29.8.10

مش عايز يتجوزها


لست أناقش هنا كتاب غادة عبد العال الساخر خفيف الدم "عايزة أتجوز" في ذاته، ولا أناقش كذلك حرفيات سيناريو وحوار المسلسل الكوميدي الذي أراه أضعف من الكتاب وعابته مبالغات استجداء الضحك المألوفة، وإنما أناقش موضوعهما، موضوع زواج الفتاة التي تمثل قطاعا عريضا من المجتمع هو فتيات الطبقة المتوسطة المثقفة المصرية، وما أريد إيجازه هنا، هو لماذا لن يقبل معظم الرجال (بعيدا عن النماذج المشوهة التي يعرضها المسلسل) على الارتباط بالدكتورة علا بطلة المسلسل، وسأدع جانبا الطبيعة المستفزة لشخصية علا التي قدمها المسلسل، والتي تجعل من مصلحة البشرية ألا تتزوج علا أو تنجب حتى لا تستمر المأساة ببث مادتها الوراثية في جيل جديد

ضحايا الرجل وازدواج المعايير
مشكلة علا ومثيلاتها هم الرجال في مجتمعنا، فقد وضع المجتمع لهن معيارا واحدا للقيمة والنجاح، هو الفوز بعريس لقطة، (التعبير الغبي الذي يساوي الرجل بكنبة مستعملة أو فوتيه أثري يمكن الحصول عليه لقطة من صالة مزادات في وسط البلد)، فمنذ طفولتهن تسمع الفتيات سؤالا سمجا هو : هتتجوزي مين لما تكبري؟ شريف ولا عبد الرحمن؟ وإذا تمنى لهن أحد مستقبلا باهرا قال لإحداهن: يا رب أشوفك عروسة، أو يا رب أشوفك متهنية في بيتك (كأن بيت أبويها ليس بيتها بالفعل، كأنها لاجئة أو لقيطة)، أو يا رب أشرب شربات فرحك (رغم أن موضوع شربات الفرح نفسه لم يعد موجودا)، وحتى تحقق الفتاة هذا النجاح وتحرز هذه القيمة بالحصول على عريس لقطة، تسير منذ صباها الباكر على صراط المجتمع المستقيم، فتجد في دراستها وتتخرج في إحدى كليات القمة، وتلتزم في تعاملها مع الجنس الآخر سلوكا يتجاوز الالتزام الخلقي إلى حد الوسواس القهري والتزمت، وترتدي الحجاب عن اقتناع أو بغير اقتناع لأنه صار أحد مقومات الزواج في العقود الأخيرة، وهي تتصور في كل خطوة من تلك الخطوات أنها تضع رصيدا قابلا للصرف في خزينة المجتمع، وحين تتخرج وتمر السنوات سريعا دون أن يظهر ابن الحلال الذي يساوي كل ما بذلته من جهد في مرحلة الإعداد والتأهيل الاجتماعي، والتي طالت بطول عمرها، عندئذ تبدأ الفتاة بالكفر بالمجتمع الذي نصب عليها أول مرة بتصوير الزواج بأنه الجنة الموعودة، وثاني مرة حين منعها من دخول تلك الجنة المزعومة

تكتشف المخدوعة أن عنترة الذي فرض عليها سلوكا شبه متزمت ليمنحها لقب "محترمة وبنت ناس" قد تنازل فجأة عن هذا اللقب كشرط في العروس المنتظرة، وخطب زميلتها اللعوب لأنها عرفت كيف تعزف له على أوتار الأنا الذكورية المتورمة، وتكتشف أن الشاب الثري الذي كان يضع الحجاب في مقدمة مواصفات فتاة أحلامه يسعى للارتباط بفتاة "ستايل" حتى يتم علامات وجاهته، كأن جمال الزوجة الظاهر دبوس ماسي في رابطة عنقه، فالزوجة الجميلة الستايل أحد علامات الوجاهة الاجتماعية في العصر الاستهلاكي كالسيارة الفارهة والساعة فيليب شاريول، كذلك تكتشف المسكينة أن شريحة العرسان من ضباط الشرطة ووكلاء النيابة والمحامين والمحاسبين التي كانت تحفى لترتبط بعروس صيدلانية لفتح صيدلية باسمها قد عزفت عن الصيدلانيات لأن الصيدلية لم تعد مشروعا مربحا، أما العرسان اللقطة فهم بين طائفتين، الأولى رجال ارتبطوا بالفعل خلال سنوات الدراسة وتزوجوا فور التخرج بصاحبة نصيب لم تتجنب الزملاء الشباب كأنهم جرب، والطائفة الثانية رجال لن تلفت فتاتنا المجتهدة والملتزمة نظرهم ولو حرصت على هذا، لأن درجة نضجهم تجاوزت مرحلة زواج قضاء الحاجة بمراحل

عايزة أتجوز وتشييء الرجل
كثيرة هي الأقلام التي تحدثت عن تشييء المرأة في المجتمع الشرقي، بتنميطها في صورة أداة لمتعة الرجل أو خدمته، لكن أحدا لم يتناول التشييء المضاد الذي تمارسه المرأة ضد الرجل برغبتها العامة في الزواج والغير مرتبطة بشخص ولا حتى بمجموعة عناصر ذات خصوصية تشكل فتى الأحلام المنتظر، فالعبارة التقليدية: مؤدب وابن ناس وبيصلي ومابيدخنش وعنده شقة وعربية و........الخ ليست مواصفات فتى أحلام بل مواصفات بطاقة رقم قومي مناسبة لكتب الكتاب، واسم مناسب ليوضع على بطاقة الدعوة لحفل زفاف، فرغبة الفتاة في الثوب الأبيض دون أدنى اعتبار لشخصية حشو البذلة السوداء بجوار هذا الفستان كفيلة بنفور أي رجل سليم الفطرة، فمن ترغب في رجل بمواصفات التابو الاجتماعي السابقة هي في الحقيقة لا ترغب في رجل ولكن في الوضع متزوجة والوضع أم، من حق أي رجل وأي امرأة غير مرتبطين أن يحلما برفيق العمر، ويترقبا ظهوره، ولكن هذا الترقب لابد أن يؤسس على منظومة من المعايير المميزة، وغياب تلك المعايير واحلال مقاييس المجتمع العامة محلها هو سبب حالات الطلاق التي لا تنتهي في مجتمعنا، فمتى نتعلم؟

لماذا لن يتزوجها؟
لو فكر رجل في شخصية علا، وحاول إجابة السؤال: لماذا لن أتزوجها، فسيجد عددا لا نهائيا من الإجابات يزدحم برأسه، شريطة أن يكون رجلا عاقلا راشدا متعمقا في فهم الحياة وعلاقات البشر، وتلك الإجابات يمكننا أن نتصورها كما يلي
  • لن يتزوجها لأنها كافرة بالحب، بعلاقة المودة والرحمة التي وإن كانت نادرة التحقق بين الأزواج عامة فهي مستحيلة التحقق لو كفر أحد الزوجين بها وادعى باستحالتها
  • لن يتزوجها لأنها تريد ضل حيطة والسلام، أو في أحسن الفروض تريد ذكر نحل ليقوم بمهمة الإخصاب حتى تصير أما، وهو لا يقبل لنفسه هذه الصفة ولا تلك مادمنا اتفقنا أنه رجل عاقل راشد
  • لن يتزوجها لأنها لا تملك رؤية مستقلة في حياتها، وبالتالي لن تكون قادرة على مشاركته في رؤيته وطريقه، ولن يشاركها رؤيتها، فتصبح الحياة شكلا من أشكال تمرير الأيام الذي نجيده في مصر كما لا نجيد غيره
  • لن يتزوجها لأنها مسطحة التفكير واستعلائية، ترى نفسها أفضل من الجميع لولا سوء الحظ والطالع، وتحكم على كل من حولها من فتيات وكأنها قاض، لا تشتغل بعيوب نفسها وهي كثيرة عن عيوب غيرها، ولا تدرك الفارق بين ظروفها وظروفهن، وبين حياتها وحياتهن، فهذه رومانسية بلهاء، وتلك منحلة ومتهتكة، وهكذا لتصبح هي الوحيدة المثالية
  • لن يتزوجها لأن فهمها لتركيبة الرجل النفسية لا تزيد عن صفر، وبالتالي سوف تتعامل من منطلق تركيبتها هي دون أدنى اعتبار للاختلاف بينها وبين الآخر
  • لن يتزوجها لأنها كعقلية تعد نموذجا لعقلية القطيع، فهي تسير مع تيار المجتمع دون أدنى قراءة نقدية لمعطيات المجتمع، يجرحها أن يزوج أبويها أخوها الأصغر قبلها في تابو اجتماعي عبيط، وتجرحها كلمات الناس العابرة كأنها كيان هش كالزجاج
  • لن يتزوجها لأنها نموذج نمطي لامرأة تنكح .. ولا يقترن بها، وهو مادام رجلا بحق يسعى للقران وليس النكاح فحسب

وختاما، يوجز كل ما سبق أن أقول أنها تمثل المرأة في مجتمع يعيش عصرا من عصور الانحطاط، ولا أقول أن هذه سمات كل نساء مصر اليوم، لكنها السمات الشائعة إلا من رحم ربي، سمات الفتاة في مجتمع استهلاكي بيعت ثوابته في مزاد علني منذ أكثر من ثلاثة عقود، ففقد البوصلة وفقد التوجه جماعات وأفرادا، مجتمع قدر له أن يكون الرجال فيه أشباه رجال والنساء أشباه نساء، وبين الأشباه والأشباه لا يوجد قران ولكن يوجد نكاح، لا توجد شراكة بناءة ولكن تنافس في الهروب من المسئولية، لا توجد ممارسة حب وإنما يوجد سفاد، فيتكون لدينا مجتمع تمرير الأيام على نمط: نولد، نتعلم، نتخرج، نعمل، نتزوج، ننجب، نموت، مجتمع قدرنا أن نعيشه، لاننا جيل لم يأت في موعده مع القدر، فقد سبقته الأقدار

23.8.10

جمعية التأبيد .. طليعة الانحطاط


فصلنا في مجموعة مقالات سابقة كيف تمثل الحقبة من 1974م وحتى اليوم عصر الانحطاط المصري المعاصر، وبينا تطابق سمات عصور الانحطاط التاريخية عليها من تبعية الإرادة الوطنية، إلى التردي الاقتصادي والاجتماعي، إلى اضمحلال منظومة القيم، إلى الطائفية والفتن في غياب المشروع القومي الجامع، إلى غياب دور مصر الإقليمي والدولي، وكيف صارت قلوبنا جميعا معلقة بالحراك الوطني الحالي، وبانضمام النخب الناصرية والقومية مثل حمدين صباحي وعلاء الأسواني وحمدي قنديل إلى غيرهم مع محمد البرادعي في الجمعية الوطنية للتغيير، وصدور بيان التغيير وبداية حملة مخلصة لجمع التوقيعات عليه كوثيقة إجماع وطني

اليوم، تطالعنا المصري اليوم بمقال حول صدور بيان تأسيسي لكيان أطلقوا عليه اسم الجمعية الوطنية للتأييد، وبتصريحات للمنسق الجماهيري لهذا الكيان الغير جماهيري، ويدعى محمد عاصي، والذي صرح بأن الهدف من تأسيس جمعيته تلك هو توحيد التيارات المؤيدة للنظام وللرئيس مبارك ونجله جمال مبارك في مواجهة تيارات المعارضة، ومع تحفظنا على اسم الجمعية التي نرى الأولى بالسيد عاصي أن يسميها الجمعية الوطنية للتأبيد، أو للترميم، أو للتكهين، أو للتثبيت لتصبح مقابلة لجمعية التغيير التي ناصبها بيانه العداء بوضوح، نحب أن نستعرض معا تصريحاته المريضة، والخارجة عن إطار الديمقراطية، فالديمقراطيات فيها حكومة ومعارضة ومجموعات ضغط، وليس فيها حكومة ومعارضة ومجموعات تأييد

يقول البيان كما نقلت اليوم السابع أن الجمعية تدعو كل التيارات المؤيدة للنظام لتنصهر داخل بوتقة واحدة لتظهر قوتها فى مواجهة المعارضة التى باتت ترهب كل من يفكر فى ذكر إيجابيات النظام أو الدفاع عنه .. هكذا؟ يالنا من معارضة ظالمة أثيمة تستخدم فيالق الأمن المركزي لإرهاب التيارات المؤيدة للنظام، لانها مسكينة متفرقة، نستفرد بها تيارا تلو آخر، وناشطا مؤيدا تلو آخر، فنقتل هذا بضرب رأسه في الرخام، ونعذب هذا ونهتك عرضه حتى يضرب على الطعام لحين تقديم المعارضين المجرمين الذين أرهبوه للنيابة، ونعتقل هذا لنشره كتابا عن جمال مبارك وحركته المباركة، ونضرب هذا ونلقيه عاريا في الصحراء، ونلفق قضية تفسد حياة هذا الأسرية والزوجية، يالنا من معارضة تبطش بمؤيدي النظام الوديع ابن الناس الطيبين بلا رحمة

وجاء فى البيان أن بعض التيارات السياسية والحركات أساءت استعمال الحرية ووظفتها توظيفا خاطئا بدعم من جهات غربية لإحداث فرقة بين الشعب ونظامه؛ بجمع توقيعات من الشعب ضد النظام ورموزه، وهي عبارة ترددت كثيرا بأقلام طبلجية النظام وعلى لسان منظريه في كل الفضائيات، عبارة لم تختبر، فأما التلميح بالعلاقة بالغرب، فالغرب لم ولن يطمع في نظام أكثر موالاة له من نظام مبارك وسلفه السادات، ففي عهديهما اللذان نسميهما بعصر الانحطاط المصري الخامس والمعاصر حقق الغرب، وحققت الأنظمة اليمينية الآنجلو-أمريكية تحديدا المكاسب التالية
  1. تصفية الصراع العربي الصهيوني بخروج مصر منه، والصهيونية أحد رؤوس الحربة لتلك الأنظمة في المنطقة
  2. تصفية التجربة التقدمية المصرية التي كانت وجعا في رأس أمريكا بتهديد مصالحها البترولية ونفوذها في الخليج
  3. سخرت الطاقات المهنية المصرية لخدمة المصالح الآنجلو-أمريكية في السعودية والإمارات العربية
  4. وقعت مصر اتفاقية الكويز، وهي كامب ديفيد صناعية واقتصادية، كما وقعت اتفاقيات التريبس والجات الغير مناسبة لظروفها لأجل عيون الغرب ورضاه
  5. خضعت مصر لسياسة احتكار التسليح في المنطقة وهي التي كانت رائدة بكسرها في الخمسينات، فأصبح سلاح مصر مرتهنا بالدعم الفني من الحليف الاستراتيجي للصهاينة

باختصار من المستحيل أن يطلب الغرب نظاما يحقق مصالحه فوق ما حققها النظام الحالي، والذي لم يترك شمعة إلا وأوقدها ولم يترك عتبة إلا وزارها في رضا الأمريكان، وآخر من يقبل منه المصريون مزايدة في هذا هو النظام وأذناب النظام وأتباعه ومريديه وبهاليله، وأما نكتة الفرقة بين الشعب ونظامه فهي تعكس خلل المفاهيم عند العناصر الغير مؤهلة والغير محنكة حتى في النفاق، والتي يختارها النظام كأبواق له، فالشعب ليس على ذمة النظام يا سيد محمد، لم يعقد عليه النظام ولا كتب له ورقة عرفي، حتى يصرخ أحد قائلا أن البرادعي جاء بما يفرق به بين المرء وزوجه وبين الحاكم وشعبه، وحدهم المستنكحون للنظام من أبناء الشعب الغير أبرار هم من ينطبق عليهم هذا الوصف، وهؤلاء لن يفلح أحد في تفريقهم عن نظامهم وتخليصهم من عارهم

ثم ألقى السيد محمد بالنكتة الأكبر، أن جمعية التأبيد ستبدأ حملة لجمع توقيعات المواطنين على رفض ما قامت به الجمعية الوطنية من جمع توقيعات لتغيير الدستور، يعني توقيعات لرفض توقيعات، وهو ما يتيح لنا أن نؤسس جمعية جديدة ترفض جمعيته الرافضة وتجمع توقيعات لرفض التوقيعات المجموعة لرفض التوقيعات الأولانية، ودوخيني يا لمونة، وهنا تتكشف الاستراتيجية الخايبة للنظام في تحويل موضوع التوقيعات إلى نكتة في الشارع المصري بدلا من أن يكون حراكا، وبالتالي إجهاض الجهود التي بذلت وتبذل فيه، فلأن كان العصر الأسود الذي طال بنا هو عصر الانحطاط المصري المعاصر، كما نقسم من اليوم أن كتب التاريخ سوف تسجله بعد عشرات السنين، فلسوف يصف التاريخ نفسه تلك العناصر التي لم تخجل من معاناة مواطنيها، ولا من تدهور الحال بوطنها بوصف هي أهل له، طليعة الانحطاط

18.8.10

بيتانية مبارك وديجولية نصر الله



ترجمة مقالي في 26 أبريل 2010 في آميريكان كرونيكل
-----

لم تكن رسالة مبارك إلى إسرائيل مهنئا بعيد الاستقلال الثاني والستين هي رسالته الأولى إليها، وككل مرة لم تكن الرسالة ممثلة لجماهير شعبه الرافضة للتطبيع، وللدور الذي فرض على مصر فرضا في عهد سلفه كدولة صديقة للكيان الصهيوني وللرأسمالية الآنجلو-أمريكية وللأنظمة التقليدية في المنطقة بالتالي، وكون الرسالة مكررة لا يعني أنها لم تكن مؤلمة للمصريين والعرب جميعا، خاصة لو أخذنا في اعتبارنا الأحداث المتزامنة معها في 2010م، وأهمها
  1. أعمال الحفر المتزايدة أسفل الأقصى بما في ذلك أنباء عن تخطيط لمرور خط مترو تحت أساسات المسجد
  2. استمرار العمل في الجدار العازل على حدود مصر مع قطاع غزة، والذي يهدف لإحكام حصار وتجويع الفلسطينيين بهدف التركيع
  3. اغتيال العالم النووي الإيراني مسعود علي محمدي، ووصف جريدة الأهرام لقاتله، رئيس جهاز الموساد الصهيوني مائير داجان بالسوبرمان في عددها الصادر يوم 17 أبريل الجاري
  4. استمرار قمع النظام لناشطي التغيير مع ثبوت حالات تعذيب للناشطين، وهو ما يعكس نظاما يستأسد علينا في الداخل كشعب أعزل مرتهن ويلين لإسرائيل إلى ما لا نهاية
وفي اتساق منتظر مع مواقفه، اعتاد مبارك أن يصف مواقف حزب الله الدفاعية عن ثرى وكرامة لبنان بالرعونة، ويتهم الحزب بأنه يقامر بأمن وسلامة الشعب اللبناني، ويعرضه لويلات الحرب ضد الصهيونية، كأن الحزب هو الذي اختار العدوان والاحتلال، وكأن الصهيونية بحاجة لعلة حتى تمارس العدوان. ذات هذه الكلمات التي قالها مبارك قيلت في النصف الأول من القرن العشرين على لسان جنرال عجوز في الرابعة والثمانين من عمره يدعى هنري فيليب بيتان، والذي لقبه الفرنسيون يوما بمارشال فرنسا إثر بطولته في الحرب العالمية الأولى، والذي صار رئيسا لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية في عام 1940م، إذ حسب أعضاء البرلمان أن بطلا قوميا مثله في مقعد الرئاسة سيبث روح المقاومة في الأمة الفرنسية إثر الهزيمة النكراء أمام النازي، وقد أدرك البرلمانيون الفرنسيون كم كانوا مخطئين يوم حول بيتان فرنسا لكيان قزم عاصمته قرية فيتشي في الجنوب الفرنسي، وفقا لمعاهدة الاستسلام التي وقعها للنازي، وقعها لهم لا معهم، ولبس إهاب الديكتاتور المتعاون مع قوات النازي، وقمع ناشطي حركة فرنسا الحرة في كل مكان بدعوى أنهم متهورون يعرضون فرنسا للدمار، ووصف حركتهم المقاومة للاحتلال، والتي أسسها الجنرال الوطني شارل ديجول بالحركة المحكوم عليها بالفشل، وكان النازي يسمي حركة فرنسا الحرة بالإرهابيين تماما كما يسمي الصهيوني حزب الله اليوم

في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان شارل ديجول في مقعد الرئاسة منتخبا من شعبه، وكان بيتان الذي حصل على أعلى الأوسمة العسكرية يوما إثر بطولته في معركة فيردان يقف في قفص الاتهام، ليسمع قضاته وهم يوجهون إليه تهمة الخيانة العظمى في زمن الحرب، ويحكمون عليه بالإعدام، قبل أن يخفف ديجول الحكم للسجن مدى الحياة، فأي دروس نستخلصها من هذه الملحمة التاريخية؟
  1. بطولة بيتان في الحرب الأولى لم تمنعه وهو في الثمانينات من عمره خلال الحرب الثانية أن يستسلم لعدوه حتى المهانة، وعليه، فكون مبارك قائدا من قواد النصر في عام 1973م لا ينفي أنه وسلفه السادات نقلا مصر من ريادة معسكر الصمود إلى مقدمة الدول المتهاونة والمسماة تضليلا بالمعتدلة في مواجهة الصهيونية
  2. أبطال المقاومة في الأمم المهزومة والفاقدة لعزتها القومية والوطنية يسميهم الإعلام الرسمي عادة بالإرهابيين، ويدعي أنهم يعرضون شعوبهم للخطر والدمار، لكن كتاب التاريخ ينصفهم لاحقا بما يستحقون من أكاليل الغار، بينما يعاني الفريق الذي اتهمهم بالإرهاب من اتهامات الخيانة العظمى، وعليه، فلسوف يكتب التاريخ العربي اسم السيد حسن نصر الله يوما بحروف من نور ومسك في قائمة أبطاله عبر الزمان، بينما سيعاني حكام مثل مبارك مصر، وعبد الله السعودية، وعبد الله الأردن من أحكام محكمة التاريخ التي لا تعرف النفاق ولا التزلف
  3. في السياسة الفرنسية اليوم، لو أردت أن تتهم شخصا بالسلبية والانهزامية ما عليك إلا أن تدعوه بيتانيا، ولو أردت أن تصف آخر بالوطنية والتمسك باستقلال الرأي الفرنسي فعليك أن تدعوه ديجوليا، وذات يوم سيحسم التاريخ جدل الحاضر، وسترتبط أسماء عبد الناصر ونصر الله وهواري بومدين وشكري القوتلي بالوطنية والفداء وبعد الرؤية، بينما سترتبط أسماء مبارك والسادات وعبد الله بالعكس
فالتاريخ يمشي في النهاية في ركاب الحق ولو طال الزمن، بآلية ربانية وضعها الله فيه حتى تتجه التجربة البشرية في مجملها نحو النماء والغناء، ونحو كرامة الفرد واستقلال الأمم، ولهذا فالخلود هو موعد الثابتين، واللعن هو قدر المفرطين وإن طال الزمن

10.8.10

قبلة


الثغر يدنو للجـــــــــــبين ملبيا

ويطوف بالوجنات يبدأ حجتي

مسعاه بين الحــــــاجبين أطلته

فجفون عينيك صفاي ومروتي

وختمت مسعاه بخير مناسكه

من زمزم الشفتين أروي لهفتي

أقبل الليل يا ليلى

أقبل الليل يا ليلى من مفرقيك .. كلجة بحـــــــــــرٍ ناعمٍ رقــــــــراقِِ

أنعم بليل لو طــال يا ليلى بنا .. لم تحفل العينان بغيبة الإشــــــــراق

ومن يبالي بالشموس ونورهن؟ .. والبدر وجهك جلَّ عن المحـــاقِ

من ذا يريد الخمر يا ليلى ليسلو؟ .. فليسلُ غيري ولتفنينِِ أشــــواقي

كؤوس خمرك في عينيك مترعة .. تصب نشواك في لهف أحــداقي

من ذا يريد الكرز يرشف شهده؟شهد اللمـــا .. وصفوه لي ترياقـي

كفرت شفايا بالثمــــــــار أوافلٌ .. وتدين بالتوحيد لثغــــــرك الباقي

2.8.10

الناصرية غدا


ما هي الناصرية التي نتبناها جسرا للكرامة في حالة الوطن الراهنة؟

إنها ناصرية تؤسس على الإنجازات وترأب الصدوع التي نفذت منها الانكسارات، وناصرية تنفصل عن شخص رائدها الأول الذي تنسب إليه، فالمبدأ أكبر من الفرد حتى لو كان الفرد هو المؤسس والملهم، والناصرية في جوهرها منظومة مباديء تنطلق من التركيبة الجغرافية والسكانية والتاريخية لمصر وما تفرضه تلك التركيبة من توجهات وسياسات، وهي السياسات التي علا نجم الدول في تاريخ مصر طالما انتهجتها، وهبط نجمها كلما بعدت عنها، تركيبة فهمها جمال عبد الناصر - لكنه لم يخلقها قطعا لأنها سابقة عليه - وأسس عليها السياسات العريضة التي تتكون منها الناصرية، وهي برأينا:

- استقلال الإرادة الوطنية المصرية، والتي تحافظ على كيان الأمة المصرية التي تنصهر فيها تعددية الأجناس والأعراق والأديان والمذاهب والبيئات، فمصر ليست عرقا واحدا نقيا بتقاليده وعاداته، ولا هي دين واحد بخصاله وقيمه، ولا بيئة واحدة رعوية أو زراعية أو ساحلية، بل هي هذا كله مجتمعا، ولذلك فغياب المشروعات القومية المؤسسة على إرادة وطنية مستقلة يفتت مصر ويحول طبيعتها الفسيفسائية لما يشبه الزجاج المكسور.

- الاقتصاد الاشتراكي الذي يحترم كل من الملكية الخاصة والمصلحة العامة ويسعى لتحقيق التوازن البناء بينهما، فحق الملكية حق إنساني أصيل، على ألا تكون تلك الملكية مؤسسة على اغتصاب أو انتهاك لملكية الغير أو الملكية العامة، أو على الفساد الذي يمكن الفرد من نصيب أكبر من الدخل القومي أو عائد التنمية، وفي ذات الوقت، فمراعاة المصلحة العامة، وحق الحياة الكريمة للمواطن كأحد الحقوق الأصيلة المرتبطة بالمواطنة، هما صمام الأمان لصيانة الملكية الخاصة على الأمد الطويل. كما أن انحياز الدولة لمحدودي الدخل والطبقات الكادحة هو شرط شرعيتها الدائم، فقد أفرزت المجتمعات البشرية الحكومات لحماية الأضعف من طغيان الأقوى والأقل موارد من استغلال الأكثر موارد، وأي حكومة تعكس انحيازها فتتحالف مع رأس المال ضد المصلحة العامة ومصالح الكادحين تفقد شرعيتها فورا.

- تنمية الدور الإقليمي والقاري والعالمي البارز لمصر بما يناسب ثقلها الجغرافي والسكاني والتاريخي والثقافي، والقومية العربية أحد أهم الركائز في هذا الدور، لأنها جسر ثقافي يربط مصر بمحيطها الإقليمي، وليست في ذات الوقت نعرة عرقية تؤثر على علاقة مصر بمختلف الأعراق في المنطقة من كردية لفارسية لتركية لأمازيجية، والعقيدتان الإسلامية والمسيحية الأرثوذكسية جسران يربطان مصر بمحيطها العالمي، وكذلك الحال مع الهوية القارية الأفريقية، ومع الهوية الاشتراكية التي تربط مصر بالدول الرافضة للاستغلال من أمريكا اللاتينية غربا للصين شرقا.

- الموقف الرافض للتطرف اليميني بكافة تياراته العالمية ومظاهره المختلفة، بما في ذلك الصهيونية، واليمين المتطرف الآنجلو-أمريكي والفرانكو-لاتيني، والأصولية الإسلامية الوهابية والسلفية، والأصولية المسيحية الكاثوليكية، وأوضح مظاهر هذا الموقف الثابت تتمثل في ريادة مصر لمعسكر الصمود العربي ضد الكيان الصهيوني، وريادة التقدمية العربية في صمودها الحضاري والثقافي ضد الأنظمة التقليدية الموالية للوبي الآنجلو-أمريكي في منطقة الخليج.

والعبقري الراحل الدكتور جمال حمدان هو برأيي النموذج الكامل للمفكر الناصري، فتمسكه بالثوابت الناصرية لا يعتريه ضعف، ومع ذلك فنفاذ بصره لعيوب التجربة الناصرية الأولى لا ينتابه قصور، فهو لذلك في فكره السياسي والاجتماعي والاستراتيجي يعد المثل الأعلى للناصرية الجديدة التي ننشدها، ولهذا نرى أن قراءة لأوراقه الخاصة التي نشرت مؤخرا من دار عالم الكتب للنشر تفيدنا في هذا الموضع وتغني في تركيز لغتها التلغرافية عن كثير من الإطناب والإسهاب. يقول عبقري الجغرافيا السياسية والاجتماعية الناصري الراحل:

"مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث، ولا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة الجانحة". لقد فهم الراحل الكبير أن تركيبة مصر السكانية وعلاقتها بالجغرافيا والموارد الطبيغية، وهذا التمدد البطيء للكتل السكانية حول الوادي والدلتا لا يجعل من مصر أرضا للفرص البكر كالولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين، ولا كالجزيرة البريطانية في القرن الثامن عشر مثلا، ولهذا، فوجود ضوابط ناظمة للاقتصاد جوهري حتى تتعايش هذه الكتل السكانية المكدسة في سلام اجتماعي. وقل مثل هذا في علاقة المدن بالقرية والنزوح المنتظم إلى المدينة كلما زاد النشاط الرأسمالي، والذي يهدد بتجويع المدينة بسبب قفر القرية. وغير هذا كثير تقوله الجغرافيا السكانية لمصر لمن يستنطقها.

" بقيام إسرائيل عام 1948 فقدت مصر ربع وزنها التاريخي، ثم فقدت نصف وزنها بهزيمة 1967، ثم فقدت بقية وزنها جميعا في كامب ديفيد. مصر الآن خشبة محنطة، مومياء سياسية كمومياواتها الفرعونية القديمة، ولا عزاء للخونة". فبقيام الكيان الصهيوني عام 1942م وفشل مصر والدول العربية في مواجهته عام 1948م انتهى دور مصر كنقطة اتصال بين شرق العالم العربي وغربه، وانتهت الحدود الآمنة لمصر لأجل غير مسمى، وفي هزيمة 1967م فقدت مصر نصف زونها السياسي والتاريخي كرائدة للأمة العربية بعد أن عجزت عن ردع إسرائيل وعجزت عن حماية ترابها الوطني فضلا عن دعم الأردن وسوريا في مواجهة العدوان، ثم استعادت مصر بعض ما فقدت تدريجيا خلال حرب الاستنزاف المجيدة، واستعادت نصيبا وافرا منه بالعبور العظيم في 1973م، لكن التورط التدريجي في صلح منفرد وغير عادل مع الصهيونية أخرج مصر من معادلة الشرق الأوسط وأفقدها بقية ما لها من وزن فيه.

"جمال عبد الناصر أول - وللأسف آخر - حاكم يعرف جغرافيا مصر السياسية". فكل السياسات الناصرية كانت مؤسسة على الجغرافيا السياسية المصرية، فالسيادة والمشروع الوطني هما آلية توحيد المزيج السكاني الغير متجانس، والاشتراكية هي آلية عدالة التوزيع في ظل موارد زراعية محدودة وخطط صناعية نامية، والقومية هي الحضور الفاعل لمصر في محيطها التاريخي.

"الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون، أنت مصري إذن أنت ناصري، حتى لو انفصلنا عن عبد الناصر أو رفضناه كشخص أو كإنجاز. وكل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية إلا وخرج عن المصرية، أي كان خائنا. فالناصرية بوصلة مصر الطبيعية، مع الحق المطلق لكل مصري في قبول أو رفض عبد الناصر، لأن المصري ناصري قبل الناصرية وبعدها وبدونها"، وهو هنا يعني تماما ما فصلناه من انفصال الشخص عن المبدأ، ومن كون الناصرية منظومة سياسات نابعة من مصر ومقدرات مصر حتى تكاد هويتها تتطابق مع الهوية المصرية.

"كل عربي أو مسلم يقبل بإسرائيل فهو خائن قوميا وكافر دينيا". فإسرائيل ليست احتلالا بغيضا وحسب، ولكنها رأس حربة اليمين المتطرف العالمي في المنطقة، وهو اللوبي العالمي الذي يستهدف العالم العربي كمصدر للطاقة وسوق استهلاكية ضخمة، من هنا كان القبول بها خيانة قومية، كما أن وجودها يستهدف طمس مضمون الدينين الإسلامي والمسيحي في العالم العربي، فالقبول بالصهيونية يعني القبول بتوحش اقتصاد السوق ويعني القبول بالتطهير العرقي والقبول بالجرائم ضد الإنسانية مقابل الطموح الاستهلاكي الرخيص، وهو ما يحدث الآن، وما يمثل منظومة قيم منحطة يستحيل أن تبقى مجاورة لأديان السماء طويلا، إلا لو أفرغت تلك الأديان من مضمونها السامي وأصبحت تدينا بديلا على حد تعبير أستاذنا الدكتور علاء الأسواني.

"هدف الإسلاميين الإرهابيين هو حكم الجهل للعلم". كلمة عبقرية في تركيزها، فالتطرف الديني عبارة عن هروب المتطرف من عالم لا يفهمه ولا يهضم علومه ولا يستسيغ منطقه لقصور عقلي بحت، ومن ثم، يكون الطريق الأسهل هو وصف العلم والتطور بالجاهلية ومحاولة السيطرة عليه بسطوة الكهنوت، وهو ما يحدث اليوم كذلك في بعض أقطار العالم العربي.

"الفتنة الطائفية والتطرف الإسلامي في مصر كلاهما نتيجة مباشرة للاعتراف بإسرائيل ثم نتيجة غير مباشرة لكل تداعيات هذا الاعتراف. هذا الاعتراف هو نوع مستتر من الانتحار الوطني". في تلك العبارة يربط جمال حمدان –وهو على حق- بين صلح المغبون مع الصهاينة وبين ظهور الفتنة الطائفية المتزامن معه تماما، ذلك أن انهيار الحلم الوطني والقومي والردة الحضارية في السبعينات أصابت الانتماء الوطني بالوهن، وبالتالي حل محله الانتماء ليس للدين ولكن للمؤسسة الدينية المكونة بشكل رسمي في حالة الديانة المسيحية من الكنيسة بهيكلها المعروف، وبشكل غير رسمي في حالة الديانة الإسلامية من منظومة دعاة ورجال دين من نوعية "عبد الحميد كشك" ومن ينتهج نهجه، وهي نوعية تختلف تماما عن علماء الدين العظام أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ شلتوت رحمة الله عليهم جميعا، سواء في محتوى الخطاب الديني الذي صار هشا في حالة الدعاة الجدد، أو في لغته التي تدنت لتسيطر عليها نبرة السخرية والسباب.