28.10.08

نبض مصر-02

نظرات في مربعات ابن عروس
هو الشاعر المصري التلقائي "أحمد بن عروس" و المؤكد في شأنه أنه زجال من الصعيد، تخصص في فن المربعات، و المربعة عبارة عن مقطع شعري يدي معنى كامل لوحده،قريب من الحكم و الأمثال، و الشاعر فيها بيظبط قافية البيت الأول مع الثالث و الثاني مع الرابع، و أغلب المربعات الشعبية منسوبة لابن عروس، سواء هو اللي كتبها فعلا أو تلاميذه، أما عاش فين في الصعيد ففيه اللي قال في قنا، و فيه اللي قال في أسيوط، أما زمنه فالأغلب انه عاش في عصر المماليك
عاش "ابن عروس" شبابه لحد سن الأربعين شقي طريد القانون، و تحت حكم المماليك كان المصريين بيقدروا الخارجين على القانون و أولاد الليل، و يبصولهم باحترام، علشان خارجين عن سيطرة المماليك الظلمة، و فيه اللي قال انه شخصية وهمية، كان الزجالين بينسبوا لها الزجل خوفا من بطش المماليك، لكن القول ده في رأيي ضعيف من جهتين، الأولى ان نسبة كبيرة من المربعات بتشترك في أسلوب بناها و خطها الفكري، و ده بيرجح انها فعلا لشاعر واحد، و التانية ان المربعات اللي وصلتنا ماكانش فيها هجوم مباشر على حد، و لا سيرة للماليك و لا غيرهم، علشان الزجال اللي كتبها يحتاج يستخبى ورا شخص أسطوري

و من أجمل مربعاته، مربعة وصف فيها حال اللي يجري ورا اللي مش عاوزه، و اللي يستنى الخير من اللي مايجيش من وراه الخير، و قال عليه مسكين، و من اللي بنشوفه في الدنيا، هو فعلا بيبقى مسكين، لأنه لا بياخد اللي هو عاوزه، و لا بيحفظ كرامته و ماء وجهه بالترفع عن ذل السؤال، و عنه يقول شاعرنا
مسكين مين يطبخ الفــــــاس
ويريد مـــــرق من حـــــــديده
مسكـــــين مين يعاشر الناس
ويــــــــــريد من لا يــــــــريده

و له مربعة تانية توصف حال الراجل الزين، اللي يحكم قلبه و مايمشيش وراه، فيقول
يا قلب لاكـــــــــــويك بالنــار
وان قلت عاشــق .. لازيــدك
يا قلب حملتني العــــــــــــــار
و تريـــد من لا يريـــــــــــدك؟

و له مربعة بيحذر فيها من الملق و النفاق، لأن هموم الانسان في كل حال كتيرة، و مافيش حاجة مستاهلة ان حد ينافق الندل ، أو زي ما بنقول يرقص للقرد في دولته، مادام الهم في كل حال موجود، فيقول
إوعى تقــــــــول للندل يا عــم
وان كان على الســـرج راكب
ولا حـــــــــــد خــالى من الـهم
حتى قلــــــــــــــــوع المـراكب

و علشان الستات في الزمان ده كانوا مهمشين، نتيجة السيطرة الاقتصادية للراجل، و نتيجة العادات اللي اكتسبها المصري من الثقافة العربية، اضطرت الستات توجه ذكاءها الفطري و طاقتها للمكر و الحيل، فكتر ربط الستات في المواويل و الأمثال و الزجل بالمكر و الكيد، و عنهم يقول ابن عروس
كيد النســــــــا يشبه الكــى
من مكــرهم عدت هـــارب
يتحزموا بالحــــــــنـش حى
ويتعصـــــــــبوا بالـعقـارب

أما في ندالة الناس مع اللي يقل ماله، و عدم اعتدادهم برأي الفقير، و لو كان أحكم الحكماء، بينما الغني يلاقي ألف طبال و زمار، حتى لو كان حمار، فيقول ابن عروس

الليل ما هــــــــــو قصــــــير
إلا على اللى ينامـــــــــــــه
والشخــــص مادام فقـــــــير

ما حد يسمـع كلامـــــــــــــه

و في العجب من الخلق اللي خلقهم ربنا سواسية، فاتميزوا لطبقات، و جاع منهم اللي جاع بسبب نهم اللي شبع، و عايز بعد ما شبع يضمن زاده لألف عام، و فوق الزاد قصور و رياش، و غير الناس ينام على فرش و كناس، قال الشاعر
أنا باوَحِّــد اللي خلق النـــــاس
خلق مسلمـــــــــــين ونصـارى
ناس نامت على فَرش وِكْناس
وناس ع المعــايش حــــــيارى

أما عن الحزب اللي بيضم ما لا يقل عن ثمانين في المية من شعب مصر، و هو حزب تمام يا ريس، اللي تشوفه حضرتك، حتى لو كان اللي هو شايفه ده سواد، فقال ابن عروس
طبيب الجــرايح قوم اِلحــــــق
وهات لي الدوا اللي يوافــــق
فيه ناس كتير تعــــرف الحـق
ولاجل الضـــرورة توافـــــــق

و عن أحوال الدنيا لما تتعوج، فتعلي الواطي و توطي العالي، و تصبغ الباطل بصبغة الحق، و تلبس المندار توب الرجال، فقال
شوف الزمان انتهت عَدَلـيه
وادي البُطْل ع الحـــق راكِب
جه الســـــــبع يُطلُب عــدليه
لَقَي الكــــلب ع التخت راكب

و قال عن السبع لما يغض الطرف من القرف عن الصغار، و كأنه نايم عن اللي بيحوم حواليه، و هو واعي
سكت الهَوى والناموس طار
والســبع طاطــــــــــــا بعـينه
خليه .. دا النـومِ أســـــــــتار
لما الكـلب ياخــــــــــد يومينه
و فيه عالم غجر، لو كلمتهم بالذوق يردوا بقلة أدب، و لو كلمتهم بالشدة بردة سفالة و قلة أدب، فدول قلة عشرتهم هي دواهم، و البعد عنهم بذاته غنيمة، و عنهم يقول فيهم ابن عروس
يا قلبي إوعى تعاشر الدُون
ولا تكلِّمُـه بالاشـــــتـراحة
تكلمه الكــــــــلامِ مــوزون
تلقــــاه يرد بقـبـــــــــاحـــة

و عن اللي تحسبه صاحب، و تطلب منه النصيحة، فينصحك باللي يضرك، يقول الشاعر يا سادة يا كرام
جاني طـبيبي مع العصـــــــر
و ف إيده ماســــــك عصاية
اتاري طبيبي قليل الأصــــــل
من خصمي جابلي الوصاية
أما عن الصديق الوفي و هو نقيض هذا الخسيس، فيقول
ما يرقـــــــــد الليل مــغبون
و لا يقرب النــــــــــار دافي
ولا يطعمك شهد مكـــــــنون
إلا الصـــــــــــديق الـــوافي

أما عن جرح الحبيب، و جرح القريب، و مرارته اللي يهون جنبها ألف جرح من الغريب، فقال
كلام الغَــــــــــرَابا حِمِلنــــاه
فات علينا كما ريح هـــــاوي
كلام القـــــــــــرابا آخ مـــنَّاه
ييجـي فوق فرش الكــــلاوي

و بين هذه الأحزان و الأشجان، أو الحكم الحزينة، يقولنا الشاعر مربعة في الغزل دمها خفيف، و يقول فيها
يا بت جمـــــــــــلك هبشـني
والهبشة جت في العـــــباية
رمــــــــــان صـدرك دوشني
وخلى فطـوري عشــــــــــايا

و عن الخسيس لما يحل محل الأصيل، و الصغير لما يحل محل الكبير، و الجحش لما يقعد مكان الوحش، فقال
غربي بلــــدنا بلــــــــــد سيح
وادي الهِلف ماشـي ورانــــا
مش عيب كراسي التماسيح
تقعــــــــــد عليها الـــــوِرانا؟

أما عن اللي تغلب معاه علشان ينعدل حاله، و أول ما تلتفت تلاقيه اتعوج تاني، فيقول
نهـــــــــــــيتك ما انتهــيت
والطــــــــــبع فيك غــالب
و ديل الكـــــــلب لم يتعدل
و لو حطــــــــوا فيه قالـب

أما عن الأم و حبها اللا نهائي بدون مقابل، و بدون قيود، و بدون ظنون، فيقول ابن عروس
ماينجـــــــدك غير أهلــك
و لاينفعك غير مـــــــالـك
و احلف يمين بعد أمـــــك
حبيب من النســا مابقالك
أما عن الندل اللي بلا معنى و لا لازمة، فتلقاه يقول
الندل ميت و هو حي
ما حد يحسب حسابه
تلاقيه كالترمس الني
وجوده يشبه غيابــــه

و مع قراية المربعات، سخنت قريحة الشعر عند العبد لله، و قلت أوصف بعض الشخصيات اللي شفتها في الحياة
خسيس و ماسخ بين الرجال
لا ليه لا طــــعم و لا ريحــة
و الفعل فــــعل العيـــــــــــال
و الحس حـــــــــس الدبيحة
مع باقي المربعات الجديدة البوست القادم إن شاء الله

19.10.08

نبض مصر-01

أسلحة الأدب و الفن الشعبي المصري في وجه الطغيان

السيرة الهلالية في ثوبها المصري

أعتقد أن أول ما جذبني طفلاً لعالم القراءة المسحور كان الأدب الشعبي المصري، من خلال شخصية بسيطة كانت مؤثرة جدا في شخصيتي، كان رحمه الله يحمل كل صفات الفلاح المصري الضاربة في القدم، عفة النفس، التحايل على العيش، الرضا بالقليل، الابتسام في وجه الحياة برغم مصاعبها، الأمانة و الوفاء و الاخلاص، حب الجمال في كل شيء، إنه عم "محروس مبروك السوداني" حارس العقار في طفولتي، فلاح مصري من قرية بلانكومة بمركز قلين في محافظة كفر الشيخ، كان سائقا في القوات المسلحة المصرية قبل تقاعده إثر حادث سبب له ألما مزمنا في ظهره، كان رحمه الله عاشقا للتراث الشعبي المصري، و قد جمع في عقله الفطري الكثير منه أثناء تجواله في ربوع مصر مع الجيش، حكى لي السيرة الهلالية، و أسطورة علي الزيبق المصري و أطراف من سيرة سيف بن ذي يزن و التي ينطقها الفلاحون في مصر "سيف اليزل" و غيرها الكثير، مازلت أتذكر ليالي الشتاء، حين كان يطيب لي بعد الانتهاء من واجباتي المدرسية أن أنزل لغرفته البسيطة و أجلس بجواره على الحصير المصري، أستدفأ بالحرارة المنبعثة من وابور الجاز خليفة الكانون المصري الضارب في القدم، و مازلت أسمع صوته و هو يقول في وصف أبي زيد الهلالي

" فارس أسمر غطيس زايد عن الناس، إذن رفع سيفه و قال يا حاس، تطير رؤوس الفوارس و الرؤوس تنداس"

و السيرة الهلالية بروايتها المصرية تختلف عن سيرة بني هلال في باقي الوطن العربي من مشرقه لمغربه، سواء في الحدث أو في لغتها الشعرية بالعامية المصرية، برغم وحدة شخوص الأبطال من أبو زيد الهلالي سلامة للزناتي خليفة ملك تونس و أبي سعدى، لخضرة الشريفة نسبا و فعلا، لدياب بن غانم، للجازية بنت السلطان حسن، لرزق الشجيع بن نايل أسد الهلايل، و ستجد دور المرأة فيها أكبر بكثير من دورها في السيرة التي تروى في الجزيرة العربية، فالمصري الذي كانت زوجته قرينته في العمل و البيت يختلف حضاريا عن البدوي الذي لم يكن يعتد الا بمن يحمل السيف و يحمي البيضة كما قال العرب قديما، فالسيرة الهلالية رمز لتواصل مصر مع محيطها الحضاري العربي و رمز لتفردها في هذا المحيط في آن واحد




علي الزيبق المصري

لماذا نكني في مصر من كان اسمه "حسن" بكنية اجبارية هي "أبو علي"؟ و من كان اسمه يوسف بأبي حجاج؟ و من كان اسمه ابراهيم بأبي خليل؟ الأخيرتان أمرهما سهل، فابراهيم يدعى بأبي خليل نسبة لابراهيم خليل الله، و يوسف يدعى بأبي حجاج نسبة للحجاج بن يوسف الثقفي الذي علم بجبروته علامة واضحة في ذهن المصريين برغم عدم وجود علاقة مباشرة، أو نسبة للحجاج بن يوسف الثاني ملك غرناطة، لكن الأول هو الأرجح، لعدم وجود علاقة بالثاني، فقد خلد الحجاج في الذاكرة المصرية تحت بند الطغاة مع "قرة قوش" الذي كان وزيرا لصلاح الدين الأيوبي، أما أبو علي فحديثه يطول لأن شهرته أقل، فنحن نقول حسن أبو علي نسبة لنفس الشخص الذي سرق المعزة في الغنوة الشعبية، و هو المقدم حسن راس الغول


في الثمانينات، عرض مسلسل اسمه "علي الزيبق" محورا من السيرة الشعبية المصرية، التي تحكي قصة بطولة من العصر المملوكي، و المسلسل كله كان جميلا، لكن أميز ما فيه كان أغاني البداية و النهاية، مع تتر البداية كانت الأغنية التالية تنبعث بصوت المجموعة


قصر السلطــــــان عالي البنيان
حجره فضــــة وحجره مرجـــان
وأراضـــــــــي بتاع الفين فدان
اسمها بستان
مليـان أجراس .. مليان حراس
بقلوب ملهاش شبــابيك وبيبـان
جــدران تولد بالليل جــــــــدران
وده كله واقـف على عـــــــمدان
أُمـال إزي يبقى السلطــــــــــان؟
***
قصـــــــــــر الوالي طبعا عالي
مليان حتى لو الكــــــــون خالى
بدهب و فيروز وكنوز في كنوز
وإن شبعت بطـــنه اليد تعـــــوز
وإن عــــازت يده السرقة تجوز
يضحك مية ضحكـــــــة طوالي
أمال ازاي يبقى الـــــــــــوالي؟
***
وبيوت الناس لا حيطان ولاساس
ولا ليها لون.. ولا ليها مقــــاس
و حيطانها طين
أصواتــــها أنين
وغنــــاها حزين
و في وسط الضلمة تهــــــل انت
ولا نعرف فين مين او امــــــتى؟
ترفع بنيان الغلبــــان
وتطاطي بنيان الـوالي
وترقص قصر السلطان
يا على يازيبق

و الحكاية الشعبية تحدثنا عن المقدم "حسن راس الغول" الذي كان مصريا محبا لشعبه و أهله و منحازا لهم ضد عصابة الطغيان الممثلة في الوالي، رمز السلطة في الخيال الشعبي، و المحتسب و هو رمز الفساد المالي فيه، فقد تمرد "حسن راس الغول" مقدم درك مصر، لأن أصله كان من طائفة العياق الشعبية، فتوات الشعب اللاعبين بالحراب و العيارين رماة الحجارة بالمقلاع، في عصر لم يكن المصري يحمل فيه السلاح إلا للهو أو رقص، و قد أزعج هذا التمرد الوالي و المحتسب فتعاونا مع "صلاح الكلبي" الطامح لمقدمية الدرك و دسوا السم لراس الغول في طعامه، ليتولى "الكلبي" مقدما لدرك مصر، أو وزيرا للداخلية بلغة اليوم، لتكتمل حلقة فساد السلطة و رأس المال بالسلطة التنفيذية المتواطئة معهما، تهرب "فاطمة الزهراء" زوجة راس الغول بابنها الرضيع "علي"، لتكون في حماية أبيها القاضي، و يشب "علي" و يصبح من الشطار، أصحاب الحيل و الألاعيب، ثم يعرف قصة والده و حقيقته فيبدأ في الانتقام، و من أهم موروثات الأدب الشعبي أن يتحلى البطل بالحيلة، و هو مبدأ ترسخ لطول الطغيان القاهر في مصر فلم يتخيل الناس التغلب عليه بغير الحيلة، و تدخل في إطار أعداؤه "دليلة المحتالة" و هي عايقة عراقية، تمتلك من الحيل ما لا يعرفه "علي" و متعاونة مع "الكلبي"، فيسافر الزيبق للعراق للقاء المقدم "أحمد الدنف" العايق العراقي الأكبر و المقدم "عمر العياري" العيار الشهير، و منهما يتعلم كيف يقاوم مكايد دليلة، و أغنية النهاية في مسلسل الزيبق لم تقل جمالا عن أغنية البداية، و كلماتها تقول

حكموكي ما حكموكي

برضه المصري مصري

و المملوك مملوكي

إوعي تباتي حزينة

يا حرة يا زينة

لو ربطوا إيدينا

بكرة نحرروكي

من السلطان و الوالي

و العهد المملوكي


الفن الشعبي المصري و الظلام الوهابي

دخل الإسلام مصر من أربعة عشر قرن تقريبا، فهل توقف عزف الناي يوما؟ هل اختفت الرسوم و الجداريات من حياة المصري يوما؟ الإجابة بالقطع هي لا كبيرة، فالناي حمل الشجن المصري قديما و حديثا، و الفن الشعبي المصري هو سليل نسب متصل من الفن الفرعوني و الفن القبطي، فمصر على خلاف غيرها لم تكتف في العصر الإسلامي بالنبات و الأشكال الهندسية، ظل المصري يدق بالوشم السبع على كف يده دون أن يعبأ لو كان أصل هذا الوشم رمز لمارمينا العجايبي، فمارمينا قديس مصري يقدره المصري بمصريته حتى لو أسلم، كذلك ظل المصري يدق على جانبي جبهته العصافير و لم يأبه لأصلها الوثني الأوزيري لأنه لم يعد يدقها إلا للزينة و احياء التراث المصري، و ظل يرسم صور الطير و الحيوان على بيته بالفريسكو بجوار صورة الكعبة و الجمل رمزا للحج، و لقد بقيت هذه العادة الشائعة في جداريات الريف المصري حتى ذهب أولاد الفلاحين لبلاد النفط مع السبعينات الظلامية، و عادوا ليقولوا لأهلهم المسلمون منذ قرون أنهم اكتشفوا أن هذه الجداريات معصية كبيرة، فكادت اليوم تنقرض، مع انقراض روقان الناي الذي أصبح اليوم غير مناسب لايقاع عصر السعار الاستهلاكي

16.10.08

بين العنفوان و الهوان


لست من هواة البكاء على الموتى، أو النوستالجيا الاجتماعية، لكن تقرح القلب يزداد كل يوم، من انفلات مروري، لهتك عرض جماعي لانحطاط السلوك العام، في الشارع كما في العمل و الحياة، و البيوت و الأسر الهشة كبيوت العنكبوت، فبكائي هنا ليس على ناصر، و لكن على أيام مشيناها في طريق العنفوان، أبدأها بقصيدة أعشقها، و أرددها بعقلي كثيرا، و هي قصيدة "عشرين سنة" للراحل الكبير صلاح جاهين رحمه الله






6.10.08

أغلى الرجال


ملحمة الصمود و الاستنزاف
اليوم هو ذكرى السادس من أكتوبر، يوم العبور المجيد، آخر ملامح الوحدة العربية الفاعلة، حين هاجمت القوات المصرية و السورية من الجبهتين الشمالية و الجنوبية لتحرير الأرض و رد الكرامة للجيوش العربية، و بدلا من مشاهدة الأفلام المكررة التي لم ترق لمستوى الحدث، أو وصلات أغاني النفاق في الاحتفالية السنوية، رأيت أن أشارككم أمجاد العسكرية المصرية في هذه الحرب بمراحلها الثلاث، مرحلة الصمود و التحدي عقب هزيمة 1967م مباشرة و حتى سبتمبر من عام 1968م، حين بدأت مرحلة الردع الايجابي و استنزاف العدو على جبهة القناة، و انتهاء بالعبور العظيم، لنتذكر معا أن العبور كان ثمرة العرق و الدم من أغلى رجال هذا الوطن، و لا يمكن اختصاره في شخص رئيس أو قائد، نعم ، أذاع "جمال عبد الناصر" من الخرطوم اللاءات الثلاثة الشهيرة برغم النكسة، و أعلن رفض مصر للهزيمة بناء على خيار الجماهير التي صرخت في الشوارع يوم العاشر من يونيو قائلة "هنحارب .. هنحارب"، و أعاد بناء القوات المسلحة من خلال تولية قيادات حقيقية، ثم وقع الخطة "جرانيت" للعبور، و نعم أصدر "أنور السادات" قرار العبور، لكن الإنجاز كان أكبر من الرئيسين معا، كان إنجاز جنود القوات المسلحة الذين خرجوا بنا من مستنقع الذل بدمائهم


مرحلة الصمود و التحدي
بدأت هذه المرحلة من مراحل حرب الاستنزاف في يوليو 1967م بعد أيام من الهزيمة، و استمرت حتى سبتمبر 1968م، و تخللتها بطولات رائعة قام بها أغلى الرجال، في زمان كان في مصر فيه الكثير من الرجال، لأن المنظومة الوطنية كلها كانت قوية و قادرة على امتصاص الصدمات، نختار هنا بعضا من أشهر بطولاتها

مدد يا رفاعي
كان العميد الشهيد/ إبراهيم الرفاعي إبن محافظة الدقهلية عام 1956م من ركائز الدعم العسكري للمقاومة الشعبية في بورسعيد، كما كان في حرب اليمن نموذجا أسطوريا للجسارة فنال بهذا ترقية استثنائية عام 1965م لدوره في هذه الحرب، و في يونيو 1967م ذاته، تكونت المجموعة 39 قتال من قوات الصاعقة المصرية تحت قيادته، لتصبح هذه المجموعة أسطورة الاستنزاف الخالدة، في يونيو الأسود ذاته، كانت اسرائيل ترتب لتصوير فيلم تسجيلي تستعرض فيه الذخائر و المعدات المصرية التي استولت عليها لاذاعته على العالم، فعبر "الرفاعي" قناة السويس مع مجموعة من رجاله لا تتجاوز 15 رجلا ، و دمر المخازن التي تنوي اسرائيل تصويرها، لحرمانها من استخدامها و من النصر الاعلامي معا، و توالت عملياته شرق القناة مع مجموعته الأسطورية، و لم تنتهي حتى أكمل 72 عملية عبور في فترة الاستنزاف، كان منها اصراره على العبور لتدمير النقطة الحصينة التي قصفت الشهيد "عبد المنعم رياض" في 8 مارس عند المعدية رقم 6 شرق القناة، فعبر و دمرها يوم 9 مارس و قتل من وجد بها من صهاينة و عددهم 42 جنديا، في قتال بالسونكي فقط، فاحتجت اسرائيل لدى الأمم المتحدة على تمزيق جثث الجنود! و لم تعرف أن البطل أصر على قتلهم بالسونكي استهانة بهم، و عند قبول مبادرة روجرز لوقف اطلاق النار، أصدر الرئيس "جمال عبد الناصر" قرارا باستمرار عمليات المجموعة 39 قتال في سيناء تحت مسمى منظمة مدنية هو "منظمة سيناء العربية" ، تحت غطاء مقاومة سيناوية محلية، و استمرت العمليات حتى العبور العظيم مع الجيش عام 1973م و الذي مهدت له عمليات الرفاعي و مجموعته الرائعة، فكانت مجموعته من سدت أنابيب النابالم قبل العبور، ثم عبرت و دمرت مطار الطور، و اشعلت النار في آبار بلاعيم لوقف امداد النفط منها اثناء العمليات، ثم استشهد البطل بشاظية مدفعية أثناء هجوم مضاد على قوات ثغرة الدفرسوار في محاولة لتدمير رأس الجسر شرق القناة، ليتوج نضاله العسكري و مجده بالشهادة، رحمة الله عليه و على كل من فدى الوطن بدمه، و من أبطال هذه المجموعة


  1. الدكتور/ علي نصر القائد المناوب للمجموعة
  2. النقيب / فؤاد مراد
  3. نقيب طيار/ جلال النادي، قائد سرب نقل المجموعة
  4. جندي/ احمد نوار
  5. جندي/ علي أبو الحسن
  6. جندي/ مصطفي إبراهيم
  7. جندي/ أحمد مطاوع
راس العش


لاحظت أنه برغم تردد اسم معركة راس العش كثيرا، أن كثيرا منا لا يعرف أهميتها الاستراتيجية، لقد احتفظت مصر دوما بمنطقة وحيدة على الضفة الشرقية لقناة السويس في سيناء، هي منطقة بورفؤاد، المقابلة لبورسعيد على الضفة الغربية، و في يوم 1 يوليو 1967ك توجهت قوة صهيونية قوامها رتل من عشر دبابات و عربات نصف جنزير تحمل قوات مشاه ميكانيكية من القنطرة شرق نحو بورفؤاد، فواجهت قوة صاعقة مصرية من الكتيبة 43 صاعقة، قوامها سبعة و ثلاثون مقاتل شاملة مجموعة الدعم غرب القناة، مسلحون بالأسلحة الخفيفة من البنادق الآلية و المدافع المضادة للدبابات المحمولة على الكتف، متمركزة في نقطة راس العش الحصينة جنوب بورفؤاد، و صمدت القوة المصرية فألحقت بالقوة الصهيونية خسائرا تمثلت في تدمير ثلاث دبابات و تدمير المجنزرات و خسائر عديدة في الأفراد، فانسحبت القوة المغيرة جنوبا نحو القنطرة، و عاودت المحاولة مع أول ضوء في اليوم التالي لتمنى بهزيمة مماثلة، أقلعت بعدها اسرائيل عن المحاولة، و بقيت راس العش و بورفؤاد مع مصر حتى العبور العظيم، فمن كان هؤلاء الرجال؟

  1. رائد/ السيد الشرقاوي
  2. نقيب/ أحمد الحفني
  3. نقيب/ سيد امبابي
  4. الشهيد ملازم/ محمود الجزار
  5. ملازم/ فتحي عبد الله
  6. ملازم/ حامد جلفون
  7. ملازم/ نادر عبدالله
  8. رقيب/ حسني سلامة
  9. رقيب/ ابراهيم الدسوقي محمد
  10. عريف/ محمود امين
  11. عريف/ محمد سلامة
  12. عريف/محمد خميس
  13. عريف/ طلعت ابراهيم
  14. الشهيد/ صلاح الدين محمود
  15. الشهيد/محسن محمد البطيح
  16. الشهيد/ محمد عثمان
  17. الشهيد/ محمد واصل
  18. المصاب/ سعيد على
  19. المصاب/ السيد مهني
  20. المصاب/ سعيد على
  21. جندي/ بكري سيد احمد
  22. جندي/ محمد ابوزيد
  23. جندي/ فؤاد حمد
  24. جندي/ السيد عبد الحميد
  25. جندي/ عبد المنعم الجزار
  26. جندي/ سعيد حامد
  27. جندي/ عبد المرضي مبروك
  28. جندي/ احمد السيد
  29. جندي/ عبد الله شنش
  30. جندي/ عبد الحميد عبده
  31. جندي/ محمد احمد حسين
  32. جندي/ سمير طايع
  33. جندي/ محمد راشد
  34. جندي/ عبد العظيم جعفر
  35. جندي/ النحاس محمود
  36. جندي/ محمد عبد المحسن
  37. جندي/ فوزي محمد عبدالله

و صرح الرقيب/حسني سلامة على مقال منشور في جريدة الرأي أنه تلقى في اليوم التالي من المعركة تهنئة الرئيس "جمال عبد الناصر" الذي كان يتابع بنفسه سير المعركة على اللا-سلكي من مقر القيادة، فأشاد بدور البطل في إدارة المعركة و التصدي لمحاولات الالتفاف و أصر على إبلاغه تحيته فورا


معركة الطيران

كانت القوات الجوية هي أكثر الأفرع الأساسية للقوات المسلحة تضررا من ضربة 5 يونيو، و التي حطمت جانبا كبيرا من قواتها فضلا عن سمعتها داخليا، فقام الفريق/ صدقي محمود بجمع قوة ضاربة من الطائرات المصرية و شن غارة على قوات العدو في سيناء يومي 14 و 15 يوليو 1967م، و عادت الطائرات كلها سالمة، لأن العدو لم يكن قد أتم استحكامات الدفاع الجوي في سيناء، و تكررت المعركة في أكتوبر من نفس العام في هجوم 24 مقاتلة مصرية على سيناء و اسقاط ثلاث طائرات للعدو و ضرب مواقعه الأرضية، و عادت القوة سالمة، مما أعاد الثقة للقوات الجوية بذاتها و قدرتها القتالية العالية

المدمرة إيلات و الغواصة داكار


اقتحمت المدمرة إيلات المياه الاقليمية المصرية في 12 يوليو 1967م لأول مرة، فتصدى لها اثنان من لنشات الطوربيد المصرية، لكن المدمرة ذات القوة النيرانية العالية و معها ثلاثة لنشات "جولدن" دمرت اللنش الأول بقيادة الشهيد نقيب/ ممدوح شمس مع كامل طاقمه، و عندما لم يتمكن قائد اللنش الثاني الشهيد نقيب/ عوني عاز من اطلاق صواريخ سطح-سطح المجهز بها اللنش بسبب اصابته، قرر القيام بعملية فدائية فوجه اللنش ناحية جانب المدمرة و انطلق به ليصيبها اصابة بالغة و يستشهد مع طاقمه لتحقيق هذا، فرحمة الله على الرجال و زمن الرجال قبل أن نبتلى بتخنث القائلين بقصر القيادة على المسلمين في الدولة و الجيش! رحم الله الشهيدين المسلم و القبطي رمز التوحد و الفداء، و بعد هذه العملية تم تفويض القوات البحرية بالتعامل مع الأهداف المعادية منفردة دون الحاجة للرجوع للقيادة العامة أو القيادة السياسية

و بعد تمام اصلاحها، قامت المدمرة بالعربدة ثانية في المياه الاقليمية المصرية أمام بورسعيد في 21 أكتوبر من نفس العام، فخرجت لنشات الطوربيد كومر سوفيتيه الصنع من قاعدة بورسعيد و دمر اللنش الأول بقيادة النقيب/ أحمد شاكر المدمرة بصاروخين سطح-سطح، و صدرت الأوامر للنش الصواريخ الآخر بقيادة النقيب/ لطفي جاد الله بالعودة للقاعدة، ثم صدرت له الأوامر بعد ساعتين بإعادة الهجوم عليها للتعجيل بإغراقها، فغاصت إيلات مع كامل طاقمها و قدرت الخسائر في الأرواح بخمسة و أربعين اسرائيلي

بعدها بأقل من شهر اعترضت فرقاطة مصرية الغواصة الاسرائيلية داكار التي كانت في طريقها من بريطانيا حيث صنعت لاسرائيل، فأغرقتها مع كامل طاقمها البالغ 69 اسرائيليا، و لم تعترف اسرائيل بالحادث الا في الثمانينات حين طلبت السماح لها باستخراج الغواصة و جثث البحارة، و من أبطال هذه العمليات من فرق لنشات الصواريخ المصرية كذلك الشهيد الملازم/رجائى حتاته الذي نزع صمامات أمان قذائف الأعماق في لنش عوني عازر قبل الهجوم به على ايلات


مرحلة الردع
هي ثاني مراحل حرب الاستنزاف، و التي أعلنت بدايتها في سبتمبر 1968م، ففي هذا العام أعاد القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس "جمال عبد الناصر" هيكلة القوات، فتم تحديد أكثر لصلاحيات كل من وزير الحربية و رئيس الأركان، و تم كذلك تحويل قيادة المنطقة العسكرية الشرقية التي كانت تخضع لها القوات الموجودة في سيناء ومنطقة القناة لقيادتين ميدانيتين اقتسمتا الجبهة بالتساوي وهما الجيش الثاني الذي كلف بالقطاع الشمالي من الجبهة، والجيش الثالث الذي كلف بالقطاع الجنوبي، وانشئت ايضا قيادة قوات الدفاع الجوي واصبحت بمثابة الفرع الرئيسي الرابع للقوات المسلحة، و بدأ تكثيف العمليات خلف خطوط العدو، فزادت اسرائيل من غاراتها على العمق المصري في رد فعل متوقع، فتقرر تنفيذ منظومة الدفاع الجوي المتكاملة غرب القناة للدفاع عن العمق، و التي كانت خططها معدة بالفعل، و قبل مبادرة روجرز لوقف اطلاق النار حتى يتمكن من القفز في بنائه في أقصر وقت

حائط الصواريخ

تم انشاء تحصينات لبطاريات الصواريخ سام6 و سام 7 سوفيتية الصنع على طول القناة، و قد تفيدنا هنا بعض الأرقام لتصور حجم العمل الذي تم انجازه ما بين 1968 و يوليو 1970م
  • حجم الاعمال الهندسية في حائط الصواريخ 12 مليون متر مكعب اعمال ترابية
  • مليون و نصف مليون متر مكعب من الخرسانة الأسمنتية العادية
  • اثنين مليون متر مكعب خرسانة مسلحة عسكرية
  • أعمال أسفلت بطول 800 كيلومتر على خط القناة
  • انشاء طرق و مدقات ترابية بطول 3000 كيلومتر كطرق داخلية متشعبة

و شهداء سلاح المهندسين خلال سنوات العمل أكثر من أن نحصيهم هنا، لهم جميعا رحمة الله و جنته التي أعدها لعباده المخلصين الأوفياء، و بعد اتمام الحائط وجدت الطائرات الاسرائيلية التي كانت تتهكم على هذه التحصينات بلسان جنرالاتها الويل من نيرانه، فأسقطت بطاريات الدفاع الجوي 17 طائرة فانتوم خلال أسبوع واحد في يوليو 1970م

معركة شدوان

شدوان لمن لا يعرفها جزيرة صغيرة في البحر الأحمر، بالقرب من مدخل خليج السويس، و أهميتها عسكرية بحتة لأنها جزيرة صخرية غير مسكونة و مساحتها لا تتجاوز 60 كيلومتر مربع، هاجمها العدو في يناير 1970م بقصف جوي عنيف أعقبه ابرار جنود من الهليكوبتر و زوراق الانزال، و قد صمدت فيها حامية صغيرة من الصاعقة المصرية أما قوة نيران اسرائيلية ضخمة، و أعلنت اسرائيل أكثر من مرة استيلاء قواتها علي الجزيرة ثم عادت لتنقض ما أعلنته، و استمرت المعارك فيها 36 ساعة متواصلة، فشلت قوات العدو بعدها في احتلال الجزيرة و تم اجلاء القوات من الجزيرة بعد خسائر كبيرة للطرفين في الأفراد و المعدات، و من أبطال هذه المعركة


  • عميد/ محمد خطاب قائد المعركة
  • شهيد مقدم أ.ح. /حسني حماد
  • شهيد جندي/ محمد جاب الله

حصيلة الردع

خسرت اسرائيل الكثير خلال فترة الردع هذه من نهايات 1968 و حتى 1970م، عدا فترة وقف اطلاق النار، فكانت الحصيلة كما يلي

  • أربعين طيارا قتلى عدا الأسرى
  • مصرع 827 جندي و ضابط
  • عدد 2141 جريح و مصاب و معوق
  • عدد 27 طائرة قتال فانتوم و سكاي هوك أمريكية الصنع عدا الهليكوبتر
  • عدد 7 سفن انزال جنود و زوارق نقل جنود
  • عدد 72 دبابة
  • عدد 119 عربة مجنزرة
  • عدد 86 مدفع ميداني
-------------------
مراجع المقال
و سقطت الأسطورة عند الظهر- أحمد بهاء الدين
مذكرات المشير محمد عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات
مذكرات الفريق سعد الشاذلي رئيس الأركان
سنوات الغليان- محمد حسنين هيكل
الانفجار- محمد حسنين هيكل
المعارك الحربية على الجبهة المصرية-اللواء جمال جماد
أبطال أكتوبر - وزارة الدفاع في ذكرى الحرب عام 1982م