21.3.09

سبع شرقاوي


آخر أبطال الوجدان الشعبي ضد الاحتلال
منين اجيب ناس لمعناة الكلام يتـــــــلوه
كلام قالوه ناس وياما بكرة ناس يقولوه
القول على سبع .. لكن سبع شرقـــاوي
الاسم لادهم ولكن نأبه شرقـــــــــــاوي
حكايته ياللعجب فيها العقــــــــول بتتوه
هكذا غنى "عبد الحليم حافظ" ابن قرية الحلوات في محافظة الشرقية من كلمات الشاعر الشرقاوي "مرسي جميل عزيز" موال آخر الأبطال الشعبيين في تراثنا، والذي كان كفاحه الذي أسبغه عليه الخيال الشعبي موجها ضد الاستعمار الانجليزي، وكانت نسخة "حليم" هي النسخة الثانية غنائيا بعد موال "محمد رشدي" عن الشرقاوي والذي غناه عام 1962م ، و قال في مطلعه

منين أجيب ناس لمعنات الكـــلام يتلوه
شبه المؤيد إذا حفظ العلــــــــــوم وتلوه
الحادثة اللى جرت على سبع شرقاوى
الاسم أدهم لكن النأب شرقــــــــــــاوى
مواله أهل البلد جــــــيل بعد جيل غنوه



وقد علمت من زوجتي مؤخرا أن اسم النبي حارسه وصاينه الفنان "محمد رجب" الذي أهابت به "هيفاء وهبي" أن يتكرم فيحوش صاحبه عنها، قد تطورت بطولته ما شاء الله ليمثل النسخة الثالثة من دراما أدهم الشرقاوي بعد نسختي "عبد الله غيث" في الستينات و"عزت العلايلي" في مسلسله في الثمانينات، وعموما التدرج بين غيث والعلايلي ورجب يناسب انتكاساتنا من الستينات للثمانينات للألفية الجديدة




أما عن بطلنا الشرقاوي، فالمفارقة الأولى فيه أنه لم يكن شرقاويا، أو بالأدق لم يكن شرقاويا مباشرا، فقد ولد وعاش في قرية من قرى مركز إيتاي البارود هي قرية زبيدة، أي أنه كان بحراويا، لكن البادي من لقبه أن له أصول شرقاوية نزحت من تلك المحافظة ذات الأصول العربية إلى البحيرة ذات الأصول العربية كذلك، والتصاهر والهجرات بين المحافظتين ذات العرق العربي كانت متصلة، فهو برأينا شرقاوي مستبحر أو بحراوي ذو أصول شرقاوية، وقد ولد كما تقول مراجع الشرطة عام 1898م، وقتل برصاصات الغدر عام 1921 وعمره 23 عاما فقط لا غير، فما حكاية البطل الشعبي "أدهم عبد الحليم عبد الرحمن الشرقاوي"؟ الذي جعل منه التراث الشعبي المصري آخر ملاحمه؟

كان فتى قويا يملك تلك القوة الاستثنائية المسماة في الريف بعرق الصبا، قوة عضلية ربانية ليست مؤسسة على ممارسة الرياضة، وقال بعض معاصريه أنه كان يرفع حجر الطاحونة بيديه ويكسر فروع الأشجار الغليظة بيديه العاريتين، كما كان يجيد ركوب الخيل كعادة أبناء الأسر الموسرة من محافظة البحيرة في ذلك الزمان، وقد تورط "الأدهم" في البطولة تورطا غير مقصود على عكس ما جاء في الموال والسيرة الشعبية، فعندما كان أدهم الطالب في مدرسة الشوربجي بكفر الزيات في عمر المراهقة، قتل القاتل المحترف "عبد الرؤوف عيد" عم ادهم الشرقاوي، الحاج "محمود الشرقاوي" الذي ظلمته السيرة الشعبية بادعاء شهادته ضد ابن أخيه في المحكمة، وهو من كان مصرعه بداية طريق أدهم مع الشقاوة، وكان القاتل المحترف قد قتله بايعاز من "إبراهيم بك حافظ" صاحب الأرض المتاخمة لأرض عم أدهم، والذي رفض بيعها له فقتله، وقد صمم أدهم على الأخذ بثأر عمه من البك الباغي، والذي وصله عزم الفتى، فاكترى قاتلا محترفا ليقتل أدهم، لكن أدهم تمكن من خطف بندقية القاتل المحترف وقتله بها، فحوكم في هذه الجريمة ودخل السجن، وقيل أن سجنه وهو في حالة دفاع شرعي عن النفس كان بإيعاز من البك القريب من السلطة والانجليز، وفي السجن صادف "أدهم" قاتل عمه الأجير، فقتله، وقد نقب جدار الزنزانة في سجن المركز البسيط وفر مع مجموعة من المساجين للصحراء المتاخمة لقرى البحيرة، وهناك سكن مع هؤلاء الذين صاروا عصابته في أحد كهوف الصحراء الغربية، وتمكن من تسليح عصابته بسرقة سلاحليك مركز ايتاي البارود ذاته، واحترف أدهم وعصابته السطو على الأغنياء والمرابين، لكنه لم يسط أبدا على بهائم الفلاحين الغلابة، ولهذا فقد رد له البسطاء الجميل الذي أسداه بالكف عنهم، فحولوه من خارج عادي على القانون إلى بطل مناضل ضد الاستعمار، خاصة وقد ألهبت قصة هروبه من السجن واستيلائه على السلاح خيال الفلاح لأبعد حد، وفي عام 1921 تمكنت قوة بوليس مصرية من العاصمة من حصار أدهم وعصابته في الصحراء، وقتل أدهم برصاص هذه القوة البوليسية المصرية، وليست انجليزية، وكان هذا الاهتمام الزائد بالخارج الريفي عن القانون على إثر قتله لنسيب وزير الأوقاف وقتها لسبب غير معروف

وسيبقى الجدل للأبد بين من يقولون أن أدهم كان بطلا ومن يرونه خارجا عن القانون حتى وإن اعتاد توزيع اللحم والمال على أهل بلدته في المناسبات الدينية والأعياد، والحقيقة أن أدهم في ذلك مثله كمثل "ياسين" الصعيدي الذي تمرد على السلطة الجائرة، ومثل "علي الزيبق" و"حسن المغنواتي" وغيرهم كثيرون، فكل من تمرد على التابو الاجتماعي أو بالأحرى على السلطة الجائرة التي اعتاد الفلاح المصري الخضوع والرضوخ لها إلى مالا نهاية، يرى فيه الفلاح المصري تعبيرا عن الثورة المكبوتة في صدره، ويراه بطلا خارقا لأنه فعل ما لم يفعله غيره من ملايين الخانعين من الرجال بطول الوادي وعرضه، وفي المقال القادم نتناول سيرة "ياسين" البطل الأقدم من أدهم في الخيال الشعبي، والصعيدي الأسمر الذي "قتلوه السودانية يابوي من فوق ضهر الهجين" كما غنت ليلى مراد في الزمن الجميل

14.3.09

حوار مع صديقي المؤسف


قصة قصيرة

كانت الشمس غائبة خلف تخوم السحب في هذا اليوم الشتوي الطقس من يناير، ودرجة الحرارة خارج السور الزجاجي للمقهي منخفضة للحد الذي جعل الدكتور "عماد عز العرب" - أو "ع ع" كما يسميه طلبته بقسم الفلسفة بكلية الآداب - يتنازل عن فكرة الغذاء في مطعم السمك المفضل لديه في حي بحري ويكتفي بشيء من الباتيه مع الشاي، فالجو منذر بمطر غزير، وعليه أن يقف بسيارته بعيداً عن المطعم لأن الشارع الضيق الذي يقع به المطعم لا يتسع لوقوف السيارات على جانبيه وإلا ناوشتها القبلات جانبية من عربات الكارو، تلك التي تحمل السمك من حلقة الانفوشي التي كانت يوماً شهيرة تكتظ بروادها قبل الانفتاح، والسير على الأقدام في شوارع بحري النصف ممهدة بعد المطر ليس بالشيء الجيد من وجهة نظر البنطلون والحذاء

بينما كان "عماد" يتناول الباتيه ويرشف الشاي، دخل المقهى رجل ملتحٍ يرتدي جلباباً قصيراً يعلو كعبه بمسافة تبلغ عشرين سنتيمتراً على الأقل، وتغطي لحيته النصف الأعلى من صدره، بينما تغطي رأسه عمامة مكونة من طاقية حجازية لف حولها شالاً أبيض تدلت ذؤابتاه على كتفه، أشاح "عماد" بوجهه عن الداخل فنظر نحو البحر، لا يخفي امتعاضه من التطرف بكل أشكاله، سواء حمل المتطرف فوق صدره سواكاً في جيب جلبابه أو صليباً في سلسلة ضخمة، يحترم بالطبع حرية المظهر للجميع، ولا يريد لأحد أن يمنع المسلم أو المسيحي من ارتداء ما يشاء وقتما يشاء، لكنه يرى في هذه المظاهرات الدينية التي تسود البلد في الألفية الثالثة نذير شر مستطير، المسلم يرص فوق زجاج سيارته إشارات دينية مختلفة ويعلق مسبحة في مرآتها، والمسيحي يلصق سمكة على خلفية السيارة ويعلق صليباً في المرآة، مظاهرة يقول بها كل فريق للآخر "نحن هنا ونزداد عددا وقوة كل يوم" ، قرأ ذات مرة في جريدة الصباح عن قرار لوزير الداخلية بمنع الإشارات الدينية في وسائل النقل الخاصة والعامة، كان هذا القرار الحكيم منذ بضعة سنوات، لكنه لم، وبينما هو في هذه الخواطر المتتابعة ناظراً نحو البحر، أتاه سوط من يمينه قائلاً
- عماد عز العرب!

فالتفت و اذا بمحدثه هو صاحب الجلباب الأبيض واللحية الكثة نفسه، فأجاب والدهشة تعقد لسانه
- نعم، أنا عماد!
- أعرف أنك هو برغم ما فعلته بك السنون، يبدو أنك تزوجت وحملت الهم مبكرا مثلي

شعر بالحرج، فالبادي من "العشم" الذي يتحدث به الرجل أنه يعرفه حق المعرفة، وهو يشعر بألفة مع ملامحه خلف اللحية حين اقترب، لكنه لا يذكر اسمه ولا أين التقى به؟ لعله زميل دراسة قديم من المرحلة الجامعية أو الثانوية قبلها
- يخونك البسكويت وقطع الشوكولاتة "بيمبو" من كانتين مدرسة طنطا الثانوية بنين، أم أنك صرت سكندريا ونسيت طنطا وأهلها؟
يا الله، يتذكر الآن فقط من طريقة كلامه المميزة، هو "محمود نافع" بطل الملاكمة في مدرسته الثانوية، كانوا يطلقون عليه "محمود الثور" لقوته وقوة اندفاعه الشديدة الغير متعقلة، قام من كرسيه معانقاًً لزميله القديم ومعتذراً عن عدم التعرف عليه فورا، ومتحججا بالهيئة الجديدة التي اتخذها "محمود" لنفسه، فأجابه صاحبه قائلا
- ليست الهيئة وحسب، بل قلبا وقالبا والحمد لله، عقباً لك
آه، بدأ الصديق القديم في ممارسة واجبه الدعوي مبكرا جدا، هكذا فكر "عماد" بداخله، فاستقر رأيه أن الأفضل هو الاقتصار على الترحيب وواجب ضيافة سريع ثم ينسحب من هذا اللقاء قبل أن يتطور بينهما الحديث، فحديث الأضداد كما علمته التجارب ينتهي بجفاء على أقل تقدير، وقد ينتهي بمصيبة في بعض الأحيان، دعاه "عماد" للجلوس وهو يتمنى الاعتذار من الطرف الآخر، لكن "محمود" سحب الكرسي المقابل له وجلس بعد أن كوم الجلباب بيديه في حجره، قائلاً
- ياه .. والله زمان، كم وعشرون عاما مرت منذ كنا معا في الثانوية العامة؟ لقد دخلت أنت الآداب هنا في الإسكندرية وقتها، أليس كذلك؟
- نعم، وأنا الآن أستاذ مساعد في قسم الفلسفة بها، وماذا عنك أنت
؟
ضحك "محمود" بدون صوت قائلاً
- تعرف أيام الشقاوة يا صاحبي لا أرجعها الله، لم ألحق إلا بالمعهد الفني التجاري المجاور لمدرستنا بالكاد، لكنه كان فاتحة خير بفضل الله، ففي المعهد شرح الله صدري وأبعدني عن صحاب السوء، ثم وجدت نفسي في العمل الحر فتركت المعهد وتفرغت للتجارة، فبها تسعة أعشار الرزق

جاء الجرسون فوقف بأدب خلف "عماد" الذي التفت إليه ثم إلى "محمود" سائلاً
- ماذا تشرب يا "محمود" بيه؟
- قرفة باللبن إن شاء الله
- وأنا سآخذ قهوتي

انحنى الجرسون في أدب قائلاً
- أتحب الشيشة مع القهوة يا دكتور؟
- ليس بعد

انصرف الجرسون فقال "محمود" معلقا
- تبدو عميلا دائما هنا؟ أنا لا أجلس في المقاهي عادة، لكن الجو المطير اضطرني لذلك، صحيح، فلتنادني "محمود"، ولو كان لابد من الألقاب فلتكن الشيخ "محمود"، لقد ألغى صاحبك الألقاب منذ عقود، أمازلت ناصريا أم هداك الله؟
- هدانا الله جميعا لما يحب ويرضى، لم أكن ناصريا أبدا، فبرغم تقديري للرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" وقناعتي بسياساته وتوجهاته، إلا أني لا أحب الانتساب لفرد، سواء كان "ناصر" أو "ماركس" أو "ماو"
- أي توجهات وأي سياسات، لقد راح على يد "عبد الناصر" هذا رجال يساوي ظفر أحدهم رقبته، رحم الله الشيخ الشهيد "سيد قطب" صاحب الظلال العظيم

إذن فقد كتب القتال على "عماد" في هذا اليوم المطير، في حوار لم يكن متحمسا له، لكن ولم لا؟ لقد كتب "مصطفى محمود" كتابه "حوار مع صديقي الملحد" حين ظهرت نبرة إلحاد محدودة مع التطور العلمي، أما اليوم، وبعد اتفاقية "سادات-تلمساني" في سبعينات القرن الماضي، فقد تبدلت الدنيا، وارتفعت نبرة التطرف الديني لعنان السماء، وهذا لا يقل خطرا، فلماذا لا يقيم حوارا يكتبه وينشره؟ حوار مع واحد من هؤلاء الرجال المؤسفين، والذين اختزلوا صورة المسلم كما أرادها الله عز وجل لهذه الصورة الممسوخة اللا-إنسانية التي روجوا لها، هكذا قال عماد في سريرته وهو يخرج سيجارة من علبته ويشعلها، سحب نفساً وهو يعتدل فوق كرسيه متأهباً للحوار، وقال
- لكن "قطب" لم يعدم بسبب مؤلفه المتميز "في ظلال القرآن"، ولكن بسبب ضلوعه في مؤامرة عام خمسة وستين، فضلا عن تكريسه للإرهاب في كتابه المدمر "معالم على الطريق"، وضلوعه في المؤامرة ثابت باعترافه واعتراف غيره كما تعلم
- اعترافات تحت التعذيب
- و الكتاب؟ كتبه أيضاً تحت التعذيب؟
- كتبه وهو أسير في سجن النظام الكافر
-
يدهشني ذلك، فالنظام الذي يعذب السجناء لا يوزع عليهم أوراقا وأقلاما سواء كان نظاما كافرا أو غير كافر

أسقط في يد "محمود" من هذه الملحوظة الذكية، فتبدلت ملامحه من الحدة والحماس إلى صورة حانية وهو يقول
- أقلقتني عليك يا صديقي القديم، أعرفك وأعرف طيب سريرتك، لهذا أخشى عليك من شدة يوم عظيم، فحبك لمثل هذا الرجل يجعلك تحشر معه يوم الدين، ومثله يكون محشره عصيبا

ضحك "عماد" وهو يعجب من مهارة الزميل السلفي في تحويل دفة الحوار ، ثم قال والابتسامة لا تفارق وجهه
- حذار يا شيخ "محمود"، فأنت بهذا تحدد مصير الرجل يوم الحشر، وهذا أمر نهانا الله عنه، والرجل بين يدي ربه، إن شاء عذب وإن شاء غفر، فلا تنذرني بما لا تملك لنفسك منه نجاة

ظهرت على "محمود" علامات الحماس ثانية، فقد أعطته الجملة الأخيرة دلالة على خلفية دينية لدى صديقه القديم أغرته بالدق على وترها، فاقترب بجزعه من الطاولة التي تفصله عن "عماد" قائلاً بلهجة ودود
- صدقت، لهذا أقول أنك خسارة، ولكن سبحان الله، "إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ"، ماذا أقول لك يا صديقي، أسأل الله العلي القدير أن يهديك
كانت فكرة الحوار معه قد اختمرت برأس "عماد"، لهذا عاجله قائلا
- آمين، هل لديك ارتباطات اليوم؟
- أبداً، أتيت للثغر في عمل وانتهيت منه، وكان يجب أن أعود لطنطا لكن المطر حبسني عن العودة، ولا أحب العودة في الظلام، لهذا سأجد لي فندقا أقضي فيه ليلتي
- لك عندي إذن عرض لا يقاوم، مادمت متحمسا للدعوة لطريق الخير الذي ترى أنك تسلكه، ما رأيك لو قضيت الليل عندي ونتسلى بالحوار؟ هذا لو كنت مستعدا لحوار رجل حصل على الدكتوراة في فلسفة "ابن رشد" و"ابن طفيل"، ومن يدري، قد تقنعني
- أهلا بالحوار، لكن ألن يضايق هذا أسرتك؟
- لن يضايقهم لأنهم لم يوجدوا بعد
- لم تتزوج حتى هذه السن؟
- ولن أفعل، فما رأيك؟ أم تريد الانسحاب من المناظرة الودية؟
- لا يا سيدي، نبات شاكرين ونحاورك قادرين بإذن المولى عز وجل
- اتفقنا، نشرب القهوة والقرفة ثم نمضي للعشاء في المنزل ونمكل ليلتنا هناك

تعجب "عماد" لحماسه المفاجيء لاستضافة أحد الأصدقاء المؤسفين في بيته وإقامة حوار طويل معه! وهو من كان يرى في الحوار معهم مضيعة للوقت، ويتجنبه في الجامعة والمحافل البحثية والعلمية والأدبية التي يرتادها هنا وفي القاهرة، ربما أراد التأكد من نظرياته حول المحتوى الفكري لتلك التيارات التي تمور وتفور في مصر اليوم

جاء الجرسون بقهوة عماد وقرفة صديقه المؤسف كما سماه، ووضع كوبان من الماء المثلج على المنضدة، تناول "محمود" كأسه ورفعه إلى شفتيه بعد أن جمع لحيته الكثة وخفضها بيسراه، ولدهشة عماد بدأ صديقه يرشف الماء من الكأس بصوت مسموع، توقف بعد رشفتين وأبعد الكأس عن فمه ثم أخذ شهيقا عميقا وزفره، ثم أعاد الكرة ثلاث مرات قبل أن يضع الكأس على المنضدة وهو يمسح ما تسرب من خيوط الماء على لحيته، فلما رأى "عماد" ينظر اليه، ضحك وهز رأسه كالمتعجب من جهل صاحبه وقال
- مالك؟ أراك كالمشدوه
- ماذا كنت تفعل الآن؟ لماذا كنت تنفخ في الماء كأنك ساحر؟
- لا تتجاوز حتى لا تقع في محظور، فهكذا كان سيدك المصطفى يشرب الماء، ولم افعل إلا تحري سنته، حصلت على الدكتوراة يا رجل ولم تقرأ بديهيات دينك؟
- بديهيات الدين؟
- طبعاً فقد روى "البخاري" في صحيحه عن "أنس بن مالك" أن الرسول أمرنا بمص الماء مصاً من الإناء وأن نتنفس ثلاثاً أثناء الشرب، وقال (ص) أن هذا "أروَى وأمرَأ وأبرأ" وهذا من الإعجاز العلمي في الطب النبوي الشريف

قاوم "عماد" رغبة في الضحك حتى لا يشعر ضيفه بالسخرية وقال
- وما الإعجاز؟
- نصيحة الرسول تلك تقي من اتبعها من تضخم الرئتين وقصور الشرايين التاجية وتضخم الكبد والاستسقاء والعياذ بالله، وهناك طبيب ألماني عالمي أسلم حين سمع الحديث ووجده متفقا مع أحدث ما وصل إليه العلم الحديث، سبحان الله
- وما اسم هذا الطبيب العالمي؟ وفي أي جامعات ألمانيا؟

هكذا سأله "عماد" وهو يبتسم ابتسامة الواثق من كذب موضوع الطبيب هذا، وصدق حدثه إذ قال صاحبه
- وهل تتوقع أن أحفظ اسمه؟ يا أخي ما مصلحتي في الكذب عليك؟ سبحان الله
- عفوا، لم أقصد أنك تكذبني، لكنك تردد قول مرسل سمعته أو قرأته بغير مرجع موثق، فأمر طبيب عالمي يسلم بسبب حديث نبوي كان لابد وأن يردد في وكالات الأنباء عالميا
-
أصبحت مشككا يا صاحبي على عادة الفلاسفة، رحم الله الإمام "الغزالي" حين كتب في تهافت الفلاسفة وفلسفتهم

ضحك "عماد" وهو يتناول رشفة من قهوته ثم يرد قائلا
- ورحم الله ابن رشد حين رد عليه وفند أطروحاته في كتابه القيم "تهافت التهافت"، هل قرأت "تهافت الفلاسفة" للغزالي؟
- لا، لكنني سمعت درسا عنه في المسجد
- مم .. مسجد "الوليد"، مستعمرة جماعتكم في طنط
ا

قطب "محمود" حاجبيه و هو يقول منفعلاً
- لا والله، بل دوحة الإخوان ودوحة الإسلام في طنطا بإذن الله، ولو كره الكافرون
- مالك يا رجل؟ تتحدث كأنك تخاطب أباجهل أو أبالهب؟
- أنت من قال عن مسجدنا مستعمرة
- لم أقصد المسجد، ولكن الشارع الذي انتشرت فيه مكتباتكم ومحلاتكم ونباتاتكم الطبية، عموما حقك علي في التعبير القاسي، لكن قل لي، هل فكرت في حديث النبي الذي رويته لي الساعة؟ ألم يلفت نظرك شيء فيه؟
- تدبرته طبعا كما يجب تدبر القرآن والحديث لاستلهام الحكمة من منابعها الصافية، ولم يلفت نظري فيه شيء
- أما لاحظت أن الرسول في العبارة التالية نهانا عن النفخ في الطعام والشراب، حتى لا يتأذى من يشاركنا الطعام والشراب وتأنف نفسه الطعام؟
- نعم، حكمة وأدب نبوي جليل
- فكيف تجمع هذه الوصية بالحديث عن طريقة شرب الماء تلك
؟

لم يجبه صديقه ولكنه شرد مفكرا، فعاجله "عماد" قائلا
- ولو افترضنا صحة الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، فبأي صفة قاله؟
- بصفته النبي الخاتم طبعا
- رويدك، ألم يسأل الرسول في غزوة بدر عن الموقع الذي اختاره، أهو موقع اختاره كقائد أم أوحي إليه به؟ فأجاب بأنه اختياره كقائد، وقبل بمشورة من اقترح أن يعسكروا أمام البئر ليكون لهم ويحرموا منه عدوهم؟ ومثل ذلك حدث في واقعة تلقيح النخل، وفي استشارة التجار له في مقدار ما يربحون، فقال في ذلك كله أنه من أمور دنيانا ونحن أدرى بها
- نعم، وبعد؟
- فقد كان الصحابة إذن يميزون بين أكثر من شخصية اعتبارية للرسول، فقد كان (ص) رسول الله المبعوث خاتما للأنبياء، وكان حاكم المدينة المنورة المبايع من أهلها، وكان القائد الأعلى للجيش، وكان الرجل والزوج لأهل بيته، وقد دلهم النبي في واقعتي النخل والتجارة أن سنته هي أقواله وأفعاله وتصديقه بصفته كنبي، وفيما يخص أمور الدين وتحسين وتنمية المجتمع الإسلامي، فليس كل ما قاله الرسول قد قاله بصفة النبوة

هنا هب "محمود" واقفاً، وملامحه تنبأ بشر، وقال
- أعوذ بالله، لقد أفسدتك الفلسفة، أنت تنكر معلوما من الدين بالضرورة في قوله تعالى "وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ" سأمضي لحال سبيلي
قام "عماد" فأمسك صديقه من ذراعه وطلب منه أن يهدأ، ثم سأله
- لو كان كل حديث الرسول وحيا يوحى، فما الفارق بين الحديث النبوي والحديث القدسي؟ اقرأ للشيخ "مصطفى العدوي" كتابه "الصحيح المسند من الأحاديث النبوية" تعرف أن الفارق بينهما كبير، فالأول ينسبه الرسول لنفسه والثاني ينسب لله، أما الآية عن الوحي فتعني القرآن الكريم، فالقرآن وحده هو الوحي، وحتى الحديث القدسي قد يكون بالوحي أو الإلهام أو غيرها

أرتج على "محمود" مرة أخرى، وقد أيقن أن محاوره أعلم منه بعلوم الدين، فهو حتى لم يسمع بالشيخ "مصطفى" هذا، لهذا استغل فرصة توقف المطر عن الهطول فتراجع عن فكرة المبيت وودع صديقه خارجا، كان يردد في نفسه وهو خارج قول الله تبارك وتعالى "مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ" بينما كان "عماد" يدفع الحساب وهو يردد في نفسه قوله تعالى من سورة النحل "ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ"

11.3.09

السيرة الذاتية لفتاة ليل


(1) حوار ما بعد العاصفة
إنتهى كل شيءٍ كأن لم يكن في تلك الليلة المطيرة من شتاء الإسكندرية، وخمدت نار الرغبة في لحظة كأن لم تتأجج منذ لحظات، هكذا دائماً لقاؤه مع البغايا، ذئب الشهوة الذي ينبح في كل خلية من خلايا جسده، لا يلبث أن يتثاءب بعد أن يقضي وطره وينام في هدوء، تاركاً صاحبنا وهو يتوق إلى النوم هو الآخر، غير أن النوم بينما فتاة ليل ترقد بجانبك عادة ما يعقبه صباح تفجع فيه باختفاء ما خف حمله من ملابسك وبيتك معاً، هكذا علمته سنون الضياع
استلقى إلى جوارها على الفراش بحجرة نومه، والتي تشي كل تفاصيلها بليلة حمراء أعد لها بإتقان، التكييف مضبوط على درجة حرارة تسمح بالدفء الحميم ولا تؤدي للموت عرقاً، زجاجة الفودكا من ماركة "سميرانوف" التي يشتريها فقط حين تختفي الفنلانديا أحياناً من البلد، وإلى جوارها على الخوان الجانبي استقرت سجائره المفضلة، وكان السرير الكينج سايز مغطى بمخمل أبيض يمثل خلفية فنية رائعة للجسد البشري، حلوى الماكينتوش على الخوان المقابل، كل شيء كما إعتاده قبل أن يبدأ ممارسة الحب مع البغايا، وفضلا عن كل هذا كانت الموسيقى تنبعث من جهاز الاسطوانات المدمجة، إنها "شهرزاد" "كورتساكوف"، وكم سمع من تعليقات الساقطات على تلك الموسيقى، قالت له إحداهن مرة
- رائع جو ألف ليلة وليلة هذا؟ يبدو أنك ممن يفضلون قضاء الوقت في الحواديت
كان من الصعب أن يشرح لها الظروف الرومانسية التي ربطت "شهرزاد" في عقله الباطن بالجنس فلم يجب على الإطلاق
نظر لتلك الراقدة إلى جواره، ثم قام معتدلا في الفراش وتناول علبة سجائره فأشعل سيجارتين وناولها واحدة، أخذ نفساً عميقاً ونفثه وهو يحدق بلا هدف، سألته لو كانت لديه سيجارة حشيش، فأجابها بأنه لا يدخن المخدرات، علقت في رقاعة

- يالك من ولد مهذب
تجاهل سخريتها الوقحة، فمن يعاشر الساقطات عليه ألا يلقي بالاً للكثير من وقاحاتهن، والآن، ماذا سيفعل في هذه الكتلة البشرية الملقاة إلى جانبه؟ إنها مؤجرة له بموجب عقد غير مكتوب بينهما حتى صباح اليوم التالي، وله أن يستفيد بكيانها كله حتى طلوع الشمس، ليست به رغبة الليلة لممارسة لعبة الجنس مرة أخرى، فهذا الصداع في مؤخرة رأسه يجعل تفكيره في إعادة الكرة شبه مستحيل، كان المنطقي أن يصرفها لحالها، لكنه لم يتعود أن يفرط في شيء له أبدا، فالسماحة في البيع والشراء واقتضاء الحق لم تكن من شيمه يوما، لهذا برق في ذهنه خاطر ملح، لماذا لا يسألها ذلك السؤال الذي اعتزم أن يسأله كل واحدة من النسوة المحترفات اللاتي اعتاد أن يأتي بهن من حين لآخر لبيته في عطلة نهاية الأسبوع؟ اعتزم أن يسأله عشرات المرات، وفي كل مرة كانت وقاحة الضيفة "فوق-العادة" تثنيه عن عزمه، كذلك كان هناك مانعا آخر، فهاتيك النسوة كالأرض المشاع المملوكة له وللعديد من رفاقه في العمل وغيره، وآخر ما يرغب فيه أن يجد ساقطة تقول للجميع أن "حسن" لا يجيد غير أحاديث فارغة في الفراش، تهمة فظيعة وقابلة للإنتشار بسرعة الضوء في مجتمع جاهلي يقرن الرجولة بالفحولة، لكنه يرى في هذه الراقدة بجواره اختلافاً يجعله يأنس إليها نسبياً، لعله شيء من الهدوء وعدم التكلف في أدائها، شيء من العذوبة في صوتها وإن حاولت أن تغطي على عذوبته وتطليها بطبقة وقاحة بدت له غير أصلية، أو بمعنى أدق غير متأصلة، ثم عمرها الصغير، وجسدها الغير مستهلك، كل هذا يشي بأنها لم تعرض في سوق النخاسة منذ زمن بعيد، "بسلبة السحاب" كما يقول المثل الداعر، كل هذا شجعه فقرر أن يسألها سؤاله المؤرق، إلتفت إليها، ولفها بذراعه ليضع رأسها على صدره، وأخذ يداعب خصلات شعرها الأسود الفاحم، لولا أنه يميز لون ودرجة لمعان الشعر المصبوغ لظن أن هذا اللون من الصبغة، ولكنه لون شعرها الطبيعي، هي جميلة في مجملها، قبل رأسها في رقة فنظرت إليه وابتسمت في بلاهة، لقد تعودت هذه الرقة من رفاق الليل قبل اللعبة وليس بعدها، ففور أن يقضى أحدهم "وطره" تشعر وكأنه يريد أن يضعها في أقرب كيس قمامة ويلقي بها من النافذة، قطع دهشتها قائلاً
- ما رأيك في قليل من الدردشة، لو لم يكن هذا يضايقك
- ولماذا يضايقني؟ الدردشة لعبتي المفضلة، وسترى بنفسك
تيقن من استنتاجه، جديدة في الكار ولا ريب، تضع متاريسا من الوقاحة والمجون المصطنع كخطوط دفاع وقائية، قال لها ممازحاً
- والدردشة أريح من غيرها على كل حال
ردت بلهجة منفعلة كأنها تدافع عن مهارتها المهنية وسمعتها في عملها
- من قال أني متعبة؟ مازلنا في أول الليل، وليل الشتاء طويل، أم أنك لست راضيا عن
لابد أن سبب انفعالها في الرد هو قلقها على أتعابها، العديد من زبائن العاهرات يبدأون بالإشارة إلى عدم رضاهم عن الأداء حين يرغبون في التفاوض على الأجر أو الامتناع عن الدفع، مد يده إلى بنطلونه وأخرج حافظة النقود فأحصى خمس ورقات من فئة المائة، مد يده إليها فأخذت النقود ومدت يدها إلى علبة سجائره وأخذت ثانية فأشعلتها من السابقة، وقالت
- أي دردشة تحب؟ أتريد أن أقص عليك حكايات "قبيحة"؟
رد ضاحكاً
- لا ليس هذا ما أردت، وددت لو سألتك سؤالا حيرني دوما، باختصار ووضوح، دائما ما أرى أن طبيعة عملك هذا مرهقة جدا، مرهقة عصبياً ونفسياً وجسمانياً لأبعد حد، فلماذا؟ كيف تكون البداية عادة؟
- ياه .. أهذا هو سؤالك الفظيع؟
ضحكت باستخفاف وهي تسحب نفساً خفيفاً، فكم من زبون سألها عن هذا من قبل، لا تدري لماذا يعشق الرجال سماع قصتها الكئيبة، واصلت الحديث قائلة
- تتوقع مأساة مروعة رمت بي في "طريق الرذيلة"؟ يؤسفني أن أخيب ظنك لو كنت تتوقع حكاية تراجيدية عن أمي المشلولة وأبي الذي جرى له كيت وكيت، وأخي الذي كان يبكي من الجوع
- لا أريد سماع فيلم عربي، أريد الحقيقة فقط بكل بساطتها لو كانت بسيطة
- قد يكون في الأمر مأساة، لكنها مأساة مزمنة ولدت فيها وعشتها حتى نخاع عظامي، مأساة عيب خلقي منتشر جدا بيننا، وإن كان بعضكم لا يراه، الفقر يا سيدي، وقد يخيل إليك أنك تعرفه، وقد تكون صادقا في أنك تراه كثيرا حولك في كل مكان، لكن الفرجة عليه من الخارج شيء والحياة بداخله شيء آخر تماما، لم أكن يتيمة، كان والدي رجلا مكتمل الصحة، طولا وعرضا، لكن عقله لم يسمح له بعمل أفضل من تلميع الأحذية، كان "بوهيجي" يمسح أحذية الناس على مقاهي وسط البلد وكورنيش الرمل صيفا، وفي المصالح الحكومية والشركات شتاء، عاش حياته ومازال لا يرى من الناس إلا نعالهم! وأمي لم تكن مشلولة ولا عاجزة، كانت طويلة القامة ونحيفة كسيخ من حديد صلب، كانت دلالة أسماك، تدور على البيوت بمشنة السمك لتبيعه لمن لا يريد تكلف عناء شرائه من حلقة السمك، لهذا لم يكن إخوتي يبكون من الجوع، فقد كان كد أبي وأمي طوال اليوم يكفي بالكاد ليسد رمقنا ويكسي عرينا بأثمال الثياب، بل ويعلمنا على "قد ما قسم"، فلم نكن جوعى، لكن كانت هناك تفانين في ملو بطوننا لا تخطر لك ببال، هل تعرف ساندويتشات المكرونة؟
- نعم
- أكلتها؟
- لا
- إذن فأنت لا تعرفها، اعطني سيجارة

أعطاها السيجارة الثالثة في أقل من ثلث ساعة، أشعلها لها وصب كأسين من زجاجة الفودكا، حتى تعينها الخمر الإسهاب في حديثها واستعادة ذكرياتها، استأنفت بعد الرشفة الأولى من كأس الفودكا فقالت
- في الطفولة لم أكن أستوعب المعنى العميق للفقر، كانت هناك بالطبع رغبات كثيرة تنتهي بشخطة من أمي أو "زغدة" من أبي، لكن الحياة كانت تمضي يوما بيوم، ولم تبدأ المشكلة إلا مع فورة الأنثى داخلي في عمر البلوغ، حين خرطني خراط البنات، كان جسدي فائرا وكنت أجمل مني اليوم بكثير، صحيح أني حديثة العهد بنزول الشغل، إلا أن الأيدي الجائعة فعلت بي في عامين الكثير والكثير، وأذبلت من جمالي ما لا تذبله سنوات، كنت مختالة بجمالي كأي مراهقة، وكانت عيون الرجال والشباب وهي تتابعني تزيد من خيلائي، حتى أصدقاء أبي لم تكن عيونهم تعف عني، في هذا الوقت بدأت مشكلة الملابس، وقد تراها تافهة لأنك لست مراهقة فائرة الجسد، فتلك المراهقة كانت تريد الإعلان عن جمالها بالثوب الجديد والحزاء اللامع، فعندما تمنع الفتاة من التعليم في الصف الثاني الإعدادي لضيق ذات اليد، لا يعود لديها ما تحقق به ذاتها غير الهبة الطبيعية المكتنزة في جسدها ووجهها، لهذا فكرت في العمل، ليس عملي هذا طبعا، ولكن أي عمل مما يتاح لمراهقة جميلة في مدينتنا الساحلية،
حكت له وهي تشرب ثمالة كأسها كيف أخذتها جارة لها من نفس عمرها للعمل في مطبخ البار الشهير في لوران، وكيف لاقاها كبير الطهاة رجل مهزوم الملامح مفرط السمنة، نظر نحوها بود قليل وهو يختبرها من شعرها لأخمص قدميها قبل أن يقول وكرشه المدلى أمامه يهتز مع كلماته
- المهم أن تعمري في المطبخ، ولا تخرجي منه سريعا، فمطبخنا هذا هو الجرة وعبر هذا الباب هو "برة" وكم منكن كانت في الجرة ثم خرجت لبرة، عبر الدور الثالث بالطبع، سنرى على كل حال
ثم أمرها أن تنظف أرضية الثلاجة الضخمة وأن تمسح تحت طاولة التقطيع الرخامية، لم تفهم ما قصده بالخروج لبرة والدور الثالث، لكنها همت في عملها، بحثت عن الثلاجة فلم تجد شيئا مثل ما تعرفه من ثلاجات، حتى أشاروا لها نحو غرفة لها باب من معدن في نهاية الممر المؤدي للمطبخ، حين ولجت إليها ارتعدت من البرد، كانت الغرفة هي ثلاجة المطبخ، وفيها رأت قطع اللحم الضخمة التي لم تتخيل وجودها إلا في محل الجزار، حتى جزار حارتهم الضيقة في الورديان لم يكن محله يحوي الكثير من اللحم الحقيقي، فالإسم جزار والفعل تاجر لحمة رأس وكوارع وسقط، كان أول ما فكرت فيه في تلك اللحظة، هل سيعرف أحد لو قطعت قطعة لحم من هنا أو هناك واصطحبتها لمنزلها؟


(2) ثقافة الاختلاس
استأذنت للحظات حتى تغتسل "علشان تفوق وتكمل الحدوتة" كما قالت، شرد بخياله مبتسماً لتفكيرها في اختلاس قطعة من اللحم من ثلاجة المطعم، لماذا تسيطر علينا دوماً عقلية الاختلاس؟ لماذا يسعد الكثير من المهمشين حين يختلسون ما ليس لهم؟ مضى يفكر في سيطرة عقلية الاختلاس على المجتمع حوله، صبي مقهى "دندشة" الذي يجلس عليه مع الأصدقاء حين يختلس "المونة" من الشاي والسكر والبن المغشوش، وصاحب المقهى الذي يغش البن بحبوب الفول السوداني المحترقة بعد طحنها، جاره موظف القطاع العام على المعاش المبكر، والذي يركب الأتوبيس من ميدان "سعد زغلول" حتى جليم في موعد ذهاب الموظفين، أو بالأحرى الموظفات، ثم يجلس على المقهى حتى موعد عودتهن، ليختار كل يوم مؤخرة أنثوية عامرة يختلس منها لحظات من الدفأ اللين في الذهاب والإياب، "زين" الفكهاني على الجهة الأخرى من شريط الترام أمام منزله، يزن له التين البرشومي على الميزان ثم يضيف تينتين "إكرامية" وعندما يشرع بإغلاق الكيس يسقط ما لا يقل عن خمس أو ست تينات بخفة يده، سائق التاكسي الذي دائما ما تصطدم يده بفخذ الزبونة الراكبة بجواره عفوا مع كل نقلة بالفتيس، فلو نزلت وركب رجل مكانها تراه وكأن صالون التاكسي الفيات 124 موديل 1973 قد اتسع فجأة فلا تصطدم يده أبداً، وزوجة صديقه التي كانت تختلس من مصروف البيت كلما تيسر لتدخر بدفتر البريد كما أوصتها أمها نظراً لأن الرجال لا أمان لهم، حتى اكتشفها صديقه فاستقرت بجوار أمها، والتي قالت لها أن ظنها صدق فيه، فلن ينفعها غير ما اختلسته، كأن الاختلاس لم يكن سبب طلاقها نفسه! صديقه هذا لم يكن أحسن حالا، فكم حكي له عن اختلاسه النظر إلى نهدي الخادمة عندما تقدم له قهوة السابعة مساء، وكيف حاول مرة أن يختلس ما هو أكثر من النظرة، فأطاحت البنت ذات التسعة عشر عاماً بيده بضربة قوية، أعقبتها "شدة" اسكندرانية أصيلة من حلقها وهي تحذره لو طالت يده ثانية، فهي حرة بنت حرة، وخطيبها "شادي" لو عرف يقطع يد "البعيد" التي تمتد إليها، لكن صديقه "الدني" مرر الموقف ثم عرف كيف يلين دماغها برعايته لخطيبها ذي الدماء الحارة في عمل رشحه له، فنال منها ما هو أكثر من اللمس!
الكل يختلس، ويزيد اختلاسه كلما زاد احباطه وزاد اعتقاده بعدم عدالة الحياة معه، لأنه بذلك يجد شماعة يعلق عليها ضعفه البشري، صبي المقهى يرى أنه "شايل القهوة على راسه" ويتقاضى ثمانية جنيهات فقط في اليوم والليلة! أما الأفندي الذي ورث القهوة عن والده فهو "عويل" ولو ترك له المقهى لخربت فوق رأسه "المسبسب"، أما الأستاذ "عادل" مدير الإدارة بالقطاع العام سابقاً، فقد أوقفت إدارة شركته ستة خطوط إنتاج من أصل ثمانية خطوط عن العمل، فخسرت الشركة بعد أن كانت تحقق أرباحاً بالملايين لعشرات السنين، وبالطبع كان الهدف هو البيع، وما أدراك ما البيع وبركات البيع على الكبار، أما هو فكان مصيره معاش مبكر ومع السلامة، ليعاني وحدته بعد أن ماتت زوجته ورفيقة عمره ولم تترك له بنت ولا ولد، يقول لمن يمسك بخناقه من ركاب الأتوبيس لو حدث أن وجدت إحدى ضحاياه الجرأة في نفسها فاحتجت على تحككه الغير بريء
- وماذا أفعل في ضيق الأتوبيس؟ وهل أكلت منها قطعة؟ هاهي سليمة، اطمئنوا، غدا يبيعون الأتوبيسات فتصبح مكيفة ولا يركبها غير البهوات حتى ترتاحوا
أما الفكهاني الصعيدي فمنطقه أبسط، تسمعه في جلسات الصفاء على المقهى يقول
- حين أتيت من قريتي كنت أبيض من "مترد" اللبن الحليب، فأخذت فوق رأسي حتى قلت "جاي"، الآن انقضى هذا الزمن، ولم يعد أحد يأخذ معي حق ولا باطل
أما صاحبنا سائق التاكسي فأغلب من الغلب ذاته، مصاب بعنة مزمنة لم تجد معها الحبة الزرقاء ولا الصفراء، و"الولية" – كما يسمي زوجته "كوثر" - قليلة الأصل و"كاسرة نفسه" في الحارة كلها، تحدث من هب ودب بحاله، فيشعر بنظرات "نسوان" الحارة تكويه وهو خارج في الصباح، بينما هن يدلقن "طشوت" الماء والصابون أمام بيوتهن يوم الجمعة، إعلانا عن ليلتهن الساخنة مع رجالهن، فيتذكر عبارة "كوثر" حين قالت "حسرة علية"، قال له أصدقاؤه أن هذا يحدث بسبب الملل أحيانا، لهذا يتحكك بالزبونات حتى "يسخن"، "حاكم المواضيع دي تحب التسخين برة الجراج عشان الماتور يشد معاك في الجراج"، هكذا نصحوه، غير واعين بدور السكر اللعين الذي أفنى أعصابه وعروقه في غفلة الزمن وفي ظل اختفاء الإنسولين المدعوم "أبو سبعين صاغ، و"أما زوجة صديقه المختلسة فما زالت تذكر ذل أمها حين طردت من بيتها الذي ورثته وباعه أبوها لنفسه بتوكيل منها، وأحضر أخته المطلقة لتعيش فيه هي وأولادها، وزوجها الدنيء، صديقه المتحرش بالخادمة كانت أولى تجاربه مع مربيته الرقيعة في مراهقته، لهذا يحن لهذه اللون من النساء، خاصة و"أم العيال" كانت قبل طلاقها "ملهية عنه بعيالها"
الجميع يجد المبرر دائماً لنفسه حتى يختلس المال والمتعة الحسية، فلو أوتي الإنسان واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، وحتى لو كان للرجل في الجنة أربعين زوجة كما يقول دعاة الفضائيات لنظر إلى واحدة من الأربعين اللائي لجاره، فلا يملأ عين ابن آدم غير التراب


(3) حدث في الدور الثالث
أفاق من خواطره على صوت أقدامها، أو بالأصح "شبشب" الحمام الذي يبدو أنها وضعت أقدامها فيه إلى المنتصف فقط على عادة النساء في تراثنا الشعبي، حيث صوت قرقعة "الشبشب" على البلاط يعد من علامات الأنوثة الحتمية، دخلت عليه الحجرة وهي تلف على جسدها بشكير الحمام الخاص به، فتغطي بها المسافة من نهديها إلى ركبتيها، نظرت بوجهه فور دخولها لترى رد فعله على منظرها المثير وهي طازجة بعد اغتسالها والماء البارد يتقاطر من أطراف شعرها، لم تجد أي أثر على وجهه للإثارة، فأدركت أن الرجل ليس من النوع الذي يهوى النساء كمرض مزمن ولكنه يستجيب فقط لداعي الغريزة حين يلح عليه، علمتها الأيام والليالي أن تفرق بين أنواع الرجال من نظرتهم للحمها العاري، جلست بجواره وأشعلت سيجارتها وقالت
- تأخرت عليك؟
- لا أبداً، هل أفقت الآن؟
- عنب
- فحدثيني، ماذا فعلت في موضوع اللحم في ثلاجة المطبخ؟
- خفن ولم أفعل شيئا، لكن بمرور الأيام، وحين ألفت الناس والمكان، بدأت أختلس من اللحم، ولكن بطريقة أخرى، كنت أضع ورقة جورنال في درج نصف مفتوح أسفل طاولة رص الأطباق، كانت أطباق الأوردوفر التي تقدم مع الخمر ضخمة بما يكفي لاختلاس قطعة لحم أو إصبع كفتة من كل سرفيس دون مشكلة
- وتأخذيها لأسرتك حين تعودين
- لم يحدث هذا أبدا، كنت ألتهمها عن آخرها في الأتوبيس في طريق العودة، حرمان "بعيد عنك"، لكن دوام الحال من المحال
حكت له كيف اكتشف المتر "بهاء" في البار أن الأوردوفر يقدم ناقصا، فقام بكبسة على المطبخ واكتشف الجرنال وفوقه قطع اللحم وشرائح صدور الدجاج، فأبلغ صاحب البار وكان يوما، يومها رأت صاحب المطعم "مراد" بيه للمرة الأولى، ومهما رأت رجالا أو مرت بتجارب فلن تنساه ولن تنسى ما حدث لها في ذلك اليوم، دخل عليهم المطعم وخلفه المتر "بهاء" ومدير البار، كان في الخمسينات من عمره، وشعره مصبوغ بلون بني داكن لا يناسب بياض بشرته المشرب بحمرة، بدين يفوق وزنه المائة وخمسين كيلوجراما، يرتدي قميصا مشجرا مفتوح الصدر فوق بنطال أبيض وحذاء أبيض لامع، وفي عنقه سلسلة سميكة من الذهب، تباري في لمعانها الخواتم في أصابعه والسوار حول معصمه، كانت ساذجة، وكشفوها بسبب سذاجتها، فقد وجه "مراد" سؤاله للمتر قائلا
- متى لاحظت نقص الطلبات لأول مرة؟
- منذ ثلاثة أيام
توجه "مراد" بنظره للطباخ سائلا في حدة
- من الجديد هنا؟
فرد الشيف مضطرباً
- بنت وولد يا باشا
ثم نادى عليها وعلى الغلام الذي التحق بالمطبخ قبلها بأيام، فدعاهما للوقوف بين يدي البيه الذي كان يقف منتفخا كأنه إله في ملكه، نظر "مراد" لها وللغلام ولم تمض ثانية حتى قال
- ليست عملة ولد، فهذه دماغ حريم، لو أراد الصبي أن يسرق لسرق شيئا كبيرا مرة واحدة وفر هاربا، لكن شغل "الخنصرة" هذا شغل "نسوان"
لم يكد ينتهي من قوله حتى كان الارتباك يعصف بها ظاهرا على وجهها كأنها تقول خذوني، اسودت الدنيا في عينيها وكاد يغشى عليها وهي تسمعه يسألها
- ما اسمك يا بنت؟
رد الشيف قائلاً:
- خدامتك "اعتماد" يا باشا
- لم أسألك أنت يا رمة

تحول نحوها "مراد" بجسده السمين المرتج، فلاحظته وهو ينظر لنهديها وساقيها، كأنه ينزع عنها ملابسها، ثم التفت لبهاء الذي كان كسكرتيره الخاص وكاتم أسراره فضلا عن كونه كبير المتر الكبير في البار، وقال
- تلحق بي بنت "الشر....." هذه في الدور الثالث
هز "حسن" رأسه حين وصلت لهذا النقطة في قصتها وقال
- طبعاً ما حدث في الطابق الثالث مفهوم
ضحكت "اعتماد" بغير رقاعة هذه المرة، وكأن حكايتها أعادتها لزمن صباها الغرير، وقالت
- خمن إذن ماذا حدث
- اغتصاب تحت التهديد أو تحرش أو اغواء بالمال، شيء من هذا القبيل
- حدث تحرش واغواء، ولكن ليس من قبل "مراد"
- من إذن؟
- زوجته
نظر "حسن" في وجهها بدهشة بسيطة، فلم يعد هناك بعد هذا العمر في حياته ما يدهشه بشدة، فاستأنفت "اعتماد" لتشرح بقولها
- بغير إطالة، زوجته مدام "مارتينا" خواجاية يونانية عجوز هي صاحبة العز الذي يعيش فيه، كانت شاذة وتهوى البنات في ربيع العمر، وكان يعمل عندها محل المتر "بهاء" ويجلب لها الفتيات لمتعتها الشخصية، قبل أن تتزوجه لتحصل على الجنسية، هذا ما شرحه لي "بهاء" حين صعدت للطابق الثالث قبل أن يوضح لي مهمتي، المطلوب مقابل عدم تعرضي لقسم الشرطة والبهدلة أن أقضي اليوم حتى موعد العودة لمنزلي مع المدام وأفعل ما تريد بعد أن يتم تهيئتي لذلك، ساعتها ضربت على صدري مفزوعة وأنا أقول: يا فضيحتي ، ده كل عشان حتتين لحمة؟ لكن المتر "بهاء" حسم القضية كلها في كلمتين، هي عجوز وما تفعله بي سيكون أهون كثيرا مما سينالني على يد أمناء الشرطة في قسم البوليس حتى أعرض على النيابة في الصباح
حكت له كيف رضخت يومها، وقدموها لمارتينا العجوز النحيفة في الستين من عمرها، والتي خطت معها الخطوات الأولى في عالمها السفلي، وكيف اختتم اليوم بعد طول "البهدلة" مع العجوز الشمطاء بلطمة من "مراد" وهو يقول لها
- لو تكررت ثانية يا بنت "....." سأقطع من لحمك وأطعم الكلاب
وكيف فتحت باب الشقة في الطابق الثالث من العقار المملوك للخواجاية لتجد "بهاء" في انتظارها، يسألها لو كانوا أمروها بالصعود ثانية، ولما أجابته بالنفي قال لها
- يا لخيبتك القوية، لم ترض المدام إذن عن أدائك، ولو رضيت لتسلمت منذ الغد نوباتشية معنا في البار كنادلة، ولقسمت معنا فضلا عن راتبك البقشيش وخلافه
شعرت بالهوان في ذلك اليوم كما لم تشعر قبلها ولا بعدها، فقد التهمت العجوز لحمها مقابل قطعتي لحم ولم ترض عنها مع ذلك، لكنها لم تبك بعد ليلتها تلك أبدا، حدث لها ما هو أفظع لكنها لم تبك بعدها، كأنها استنزفت ماء عينيها في ليلة واحدة لتواجه دنياها أكثر جفافا وجفاء


(4) الحب في أرض النفاق
- هل تعتقدين أن تلك الواقعة هي ما غير ميولك الجنسية ووجهها لبنات جنسك من الفتيات؟
صعقها سؤاله، بهتت للحظة ونظرت إليه بملامح فارغة ثم أطرقت، مررت يدها في شعرها بعصبية وهي تدلك رأسها بينما وجهها تتجاذبه مختلف الانفعالات، نظرت إليه ثانية وبحدة هذه المرة وهي تقول
- أنت مباحث أم عراف أم ماذا في هذه الليلة السوداء؟
- لماذا؟
- من أين عرفت؟ هذا الأمر لا يعرفه عني سوى ثلاثة، بنتان يحافظان على السر بروحهما فضلا عن "منال" الكوافيرة، فمن أين عرفت؟
قال مبتسماً
- عيناك
- اشمعنى
- نظرتك في الفراش نظرة رجل أو امرأة تعودت القيام بدور رجل

ضحكت برقاعة جعلتها الخمر أكثر طبيعية من ذي قبل وقالت
- "خضتني يا معلم"، على هذا تكون مصيبتي أتتني "في أكل عيشي" كما يقولون، فلو رأى الزبائن مني ما رأيت لن يعجبهم الأداء إطلاقا
- اطمئني، تلك أمور لا تراها كل عين، ولكن ما دور "منال" هذه؟ لا أظن لها دور مع البنتين اللتين تهويهما، في الأغلب دورها جلب سيدات مجتمع ممن لهن نفس الميول، وعلاقتك بهن تكون مدفوعة الأجر قطعا، فموضوع السر بين ثلاثة هذا مقولة لم تختبر
- "يخرب بيتك"
- اعتبريني عرافا
- "اسم الله"، وأين بنورة العراف؟

أشار الى رأسه وهو يقول
- هنا، أعظم بنورة في الدنيا، ولكن لم يعرف كيف ينظر فيها
تأملت وجهه قليلا وقالت متسائلة
- رجل مثلك هناك ألف من تتمناه بغير أجر، والهاويات في الشوارع صرن أكثر من المحترفات حتى ضاقت أرزاقنا بسببهن، فلماذا تحتاج واحدة مثلي؟ لست عجوزا يريد من "تشد عصبه" ولا رجل بشماغ جاء ليصيف في الإسكندرية، ولا رجل أعمال ممن ليس لديه وقت إلا للحظات في الفراش يلقينا بعدها كورقة الساندويتش، فلماذا تلجأ لمثلي؟
- الصراحة
- طبعا أريد الصراحة، "أمال عاوزاك تشتغلني"
ضحك بشدة مع بخار الخمر الذي بدأ يصنع طبقة رقيقة على ذهنه وقال
- الصراحة هي الجواب، هي ما يجعلني أفضل علاقتي بمثلك على غيرها من أشكال علاقة الرجل بالمرأة
- كلام المثقفين هذا يسبب لي إمساكا حادا
- الحكاية بسيطة يا "اعتماد"، رأيت فيلم "أرض النفاق" ليوسف السباعي
- من "يوسف" هذا؟ مطرب؟
- ما علينا، علاقات الرجال بالنساء في حياتنا صارت حافلة بالنفاق، هناك رجل يقول لامرأة "أحبك" وهو لا يحبها لأنه يراها أما مناسبة لأبناء يريد أن ينجبهم، وآخر يخدع أخرى باسم الزواج رغم يقينه باستحالة زواجه منها، لأنه لا يحتمل بعدها برغم هذا اليقين، وهناك من يقول "أحبك" لامرأة يطمع في مالها أو حسبها، وهناك من يقول "أحبك" لامرأة لها ظروف خاصة لأنه يريد الزواج منها في السر وبغير تكاليف
- رجال يستحقون حبل المشنقة، يالحيرتنا معكم نحن النساء
- النساء لسن أفضل حالا، ولا أقل كذبا، هناك من تقول لرجل أنها تحبه بينما الحقيقة أنها تحب فيه العريس اللقطة، وهناك من تحب رجلا بصدق وتتزوج بآخر، وهناك من تتحدث في النادي والعمل عن حقوق المرأة واحترام الرجل لها، ولو احترمها الرجل تراه ضعيفا، لأن بقايا عصر الجواري بداخلها تقرن الرجولة بالقسوة والبطش

قالت وملامحها قد زادت غباءً وفراغاً بفعل الخمر وصعوبة حديثه معاً
- و"المزة" خاصتك أنت .. كانت من أي نوع
- الأخير لو كان هذا يهمك
- كانت تحب الضرب والسباب في الفراش وما إلى ذلك؟ مثل البنت "منال"؟

ضحك بشدة وانطلاق وهو يقوم ليجلب ثلجا من فريزر الثلاجة، وحين عاد أجابها قائلا
- ليس بالضبط، كانت تحب من الرجل تكبره عليها وإهماله لها، أن يشعرها بدونيتها وإهماله لها، مشكلتي أني عاملتها كملكة متوجة
سيطرت على قسماته مرارة من وقع الذكرى الثقيلة على نفسه وهو يقول
- انتهى أمرنا ونالت من يرضي بداخلها خضوع الجارية، المشكلة أني لم أجد مليكتي، ولم أجد امرأة بغير قناع كقناعها الذي كانت تخفي تحته هوانها
- وهل تحسب أن المومس بغير قناع؟
- لو قصدت قناع أكل العيش، ابداء إعجاب بوسامة كل زبون ولو كان شبيها بالقرد، وانبهار بفحولته ولو كان عنينا، أو المبالغة في الأداء العاطفي والانفعالي، فهذه مهارات أكل عيش، هدفها ارضاء العميل وكسب علاقة ممتدة معه كأي عمل، لكنها في النهاية علاقة صريحة وواضحة كالشمس، هي تعرف يقينا أنه يريد جسدها ليتخلص من ضغط الرغبة على أعصابه، وهو يعرف مهما فعلت أنها لا تريد غير أجرها، وتود لو مات بعد خمس دقائق لتمضي فتنام في بيتها، أليس كذلك؟
- أنت غريب جدا يا "حسن" بيه، صدقني فأنا لا أغازلك لأرضيك، لكن لم يمر بي مثلك قبلا على كثرة ما دقت على رأسي من طبول
- لماذا؟
-
فلتصنع لي كأسا ثانية من خمرتك النظيفة تلك لأقول لك لماذا


(5) أكثر من وجه للحقيقة
- ها هو الكأس يا ستي، يبدو أني لن أفيق غدا قبل صلاة الجمعة وسيكون ذنبي في عنقك
قالها "حسن" وهو يبتسم ابتسامة فاترة خالية بفعل الخمر، فانفجرت "اعتماد" في ضحكة ساخرة جلجلت في هدأة ما قبل الفجر قائلة
- شي لله يا شيخ "حسن"، هلا أتيت لي بحرام آخر لأغطي به شعري حتى تكون جلستنا شرعية؟
- تتعجبين لأني أصلي الجمعة؟
- ألا تجد هذا غريبا وأنت تمرر لي كأس "المنكر" هذا؟ وأنا على حالتي تلك؟
- كنت أمازحك، وإن لم أجد في الأمر غريبا، عرفت زميلة لك كانت إذا أذن الفجر تهرع للحمام وتغتسل ثم تصلي وتكتسي ملامحها بالجد قبل أن تتقاضى أجرها باقتضاب وتخرج للشارع، وعرفت شبابا يدخنون الحشيش قبل الذهاب لدرس أحد شباب الدعاة حتى تكتمل السلطنة ويبكون بحرارة مع ترديد الدعاء خلف الداعية الشهير في نهاية الدرس، ورأيت ربات بيوت الحسب والنسب يزين بناتهن قبل أن يمضين معهن لصلاة التراويح في رمضان، لعلهن يلفتن نظر من يكون لها أخ أو ابن يبحث عن عروس مهذبة
- صدقت، نحن المصريون نريد كل شيء، دنيا وآخرة
- من قال أن الازدواجية قاصرة على المصريين؟ العالم كله بألف ألف وجه، هناك من يحرم الصلاة في المرسي أبي العباس لأنه بني على ضريح، ويستحل عرض خادمة فلبينية أو إندونيسية على أنها ملك يمين! وهناك من يجاهد ضد السوفيت والأمريكان بعدهم، ثم يمضي لحقله ليرعى زراعات الأفيون التي يكسب منها قوته، وقد يختم يومه باللواط مع صبي، والأمر ليس قاصرا على المسلمين بالطبع، فبين جدران الفاتيكان من يرددون "طوبى للمساكين" وهم غارقون في الذهب، وسندات بنك الفاتيكان من أكثر وسائل غسيل الأموال شيوعا في العالم
- الفاتيكان هذا مصمم الأزياء الذي مات العام الماضي؟
يطلق "حسن" ضحكة عالية ويضرب "اعتماد" على فخذها الأيسر قائلا
- لله يا زمري ... لماذا قلت أني غريب؟
- هناك مثل شائع بين بنات كارنا يقول "اللي تبقى معاه المَكَنَة والمُكنة ومايدُرش يبقى طافي مكن" وأنت لست "طافي مكن" لكنك ما لبثت أول الليل أن حولت الأمر لدردشة، أشعر بصداع .. هل لديك أسبرين؟
- زجاجة المياه بجوارك، اشربي قدر استطاعتك، فالأسبرين يضرك مع الخمر

تناولت الزجاجة وعبت منها فسالت المياه على عنقها وصدرها، فتناول "حسن" منديلا ورقيا من علبة أمامه وأخذ يمسح لها صدرها وعنقها قائلاً
- ستصابين بالبرد هكذا، ارتدي ملابسك أفضل
نظرت له نظرة دهشة عميقة دامت للحظات، ثم استدارت بوجهها ليده التي فوق عنقها تقبلها قبلات متلاحقة، ثم أعادت النظر في عينيه وعلى وجهها ابتسامة عميقة المعنى لم يرها بوجهها منذ قابلها في أول الليل، أثار رد فعلها هذا "حسن" الذي علق قائلاً
- مالك؟
- الأغرب فيك أنك لا تشعر بغرابة ما تفعله!
- وماذا أفعل
- تعاملني كإنسانة من لحم ودم
- آه، أفهم أن زبائنك بالطبع ليسوا دوما هكذا
- "أحيه علي وعلى الشقا"، مرت بي ليال قبلت فيها قدم الزبون ليعتقني لأذهب لحالي ولا فائدة، وليال ضربني فيها الزبون بعدما قضى وطره ثم رماني من السيارة وهي تسير، لأنه بعدما "نقط" الراقصة بالآلاف أراد أن يأكل عرقي، وليال اتفقت فيها مع واحد لأجد ثمانية ثيران في انتظاري بشقته ولا حول لي ولا قوة، مر بي من يقسم ألا يتركني حتى أنزف، ومر بي من لا يسعد إلا إذا سب أبي وأمي لسابع جد وهو يقبلني، ومن يطلب مني لعق حذائه قبل أن يقضي مني وطره، يمكنك القول أن الليلة التي يكون فيها الزبون طبيعيا فيحصل على ما يريد ويعطني أجري كاملا ثم يوصلني لباب الشقة حتى لا أسرق منه شيئا كنت أحمد الله فيها أن الدنيا مازالت بخير، كل هذا ولا ترى ما تفعله غريبا؟
- ولم أكون أنا الغريب وليس هم؟
- كلهم مجانين وأنت وحدك العاقل؟
- ليسوا مجانين ولا حتى أشرار، هم معذبون، ويعذبوك بعذاباتهم، فهذا الذي لا يتركك إلا بخروج الروح إنسان يحب أن يعتصر كل شيء لآخره، لو أكل في مطعم يلوث ما تبقى من طعامه حتى لا يمكن لعمال المطعم أن يقربوه بعده، لأنه يكره الناس ويظن الناس يكرهونه، وهذا يعذبه، فيعذب الناس، ومن يلقي الآلاف على قدمي الراقصة في العلن ويأكل عرقك سرا هو رجل يهمه حديث الناس عنه أكثر من سعادته الشخصية، وفي هذا يكمن عذابه، فمتى رضي البشر عن واحد منهم؟ وهذا الذي يتفق على واحد لتجدي ثمانية إنسان يشبه "حرامي الحلة"، يقنص ما ليس له ولا يسعد إلا بذلك، ويسمي نفسه "ناصحا"، وهو يتعذب لأنه أبدا لا يقنع بما يقنصه من الناس، أما هذا الذي لا تسعده غير الدماء والصراخ في الفراش فهو فاقد الثقة في رجولته، ويحتاج لصراخك ليغطي على صوت الشك في ذاته بداخله، وهذا عذابه، وهذا الذي يسبك ويطلب منك تقبيل حذائه عادة ما يكون "ملطشة" في عمله وبيته، فلا يجد من يستأسد عليه غيرك!
- وأنت، ألا يوجد ما يعذبك؟
- قلبي ربما، أذكر رباعية لصلاح جاهين يقول فيها: قلبى رميته وجبت غيره حجر .. داب الحجر.. ورجعت قلبى رقيق
- ستسخر مني لو سألتك من هو "صلاح جاهين"
- دعك من هذه أيضا، يمكنك القول أنني رجل وحيد، فقدت أبوي مبكرا وليس لي إخوة، فتعودت أن أنظر للناس كأنهم أهلي، أتمرد على رقتي حينا، كإصراري على عدم تركك تذهبين أول الليل وبدايتي لهذا الحوار، وربما كنت للراحة أحوج، لكن هذا التمرد لا يبق إلا لحظات، ثم أعود ليؤلمني ما حولي، أكره الفقر والمرض والجهل، أكره البقع الفاتحة في وجه صبي مصاب بسوء التغذية، وأكره رؤية طفلة تلعب بدمية مقصوصة في ورقة صحيفة، أو مشهد رجل مكسور تحت حمله وأعباء جوع عياله، أو مشهد امرأة تمضي من بيت لبيت لتستر بيتها، تعرفين لماذا لم أتزوج؟ لأني لم أجد من تكره كل هذا مثلي
- أتعرف ماذا أثار عجبي منك أول الليل؟
- في طريقنا لهنا في سيارتك، وقفت حتى تمر امرأة عجوز بيدها طفل صغير، عادة ما يقف الرجال لتمر امرأة جميلة أو أي "جثة حريمي" أمامهم ليتأملوها من أمام ووراء، لكن المرأة كانت عجوزا واهنة ليس فيها موقع لعين
- دعك مني، لقد طوفنا بالحديث ومع هذا لم تخبريني كيف بدأت هذا الكار؟
- آه، في اليوم التالي، خاب ظن "بهاء" وانتقلت للعمل كنادلة في البار
- وهل مضيت للعمل في اليوم التالي لواقعتك تلك مع المرأة؟
- فكرت ألا أذهب، وألمحت لأمي أن السبب هو صاحب البار، وأن يده طالت علي بلمسات غير بريئة، فأمرتني بالبقاء، لكن أبي حين علم ثار ثورة عارمة، وصرخ بوجهي والشبشب في يده قال لي أني سأذهب ورجلي فوق رقبتي، وأنه لا يريدني "موسوسة" مثل أمي التي تترك بيتا كل يوم وتدعي أن صاحب البيت كان يغازلها وكأنها السفيرة "عزيزة" وعيرني بأن زوجات وبنات أصدقائه يأكلون أزواجهم الشهد، وأني بغير عمل لن أجد رجلا يستر علي ويتزوجني، فذهبت، وشيئا فشيئا دخلت عالمي الجديد

حكت له كيف حصلت أول يوم على ثلاثة عشر جنيها كنصيبها من البقشيش، فطارت لمحطة الرمل واشترت جوربا غالي الثمن بثلاثة جنيهات، واشترت لأسرتها كبدة وسجق شرقي، فدللها أبوها يومها دلالا لم تعرفه منه قبلا، وناب أمها من الحب جانب فحصلت على لقب "أم اعتماد" بدلا من لقب "بنت الكلب" السابق، فطمحت لما هو أكثر، وتعلمت من زميلاتها كيف تحصل عليه، حافظت على نفسها "بنت بنوت" فترة من الزمن، بسبب حلم عبيط بعريس ينتشلها وما إلى ذلك من خيالات، لكن الحلم انتهى يوم صادفها عرض سخي مقابل بكارتها، طويل عمر من قطر عربي شقيق كان يهوى ذلك، فنقدها ثلاثة آلاف جنيه وحصل على ما أراد، ثم وسعت نطاق عملائها حين تعرفت على "منال" فضمت خدماتها النسوة الشواذ، فهؤلاء كن أريح وأنظف وأقل ميلا للضرب والبهدلة من الرجال، لكنهن لا يدفعن كالرجال في كل حال، قالت وهي تنظر في ساعتها
- أنت حنون وقد أحببت مجالستك، لكن الفجر يوشك على البزوغ وأنا هلكانة
شرعت في ارتداء مشد الصدر الأسود المقطوع، ليكشف عن إبط نمت شعيراته لتكسبه مظهرا منفرا، وسألته
- سأراك الأسبوع القادم؟
- لنترك هذا للظروف
- يبدو أن الليلة لم تعجبك اطلاقا
- لا يمكنني الآن أن أفكر في مرة قادمة، فكل مرة أقول أنها الأخيرة، وكل مرة أعود
تمت
القصة من مجموعة السيرة الذاتية لفتاة ليل، جميع حقوق النسخ والطبع محفوظة

6.3.09

التوأمان


قصة قصيرة

من مجموعة السيرة الذاتية لفتاة ليل .. تصدر قريبا

في قلب الليل، في ساعة وسط بين انتصافه وشروق شمس اليوم الجديد، ولج الكهل الأربعيني داخلا قدس الأقداس، هكذا كان يسمي غرفته الصغيرة المنعزلة في الطابق الأول بمنزل أسرته، غرفة تضم خلاصة عمره وأعصابه على ضيق مساحتها، فهي لا تتجاوز الأربعة أمتار طولا ومثلها عرضا، لكنها تتسع لكتبه وجهاز الكمبيوتر الخاص به، فوق مكتبه الذي حوت أدراجه أوراقا وأشعارا وأحلاما وآلاما وآمالا بغير حصر، وعلى الفوتيه الوثير، وهو أرقى ما في الحجرة من أثاث، استقر العود الذي يعزف عليه في ليالي الصفاء وليالي الجفاء على حد سواء! هذا كله فضلا عن مجموعة اسطوانات الموسيقى الأثيرة لديه، وجهاز تشغيلها القديم بسماعته الواحدة بعد أن أثكله الدهر شقيقتها

جلس على الفوتيه بعد أن ركن العود للحائط، وفتح النافذة أمامه فهبت منها أنسام ربيعية عزيزة في هذا الربيع الحار، وجلسته تلك متكررة في كثير من الأيام، أو قل في أغلبها، فكم من فجر ولد على يديه وهو ساهر بهذه الصومعة الليلية، وكم من نجم بعيد لاقى حتفه فانيا في فضاء الكون، وكم من نجم قريب عطف على وحدته فشاغله بالضياء، لكن الليلة ليست ككل ليلة، وهذا الفجر ليس كغيره، حتى النجوم تضيء بشكل غير مألوف، الليلة ينبض قلبه عازفا لحنا قديما كاد ينساه، لحن القلب المفتون، لحن رجل يهوى، فالليلة هي ليلة عيدها، عيد مولدها الذي تزامن مع العيد الوثني القديم للربة الأنثى، "فينوس" الفاتنة التي قدستها كل شعوب الأرض يوما، وكان عبادها المخلصون يحتفلون بيوم مولدها من زبد البحر، فيشربون بشائر النبيذ الأحمر ويرقصون في المروج الخضر، وكل حبيب يعانق حبيبته، فقد كان الوصال في عيدها عبادة وكان الهجر إثما، قال الكهل لفينوسه وفاتنته ذات يوم

- هل كانوا قديما يحتفلون بولادة "فينوس" من زبد البحر أم يدقون الطبول تضرعا لها لتعجل بمولدك من نور القمر حين يتدفق في رحم المحار؟
- توقف عن مبالغاتك الشعرية، فلست جميلة لهذا الحد
هكذا ردت يومها باسمة، فكأنها تأمره ألا يتوقف أبدا، وأجابها
- حتى أدرك لأي "حد" أنت جميلة، يجب أن يكون هناك "حد" أقيس عليه، فما العمل لو أنك صرت أنت "الحد"؟ يقاس عليك ولا تقاسين على غيرك؟

وهكذا حقا كان يراها، ما من رجل في الأرض إلا وتخيل حور الجنة، المرأة النورانية التي خلقها الله جزاء للصالحين والصابرين، الأنثى الجامعة المانعة، والنشوة النقية من كل بأس أو ندم، كل الرجال حلموا بها وتمنوها، لكنه وحده من رآها رأي العين، رأى وسمع بدلا من المرة ألف مرة، ولو كان اللمس باستطاعته للمس، ولكن من هي؟ ولماذا يظنها لا تنتمي لدنيانا؟ ويغلب على ظنه أنها "فرايا" ربة القمر السيلتية وقد تجسدت؟ أو "أوروبا" وليدة الزبد الرقراق؟ رشف رشفة من كوب الشاي الأحمر أمامه، فشعر في فمه طعم النبيذ .. يذكره مذاق الشاي حين يفكر فيها بمذاق نبيذ بوردو! كأن لمجرد ذكراها قدرة على تغيير كينونة الأشياء؟ رفع عينه للسماء ناظرا نحو "أورايون" رجل النجوم الجبار المعتد بذاته، يقف مباعدا بين ساقيه، غارسا كفيه في جنبيه، وقد تدلى السيف من منطقته، فكأنه جبل من كبرياء .. تتسع ابتسامته وهو ينظر إليه .. نعم .. كان جبلا من كبرياء قبل أن تحوله "المرأة ذات الكرسي" إلى مشدوه يحدق فيها ليل نهار، كان جباراً قبل أن يفقد كبرياءه ويمسي عابداً متواضعاً في محراب الربة المتربعة على عرشها أمامه في السماء، تلك المعجبة بسطوة جمالها، المختالة بطغيان أنوثتها، الواثقة بذكائها، المكتنزة بطاقة الحب والحياة، فما أشبه حال رجلنا به! صارت أحلام اليقظة هي رياضته الروحية المفضلة منذ رآها للمرة الأولى في ذلك اليوم الخريفي المشمس، لا يحلم بها بعقله وحسب، ولكن بقلبه وجسده أيضاً، كل كيانه بها يحلم، وكل كيانه بها مفتون، وما العجب؟ هي سيمفونية الأنوثة الخالدة في كل العصور
يوم رآها لأول مرة، "فتنة تمت سناء وسنا" كما كانت كوكب الشرق تقول، تداعت لذهنه على الفور لوحة "بوتشيلي" المسماة مولد "فينوس"، والتي صورها فيها كأنثى رائعة الجمال جميلة الروعة، تلدها محارة عملاقة، وتدفعها أنفاس "زفيروس" رب الرياح الروماني نحو الشاطيء، يومها تخيلها وهي تحل محل "فينوس" في اللوحة، فتقف ممشوقة وسط المحارة، وتساءل: هل يمكن أن تكون من مادتنا نحن البشر؟ أم من مادة فريدة لم يصنع الله منها غيرها؟ تقول عن نفسها غير جميلة، لكنه يرى فيها حلم الفتنة والبهاء كما تصوره منذ طفولته، لعل معاييره تغاير معايير الناس، لكن من يهمه معاييرهم؟ قالت له يوما، لتقارن ذاتها بزوجة أخيه

- هي أفضل مني ألف مرة
- من قال أننا في مسابقة لأفضل امرأة؟ قال القلب كلمته منذ كنا روحين في الأزل وقضي الأمر

كان يراها مجحفة أكثر منها متواضعة حين تنعت نفسها بأنها غير جميلة، كان مفتونا بها جملة وتفصيلا، بتلك البشرة رائقة السمرة كلون الخير في حقول بلاده، والناعمة كماء النهر الرقراق في تلك الحقول، والدافئة كأرض الدلتا الخصبة تحت شمس الشتاء، مصرية الجمال إلى مالانهاية، مشربة وجناتها بحمرة شهية كامتزاج نهر الخمر برافد من نهر النبيذ! لينة الأعطاف كالرضيع، ومرهفة الحس كأنها صيغت من أعصاب مكشوفة للهواء، وقد صيغ جسدها المكتنز بأنوثته من مادة فريدة، لينساب كانسياب موسيقى الكون، أو كانحناءات الموج في بحر هاديء، لا تشعر بها إلا وأنت في المنتصف تماماً فلا تملك إلا التقدم للأمام، وكأن فتنة المادة السحرية وأمواجها الأنثوية ليست كافية، تدخل في معادلة السحر مادة أخرى لا تقل عجبا، إذ يسيل شعرها الأسود محيطا بوجهها، يطير حينا مع الرياح، ثم يستقر على مرمر كتفيها الوردي، فلا يلبث أن يخاف حرارة الكتفين فيطير قليلاً مع الريح لتطفيء لهيبه، ثم يعاوده الحنين للمرمر فيعود، كان اللقاء الثاني في قاعة الدرس التي ضمتهما، خيل له يومها أنها ابتسمت حين التقت عيناها بعينيه عبر طاولة الاجتماعات العريضة التي فصلته عنها كأنها كف القدر، فيالهول الابتسامة! كان هذا منذ سنوات مل من عدها، لعلها عشرة أو أكثر، وتحدثت خلال المحاضرة ملقية سؤالا، فسمعها ولم يسمع كلامها، نعم .. فلها صوت يسمع لذاته ويفهم بذاته! كصوت الفراشات، كصوت الطيور، بل كصوت الزهور، بل إنه يكاد يقسم أنه صوت يرى، تراه ناعما متدفقاً متدللاً لو كانت خالية البال صافية الذهن، وتراه مرتعدا عاليا يخفي رقتها الفطرية بارتفاع نبرته لو كانت غاضبة، وهو كذلك صوت ملموس، يمس أذنيك حين يصل إليهما، فيكون له مفعول القبلة الحارة خلف أذن مرهفة، وهو كذلك صوت يمكنك أن تتذوقه وأن تستنشق عبيره، حين يتناهى إليك لا تملك خيالك الذي ينطلق ليرسم صورة الشفتين اللتين خرج من بينهما، فتشعر بمذاق الشفاه في فمك كأنه خمر الجنة، أو كأنه اتحاد نار المجوس بماء العماد في سائل ناري مقدس، ثم تقترب بخيالك من شفيتها أكثر وأكثر، فترى الفراشات التي يجذبها نور الجسد وأريج فاكهة الجنة الفواحة من أعطافها، لا تستطيع من شفتيها اقترابا، خوفا من الموت بحرارة شفتيها، أواه منهما شفتان رائعتان كانت له معهما حكايات وروايات، كلها من خيال! حين كانت تقبل كإطلالة الصبح عليه، كان حنين أبدي لم يشعر به منذ فطامه يدفعه نحو الشفتين، كحنين رضيع لسائل الحياة الدافق من نهد أمه المعطاء، لكن شفتيها أبدا ما كانتا معطاءتين كريمتين كنهد الأم، حتى في خياله كانتا تراوغان وتهربان، فيلجأ للوجنات، لعل حنان المادة السحرية السمراء يطفيء اللهيب، حتى الوجنات كانت تبتعد، فيلوذ بشعرها الخفاق كراية النصر، يحاول أن يقبل أطرافه، مستلهما نعومة كتفيها المنقوشة في ذاكرة شعراته، حتى الشعر كان يطير بعيداً في الهواء، فلا يجد من يقبل به ضيفاً محروماً إلا كفيها! يعصف بعقله شوق العمر، ويدفعه فرط الحنين، فيقبل كفيها وكأنهما عتبات الفردوس، ويغيب عن الوجود حتى تتوحد شفتاه الظامئتان مع يدها الرقيقة العطوف حتى تأتي لحظة يحرم فيها حتى من خياله وغذائه من رحيق كفيها، يشعر بكفها تنسل من بين أصابعه ويفتح عيناه ليراها تركب المحارة العملاقة وتتجه لعمق البحر، تنوي عبوره لتستقر في أرض الأساطير، تلك الأرض الواسعة كالتيه، البعيدة كمر الجوزاء، والباردة كالموت، في تلك اللحظة كان يسقط، وتمر عليه لحظات أو سنوات ليس يدري، فلا يقيمه من سقطته غير السعادة الكيميائية، تعود به لممارسة الحياة، أو لارتكاب الحياة! فالحياة بغيرها كانت خطية! كان يتذكر بيت لأبي صخر الهذلي يقول فيه

وإني لتعروني لذكراك هزة .. كما انتفض العصفور بلله القطر

هكذا كان حلمه بها في كل الليالي، حتى اختلف الحلم في الليلة السابقة، فلم ينته بالفراق كأحلامه فيما سبق من ليالي وحدته، فعندما وصل في حلمه لكفها الرقيق وهم أن يقبله، هاله أن جذبت يده نحو شفتيها، وأنعمت على يده المرتعشة عشقاً بقبلات متتابعات، كأنها أول حركات الجنين في رحم عقيم، وأول زخات المطر على أرض ظمآنة، ومخاض طفل إلهي في زمن الضلال، تمنى ساعتها لو صار كل كيانه كفا تنعم تحت شفتيها، تمنى لو توقف الزمن، لكنه لم يتوقف بالطبع، بل توقفت القبلات وابتعدت المحارة بعد أن تركته أكثر ولها! لم تكتفِ ربة المحار بقلبه، فأخذت عقله، وجرته في أعقاب محارتها المسحورة نحو البحر المحيط بعد هاتيك القبلات

يسمع قرعا على الباب، وقبل أن ينطق مجيبا يفتح باب الغرفة فيدخل منه، إنه توأمه اللدود، أو توأمه الحبيب، لطالما احتار في وصف مشاعره نحو هذا المفروض على حياته من المهد إلى اللحد، إعجاب، حب، حقد، كراهية، أو كلها معاً، لا يعرف توأماً متماثلاً غيره وأخيه هذا على ذلك القدر الرهيب من تناقض الطباع، تناقض الشاعر والفارس، تقلب الأول والتزام الثاني، جنون الأديب وحكمة المحارب، ضعف العاشق وسطوة المنتصر، اندفاع الفنان وتروي المقاتل، صهيل العاطفة وزئير الواجب، لماذا كل هذا التناقض؟ توجه توأمه نحوه ثم تحدث سائلا والضيق ظاهر على وجهه
- ما الحكاية؟ لماذا لم تنم منذ أمس؟ تعرف أني لا أنام إلا عندما تنام أنت، فلو كنت أنت فارغا عاطلا إلا من أساطير عشقك فأنا لست مثلك، إن لي عملاً ومهاماً علي الاضطلاع بها، وتذكر أن عملي هذا هو ما ينفق على حياة الفراغ التي تسميها حياة إبداع
- ما المطلوب؟ هل تقترح أن أتعاطى أنا منوماً حتى تنام؟
- جربناه ألف مرة ولم يغن عنا شيئا، لماذا عدت ثانية لسهدك؟ ألم تعتد فراقها منذ زمن بعيد؟
- تعرف السبب كما تعرف عني كل شيء بطريقتك
- لأنها عطفت عليك في حلم يقظة بالوصال؟ ألم نتفق أنك أكبر من هذه الترهات، على الأقل سناً؟ ما الفائدة؟ تعلم أنها لم تكن لك يوما، ولن تكون، وتعرف السبب كما تعرف اسمك
- نعم، الأوراق، الهوية
- بالضبط، أنت لا تمتلك هوية كي تحب أو تتزوج، أنا من يملك الهوية، وأنا من يستطيع الزواج، وقد فعلت من زمن بعيد
- رحم الله أبانا، أصر حتى وفاته أننا ابن واحد، ولسنا توأما، صدق هذا الطبيب النفسي الغبي الذي قال أننا فتى واحد مصاب بتعدد الشخصية، فكتب علي أنا الحرمان من الهوية والكينونة، وكتب عليك الحرمان من الشعور، فعلينا الصبر وأن يحتمل أحدنا الآخر
- لكن حالتك منذ تصدقت عليك بقبلتين صارت لا تحتمل، واليوم وصلت بأفكارك للدم .. للجريمة!
نظر نحو الأرض في خجل، فقد فكر أمس أن يقتل توأمه، يغتاله لتصبح لديه الهوية، وبها ينعم بقرب من يحب، لكنه احتار كيف ينفذ جريمته؟ هو لا يستطيع قتله، ليس لأنه أخوه، و لكن لأنه الأقوى والأقدر، وهو من يوفر للشاعر المأوى والطعام والدخان، حتى الورق والأقلام، بدونه لن يستطيع الحياة، ولكن بدونها أيضاً لا قيمة للحياة، في ذلك كان يفكر أمس بعد حلم الوصال!
أفاق من إطراقته على صوت توأمه قائلاً:
- تجاسرت على التفكير بقتلي؟ ولكنك بالطبع لا تستطيع، والآن أسألك أنا، لماذا يتعين علي أن أحتملك، أنت بالنسبة لي لا شيء، فلماذا أترك مهووس يهدد حياتي ومستقبل أسرتي للخطر؟
- أنا الإنسان الذي كان يجب أن يكون في صدرك، أنت أيضا لا تستطيع قتلي
- حقاً ؟

قالها الفارس وهو يخرج يده من جيب سترته فيلمع خنجر فضي، ثم دفع بالخنجر نحو صدر أخيه في هدوء واثق قوي، فارتج الشاعر والخنجر يستقر في قلبه، وسال دمه حبرا أزرق فوق نصل الخنجر حتى وصل لكف قاتله، ثم سقط الشاعر وهو ينظر لوجه القمر، وترنمت شفتاه بإسمها السري، بالاسم الأعظم لصخرته المقدسة التي اتخذها مرفأ من ظلم الكون وجفاء الحياة، ثم استقر جثة فارغة النظرة على قدم أخيه في غضون لحظات! ألقى الفارس بالخنجر بعيدا وانحنى على جثة توأمه والدموع تلمع في محجريه الصخريين، فقال
- يا أخي الحبيب الغبي، لست وحدك من أحبها، أنا أيضاً عشقتها وأردتها، بل تمنيتها في بعض اللحظات أكثر من الحياة، ولكن كل هذا بلا جدوى، فكل الكون حولنا كان يرفض حبنا الأعظم والأقدس، في كل لقاء كان الكون يردد صراخه رافضا، حتى هي، كانت تقول لا ألف مرة، ولكنك لم تسمعها، وحدي أنا سمعتها فشقت قلبي قبل أذني، آسف يا رفيق العمر، بمفردي يمكنني أن أغرق في شؤوني فألتهي عنها بعملي وحياتي، لكنك كنت تذكرني بها كل يوم ألف مرة، لأتعذب بها وبك ألف ألف مرة، لذلك كان يجب أن تصمت للأبد

أغمض عيني أخيه، ونام على الأرض بجواره، وفي الصباح، وهو يشرب الشاي قبل أن يرتدي ملابسه ليمضي لعمله، سقطت دمعة ساخنة في كوب الشاي أمامه، لقد تذكر شفتيها، فعاوده الحنين لثدي الأم، لقد قتلت بعضا من دمي حتى أسلوك، فلا تتقافزي في خاطري بدلالك ولمعان عينيك وحيوية شفتيك، قام مسرعا لعمله، وعندما كان يقود سيارته في الطريق، سمع صوت أخيه من العالم الآخر يترنم

يا فارس يا راكب حصان الجسارة
يا قادر تخلد .. و قادر تــموت
يا فاتـح بيبان البـلاد للعـذارى
وفــارش فـؤادك عتب للبيوت