن تقلع هي عني، فأنا زوجها وعشيقها الأول، تنقل فؤادها هنا وهناك، ثم تعود وتستقر في كنفي
قالها "إبراهيم" ضاحكاً فضحك معه "علي" طويلاً، "إبراهيم" صحفي جريء يهز بقلمه قلوب المصريين كل صباح، وله اهتمامات قريبة من اهتمامات علي في التاريخ والتراث الإسلامي وإن لم يكن متخصصا فيه، غير أن السياسة والكتابة فيها يستغرقان أغلب وقته
رد "علي" بعد فاصل الضحك القصير قائلاً: ثلاث مقالات، أولها سأسميه طلب اعتذار، ألا يدعي بعضهم اليوم الاعتدال ونبذ العنف؟ أليس من حق المجتمع قبل قبولهم كفصيل سياسي مدني أن يسمع اعتذارا رسميا منهم على جرائم الماضي؟ اغتيالات سياسية، وتصفية حسابات مع القضاة، عليهم الاعتذار للمجتمع ولأسر ضحاياهم، والإقرار بأن مرتكبيها مضللون وليسوا شهداءً
- كاعتذارات الفاتيكان تقريبا؟
- بشكل ما نعم
- الموقف مختلف، اعتذار كهذا لو قالته كوادرهم السياسية فستلتهمها كوادرهم ال.. التي يسمونها نوعية، لن تجد مجنونا منهم يفعل هذا
- وهو المطلوب إثباته، أنهم مازالوا فصيلا يعتنق فكر العنف
يرد "ابراهيم" وقد راقته الفكرة: الفكرة قوية، متي ستكون جاهزا بمقالك؟
- غدا صباحا حتى يمكنك نشره في العدد الأسبوعي، قد يصل لنصف صفحة بسبب التغطية التاريخية لأعمال العنف في تراثهم الأسود، أنوي التركيز على القاضي الذي اغتالوه وحكموا على قاتله عمدا بالدية! دية في قتل عمد وبغير موافقة ولي الدم! ويدعون الحكم بما أنزل الله وما حكموا بغير الهوى والغرض قبل الوصول إلى السلطة، فماذا ينتظرنا لو وصلوا إليها؟ ماذا سيحدث لو نالوا غرضهم الذي صار مرضهم ومرض الوطن؟
- سأنشره حتى لو اضطررت لحجب مقالي أنا شخصيا في العدد الأسبوعي
- شكرا يا صديقي العزيز، لكن إياك وحجب مقالك حتى لا يكرهني من يستيقظون على سطورك كل يوم، المقال بالصور الأرشيفية يصلك غدا على البريد الالكتروني بمشيئة الله
يغلق "علي" الخط وينظر لماري منفرج الأسارير لسعادته بحملته التي انتواها، ويقول: ألم أقل لك .. يا أهلا بالمعارك
...

(17)
جبل الجليد

الخميس، الثالث عشر من سبتمبر
في هذا الصباح المشمس من خريف الإسكندرية، جلس في الشرفة يتصفح الجرائد، طالع مقاله الثاني في جريدة صوت مصر، والذي تناول فيه الأبعاد الخفية لعلاقة الولايات المتحدة بتنظيمات الإسلام السياسي، بعد أن كتب مقاله الأول عن الاعتذار المطلوب من الجماعات التي تدعي الاقلاع عن العنف قبل قبولها كلاعب في الحياة السياسية، أخذ يطالع العناوين الجانبية التي وضعها صديقه "إبراهيم" لمقاله بالفنط الأحمر الكبير "وثائق جديدة حول علاقة أحد الجماعات بالمخابرات المركزية .. ما سر القيادي الذي دعته أمريكا لزيارتها عام 1953م؟ .. مراكز نشطة من باكستان لسويسرا بأموال نفطية وخبرات مخابراتية أمريكية تحت ستار مقاومة الشيوعية .. اعترافات أعضاء سابقين بمؤامرة عام 1965م .. زيارة ثلاثة قياديين لقاعدة العضم الأمريكية في ليبيا قبيل الخامس من يونيو 1967؟ .. لماذا حاربوا للحفاظ على مصالح أمريكا في الخليج العربي؟" وقد كشف "علي" في مقاله ضمن ما كشف سر ولعهم بموضوع حرب اليمن، فكلمة السر لفهم دورهم السياسي في الستينات هي تلك الحرب، قاموا بكل ما وسعهم لقلب نظام الحكم عام 1965م حتى يسقط النظام المصري وينسحب جيش مصر من اليمن، ليعود الإمام "البدر" للحكم وتظل عروش البترول آمنة، ومعها الأمان التام للمصالح الأمريكية، فالولايات المتحدة كانت تدرك يقينا أن نفوذا لناصر في الخليج يمثل تهديدا أكبر من تهديد الدكتور "مصدق" في إيران، وحين فشلت المؤامرة الانقلابية القريبة من مؤامرتهم ضد "مصدق"، كانت ضربة عام 1967م بينما عدة فرق من الجيش المصري تحارب مرتزقة عروش البترول في اليمن! وقد اعتمد "علي" في مقاله على عدد من الوثائق اشتراها من صالة مزادات متخصصة في وثائق التاريخ الحديث في لندن، لهذا توقع ردود فعل قوية، فحتى من كان يعرف هذه العلاقات نساها مع الحادي عشر من سبتمبر الذي قلب الموازين
نظر لمقاله بعين راضية واستقبل عدة مكالمات من زملاء وأصدقاء، البعض هنأ والبعض ناقش والبعض لام، لكن الكل بلا استثناء حذر من دخول عش الدبابير! كان "علي" يرد بكلمة يحبها من فيلم "ناجي العلي"، حين قال لزوجته "يا مرة خليهم خايفين مني .. ليش بدك تخوفيني منهم؟" يعلم في قرارة نفسه أن هدفه ليس هجوماً عليهم، كان هدف كتابه هو خلق حالة وعي بين الطبقة الوسطى بحقائق العالم الذي نعيشه، وأول تلك الحقائق ذلك التحالف القديم الجديد بين الرأسمالية المتطرفة والتيارات الدينية المتطرفة حول العالم، كان كتابه أول خطوة في هذا السبيل، لكنهم تعجلوا بنقل المعركة على مستوى الصحف ورجل الشارع، فكان لهم ما أرادوا
وضع الجرنال على الطاولة الخشبية الصغيرة بعد أن تأكد من صحة كلمات مقاله دون أخطاء مطبعية، ثم تناول جريدة الأهرام وهو يشعل سيجارة مع قهوة الصباح، "ماري" تعطيه خمسة سجائر يوميا فقط، لهذا أصبح دقيقا في اختيار متي وكيف يدخن، طالع الصفحة الأولى بملل .. أخبار سياسية تتكرر على مدار العام كأن الزمن قد توقف، وضع الأهرام ليمسك بجريدة القانون فيجد على صفحتها الأولى مانشيتا يقول "الشيخ نادر التل يصرح من الكويت أن احتلال العراق كان شرا لابد منه، وأن التعامل مع قوات الاحتلال ليس حراماً" .. جرى بعينيه فوق سطور المقال في اهتمام في البداية، ثم ما لبثت علامات الاهتمام على وجهه أن تحولت إلى ابتسامة ثم ضحكة، ثم انتابته نوبة ضحك هستيرية، جاءت "ماري" على صوت ضحكاته من المطبخ وهي ترتدي مريلة منزلية، تسائلت عن الخطب، فأجابها من بين ضحكاته قائلاً: لدينا مثل يقول هم يضحك وهم يبكي
أشار لمقال الشيخ الأزهري المصري الذي يملأ الفضائيات ببرامجه الدينية، التقطت الجرنال بيدها بعد أن جففتها في مريلة المطبخ في حركة تلقائية تتفق فيها كل نساء الدنيا، جرت على الأسطر بعينيها بينما أشعل "علي" سيجارة في تبذير كبير بعد الانتهاء من الأولى بلحظات .. رفعت عينيها عن الجرنال وعلقت: قد تكون له وجهة نظر ليست واضحة لك
- بل واضحة كشمس الضحى، الصلاة هنا والغذاء هناك
- لا أفهم؟
- حلقات مفرغة ندور فيها منذ قرون، في مواجهة "علي" لجيش الشام، حدثت هدنة لدخول الشهر الحرام، فكان نفر من جيش "معاوية" ينتقلون للصلاة خلف "علي" في وقت الجماعة، ثم يعودون لمعسكرهم آمنين في ظل الهدنة، فلما سألوا لماذا لا ترضونه لدنياكم لو كنتم ترتضونه لدينكم؟ أجاب بعضهم فقال "الصلاة خلف علي أقوم، وسماط معاوية أدسم"[5]
تضحك "ماري" وتعلق: منطق غريب
- ومثله منطق فضيلة الأستاذ، يخطب في الناس عن الصحوة الإسلامية وإنقاذ الأمة، ثم يطير شرقا للقاء طوال العمر، وهناك تحرر باسمه الشيكات، فيفتي بناء على حجية هذه المراجع البنكية بأن "صدام" كان طاغية أما أمريكا فأمنا الرؤوم! يذكرني بأستاذ له، لكنه مخضرم عتيق في حمامات النفط، يلعن مصر الستينات ويرى هزيمتها في يونيو عادلة لأنها كانت تستعين بالسوفييت الملحدين، واليوم يرى قاعدة العديد[6] الأمريكية من شرفة منزله فلا يلق بالا، طبعا لأن السوفيت الملحدين لكن الأمريكان من أولياء الله الصالحين! مدد يا سيدي "رامسفيلد"
كان وجهه يزداد احتقانا مع كل كلمة، وإن حافظ على نبرة صوت منخفضة الحدة، وعلى وجهه ترتسم ملامح غيظ مكظوم، فسألته: مالك يا "علي"؟
قالتها بقلق وهي تنظر في وجهه، فلم تكن حالته الصحية مناسبة لهذا الانفعال، نظر إليها، وأطال النظر برهة بعينيها ثم ابتسم ابتسامة خضراء نضرة، وما هي إلا لحظات حتى زال احتقان وجهه واسترخت عضلاته التي كانت مشدودة كعادته حين يتحمس أو يتميز غيظاً، شعرت بهذا من اختفاء رعشة يده التي تمسك السيجارة، ثم تحركت شفتاه ليقول بعد لحظات من الصمت: لو أن العالم كله صادق كعينيك لدامت سعادتي، لكنها أرض النفاق يا مريمي، وأنا بشر، كثيرا ما ينتابني ملل من كل شيء، ويقتحمني سؤال قاهر: هل هناك نتيجة ترجى؟ هل سيأتي يوم يرى فيه الناس الحق حقا فيتبعوه؟ أم ستبقى دنيانا مرتهنة لكلاب الذهب وعبدان السوط؟ هل ستأتي أنوار المسيح أو المهدي أم ستسود ظلمات الدجال؟
- ولم كل هذا؟ ماذا جد؟ ألست راضيا عن نتائج الحملة الصحفية؟
- بل نجحت أكثر مما توقعت، إلا أن قلبي سقيم! "إنها الحرب .. قد تثقل القلب .. لكن خلفك عار العرب"[7]
فهمته فعلت وجهها علامات اشفاق على هذا المحارب رغم أنفه، وأنصتت إليه وهو يستأنف قائلا: أكره الحرب، لكني مضطر للترحيب بالمعارك لأن كرهي لفسادهم أكبر، الحرب تخرج أسوأ ما فينا، والحب ينبت أجمل ما فينا، ويوما بعد يوم، تتزايد الحروب ويذبل الحب حولنا
قالها شاخصا ببصره لسماء الصبح الصافية، فلم يشعر إلا وهي تتقدم نحوه وتمد يديها فتضم رأسه لصدرها بحنان، انتابته قشعريرة وارتبك للحظة، ثم ما لبث أن أغمض عينيه .. يالها من لحظة لا يحصي كم تمناها! كل هذه السنوات يحلم بأن تتجسد فيها أمه لتغمره بأمواج الحنان من صدرها، انتظرها طويلا واشتاقها مرفأً آمناً وسط عباب الحياة، اشتاق للحظة سكون معها .. سكون، ما أغربنا نحن البشر؟ ننتظر لحظة بعينها ألف يوم ونتخيل كل يوم ماذا سنفعل حين تأتي، وحين تأتي اللحظة ويصبح الخيال حقيقة .. لا نفعل شيئاً، تماماً كما هو الآن، وماذا عساه يفعل حيال فتنة عمره وخاتمة النساء؟ هل يشكر القلب الذي أعلن احتجاجه على طول الحرمان فاقتربت؟ في أنواء هذا الكون كم يحتاج إليها؟ طفل عنيد يرفض أن يلوثه زمن قبيح، ولكن أي طفل مهما بلغ عناده يحتاج لدفأ أمه في آخر اليوم، ليستطيع النوم دون أن تفسد الأحلام والهموم نومه! هكذا كانت الأفكار تختلج بصدره، وهو يرفع يدها ويدنيها من فمه فيقبلها، كم كان محتاجا لهذه الضمة؟ ابتعدت قليلاً، فشعر بلوعة الفطام، نظرت في عينيه وهي تقول: لكنها حرب تنوير، أنت تفعل الآن وهنا ما كان يفعله "توماس مور" و"ميلتون" و"كوبرنيكوس" و"جاليليو" و"بيكون"، كل العمالقة خاضوا معاركا حتى نرى نحن النور، وها نحن نعيش بنورهم بعد رحيلهم بقرون! الحرب التي تثقل القلب هي حرب تخوضها لهدف شخصي، أما التنوير فلابد أن تفخر به، لأنه تماما كالحب، يخرج أعظم ما فيك
يتأملها بامتنان ويقول: أمس كنتُ مثل "جان بول مارا" و"جيفارا" واليوم أصبحت مثل "مور" و"ميلتون"، سأتمزق غرورا في الغد لو رأيتني مثل "الإسكندر الأكبر"
ابتسمت وأطرق هو قليلا ثم قال: العمر يجري يا غاليتي، وبوادر الأزمة القلبية ذكرتني بجريه بسرعة الصوت، هناك قصيدة للدكتور "إبراهيم ناجي" يقول فيها "حان حرماني وناداني النذير .. ما الذي أعددت لي قبل المسير؟ زمني ضاع وما أنصفتني .. زادي الأول كالزاد الأخير .. ري عمري من أكاذيب المنى .. وطعامي من عفاف وضمير"
- الأطلال؟
يهز رأسه موافقا ويقول كمن شرد في عالم آخر "آه من يأخذ عمـري كله .. و يعيد الطفل والجهل القديما" .. ثم يعلق قائلا: كان "ناجي" طبيبا، وكانت له عيادة بوسط البلد، وبذات المبنى كانت صيدلية الدكتور "نقولا حداد"، أول من ترجم النسبية للِّغة العربية، وكان بينهما اتفاق جنتلمان، لو وجد "ناجي" مريضا غير قادر رد له أتعابه ويضع على وصفته العلاجية علامة، يصرف بمقتضاها "نقولا" علاجه مجانا، ثم يقتسما تكلفة العلاج بينهما، كان هؤلاء أدباء وعلماء زمن التنوير
- لكل زمن جماله ورجاله، وقد تكتب مستشرقة انجليزية ذكرياتها عن مصر يوما، فتكتب حكايات كثيرة رائعة عن مؤرخ شاعر رقيق، عقل جميل وقلب جميل
- لا حرمنا الله عذب اللسان
قالها وهو ينظر لعينيها بنظرة تقول: لماذا لا توافقين يا حبيبتي ليصبح الوجود أجمل والشمس أدفأ والبحر أكبر؟ لأنعم بالسكن والسكون؟ حنان صدرك يا ماريتي هو سكني الذي خلقه الله لي، فلماذا تمنعين عني هبة الرب يا سمية العذراء؟ .. تنتفض فجأة وهي تقول: معنى هذه الرائحة أن طعامنا تحول لفحم من العصر الحجري
قالتها وهي تعدو نحو المطبخ، فضحك وقد تحسنت معنوياته كثيراً، ثم وقعت عيناه على الجرنال الذي وضعته "ماري" فوق الطاولة، فرأى صورة الداعية الفضائي بابتسامته الباهتة، تذكر كيف غادر خطبة الجمعة في مسجد قريب ذات يوم عام 2006م خلال العدوان الصهيوني على لبنان، كان الخطيب عظيم اللحية يقول أنه لا يجوز لمسلم سني أن يدعو لحسن نصر الله بالنصر، لأنه رافضي كافر! ولا يجوز لمسلم أن يتعاطف مع حزب الله لأنهم روافض وقتلاهم في النار، يومها قال "علي" بصوت مسموع وهو يقوم فينتعل حذاءه: وهل قتلى الصهاينة في الجنة؟ أستغفر الله العظيم
سمع وهو ينصرف همهمات من بعض المصلين خلفه، صلوا خلفه أنتم لو أردتم، أما أنا فأراه معتوها لا تجوز خلفه صلاة!
حين ولد "علي" عام 1966م كانت فلسطين وحدها محتلة، اليوم فلسطين والعراق والجولان وشبعا على قائمة الاحتلال، والبقية تأتي، يتذكر أبياتا لمظفر النواب، يقول فيها "لعلي يتوضأ بالسيف قبيل الفجر .. أنبيك علياً .. ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف .. ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف .. ما زالت عورة ابن العاص[8] معاصرة وتقبح وجه التاريخ" لقد عرض هذه الأبيات في رسالة الدكتوراه ضمن أمثلة على رسوخ الطبيعة السياسية الاقتصادية للفتنة الكبرى في العقل الجمعي للمثقفين، يتذكر تلك الأيام الجميلة الماضية فتمتعه الذكرى، وتتداعى لذهنه ذكريات مناقشة رسالته للدكتوراة في شيفلد

29.8.08

الإسلام و الأسلمة


نكأ الدكتور "علاء الأسواني" جراحاً كثيرة لم تلتئم أبداً بمقاله الرائع عن "ظاهرة التدين البديل" و كنت قد قرأت المقال حين نشر ، ثم أرسله لي صديقي المهندس "معاوية رويحة" من بولندا الكترونياً ، فقرأته للمرة الثانية ، و فيه يتعرض "الأسواني" محللاً للقضية التي طالما كتبت و تحدثت عنها و فيها ، قضية الفارق و الشتان بين الإسلام كما أراده الله لنا منهجاً في الحياة لعباده ، و بين البترو-إسلام الذي أراده الأمريكان و حلفاؤهم في الجزيرة العربية نطاقاً لشعوب الشرق الأوسط ، يجعلها للأبد مصدرا للطاقة ، و سوقا للسلعة الأمريكية ، و مجالا لنفوذ عسكري لا ينتهي ، و كتبت أكثر من مرة عن خطة "نادي السفاري" التي وقعت كبروتوكول بين مصر و السعودية و باكستان و الولايات المتحدة لنشر ثقافة التدين السلفي البديل الذي تحدث عنه "علاء الأسواني" ، و رصدت السعودية المليارات فعلاً لنشر ثقافة الأسلمة، و أردت هنا أن أرصد بعض الاختلافات الحاسمة بين الإسلام الحق ، و الذي جاء به نبي الإنسانية كلها منذ أربعة عشر قرناً ، و أسس بهديه دولة ديمقراطية مدنية في المدينة المنورة ، و بين الأسلمة السلفية الجديدة ، و التي يبثها دعاتهم ليل نهار ، و الفارق بين الإسلام و الأسلمة لعمر الحق كبير! فبينما الإسلام جوهر شخصي ينتج عن إيمان الفرد أنه لم يوجد بهذه الدنيا هباءً ، و أنه وجد بمهمة كبرى ، هي المساهمة في مسيرة تطور البشرية قدر جهده ، أيا كان عمله و مكانته ، فيجد الفرد في عمله و يخلص له قدر جهده و استطاعته ، لأنه يعلم أن الله تعالى يحاسبه على مجمل عمله و أثره في دنيانا ، فلو كان هذا المجمل موجباً و مثرياً للحياة ، يصدق فيه قول الله تعالى "فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ" (المؤمنون:102) أما لو كانت حصيلته في حياته سالبة على الحياة ، فيصدق فيه قول الله تعالى "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ" (المؤمنون:103) ، و على النقيض نجد أن الأسلمة طلاء ظاهري ، يرش على خارج الإنسان كطلاء السيارات و لا يمس داخله في قليل أو كثير ، فهي تضيف بعضا من العبادات و الطاعات التي تفرغ من معناها في أغلب الأحيان ، فلا تضيف للفرد و لا للجماعة شيئاً ، فلا خير في صلاة لا تنهى عن الفحشاء و المنكر و البغي ، و لا غناء في حجاب يستر كل الدنايا ، و لا لحية إلا لمن انتهج نهج المصطفى في كل خلقه و عمله ثم التحى ليتم السنة الظاهرة بعد أن أتم الباطنة ، فتعالوا معا نرصد بعض مظاهر الأسلمة في حياتنا ، و نبين الشتان بينها و بين الإسلام الحق

الإسلام: يأمرنا بالتفكر في الكون و في أنفسنا و في ديننا ، فيقول لنا الحق في القرآن الكريم "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" فالحق يطلب بالتفكير و التدبر إذن ، و يقول لنا النبي الكريم "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك" ، و يقول لنا كذلك "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" و من هذا نفهم أن معرفة الدين و التفقه فيه و استنباط الحلال و الحرام هو فرض عين على كل مسلم بالغ رشيد ، لأن الدين الحق يريد من كل منا أن يكون مالكا لأمر نفسه ، لا يحشده من أراد كحشد الخراف بكلمة أو أخرى ، لقد أراد الله تعالى بهذا التكليف أن يجنبنا شر نموذج "راسبوتين" الذي يمثل نسبة محترمة من رجال الدين و مدعي العلم الديني في كل زمان ، و لهذا ما كان أنبياء الله محترفين للنبوة ، بل عاملين يكسبون بكدهم و يحتسبون الجهد في ابلاغ الدعوة عند الله ، و ما كان علماء السلف كأبي حنيفة و غيره محترفين كذلك

الأسلمة: يطلب منا دعاتها الفضائيون ألا نتفقه و لا نفكر و لا نستنبط لأن هذا تخصصهم ، فيخرج علينا السيد "عمر عبد الكافي" و زملاؤه ببدعة التخصص في الدين! و يطلب منا أن يفرغ كل منا لتخصصه حتى نترك لسيادته مضمار الدين واسعاً ، يفتنا فيه بما يرى و يحدثنا بما شاءت له نفسه أن يحدث ، فلا يجد منا رداً إلا آمين! لأن التأسلم السلفي يريدنا أوعية تستقبل ، و توجه من خلال الخطاب الديني كما توجه الأمة الأمريكية من خلال التوك شو و البرامج الدعائية ، هذا جزء أساسي من الخطة الجهنمية لتدجين شعوب المنطقة و توجيهها

الإسلام: يأمرنا بالتمسك بالقيم الكبرى ، فانظر للآية الجامعة من سورة النحل ، تجد فيها قول الله تعالى "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل:90) و هو ما يكرره الخطباء على مسامعنا كل جمعة ، لكن قليلا هم من يتدبرون محتواها الجامع لجوهر الدين ، في أمر بثلاث و نهي عن ثلاث ، أمر بالعدل في كل شئون حياتك ، فيكون العدل طريقك الذي لا تتهاون فيه ، في حدود علمك و قدرتك ، في عملك و في بيتك و في كل معاملاتك ، ثم يأتي الإحسان بعده كخطوة للأمام في معاملتك للناس ، فلا تعط كل ذي حق حقه و حسب ، بل تزيده عن حقه بالإحسان ، و أمر العدل و الإحسان وارد في كل شيء ، من رد التحية بأفضل منها أو مثلها و حتى المعاملات بالملايين ، و قس على ذلك ما شئت ، ثم يأتي الأمر الثالث بأن تصبح فياضا على كل من حولك ، بالحب و الحنان وبالرأي و المشورة و بالمال لمن يحتاج أي منهما من ذوي قرباك ، و مفهوم ذوي القربى برأينا أوسع من مفهوم الرحم ، فالرحم قاصر على صلة الدم ، أما ذوي القربى فنفهمها بأنها محيطك في الحياة كله ، فتضيف لرحمك زملاءك في العمل و أصدقاءك و جيرانك و هكذا ، فأي مجتمع رائع يكون هذا المجتمع؟ فقط لو حرصنا على ثلاث ، هي العدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى؟ ثم يأتي النهي عن الفحشاء و هي كل الانحرافات السلوكية السرية ، و المنكر و هو كل ما خالف القانون كما بينا سابقا ، و البغي و هو كل ما يعتدى به على حدود الآخر في المجتمع ، فالنظرة بتلصص على واحد من الناس فيها البغي المنهي عنه ، و قس على ذلك أيضا ما شئت ، و تلك آية واحدة ، فيها أمر بثلاث و نهي عن ثلاث تستقيم بها حياة الناس ، و تأتي كل العبادات و الطاعات لتعينك و تدعمك في الامتثال لهذه الآية الكريمة ، فهذا دورها الذي أراده لها الله
الأسلمة: تأمرك بصلاة الفروض و السنن و حبذا لو كان هذا في مسجد من مساجد الأخوة ، حتى يتم تثقيفك من خلال كتب الرصيف المدعومة بمال النفط ، و التي يبيعها الأخ "كباكا" بتكلفتها لخدمة المسلمين ، و لو كنت مريضا تشتري دواءك من وصفات الشيخ"بشلة" بارك الله فيه ، تلبينة أو حبة سوداء أو ربما تحتاج لعملية حجامة بسيطة ، ثم تشتري لبنتك الطفلة حجابا و اسدالا و معصما و الذي منه من بوتيك "إسلامكو" على أول الشارع ، فيعطيك سواكاً هدية مجانية! ثم تأمرك الأسلمة أن تصوم في رمضان وجه النهار ، فإذا أفطرت عوضت حرمان النهار بإسراف الليل ، و لا تأبه لمن قال أن الاعتدال و التقشف بهذا الشهر الفضيل هما الجوهر ، من حرم الطيبات من الرزق يا أخي! و أما زكاة مالك و ما رأيت من الصدقات فتعطيها لنا حتى نوظفها لخدمة الإسلام ، و عليك بالعفة ، فلو لم تكفك زوجتك ففي الإسلام سعة ، هناك العرفي و المسيار و الهبة ، و هناك ملك يمينك من الخادمات الفلبينيات ، ثم عليك ببيت الله و مسجد الرسول ، يجب أن تخرج في واحدة من لقاءات العمرة و الحج تبعنا إن شاء الله كل عام ، فهو ملتقى طيب ، يذكر فيه الله ، و تعقد الصفقات بإذن الله بين الإخوة رجال الأعمال المسلمين ، و بعض الاتفاقات هنا و هناك فيما يصلح شأن الأمة ... بس يا سيدي .. خلاف هذه الأوامر السهلة و السلسة براحتك ، افعل ما شئت ، و لو ألم بك ذنب هنا أو هناك... الجمعة للجمعة و العمرة للعمرة تغفر ما بينها إن شاء الله (الحديث الشريف يتحدث عن صغار الذنوب) هذا هو موديل المتأسلم المثالي الذي يبنونه ، كائن استهلاكي مدروش بعيد عن الدنيا ، عائش في الوهم و الضلالات ، مشغول بالتوافه ، غافل عن عظام الأمور ، فهذا نموذج مثالي لإنتاج كثرة كغثاء السيل كما قال الرسول صلوات الله عليه و سلامه ، و النتيجة ؟ ما هي النتيجة؟ تعالوا نقوم بتجربة عملية معاً لنرى النتيجة
تجربة عملية: اذهب إلى محرك بحث الصور في جووجل ، ثم جرب أن تكتب عبارة "عذاب القبر" و انظر للنتائج ، ستجد طوفاناً من الصور تتكرر فيها صورتان ، واحدة لجثة قتيل في حالة تعفن و يبدو ذلك من هيئتها ، و هي صورة جثة لم تدفن ، لكن من يضعونها يقولون أنها صورة جثمان أخرج بعد دفنه ، و دلالة الكذب هو الدم المتخثر تحت الرأس ، أما الصورة الثانية ، و يدعون كذلك أنها صورة ثانية لميت أخرج بعد دفنه ، و أن الوجه تبدو عليه علامات الصراخ ، و حقيقة الأمر أن الصورة لطفل مات محترقاً فاحترقت شفتاه طبعا ، لهذا ظهرت أسنانه و كأنه يصرخ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ، دعونا نجرب كلمة أخرى إذن ، جرب أن تكتب في محرك البحث عبارة "قوم عاد" و انظر ماذا ستجد ، ستجد مجموعة صور لهياكل عظمية عملاقة يظهر بجوارها الناس كالنمل ، و يقولون لك أن هذه الهياكل مكتشفة منذ زمان لكن الغرب الشرير يكتم الأمر حتى لا يصدق قول القرآن! واقع الموضوع أنها صور مركبة بالجرافيك قدمت لمسابقة في جرافيك الحفريات عقدتها وكالة ناسا الأمريكية ، طيب نجرب مرة ثالثة و نكتب في محرك لبحث كلمة "الجن" ستخرج لنا حينها صورة جني أخضر لطيف جدا معلق في مغارة و تحتها مانشيت مضحك للجريدة التي نشرتها ، و لو بحثنا أكثر سنجد نفس الصورة مع صاحبها الذي أعد الديكور و الماكيت و صوره! جرب أن تقرأ التعليقات و الكلام في هذه المنتديات لتعرف حقيقتنا المرة
بعد ثلاثين عاماً من الإسلام: كان المسلمون قد شغلوا الدنيا بهذه الأمة الناهضة ، أمة كأنها أطلقت من عقالها ، فكونت امبراطورية ورثت الامبراطوريتين القديمتين الفارسية و البيزنطية الشرقية ، أمة ملأ السمع و البصر ، تهتم بعظائم الأمور ، أتي فيها رجل للخليفة الفاروق "عمر" و على وجهه أمارات السعادة لأنه رأى فلانا و فلانة خلف الشجر يتعانقان ، فضربه عمر بدرته و قال له "أفلا نصحت لأخيك" فلم يكن الفاروق متعطشا لرؤية الدماء و بتر الأعضاء و رجم الناس ، أمة كانت تفهم الدين حق فهمه و بلا دروشة و لا تعلق بتمائم ، حتى كان الفاروق يقول للحجر الأسود "ما أنت إلا حجر لا تضر و لا تنفع و لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" ، و أمة مناضلة كانت الأم فيها تثبت وحيدها على الحق فتقول له كما قالت ذات النطاقين لابنها حين خاف من تمثيل عدوه به "لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها" كان هذا ما أنجزه الإسلام في ثلاثين عاماً
بعد ثلاثين عاما من التأسلم: منذ السبعينات التي بدأت فيها خطة التأسلم و حتى اليوم ، مرت علينا أكثر من ثلاثين سنة ، أصبحنا بعدها أمة مهيأة للإبادة ، انطلقت اللحى بلا حدود ، و كذلك الفساد انطلق بلا حدود ، انتشر الحجاب و اندثرت العفة من القلوب ، عمرت المساجد ظاهريا ، و خربت الذمم كما لم تخرب من قبل ، صحونا في الفجر و نامت عقولنا للأبد في سبات عميق ، و أنا لست ضد الحجاب أو إعمار المساجد أو صلاة الفجر بالطبع ، و لكنني ضد الظواهر التي لا تعبر عن باطن ، فلو كان الباطن يتجه نحو الإسلام جوهرا و مضمونا نورانيا لأصبح الحال غير الحال ، لكننا اليوم أصبحنا متأسلمين مسعودين مأمركين ، كائنات استهلاكية بحتة ، تعيش بغير مضمون ، و تجري جري الوحوش بلا هدف و لا مضمار ، فقط نندفع مع القطيع دون أن نسأل عن وجهتنا ، فأين النهاية؟

هذا هو الفارق و الشتان يا سادة بين الإسلام و التأسلم ، في الوسائل و النتائج ، فتخيروا لأنفسكم

21.8.08

علم النفس التنظيمي



آثار أمراضنا الاجتماعية على مؤسساتنا
لماذا لا تتعملق الكثير من المؤسسات المصرية؟ لماذا لا تتكرر تجارب مثل "أوراسكوم" كثيراً فتحقق التوسع الإقليمي أولاً ثم القاري ثم الدولي؟ لماذا تبدأ العديد من المؤسسات في التقزم حين تصل لمرحلة معينة من النمو؟ أو باختصار ، لماذا لا تكون نجاحات المؤسسات المصرية طويلة الأمد عبر الأجيال؟ لدينا السوق الكبير كماً في العديد من المجالات ، بحكم التعداد السكاني على الأقل ، و لدينا قدرة شرائية في نسبة من السكان تتجاوز تعداد دول الخليج مجتمعة ، و لدينا الكوادر التي يفترض أنها ماهرة و مدربة ، و كذلك لدينا رؤوس الأموال الوطنية و الأجنبية ، و نحن حين نتحدث عن المؤسسات المصرية هنا ، لا نعني منها فقط ما كان مملوكاً للمصريين ، لكن ينسحب كلامنا كذلك على فروع الشركات متعددة الجنسيات ، و هنا يظهر لنا سؤال إضافي ، لماذا انتقلت أغلب المكاتب الإقليمية للشركات العالمية خلال عقدين من مصر إلى دبي؟ و محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة جميعا من خلال علم الإدارة التقليدي بتطبيقاته السطحية ، و التي لا زالت أغلب معاهدنا العلمية تدرسها لطلاب إدارة الأعمال ، لن تفيدنا كثيراً ، و سوف يرهقنا الجواب إن لم يعجزنا ، لكننا حين ندرس المشكلة في ضوء تطبيقات علم النفس التنظيمي العديدة ، فلسوف نجد الإجابات أقرب كثيراً ، و علم النفس التنظيمي لمن لا يعرفه ، هو العلم الذي يدرس الأداء المؤسسي و تفاعل جميع العناصر فيه ، و لا سيما تفاعل فرق العمل المختلفة مع القرارات و النظم و الأطر التنظيمية ، و كذلك التفاعل البيني للأفراد من مختلف المواقع داخل المؤسسة ، و نتاج هذه التفاعلات المتمثل في أشكال السلوك التنظيمي المتباينة ، على أساس من علم النفس و تطبيقاته ، مع استخدام هذه التطبيقات لتقويم السلوك المؤسسي و زيادة معدلات الأداء لمجمل الطاقات البشرية للمؤسسة ، و لا عجب في ذلك ، فرواد علوم الإدارة مثل "أبراهام ماسلو" صاحب الهرم الشهير للدوافع البشرية كانوا علماء نفس بالأساس ، و "فردريك تايلور" مهندس علم الإدارة الأول في مطلع القرن العشرين ، كان برغم تخصصه الدراسي في الميكانيكا دارسا متعمقا لعلم السلوك ، و اليوم تتشابك تخصصات الإدارة ، و إدارة الموارد البشرية ، و علم النفس التنظيمي ، و علم النفس التعليمي ، و إدارة الأزمات السلوكية لتكون حجر الزاوية لإدارة مؤسسات إستراتيجية و ذات سمعة عالمية إدارياً ، مثل البحرية الأمريكية ، و شركات تستهدف الربح بحجم "أي تي آند تي" و "مايكروسوفت" و غيرهما ، بداية من التعيين في الوظائف القيادية ، و حتى قرارات الترقيات و إعادة الهيكلة ، تعتمد هذه المؤسسات الكبرى على علم النفس التنظيمي ، حتى تتجنب كارثة وجود شخصيات غير سوية نفسيا في موقع قيادي يؤدي لتخريب المؤسسة من الداخل و انتحارها البطيء ، و تطبيقات علم النفس التنظيمي عديدة ، و تزيد أهميتها كلما كان مجال العمل أو الاهتمام مجالاً سريع التطورات مثل مجالات التكنولوجيا

فماذا نقصد بالأمراض الاجتماعية التي تنعكس على أدائنا المؤسسي؟

نعني بها الأمراض السلوكية المتأصلة في مجتمعنا ، و الشديدة التجذر في تراثنا كمصريين، و التي تلقي بظلالها الكثيفة على أنماطنا السلوكية في مؤسساتنا ، و أوجز هنا هذه الأمراض في عدة أنماط محورية ، لنتعرف عليها و على جذورها ، و حين نتحدث عن الجذور ، فليس بالضرورة أن يكون الفرد قد تعرض للمؤثرات التراثية تعرضاً مباشراً ، لأنها عناصر تترسخ في العقل الجمعي للشعب و تنتقل بين أفراده كالعدوى ، كما تنتقل رأسياً من جيل إلى جيل وفق أحدث نظريات التحور الجيني السلوكي ، فليس معنى أن الفرد قد ولد في العاصمة و عاش فيها ، أنه لم يتأثر بالعناصر الفاعلة في مجتمع القرية ، فهل تجد هذا غريباً؟ هل تتصور أن المؤثرات التي تعرض لها والدك لا تؤثر في شخصك و سلوكك؟ أنت على خطأ كبير لو ظننت هذا ، فحلم السقوط مثلاً ، كلنا يمر به عدة مرات في حياته ، و هذا الحلم يحدث نتيجة ارتباط شرطي تطور لدى الإنسان منذ عصر النوم على فروع الشجر ، فكان النوم العميق يؤدي لكثرة تقلبه فسقوطه من فوق الشجرة و يكون معرضاً للخطر ، اليوم ، عندما تصل أنت لهذه المرحلة مع الإرهاق الشديد ، ترى هذا الحلم ، برغم أنك لم تنم على فرع الشجرة قط و لم تسقط من قبل ، فتكوينك النفسي يا صديقي أعمق بكثير جداً من سنوات عمرك المحدودة التي عشتها ، و نظراً لأن علم النفس التنظيمي أوروبي النشأة ، و أمريكي التطور ، فكل دراساته (كالكتب بأعلى) تتم على نماذج يورو-أمريكية ، لهذا خطر لي أن أستغل فترة الإجازة الحالية في جمع المادة العلمية ، و بداية تصنيف مؤلف في علم النفس التنظيمي برؤية و مرجعية مصرية ، يصلح كأداة للتحليل و التطوير في مؤسساتنا ، وفقاً للأنماط السائدة في الوعي الجمعي بمصر


الخواء القيــــــــادي و خارطة الطريق
ما هي مهمة القيادة داخل المؤسسة؟
و أنا هنا أتحدث عن القيادة و ليس الإدارة ، فالقيادة يمكن أن تكون على مستوى منطقة أو فرع أو قطاع أو قسم ، و هي مرتبطة بالأساس بملكات القائد و مهاراته و معارفه ، و لا ترتبط بحجم سلطاته ، و الشكل أعلاه يبين في اتجاه عقارب الساعة ، المهام القيادية ، و بترتيب أولوياتها زمنيا ، فلو افترضنا أن قائدا جديدا بدء عمله اليوم ، فأول ما يتعين عليه فعله ، هو التواصل بكثافة مع الأفراد داخل المؤسسة ، حتى يقوم بعملية تحليل المناخ العام ، و حصر الأمراض التي تتواجد به ، و من أشهر هذه الأمراض في مؤسساتنا المصرية ، أزمات الثقة الحادة ، بين الأفراد و بعضهم ، و بينهم و بين إدارة المؤسسة ، و كذلك من ضمن أكثرها شيوعاً ، الحزبية و الشللية ، فيتعين على القائد أولاً أن يبدأ في إعادة خلق مناخ الثقة قدر الإمكان ، أو بالأقل السيطرة على العناصر التي تزيد من أزمة الثقة ، و ثانيا ، عليه أن يتقبل أمر الشللية بصدر رحب ، ثم يبدأ في تفكيكها تدريجيا بالقضاء على عناصر الخوف المشترك التي تتكون بسببها الشللية أولاً ، ثم وضع نظم للسيطرة على شبكات المصالح التي تعد السبب الثاني وراء ظهور الشللية ، و عليه أن ينأى بنفسه ، فلا يحسبه أحد على مجموعة من الأفراد بأنهم الأثيرين لديه ، و بالتزامن مع عملية تحليل و تعديل المناخ العام هذه ، يدرس القائد الوضع الاستراتيجي للمؤسسة في مجالها الإنتاجي الرئيسي ، ليضع خلال هذه الفترة الإستراتيجيات العامة التي ستوجه المؤسسة لأعوام آتية ، لتكون هي الدستور الذي يرجع له هو شخصيا في إدارة العمل ، و لبناء الإستراتيجيات العامة حديث يضيق به المجال هنا ، ثم تأتي الخطوة الحيوية التالية ، و هي إكتشاف القيادات و المهارات داخل فريق العمل الموجود بالمؤسسة أولاً ، و يجب أن يكون للطاقات الحالية أولوية شبه حصرية ، فلا يستعين من الخارج بغير الضروري جداً من العناصر الوافدة ، لأن كثرة العناصر الوافدة ستوحي للطاقات الموجودة بالداخل بصورة ظلامية للمستقبل المهني ، تجعل من السهل جداً فقد هذه الطاقات ، و بمجرد إكتشاف القيادات و المهارات التي ستعينه لتحقيق الإستراتيجية العامة ، يبدأ في تدريب هذه المهارات ، و تعقب ذلك مرحلة تمكين هذه العناصر الموهوبة و المدربة من القيادات من مواقع الإنتاج ، و تفويض الصلاحيات و السلطات لها ، لتتمكن من العمل بهامش حرية واسع ، و تدريب و تطوير غيرها بالتبعية ، ثم يبدأ القائد في المرحلة التالية ، و هي التركيز على تحسين قنوات الإتصال بين المؤسسة و بين البيئة العامة للعمل التي توجد بها من موردين و شركاء تجاريين و عملاء و غيرهم ، حتى يتأكد من وجود أسلوب سلس لضمان سلامة قنوات الإتصال ، ثم تأتي المرحلة الخامسة ، و هي وضع النظم و الأطر العامة للعمل و عادة ما يبدأ الكثير من المديرين بهذه الخطوة ، و هم بهذا يضعون العربة أمام الحصان ، لأنهم يكونون بين خيارين كلاهما مر ، الأول هو وضع نظام عمل مثالي ، لا تستطيع الطاقات الموجودة العمل به ، بحكم الآفات الموجودة بالمناخ العام ، أو يضع نظاما يمكن لهذه الطاقات في ظل مناخها العام الموجود أن تتعامل معه ، و لكنه قاصر و أقل من المثالي كفاءة ، ثم تأتي المرحلة الأخيرة ، من مراحل التغيير القيادي ، و هي مرحلة الإدارة بالأهداف ، فيضع القائد الأهداف التي يحتاج تحقيقها من كل من القيادات التي فوض لها العمل ، و ذلك بما يتماشى مع الاستراتيجية العامة ، و ليست هذه هي نهاية عمل القيادة داخل المؤسسة ، لكنها فقط نقطة البداية التي قد تأخذ شهوراً أو سنوات ، وفقا لطبيعة المؤسسة و نوع النشاط ، فبعد إتمام هذه المهام ، تتركز مسؤلية القائد في أن يشكل الثقل المركزي للمؤسسة ، نقطة الارتكاز التي يرجع اليها في الاستراتيجيات ، و الروح المشتركة في كل أركان العملية الانتاجية بلا استثناء ، و السؤال هو ، كم نسبة هذه النوعية من القادة في بلادنا؟ و على جميع المستويات؟ للأسف قليلة للغاية ، فنحن ما زلنا نعايش قادة يعانون من ربط المكانة بنطاق الصلاحيات أولاً ، ثم ربطها بمظاهر الوجاهة و فتح باب السيارة و جميع مظاهر "أدب القرود" من جانب القوة العاملة في المؤسسة ، و هو تراث ثقيل ورثناه من عهد الاستعمار الانجليزي أولاً ، حيث كان الجميع يمارسون "نوم العازب" أمام المدير الخواجة لارضائه ، ثم من فترة عسكرة المؤسسات حيث كان المدير الضابط سابقاً يحب معاملة موظفيه كعساكر المراسلة في وحدته العسكرية

غياب القيادة و حالة الضياع
من السمات الأساسية للمؤسسة التي يغيب فيها دور القيادة كمركز الثقل و الجاذبية بين عناصر العمل و بيئته ، حالة الضياع التي تنتاب المؤسسة بفقدها لرؤية القيادة الكلية ، فتجد الحياة اليومية بها تتسم بسمات لعل أهمها: (1) صعوبة اتخاذ القرار ، فتجد قرارات تكتيكية أولية تستنزف وقت و جهد فريق العمل للوصول إليها ، في غياب الرؤية الكلية التي تسهل اتخاذ القرار (2) ثم تجد تزايدا مستمرا في حالات الصدام بين الأفراد في أداء العمل ، بدرجة تتعدى ما هو مفترض في عمرهم و خبرتهم ، و هذا نتيجة لفقد دور الثقل المحوري ذي الرأي الحاسم للمناطق الرمادية ، (3) من هذا كله تتحول المؤسسة إلى وسط طارد للكفاءات ، فتظهر مشكلة عدم ثبات الطاقة العاملة ، و تتزايد مع الوقت ،(4) كذلك تظهر مشكلة تداخل المهام الوظيفية ، لأن القيادة لا تملك الرؤية و العقيدة التنظيمية الكافية ، و هنا ننفرد بمشكلة أخرى ، لقد استعرنا من الغرب اليورو-أمريكي القشرة الخارجية للقيادة ، و اهتمام شديد بالمظهريات و الانجازات الشكلية ، و من طرائف من قابلت منهم بحياتي المهنية ، سيدة كانت تصر على استخدام اللغة الإنجليزية مثلا بينما تسقط سقطات لغوية مضحكة ، فتقول بإنجليزيتها الركيكة "عيد ميلاد ربح مبارك" لأنها أرادت أن تقول "مولد نبوي مبارك" ، و رأيت آخر يحاول أن يتصنع لكنة متفرنجة في نطق كلمة "دكتور" فينطقها بطريقة رقيعة لا هي إنجليزية و لا أمريكية و لا فرنسية ، بينما يجهل أبسط الاصطلاحات الانجليزية في مجال تخصصه!! كل هذا لأننا نحاول تقليد الشركات متعددة الجنسيات بصورة قشرية دون أن نرسخ الأسس التي جعلت من هذه المؤسسات شركات عملاقة ، المهم أن هذه القيادات القشرية هي النموذج الغالب في بلادنا ، لأن قدرتنا على فرز الغث و السمين شبه معدومة ، فما زالت هذه الكائنات الطفيلية تلقى رواجاً ، بينما لن تجد واحدا منها في مؤسسة يملكها لبناني أو سوري ، لقدرتهم العالية على فرزها و استبعادها في عملية الاختيار ، بينما تعجب العديد من المصريين لأننا ما نزال أسرى عقدة الخواجة ، و عقلية التنظيف و الترتيب الظاهري قبل زيارة الوزير

التكنوقراط و عقلية الصمامات
و نعني بالتكنوقراط هنا الكوادر التي تشغل موقعا يعتمد نجاحه بالأساس على إتمام حلقات إجرائية ، أكثر من اعتماده على هدف إنتاجي مادي محدد ، و يقع تحت هذا المسمى إدارات مثل الشئون الإدارية، و المالية (عدا في المؤسسات المالية) و إدارة شئون الأفراد ، و الشئون القانونية (عدا في مكاتب الخبرة القانونية) و للتيسير، إذا أردت أن تحدد هل أي وظيفة داخل أي مؤسسة تكنوقراطية أم لا، يمكنك أن تسأل نفسك، هل يمكن الاعتماد فيها على بيت خبرة خارج المؤسسة أم لا؟ فلو كانت الإجابة بنعم فهي تكنوقراطية ، لا يستثنى من ذلك إلا تعاقدات التصنيع لدى الغير ، فهذا لا يجعل التصنيع وظيفة تكنوقراطية لوجود أهداف إنتاجية محددة سلفاً ، أما عن عقلية الصمامات ، فهي قدر حتمي لشاغلي هذه الوظائف ، لأن طبيعة المهام المنوطة بهم ذاتها هي إجرائية في جوهرها ، و هنا يأتي تحقيق الذات من خلال تنفيذ الإجراءات ، على عكس الوظائف الإنتاجية التي تتحقق الذات فيها بتحقق الهدف ، و لابد لهذا أن ينتج مع الوقت عقلية "الختم و التوقيع" مهما حاولنا عكس ذلك، و هذه الطبيعة لها دور محوري في بعض الحالات ، و يعتمد الأمر على مرحلة النمو التي تعيشها المؤسسة و طبيعتها ، فلو كانت في مرحلة النضوج و الاستقرار ، فمن الجائز أن تعمق المؤسسة دور الإدارات التكنوقراطية ، لأن هدفها هو بالأساس وقائي ، يحمي المؤسسة من الهزات و الصدمات و المخالفات القانونية و المالية ، و العكس عندما تكون المؤسسة في مرحلة نمو سريع ، حيث تحتاج للجري خلف الفرصة و ليس الجري بعيداً عن الخطر ، هذا فضلاً عن مكاتب التمثيل الأجنبية و المنظمات التي لا تستهدف الربح ، فهذه في كل الأحوال أكثر اهتماما بالنواحي الإجرائية ، و يجب أن تكون كذلك ، و هنا يأتي الخلل الأساسي في مؤسساتنا المصرية من الخلط بين مؤسسة في مرحلة نمو سريع ، و مؤسسة كبرى في مرحلة الاستقرار، فيعتقد البعض أنه وصل لمرحلة الاستقرار، بينما هو في كبد مرحلة النمو ، و لو توقف نموه فسيبدأ في الاضمحلال فورا ، و من هنا يتحول توجهه من اغتنام الفرصة لتحقيق الأمان ، تماما في الوقت الخطأ ، لكن كل ما قلناه الآن ينطبق على الدنيا بأسرها ، و هو من قواعد علم النفس التنظيمي ، فما هي خصوصيتنا كمؤسسات مصرية هنا؟

تتعمق عقلية الصمامات في تراثنا ، لدرجة نخلط فيها خلطاً مباشراً بين القيادة كروح و ملكات شخصية و قدرات و مهارات تفاعل مع فريق العمل ، و بين السلطة الإجرائية ، فبصبح التكنوفراط لدينا كائنات سلطوية بحتة ، تطلب في كثير من الأحيان ما يعجزها القيام به ، و ما لم تؤهل للقيام به من أعمال ، فجذور المحابس لدينا عميقة جداً، على سبيل المثال ، كان الرجل الريفي في الماضي يحتفظ بكل النقد المملوك للأسرة من عائد بيع المحاصيل في حافظة نقوده التي لا يفارقها ، و بينما كانت الزوجة تحصل عن طريق المقايضة بمنتجات البيض و اللبن على ما تحتاجه من السوق ، فقط لحم الماشية و الفاكهة كان على الرجل المسيطر على النقد أن يشتريها لأنها لا تباع بالمقايضة ، و كانت سيدة الدار الكبيرة تمتلك مفتاحا لما يسمى بالكرار أو غرفة الخزين، هذا المفتاح كانت هويتها كسيدة للمنزل تتمحور حوله ، فهي تمنحه لواحدة من بناتها لتأتي بشيء من دقيق أو سمن من الكرار، ثم ترد المفتاح لصدرها في حب و إعزاز نادرين، هذا النمط يوجد اليوم في مؤسساتنا، و يوجد بوفرة، و قد حل التوقيع أو الختم أو النموذج (س.ص.ل.) محل المفتاح أو محفظة النقد ، و المصير الحتمي لكل مؤسسة تقع في غرام الإجراءات لمجرد الإجراءات أن تتحول لكيان تختلط فيه الأهداف بالوسائل ، فتجد الانجاز الإنتاجي يتيما لا يهتم به أحد ، بينما تجد الانجازات الإجرائية كالملفات و الأوراق و النماذج الكتابية و الدورات المستندية و الأختام و ما إليها في بؤرة الاهتمام ، و مثلها الانجازات الخدمية أو الاستهلاكية بلا مردود مباشر على العملية الإنتاجية ، أوالانجازات البيانية كقواعد البيانات و التقارير و الأرشيفات و غيرها ، و يبقى أن نقول هنا ، أن اللوم في كل هذا لا يقع على عاتق الأقسام الخدمية و التكنوقراطية بذاتها ، لأن القيادة العليا هي دوما المنوطة بإرساء قواعد العمل و دور مختلف الأقسام فيه ، و في إطار تحديد هدف عام موحد للمؤسسة ككل ، بحيث يقيم كل انجاز داخلي في إطار مدى دعمه للهدف العام و ليس بحد ذاته ، و غالبا ما تمر الشركات بهذه المشكلة بعد مرحلة نمو مفاجئ كبير ، فتبهر الوفرة و النمو القيادات، لا سيما لو كانت مؤسسة أفراد ، فتتصرف بما يصدق فيه قول الله تعالى "لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ" التوبة:25

شخصنة مشاكل العمل
الأساس في أية مؤسسة هو قيام العلاقات بين الأفراد على أساس من علاقة العمل بينهم ، ثم تتفرع العلاقات الاجتماعية و تتشابك ما شاء لها الله ذلك ، و سواء في إطار العمل أو العلاقات الاجتماعية الموازية له ، يتدخل عنصر الشخصية و طبيعتها و الارتياح أو النفور في علاقة العمل ، و هذا مقبول ، و لكن في حدود ضيقة لا تتجاوز مصلحة العمل العامة ، و هذا مالا نحتفظ به في مؤسساتنا في مصر، ذلك أننا لا ندرك الحكمة الكبيرة التي تقول "يعرف الرجال بالحق و لا يعرف الحق بالرجال" فحكمنا على أي رأي يعتمد على حد بعيد على مصدره، فنزكيه لو صدر ممن نحب ، و نهاجمه و نفنده لو صدر ممن لا نحب ، ذلك أننا ما زلنا نؤمن بالشخص أكثر من إيماننا بالقيمة العامة او المبدأ أو الهدف العام ، لهذا نشخصن الأمور و تتحول حوارات العمل لخلافات شخصية ، فنحن نثور من أجل الزعماء الذين نحبهم لو جرى ذكرهم بسوء ، و ترى الشيعة و السنة يتشابكون من أجل خلافات وجهات نظر بين أفراد ، و لا ينعمون معا بالمبدأ العام و الدين القيم ، و ترانا نتحاور حول الزعماء و قيمة كل منهم أكثر مما نتحاور عن قيمة الديمقراطية أو دولة المؤسسات أو علمنة الدولة و غيرها من القيم السياسية، فالشخصنة هوايتنا ، و هي دلالة حتمية على المراهقة الفكرية ، فضلا عن عادتنا العتيدة، و التي تلهب الخلافات داخل المؤسسات فتصبح كالنار اتقادا ، و هي عادة النميمة و تبادل الإشاعات و الأقاويل ، و هي تشعل نار الشخصنة بما تتناقله بين طرفي الصراع من أخبار و أقوال عادة ما تكون غير سارة للمتلقي ، و تزيد من العداء و الخصومة ، فلو أضفنا لكل هذا محدودية قدرة القيادة على كسر حلقة الصراع ، فستكون النتيجة الحتمية صداما تخسر فيه المؤسسة الكثير ، كل هذا لأننا بنمطنا الفكري كشعب لا نؤمن بالأفكار و المباديء قدر ايماننا بالأفراد ، حتى في أمثالنا نقول "أنا و أخويا على ابن عمي ، و انا و ابن عمي على الغريب" هكذا بدون التفكير في من على حق و من على باطل؟

الميل الفرعوني و عوارضه

نحن نؤله كل رئيس في مؤسسته ، و أيا كان حجم الرئيس أو المؤسسة ، حتى يصاب بدرجات متفاوتة مما يسمى في علم النفس "ضلالات العظمة" فتراه ينسب كل نجاح لذاته، حتى و لم يقل هذا بلسانه ، بل حتى لو قال عكس هذا ، و يفقد مع الوقت قدرته على نقد الذات، حتى يصل لمرحلة تكون فيها شكواه دائما ممن حوله ، فهو يراهم قاصرين عن الوصول للمستوى الذي يفكر به ، و لا يجد من الرجال و القيادات من يعينه على تنفيذ استراتيجياته العبقرية ، و لا يتوقف للحظة ليسأل، هل فعلاً من حولي هم القاصرين عن فهم ما أريد أم أنه غير مفهوم؟ هل هذه الإستراتيجية فعلا عبقرية جداً أم فاشلة جداً؟ و تراه مع الوقت يضيق بالنقاش فيبتره دون أن ينصت حتى بالانتباه الكافي لمحدثه الذي يقول رأياً مخالفاً ، و يتناقص مع الوقت عدد المرات التي يقبل فيها الرأي الآخر، مقابل عدد مرات إنفاذه لرأيه ، و ضلالات العظمة هذه فرعونية المنشأ و لا ريب ، فكل من يحكمنا حكيم ، من الحكم و ليس من الحكمة، و نظل نتملق عبقريته حتى نصل به للاعتقاد بأنه الرئيس الملهم فعلا ، و لعل نموذج "أنور السادات" الذي لم يتراجع في مفاوضات السلام بعد استقالة وزيري خارجية متعاقبين، رفضا لما يحدث، هما السيدان "إبراهيم كامل" و "عبد العزيز فهمي" اللذان خلصا من عار الاشتراك في مهزلة السلام الساداتي ، و مع هذا لم يتوقف الفرعون الملهم للحظة و يسأل نفسه ، لماذا لا أكون أنا الخطأ؟

فقط في هذا الميل الفرعوني لا ألوم الرأس، رأس المؤسسة، لأن عملية فرعنة الرأس هذه تنتج من نطاق الخنوع الذي يحيط بها حتى يفسدها ، لولا مرض التملق و الخنوع و السير داخل الحائط عندنا في مصر ما وجدت هذه الآفة ، و ما تفرعن الفراعنة! أما العرض التالي الذي يظهر على الفرعون غير الثقة المفرطة بالذات ، فهو ضيقه بالحق و بمن يلتزم بالحق منهجاً و طريقاً ، و لتتصور أن لك أخوان ، أحدهما كلما زرته تحدث إليك عن عبقريتك و عن حبه لك و عن المستقبل الباهر الذي ينتظرك، و عن تفردك و مواهبك ، و الآخر كلما زرته حدثك بعيوبك و مشاكلك و المخاطر التي تحيط بك ، فلأيهما تميل نفسك؟ و لأيهما يميل عقلك؟ النفس ستميل للأول ، لأنه يمنحها آمالا و قصوراً على الرمال ، و العقل سيميل للثاني لأنه أجدى ، فهو يدلك على الخطر لتجتنبه و على الثقوب لترتقها ، أما الأول فهو يتغنى و حسب ، لكن واقع حالنا كشعب شرقي انفعالي أكثر منه عقلاني ، يجعلنا نميل نحو ما تميل إليه نفوسنا و ليس عقولنا ، و هذا الجانب الذي إليه نميل و يجيد تزيين الضلالات لنا، و تبدو عليه في تملقه هذا كل إمارات الصدق و الإخلاص ، تصدق فيه أكثر ما تصدق الآية الكريمة "وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ" البقرة: 204 ، فكم رأيت من فراعنة بحياتك العملية؟ و كم عرفت من صناع الفرعون هؤلاء؟

عملية فرعنة

رأيت بحياتي العديد من النموذج الفرعوني هذا ، ثم عاصرت مؤخراً عملية "فرعنة" جرت أمام عيني ، صناعة فرعون على مدار عامين اثنين ، فرأيت كيف تحول إنسان مهذب دمث الخلق و حاد الذكاء في آن واحد، مع كثرة الخنوع في بلادنا إلى فرعون تدريجيا ، فمع نمو مؤسسته ، جذبت المؤسسة النامية العديد من الطفيليات التي تجيد فن الاستعراض الأجوف و فنون التملق و أقوال الحق التي يراد بها الباطل ، و النماء للطفيليات كالنور للحشرات ، تنجذب إليه ، فإذا خبا النور تنقشع ، و في مدى شهور ، استطاعت الكائنات الطفيلية أن تفسد تركيبة النجاح في الرجل ، و هي التركيبة التي صنعت نجاحه في البداية ، فبعد أن كان شديد التقدير للرأي الآخر ، أصبح يشرد بذهنه إذا ما حدثته بأمر يخالف رأيه ، ثم تراه يقاطعك ليحدثك بأمر مباين تماما لما كنت تتحدث فيه ، و مع استهلاك وقته و جهده في حصص تدبير منزلي من الانجازات الاجراية و الورقية التي تحدثنا عنها منذ قليل ، أصبح الرجل مجهد الذهن بصفة دائمة ، و نتجت عن هذا عشوائية في القرارات و ضياع للتوجه العام ، صاحبها شيء من الغرور على الطراز القاروني الشهير "قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ" القصص:78 ، و صاحبت الغرور ضلالات القدرة على شراء كل شيء و كل شخص! كذلك بدأت الأهداف التي يضعها لمن حوله من القيادات تبتعد عن المنطقية و إمكانية التحقيق "وَقَالَ فَرْعَوْنُ يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ" غافر:36 ، و عادة ما تنتهي هذه القصة عاجلاً أم آجلا بالنهاية التي حدثنا بها القرآن عن صاحب الجنتين "وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً" الكهف:42 ، و الإشراك بالله هنا لم يكن شرك عبودية لغير الله ، و لكنه الغفلة عن أسباب النجاح الحقيقية ، و أولها التوفيق من الله في الأساليب و في أن يسخر الله للنجاح أفضل العناصر القادرة على تحقيقه ، فمن وقر في نفسه أن نجاحه بمهارته و علمه و جهده وحده كان مشركاً ، و الله أعلم بما أراد

إدارة الإنتاجية و حديث الإستراتيجيات

هل يذكر لفظ الإستراتيجية كثيرا في محيطك العملي؟ لو كانت الإجابة بنعم فبشراك، أنت في وسط من أنصاف المتعلمين، فالإستراتيجية العامة هي أن تدير إنتاجية مؤسسة من المؤسسات ، و أن تديرها انطلاقا من الهدف العام الذي تحدده بناء على معطيات صلبة ، و هو أمر يتحدث عنه الكثيرون ، و لا يفعله إلا قلائل، ببساطة لأنه يقتضي من الخبرة و التراكم المعرفي، و الحكمة و الكياسة ما يعجز الكثيرون من أنصاف و أرباع المتعلمين و الموهوبين عن الوصول إليه ، و الإدارة نحو الهدف العام ترتبط بالرؤية الكلية كما ذكرنا مسبقاً ، و ترتبط بالقدرات التحليلية شديدة العمق للمواقف و الأفراد و جميع المعطيات السوقية ، و عادة ما يوجد نوعان من القادة بهذا الصدد ، النوع الأول يدرك المعنى العميق للاستراتيجية ، و يتوحد معها فتصبح الاستراتيجية هي صفاته و تصرفه و حديثه ، و بدون أن يتحدث عنها ، لأنها تظهر منه في كل فعل أو قرار أو لفتة ، و النوع الثاني يسمي كل خطة أولية بالاستراتيجية ، و تتكرر كلمة استراتيجية على لسانه كثيراً دون الإدراك العميق لمعناها ، و تراه متخبطا يناقض نفسه في اليوم ألف مرة ، محيرا لا يقر له قرار ، فيقول اليوم ما ينقضه غداً ، و يوافق اليوم على ما يرفضه غداً

14.8.08

تحية للسادة الرجال


تحية شكر و تقدير لزملاء العمل
أكتب الآن و حالتي المعنوية في عنان السماء السابعة ، فلقد أنهيت عملي السابق ، و أنا في إجازة لمدة شهرين قبل البدأ في العمل الجديد ، و الذي سيقتضي مني الانتقال خارج مصر، و هي راحة لشد ما كنت أحتاجها ، لأن آخر إجازة طويلة استمتعت بها (عدا الإجازات المرضية و للظروف الطارئة) كانت في عام 2001م و اكتشفت اليوم أن هذا حدث من سبعة أعوام كاملة ، لكن هذا ليس ما أسعدني ، و إن كان الاسترخاء بالفعل ممتع ، أما ما أسعدني بصورة افتقدتها لشهور عديدة ، فهو مكالمات هاتفية تلقيتها ، و رسائل قصيرة عديدة وصلتني من زملائي في العمل السابق ، و كان ما قالوه من كلمات في مجمله كفيلاً بأن يجلب لعيني طيفاً من دمعتين ، و أنا لم تلح بعيني دموع خلال العشرون سنة الماضية إلا في وفاة أبوي ، و نظراً لأن الظروف لم تمكني من اللقاء بهم مجتمعين ، فقد قررت أن أوجه لهم كلماتي هنا ، تحية لهم و شكرا و تقديرا ، على ما بذلوه من جهد خلال قرابة الثلاثة أعوام أولاً ، حتى حققنا سويا و بفضلهم نجاحا غير مسبوق و لله الفضل و المن ، و على ما منحوه لي من شعور رائع فياض بتحقيق الذات عند تركي للعمل ، و قد سميت مقالي باسم "السادة الرجال" نظرا لتكون فريق العمل الذي شرفت بالتعاون معه من مائة و سبعة و عشرين رجلاً و أربعة آنسات و سيدات ، أما السبب الأهم للإسم ، فهو أن أفعالهم خلال فترة تعاوني معهم و حتى يومنا هذا كانت أفعالاً خليقة بالرجال صفاةً و ليس جنساً

الذات التي تحققت بكم
أشعر بالعطف الشديد على من يعمل فقط لمجرد إحراز المال أو السلطة ، أو المكانة الاجتماعية ، فهذا رجل لم يتذوق الطعم الحقيقي للحياة و لا النكهة الأصلية للسعادة ، فأنا أرى الأسباب التي تستحق أن يعمل المرء لأجلها هي أربعة أسباب ، أولها الوفاء بالخلافة الإلهية ، فلقد خلقنا بديع السماوات و الأرض بهذا الكوكب ، و في هذه المجرة ، و جعل في أعناقنا مهمة الخلافة فيها ، بالإبداع و التطوير و تحقيق الخير و النماء ، فهذا واجبنا نحو خالقنا ، لا يتحقق سوى بالاجتهاد في العمل ، أما السبب الثاني فهو الوفاء بحق الوطن و المجتمع، فنحن نعيش داخل وطن و مجتمع من المواطنين ، و هناك "عقد اجتماعي" بيننا جميعا، أن يعلم المدرس أبناءنا و يعالجنا الطبيب و يعمر لنا المهندس، و يرعى الطبيب البيطري صحة الحيوان بشكل مباشر و صحة الإنسان بشكل غير مباشر، و يستثمر رجل الأعمال لخلق فرص عمل و ناتج قومي متنامي ، و يقود رجل الإدارة المؤسسات نحو النجاح و الأفراد نحو التطور، و هكذا ، لكل عمله و مجاله، يخدم فيه الآخرين ، فأداء عملنا كأكمل ما نستطيع قدر الجهد و العلم واجبنا نحو الوطن و المجتمع، فأما السبب الثالث فهو القيام بواجبنا نحو الأسرة ، و التي يتعين علينا أن نكفل لها المستوى الاجتماعي و التعليمي اللائق قدر الجهد و الاستطاعة ، ثم نأتي للهدف الرابع ، و هو نحو أنفسنا ، للشعور بتحقيق الذات ، و الذي يضعه عالم النفس الكبير "أبراهام ماسلو" على قمة هرمه الشهير للإحتياجات و الدوافع البشرية ، و هو شعور بالراحة ممزوج بسعادة و صفاء ذهني رائعين ، لا يشعر بهما أبداً من لا يفكرون بغير تنامي حساباتهم البنكية ، أو مكانتهم الاجتماعية ، أو ظروفهم المعيشية ، لأنهم يعبون من ماء مالح ، كلما شربوا منه يعطشون ، فلا شبع و لا ارتواء ، و لا سعادة تتحقق

هذا الشعور الرائع بتحقق الذات هو ما منحني إياه زملائي وأصدقائي الرائعين اليوم ، لماذا؟ لأن أكثر ما أراه سببا يستحق أن أسعد لأجله ، هو أن يجعلني الله سبباً في إضافة إيجابية من أي نوع و بأية درجة ، تضاف للمسار العملي لأي إنسان ، فالإنسان هو قمة مخلوقات الله ، و العمل هو أهم الركائز بحياة الإنسان ، فلا شيء يعدل أن يمكنك الله فتكون سببا لفرصة تطور تتاح لإنسان بحياته العملية ، أو أن تتبادل مع الآخرين المعارف و الخبرات ، و أنا أعلم أننا شعب عاطفي ، و أن الفراق عادة ما يضخم إحساسنا بالتقدير نحو كل عزيز لدينا ، لهذا أرى أن ما منحوني إياه من كلمات التقدير ، يفوق ما أستحقه بمراحل و مراحل ، فلست أطمح أن أكون كما وصفني الزملاء الأعزاء ، و لكن حسبي من السعادة ألا أكون عكس ما قالوه تماما ، و هأنذا أقول لهم: يا أصدقائي الرائعين ، قد تلهي الأيام بعضنا عن بعض لوقت يطول أو يقصر ، و لكن ستبقى الذكرى و التقدير ، و ما ييسره الله من لقاء من حين إلى حين بيننا أبداً إن شاء الله ، و أنا أيها الأحباب لا أعدل بتقديركم و ما قلتم من كلمات ، لا ملايين الأرض ، و لا حتى النجاح الذي حققتموه أنتم ، و نسب إلي بعض من فضله ، فبوركتم و بارك الله فيكم و في عملكم ، و جعلكم دوماً من نجاح إلى فلاح ، و أسعدني الله دوماً بألا أسمع عنكم أو أرى فيكم إلا الخير كل الخير ، و إذا كنت قد ظلمت منكم أحداً بغير علم ، فأرجو منه أن يسامح فيم غفلت عنه ، و أرجو الله أن يتجاوز عنا جميعاً
أوصيكم و نفسي
يا أصدقائي الرائعين ، كلكم راعٍ ، فلتحرصوا في إدارتكم لزملائكم في العمل ، أن تزرعوا ليوم هو يوم "حصاد الحقيقة" كيومي هذا، يوم لا يكون لكم عليهم سلطانٌ ، غير سلطان المعاملة بالمعروف على كرام الرجال ، و لأجل هذا اليوم دوماً ، أذكركم و نفسي بأمور علمتنا الحياة إياها عاماً بعد عام ، و الخبرة يا إخوتي هي الحكمة التي نحصدها من السنين ، و ليست السنين بذاتها، فلا خبرة لمن لا حكمة له
  1. أعط نفسك الوقت الكافي لتعرف فريق العمل الذي تقود ، فالناس متباينون بطبيعتهم ، و طالما عملوا تحت إدارتك المباشرة ، أصبح فرضاً عليك أن تعرفهم حق المعرفة ، و اجتنب القواعد السابقة التجهيز ، و الأحكام المسبقة ، فلا توجد طريقة مثلى للقيادة في خطوط و دوائر ، لكنها حكمة التفاعل مع الآخرين
  2. ثق بفريقك ، طالما لم تعلم عنهم إلا الخير ، فأفشل القادة هو من يشك بلا بينة ، و التخوين مجلبة للخيانة
  3. استثمر وقتاً و جهداً في مناقشتهم ، و احرص على مد أواصر المودة معهم على المستوى الشخصي ، فهذا يفيد العمل أكثر ، و يجعل وقتكم في العمل أروح و أبهج
  4. شاورهم فيما أمكن من الأمر حتى تشاركهم في عقولهم ، و تشركهم في عقلك ، و تعلم كيف تبث فيهم الحماس ، فالمتحمس لقضية يدافع عنها كصاحبها، أما المأمور المأجور فلا يتحرك إلا سداً لذريعة أو رداً للوم
  5. لا تأمرهم ببر و تعفي منه نفسك ، فلا طاعة لمن لا يلتزم بما ألزم به الناس ، و كما أنت شريك لهم في النجاح ، فأنت شريكهم كذلك في الخطأ و التقصير
  6. واجههم بعيوبهم رجلاً لرجل و على انفراد ، برقة و لين ، لكن بغير مواربة ، أما في غيابهم فواجبك أن تدافع عنهم كأنفسهم
  7. انقل بينهم أحسن ما يقولونه بحق بعضهم بعضاً ، فبهذا تتألف قلوبهم ، أما ما بعد عن الحسن فلتكتمه في نفسك ، و اعلم أنه لا يقود قوما متناحرين متباغضين إلا عاجز ، و لا يسعى بالنميمة بين فريق عمله إلا سفيه ، فنجاحك هو مجموع نجاحاتهم ، و لا نجاح لك بغيرهم
  8. كن معهم واحداً منهم ، و اجتنب سلوكيات صغار النفوس ممن يحبون أن تفتح لهم الأبواب ، و تحمل عنهم الحقائب ، و تنحني لهم القامات ، و اقض أمورك بنفسك ما استطعت ، و ذكر نفسك لو حدثتك يوما بالعظمة أن العظمة لله ، و اذكر قول سيدنا "عمر بن عبد العزيز" لمن تعجب منه و هو يخدم نفسه بنفسه "ذهبت و أنا عمر و عدت و أنا عمر" فانح هذا النحو ما استطعت
  9. احتفظ بكبريائك في حدود ذاتك ، و لا تدعمه بمنصب و لا لقب و لا مظهر، فليس للرجل كبرياء خارج حدود جمجمته ، فالعقل هو الكبرياء ، و لا كرامة و لا كبرياء لمن لا عقل له
  10. قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يوما "اللهم أعطنا القوة لندرك أن الخائفين لا يصنعون الحرية ، و الضعفاء لا يخلقون الكرامة ، والمترددين لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء" فلتبعد الخوف عنهم بتعويدهم حرية الرأي و إن خالفوك ، و دعم قوتهم بتفويضهم في بعض صلاحياتك ، و شجعهم و نفسك على العزم و الحزم و اتخاذ القرار ، فدنيا العمل ميدان حرب ، يحتاج دوما للقائد المالك لأدوات قراره

و ختاماً يا أصدقائي ، لا أجد أفضل مما قاله "شي جيفارا" يوما لرفيق كفاحه "فيديل كاسترو" عندما استقال من منصبه الوزاري في كوبا التي شارك في تحريرها ، فقال "أنا اليوم أستقيل رسمياً من موقعي الحزبي ، و منصبي الوزاري، و رتبتي العسكرية، و كذلك جنسيتي الكوبية ، لا شيء رسمي يربطني اليوم بكوبا ، فقط روابط من نوع آخر ، روابط لا تنتهي كما تنتهي راوبط المناصب و الوظائف" فتلك هي الروابط التي آمل أن تدوم معكم جميعاً

و الله من وراء القصد و بالله التوفيق

10.8.08

خريف العمالقة

وداعا محمود درويش

هل عام 2008م هو الخريف الذي تتساقط فيه الأوراق الأجمل و الأكبر و الأعلى في شجرة العروبة؟ ألم تكتفي الأرض بالعملاقين "عبد الوهاب المسيري" و "يوسف شاهين" فأرادت لهما عملاقاً ثالثاً؟ رحم الله "محمود درويش" ... بين ريتا و عيوني بندقية ... و الذي يعرف ريتا ينحني ... و يصلي لله في العيون العسلية ... بين ريتا و عيوني بندقية ، رحمك الله أيها الشاعر الكبير ، أيها الناي الذي يشدو لفلسطين ، و الذي توحد الوطن المفقود في قلبه بالحبيبة المفقودة ، رحمك الله يا درويش فلسطين السليبة ، الباكي على أطلالها و المبشر بالعودة في يوم قريب ، مات شاعر الثورة في غربته بأمريكا ، بعد أن عاش العمر مغترباً عن "الجليل" الذي ولد فيه، طوال عمره تقريباً ، مات الشاعر الفلسطيني-المصري ، و الذي منحه الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" جواز سفر مصري تكريما له و اعترافا بدوره ، و حين مات "جمال عبد الناصر" ، كتب فيه "درويش" واحدة من أجمل روائعه ، فقال يرثيه


نعيش معك ، نسير معك ، نجــــــــــــــــــــــــوع معك

و حين تموت ... نحاول ألاّ نمـــــــــــــــــــــــوت معك

ولكن، لماذا تمـــــوت بعيداً عن الماء والنيل ملء يديك؟

لماذا تمــــــــــــــوت بعيداً عن البرق والبرق في شفتيك؟

وأنت وعدت القبائــــــــــــــل برحلة صيف من الجاهلية

وأنت وعدت السلاســـــــــــــــــــــــل بنار الزنود القوية

وأنت وعدت المقاتل بمعركة... ترجع القادســـــــــــــــية

نرى صوتك الآن ملا الحنـــــاجر ... زوابع تلو زوابع

نرى صــــــدرك الآن متراس ثائر ... ولافتة للشوارع

نراك طويلاً ...كسنبلةٍ في الصـــــــــــــــــــــــــــــــعيد

جميلاً ...كمصنع صهر الحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــديد

وحراً ... كنافذة في قطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار بعيد

ولست نبيّاً، ولكن ظلّك أخضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر

نعيش معك ، نسير معك ، نجـــــــــــــــــــــــــوع معك

وحين تموت ... نحاول ألا نمـــــــــــــــــــــــــوت معك

ففوق ضـــــــــــــــــريحك ... ينبت قمحٌ جـــــــــــــــديد

وينزل ماء جديد ... وأنت ترانا نسير نسير نســـــــير

رحم الله الراثي و رحم المرثي ، و رحم زمان الرجال و عزم الرجال و شرف الرجال ، في زمان بلا شرف ، و بلا رجال ، يوم مات "شاهين" تساءلت أنا، و لكن لماذا لا تهب لنا الحياة عوضاً من الكبار الراحلين؟ ليست نستالجيا، و لكن بطن مصر قارب من الجدب حقا و صدقا، فلا تهب لكل جيل عباقرته و رواده كما كانت تفعل ، أم أنها مازالت تحمل و تلد ، و لكننا كمجتمع من الجاهلية ، نؤد شرفاءنا و رجالنا و أوتادنا ، فالرجولة و الشرف عار في وطني في زمان التخنث و الغباء

5.8.08

لآليء القرآن-07


قال تعالى " وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" الأنفال: 60
هذه هي الآية التي استخدمها أعداء هذا الدين و هذه الأمة من أبنائها، ليشوهوا صورة الدين القيم ، و يصوروه بصورة معسكرة و دموية ، حتى لقد بلغت الجرأة ببعضهم أن يستخدم مطلع الآية الكريمة شعارا و تحتها السيفين! و الآية هنا يا سادة لا تتحدث عن الحرب ، و لكن عن تحقيق سلام القوة و تجنب الحرب و ويلاتها من خلال إكتساب القوة الرادعة ، و لا حديث عن الحرب ذاتها، و لا عن "الإرهاب" بمعناه الزمني اليوم ، و لكن الآية تحدثنا عن مفهوم "الردع السلمي" ، و هو الأسلوب الذي اتبعته أمريكا و الاتحاد السوفيتي مع بعضهما البعض خلال الحرب الباردة ، لأنهما حافظتا على موازين قوة ، تجعل حرب كل منهما مع الآخر مهما تفوق عليه، شيء مدمر فوق تخيل البشر، و لهذا لم تسخن الحرب الباردة ، و لن تتحرر الأرض الفلسطينية اليوم ، إلا لو امتلك العرب من أسباب القوة و مقوماتها ما يحرر الأرض بدون قتال، فعندما تمتلك القوة، تستطيع أن تجلس لمائدة المفاوضات، و غريمك يكره أن تقوم من عليها بغير اتفاق، و لكن حين تجلس في موقف الأضعف الغير واثق بقوته، فلا تكون المحصلة أكثر مما حصلناه بداية من "كامب ديفيد" و حتى اليوم ، و لم يفهم الدرس غير إيران التي تسعى حثيثا لامتلاك قوة الردع النووي ، و يوم تمتلكها ستتغير موازين القوة بالمنطقة ، و الآية تدعو المسلمين لزيادة الانفاق العسكري و عدم البخل عليه بالمال، لان الانفاق العسكري هو الحامي الحقيقي للسلام، و ذلك بقوله تعالى "وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" و الناس لا تحتاج للتشجيع على الانفاق العسكري في غير وقت السلم، لان الضرورة في الحرب تجبرهم على ذلك، فلا الآية دعت للحرب و لا للإرهاب، و لكن لامتلاك القوة الذي يحمي السلام ، و الإرهاب فيها ليس بمعنى الإرهاب في زماننا، و لكن بمعنى الردع، و هذا معناه الحقيقي، لأن مصطلح الإرهاب المعاصر هو أمر اخترعناه للتدليل على ما كان يسمى قديما بالحرابة ، و هو الخروج عن القانون بقوة الميليشيا لهدف مادي أو أيديولوجي كالخوارج مثلا ، فالأصل في الفعل "أرهب" هو أثار الخوف و الخشية، و هذا ما نستخدم له اليوم لفظ الردع اصطلاحاً ، أما الإرهاب المعاصر فهو التدمير الفعلي و ارتكاب فعل القتل ، و قتل المدنيين تحديدا، و هو ما نهى الله عنه في كتابه، و نهى عنه النبي الكريم كلما عقد راية أو أطلق سرية

أما المأفونين و المجانين، فترى بعضهم يقول بأنه يتعين علينا أن نترك العالم في التقدم النووي و النيوتروني و نعد نحن لهم المفاجأة الكبرى، نربي الخيول و نسن السيوف، لان الحضارة ستنهار قريبا!!! و سوف يسود العالم من لديه الخيول و السيوف!!! فبماذا يرد على هذا الساذج؟ أشهد الله الحي القيوم أن بأمثاله من المهاويس تخلفت هذه الأمة و تأخرت و استقرت في قاع العالم، و بأمثاله سمينا ارهابيين ، و الارهاب ما هو الا سلاح الضعيف المقهور الموشك على الانهيار، إن المجانين الذين يسطرون الكتب عن "آرامجدون" و التي صحفت للعربية "هرمجدون" هم سر تخلفنا و خيبتنا بين العالم ، و لا أساس لأقوالهم من القرآن أو صحيح السنة في قليل أو كثير ، فآرامجدون اعتقاد كتابي تسرب للإسلام، و ليس اعتقادا إسلاميا ، فنهاية الأرض في الإسلام و القرآن ليست إلى دمار، و لكن إلى سلام شامل و ازدهار كامل، و دليل هذا في الآية الكريمة "حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" فهذه الآية تتحدث عن عهد ازدهار تزدهر فيه حضارة الإنسان، و ليست عن أرض مزروعة كما فهم البعض من لفظها المباشر، فظن البشر أنهم قادرون على الطبيعة جديد جدا و مازال في مهده بعصرنا الحديث
و دليلنا القطعي على أن الآية تتحدث عن امتلاك القوة لتوجيه دفة السلام لصالحنا، هو الآية التالية لها و فيها يقول تعالى "وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ" فهذا هو الأمر ، امتلاك القوة لردع العدو حتى يجنح للسلام، فلو جنح للسلام قبلناه منه و كنا له نميل و ننحاز، للسلام القائم على التكافؤ، لانه وحده هو السلام العادل الذي لا تقبل فيه بصفقة المغبون ، فالسلام غاية المؤمن ، على ألا يكون سلاما على حساب الشرف و الكرامة و الاستقلال و الحرية الكاملة








قال تعالى " إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" يونس:24
في هذه الآية الكريمة، يخبرنا الله تعالى بحقيقة بغاية الأهمية، تنقذنا من ضلالات كثيرة، و تؤثر في حياتنا أيما تأثير، و الحقيقة أن دنيانا هذه كانت مع بداية خلق الإنسان بدائية عنيفة و دامية، كئيبة كالأرض الخالية من الحياة ، ثم أعان الله البشر بالعديد من نعمه كما يرسل المطر على الأرض القاحلة "إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ" ، و بهذه النعم، و عاما بعد عام، يتطور الإنسان و يتقدم، حتى يأتي زمان يصبح فيه العالم كله في حالة استقرار اجتماعي و وفرة في الانتاج و عدالة في التوزيع ، و يتحقق السلام العالمي، و تكون الأرض أقل مرضا و أقل فقراً و أقل شروراً، حتى يحسب الانسان أن قدرته على استقرارها قد تمت، " حتى إذَا أخَذَت الأرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أهْلُها أنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا" ثم تبقى الأرض مستقرة كهذا ما شاء الله لها الاستقرار، لثبوت نجاح تجربة الإنسان، و التي نفى الله عنها الفشل و استمرار الهمجية حين قال الملائكة بذلك، فأجابهم الرحمن أنه يعلم من امكانات هذا الكائن الجديد التي منحها اياه مالا يعلمون ، و بعد هذا يأت أمر الله بالقيامة "أتاها أمْرُنا لَيْلاً أوْ نَهاراً" فلا الإنسانية ستنحط، و لا الدنيا سترتد للقرون الوسطى كما يتوهم المتخلفون، و الذين لا زالوا يعيشون في هذه القرون بالفعل، و ياكل الحقد على البشرية كبدهم، فيقولون بردة الحضارة، فالحضارة لن ترتد أيها المرتدون، بل ستتم نهضتها بأمر ربها و إذنه












و لننظر لحالنا اليوم، الحروب مازالت موجودة، لكن عدد ضحاياها عالميا يقل عاما بعد عام، المرض موجود لكن البشر يتغلبون عليه و يطهرون الأرض منه مرضا بعد مرض، الفقر ما زال و لكنه في تناقص ، و ما النماذج بأعلى، من سيطرة على الجذام و القضاء عليه، و من تطور التقنية و الاتصالات، و من ارتفاع معدلات عمر البشر، الا امثلة حية ناهضة على ذلك ، فالنصر للحياة و الإنسان رغم أنف كل أعداء الحياة و الإنسان ، قد يبدو هذا الوضع مخالفا في البلاد المنكوبة بأعداء الحياة مثلنا ، و لكننا لسنا العالم يا سادة ، و ذات يوم سنخرج من ظلامنا و جهالاتنا لنور الفجر يغرد في أعيننا







قال تعالى " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ" يوسف:22

في معرض قصة سيدنا "يوسف" عليه السلام، يعطينا الله في هذه الآية لمحة شديدة العمق و عظيمته، و هي التمييز بين "الحكم" و هو الحكم على الأمور و القدرة على اتخاذ القرار الصائب و الموافق لمقتضى الحال، و بين العلم، و هو العلم بشتى ضروبه، و المعني هنا بالطبع ليس علما تقنيا أو فنيا، و لكنه العلم بالدنيا و أحوال الناس و المجتمعات و ما إليه من علوم إنسانية، و نحن ننظر في الحياة، فنجد من لديه القدرة و الحمية لاتخاذ القرار، لكنه يقرر بغير علم، فيؤدي قراره هذا إلى بوار، و نجد كذلك من لديه العلم و القدرة على فهم الأمور، لكنه مزعزع و عاجز عن اتخاذ القرار ، فقدرة الحكم في الأمور مما يعرض لنا بالقرار، و قدرة العلم و الفهم قدرتان متباينتان، و من يؤت كليهما فقد أوتي من الخير الكثير و الوفير

قال تعالى " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ * تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ" إبراهيم:24، 25، 26
تضرب الآية الكريمة مثلا رائعا لكل من الكلمة الطيبة و الكلمة الخبيثة، فالكلمة الطيبة ، و إن كان المفسرون فسروها بالإيمان أو المؤمن ذاته، إلا أننا نراها أوسع من هذا نطاقا، و لا نجد كذلك داعيا من السياق و لا موضوع الآيات لتأويلها على غير معناها الظاهر، هي الكلمة الطيبة، التي تترك أثرا حسنا في نفوس من يتلقاها، قريبا كان أو بعيدا، فالطيب من الكلام و شيوعه في أي وسط او محيط، سواء كان محيطا لأسرة أو لعمل أو غير ذلك، يخلق جوا من المودة و المحبة، و يتفرع أثره في نفوس من حولنا، و أصلها الثابت هو الفضل و الحسنات التي تعطيها قائلها، و فروعها التي لا تنتهي حتى عنان السماء هي أثرها في من تلقاها من الناس، و العكس تماما في الكلمة الخبيثة، و لعلي أضرب مثلا قد يجده البعض غريبا بعض الشيء، فلو عقدنا مقارنة بين كلمات البابا السابق "جون بول الثاني" حين اعتذر عن الحروب الصليبية باسم الفاتيكان، و أقر بأنها كانت حروبا دنيئة لا تهدف لأي هدف سام، فأثلج صدور العديد من المسلمين و العرب بصفة عامة، و بين كلمات البابا "بينديكت السادس عشر" الذي حاول محاولات خائبة أن ينتقص من الإسلام، فلم يشوه الإسلام و تشوه هو، و ساءت صورته عند المسلمين و غير المسلمين، إلا من كان متطرفا و متعصبا ضد الإسلام من مهاويس الضد-إسلامية و الدمويين الذي يعشقون زراعة الفتن بين الشعوب ، فماذا لو ألزم كل منا نفسه قدر جهده بالكلمة الطيبة؟ فيصير لنا في كل قلب شجرة وارفة من الحب و التقدير، و يمتلأ قلبنا كذلك بحب الغير، أفلا تكون الحياة أفضل بتغيير ميسور هو السيطرة على اللسان و الجنان

2.8.08

لآليء القرآن-06

قال تعالى "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ" الأنعام:125
لهذه الآية و لصحة فهمها دور كبير في فهم صحيح الدين، و هو ما سنستوفيه في باب الأمانة و الإختيار الحر من الجزء الثاني من عملنا هذا، لكننا هنا أردنا التنويه سريعا على نوع الإرادة الإلهية بالهداية و الضلال، و عن أساسها و وسيلتها حتى لا يقول قائل: لو كان الله يهدي بمشيئته و يضل بمشيئته ففيم العذاب؟ و لقد أضل هذا اللبس خلقا كثيرا، و إن كان شطر الآية الثاني يبين لنا أساس الإرادة الإلهية و وسيلتها، و بداية نقول، أنه سبحانه قد شاء لنا المشيئة و الاختيار، فلم يجعلنا مسيرين و لا مجبولين، و من هذا قوله تعالى "وما تشاؤون الا ان يشاء الله ان الله كان عليما حكيما" الإنسان:30، و بعد هذا، و باستخدام نعمة العقل و الضمير، يمكن للإنسان أن يهتدي لطريق الخير و الحق لو سمع لصوت الحق داخل عقله، فيكون للإيمان أقرب، و يجوز له ألا يفعل، فيكون للضلال أقرب، و هنا يساعد الله من سمع صوت الحق بداخله بأن يهيأ عقله للوصول للحقيقة بصورة أكمل و أوفى، و من قوله تعالى "يشرح صدره" و العكس بالعكس، و دلالة ذلك ، قوله تعالي "كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" فالرجس لغة هو كل سلبي من الماديات أو المعنويات، فهو القذارة و هو الضلال و هو النجاسة المادية، و ما إليها، فهنا يوظف الله السلبي من الأفكار و الطروح لتسيطر على عقل من أهمل صوت الحق في ضميره أولاً، و لا يفعل الله هذا مع كل إنسان على حدة، و لكنه وضع آليته هذه في الكون و في خلق الإنسان، فتجد من يجد في طريق الخير، يسهل الخير عليه مع الوقت، فيهون عنده المال مثلاً ينفقه في وجوه الخير و البر، و تجد من تغلبه الأثرة بقراره الشخصي في البداية، تسيطر عليه المادة بآليات الحياة، فيصبح مسخراً لها، و الله لا يفعل هذا بصورة انتقامية من فرد بعينه، تعالى الله عن ذلك، و لكنه يحقق القاعدة من خلال قانون التراكم
قانون التراكم
من يرتاد علب الليل يتكون له أصدقاء مع الوقت من روادها، و مرحلة بعد مرحلة، يصبح مجتمعه كله على شاكلته، او أدنى، اما من هو أفضل فينفر من سلوكه هذا، و مع الاحتكاك بالأسوأ، يسهل على الفرد أن يرتكب الأسوأ من الأفعال، فلا يقتصر على السكر مثلا و يضيف إليه معاشرة البغايا، و هكذا، تتراكم عليه الانحرافات، و ينغمس فيها حتى يعتادها، فتحكمه بحكم الشهوة و حكم العادة معا، بعد أن كانت تحكمه بالشهوة فقط، و هكذا من سيء لأسوء في أغلب الأحيان ، و الأمر ذاته ينطبق على طريق الخير و النماء، و هذه هي الآلية الربانية التي جعلها الله في الكون لتضل من يرد لنفسه الضلال، و تهدي من سعى للهداية، فالله يضل هذا بما أراد و فعل، و يهدي هذا بما أراد و فعل، و هذا ما نجده واضحاً في الآية التالية من سورة الأنعام ذاتها "وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" الأنعام:126، فالله قد فصل لنا معالم طريق الصلاح بحياتنا، و جعل صراط الحق و الخير و الجمال جليا واضحا، ينتهجه من أراد، فيعينه الله عليه بتعود الخير و مراكمة عناصره و مواطنه مع الوقت، كذلك نجد الآية التالية تقول "لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" فالله ولي من يعمل الخير، يعينه عليه، و الله أعلم ، و لا شك أن مبحث الجبر و الاختيار أوسع من أن نحتويه هنا

الحجة البالغة
تعضد سورة الأنعام معنى الاختيار للإنسان بين الضلال و الهداية، في آيتين لاحقتين، فيبين الله الفارق بين الفهم الخاطيء لهداية الله و إضلاله للمرء، و الفهم الصحيح لها، فيقول تعالى "سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا" فهذا الفهم ، بأن الله يضل المرء إجبارا بمشيئته تعالى هو فهم الشرك، لكن الفهم الصحيح يكون كما تبينه الآية التالية، و هي أن الله بيده الحجة البالغة، فقال تعالى "قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" و هذه الحجة البالغة هي إكراههم على الهداية لو أراد جميعا، أو الإتيان بمعجزة لا جدال بعدها، فكل هذا في قدرة الله اللا-محدودة، لكنه سبحانه أراد لنا الاختيار، فهدي من هدي و ضل من ضل بهذه المشيئة، و جعل في طبيعتنا قانون التراكم كما سلف، ليساعد كل من المهتدي و الضال في الطريق الذي يختاره لنفسه

قال تعالى "وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ" الأنعام: 133

قلنا سابقاً أن الله تعالى قد استخلف الإنسان في هذه الأرض ككائن مبدع خلاق، و خلافته تعالى تكون بإعمار الأرض، و هنا يقول لنا الله تعالى ما يفيدنا بأننا معشر الإنسان ، و إلينا يتجه الخطاب في الآية السابقة، لسنا أول و لا آخر حلقة متحملة لمهمة الخلافة في تاريخ الكون، فالله أبدي أزلي، و الكون بلا حدود و بلا نهاية، فمن الحمق أن نعتقد أننا غاية هذا الكون وحدنا من الأزل و إلى الأبد، و في هذا الكون ذي العوالم المتعددة، و لقد فسرت التفاسير القديمة الآية بأنها خطاب لقريش ، و هذا ينقضه أمران ، الأول أن الخطاب في الآية الاسبقة لها، و التي تستمر هذه الآية لتتم معناها، موجه لمعشر الجن و الإنس ، و ثانيهما أمر لغوي بلاغي، فلو أراد سبحانه معنى استخلاف قوم من البشر بعد قريش، لاستقامت الجملة بلاغيا كما يلي: "و يستخلف من بعدكم من يشاء" لأن من هي للعاقل المعلوم كنهه من الإنس و الجن ، أما "ما" فتستخدم لغير العاقل، أو للمجهول كنهه و طبيعته، كقوله تعالى "و يخلق ما لا تعلمون" ، و لما كان الحديث هنا عن الاستخلاف في الأرض، فالحديث عن غير العاقل مستبعد، لأن غير العاقل لا يكون خليفة لله في أرضع بالعمران ، فلا يبقى إلا أن يكون عاقلاً من غير الإنس و الجن، مجهول الكنه و الطبيعة لنا نحن البشر، و قد سبب الخلط هنا نهاية الآية التي تقول "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" فاستدل بها المفسرون أن الحديث عن قوم محل قوم، لأن بداية الإنسان كانت آدم و هو لم يأت من ذرية قوم آخرين ، و لهذا حديث يضيق به المقام هنا، و نتحدث عنه في حينه من كتابنا بإذن الله


قال تعالى "وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ" الأعراف: 46
العرف في اللغة هو كل مرتفع عما يحيط به، فهو الأرض المرتفعة أو المكان المرتفع، و الآية تخبرنا عن حجاب بين النار و الجنة في أولها، و قد يكون هذا الحجاب أي شيء يحجب رؤية الجنة و طبيعتها عن أهل النار، و العكس صحيح، و ليس بالضرورة السور التقليدي الذ تخيله المفسرون القدماء، فقد يكون سوراً أو لا يكون، ثم تخبرنا الآية عن قوم على الأعراف أو المرتفعات، و قد ربطت التفاسير القديمة الأعراف بهذا الحجاب، فقالت أن الأعراف حجاب بين الجنة و النار، و هو ما نراه غير متوافق مع البناء اللغوي للآية الكريمة، فإما أن تكون الأعراف كمنطقة وسطى بين الجنة و النار من حيث ساكنيها، جزء محدد من الحجاب، أو لا تكون على علاقة بهذا الحجاب، لهذا لزم تحديدها، و لو كانت مرادفا له ما حددت في اللفظة التالية، و لكان السياق الأقرب "و بينهما حجاب و عليه رجال" فالإطناب و آلياته ليست معتادة في لغة القرآن، و كل لفظة لها معناها اللغوي و البياني ، و الغالب في أهل الأعراف أنهم قوم تساوت موازينهم بين الخطأ و الصواب، أو قاربت من التساوي، فلم يستحقوا في حكمه تعالى عقاب النار أو ثواب الجنة ، و هناك حديث نبوي شريف يقول عنهم "هُمْ آخِرُ مَنْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ مِنَ العِبادِ، وَإذَا فَرَغَ رَبُّ العالَمِينَ مِنْ فَصْلِهِ بينَ العِبادِ، قال: أنْتُمْ قَوْمٌ أخْرَجَتْكُمْ حَسنَاتُكُمْ مِنَ النَّارِ وَلمْ تُدْخِلْكُمُ الجَنَّةُ، وأنْتُمْ عُتَقائي فَارْعَوْا مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتُمْ" فهو تعالى يغلب جانب الرحمة فيعتقهم من النار و يدخلهم الجنة
و لهذا، فما جاء في القرآن من المصائر للناس يوم الدين، هو إما عذاب لمن غلب الشر على الخير في عمله، و من الشر الكفر بالله استكبارا بعد أن يقتنع المرء و يسمع صوت الحق بداخله، أو الثواب لمن غلب الخير الشر في عمله كمجمل أعمال، فكان أثره على الدنيا و على الخلافة في الأرض موجباً، و إما الأعراف لمن تساوت سيئاته و أعماله، أما منطق قضاء عقوبة مؤقتة في النار ثم العتق و الإفراج و دخول الجنة، و هو اعتقاد شائع لدى الكثيرين، فهو ما لا نجد عليه في كتاب الله شاهدا، إلا ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى "ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً" و هذا حديث عن الصراط و ليس عن النار ، فلا يدخل النار إلا آبد فيها و لا يدخل الجنة إلا آبد فيها، فكلاهما دار بقاء ، و أما القول بالعذاب المؤقت هذا فهو قول المشركين حين حسبوا أن العذاب لا يمسهم إلا أياما معدودات، فكذب الله زعمهم، و ذلك في قوله تعالى "وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" البقرة: 80

قال تعالى "قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" الأعراف: 188
في هذه الآية الجليلة، يأمر الله سبحانه و تعالى نبيه و رسوله و المصطفى من خلقه صلوات الله عليه و سلامه، أن يجيب من يسأله عن علم الساعة و تحديد موعدها، برد ذلك لله كما في الآية السابقة، ثم الاقرار لذاته صلى الله عليه أنه بشر مجرد من كل قداسة أو خصوصية تنفي بشريته و تقيده بعلم الشهادة ، و بلأنه كبشر أمره و حياته و نفعه و ضره بيد الرحمن سبحانه، و لا يملك من أمر نفسه شيئاً ، فلو كان هذا هو حال النبي، فهل لنا بعد هذا أن نثق بكلام كائن من كان من أرباب الطوالع أو قراءة الكف أو الودع أو غيرها من الخرافات التي تروج في العالم عامة و لدينا خاصة؟ كل ما هو مستقبلي، يخرج عن اطار علم البشر، كل البشر، و لا يعلمه إلا الله، لأنه سبحانه و تعالى خارج منظومة الزمان، فهو خالق الزمان و آلياته النسبية، و الله ليس متزمنا بزمن، لذلك لديه علم الغيب ، فلا يؤمن بهذه الآية الكريمة من يؤمن بقدرة دجال على معرفة شيء غير ما يشهد من الحوادث مثله مثل غيره ، كذب المنجمون و لو صدفوا، ثم يعطينا الله دليلا عقليا على استحالة معرفة بشر لعلم الغيب، بقوله تعالى "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ" و هو أن من يعلم الغيب يستطيع أن يستأثر بخير الدنيا لنفسه دون غيره، فلو كان هناك من يعرف المستقبل و يتكهن به، و بدأ بعدة مئات من الدولارات في البورصة العالمية، أفلا يصبح مليارديرا خلال فترة وجيزة من الوقت؟ فلماذا يضطر من يدعون هذه القدرة لإرهاق أنفسهم بتقديم خدماتهم الغيبية لقاء بضعة جنيهات أو حتى آلاف الجنيهات؟

قال تعالى " خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ" الأعراف:199
في هذه الآية الكريمة، يأمر الله رسوله بثلاثة أمور، أولها أن يختار العفو على الناس، و العفو على من أساء ما كان للعفو طريق، فلو خير بين أمرين يأخذ أقربهما لروح العفو صراحة أو ضمنيا، كلياً أو جزئياً، و هذا يفسر تسامحه صلى الله عليه في أمر من جاءه يقر بالزنا، فأخذ بسأله "لعلك قبلت ..... لعلك كذا و كذا" و كذلك المرأة التي جاءته محصنة مقرة بالزنا فأخرها لتلد، ثم لترضع ابنها، ثم لتربيه حتى يشتد عوده، و كان بكل مرة يعطيها فرصة لتذهب فلا تعود، لكنها تابت توبة تسع أهل الأرض، فأصرت على العقاب كفارة لذنبها، فهذه كانت خلق النبي في تطبيق الشريعة، و لو أننا نعلم ان خلق غيره اليوم ستتسع لهذا القدر من العفو لرحبنا بدعوة دعاة تطبيق الحدود، فلم يكن نبي الله متعطشا لغير العفو، أما من يطالبون اليوم بالحدود فلا يتعطشون لغير الدم و الرجم ، و مثل العفو في الحدود، يكون العفو و التسامح في المال، فالعفو في تحصيل المال هو التسامح فيه و في اقتضائه، سواء كان المال هو مال الزكاة، أو مال مقترض، أو غير ذلك ، ثم يأمر الله نبيه أن يأمر بالعرف، و قد سبق أن شرحنا قاعدة المعروف و المنكر النسبية في القرآن و بينا أن المعروف في زماننا هو القانون الذي تعارف عليه فقهاء الأمة من القانونيين و نواب الشعب، فكأن الآية أمر للرسول أن يأمر باحترام القانون كواجب ديني ، ثم يأتي الأمر الأخير من الله لرسوله بالاعراض عن الجاهلين، و لما كانت الآية تأمر بالتسامح و العفو و احترام ما تعارف عليه الناس من خير، فلا نحسبن الجاهلين في هذا الموضع، الا المتشددون فيما يرونه الحق، و هواة المخالفة للناس و المجتمع لمجرد المخالفة، فترى الجاهل منهم يرتدي زيا بدويا سعوديا، أو زيا باكستانيا أو أفغانيا!! و هو أمر لا هو من الدين، و لا هو من العرف، و لا هو من الانتماء و التناغم مع المجتمع ، أو تراه ينقب زوجته بتغطية وجهها، و هو جهل لأنه ينفي المسئولية الجنائية ، بطمس الشخصية و الهوية ممثلة في الوجه، فلو ارتكبت منتقبة أو منتقبا جريمة نكراء أمام الناس و فر أو فرت، لن يكون هناك شهود على أوصاف الجاني ، و طمس الهوية و المسئولية الجنائية بالتبعية هو أمر منكر و من الواجب منعه قانونا في أي بلد يحترم القانون، و للمرأة أن تغطي عدا وجهها ما شاءت، و عموم القول أن الجاهل هنا هو المخالف لمجتمعه في غير الحرام، فالمخالفة في الحرام واجبة، أما المخالفة للمخالفة فهي شذوذ منكر، و المتنطع البعيد عن العفو فيما يخص خلق الناس و أعمالهم

قال تعالى " وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ" الأعراف: 205
الآية واضحة غنية عن الشرح ، و فيها أمرنا بالإكثار من ذكر الله في أنفسنا، و ليس على الملأ من الناس أو أمام العدسات و أضوائها المبهرة ، و أن نفعل هذا صباح مساء، بدون الجهر مثلا بقولنا "سبحان الله" بين كل كلمة و أخرى كلازمة إعلامية تسويقية يقصد منها الارتباط بالداعية في ذهن السامع ، و إظهار شدة الورع و التقوى ، حتى نقبل من المتحدث أي كلام هش و متداع يصدر منه، دون تمحيص و تدقيق، لانه يخضعنا بهذا لمؤثرات نفسية هستيرية تغشى على عقلنا، و دلالة الآية واضحة جلية، الله يريدنا عبادا مخلصين و لسنا أفاقين منافقين إعلاميين ، و ذكر الله منه بالطبع البسملة و الحوقلة و التسبيح و الحمد، و لكنه ليس بقاصر على هذا، فالتفكر في كتاب الله ذكر لله وجوبا، و النظر في كونه و في أنفسنا ذكر لله بتأمل بدائع خلقه ، و في هذه الآناء مع التفكير العميق، تخرج الحوقلة و الحمد منا عميقة أشد العمق، مع لحظة اكتشاف معنى جديد يكمن في آية، او عبرة في مشهد من الحياة




قال تعالى "إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" الأنفال:22
تحدثنا الآية عن فئة من الناس، لو أردت أن تحاورها فيما فيه صلاح أمرها، لا تنصت إليك و لا تسمع و لا تحاور، و لكن تتصلب على رأيها كأن بهم صمم ، و لا يقولون جديدا إلا تكرار كلمات حفظوها كالأبكم يكرر حرفاً أو حرفين، و منهم اليوم، الجامدين في فهمهم لدينهم على ما وجدوا عليه آباءهم، فلو قلت لهم هلموا للحوار العاقل، لا تخرج من حوارهم بشيء إلا ترديدهم ما حفظوا عن ظهر قلب، ثم تسوق لهم الدليل تلو الدليل، فلا تجد منهم أذنا صاغية، أولئك شبههم الله أفضل تشبيه و هو تشبيههم بالدواب، ذلك أنهم ألغوا الميزة الإلهية التي منحها الله جل و علا للإنسان، و هي العقل الناقد الذي يفرز ما يسمع فيكشف منه الغث من السمين