29.11.08

انهيار برج بابل- 43

(43)
على ضفاف الأعظمية
وصل الرفاق إلى بغداد قبل الغروب مباشرة، فاتجهوا إلى حي الأعظمية حيث منزل "كاظمي" الذي أصر على استضافتهم، كان بيته على ضفاف دجلة مكونا من طابقين ويحيطه حزام أخضر زرعت فيه زهور يانعة، واختار له "كاظمي" اسم "كرمة النعمان" المنقوش على لوح حجري بجوار الباب، حين سأله "علي" في أول مرة زاره فيها عن اختيار لقب الإمام "أبي حنيفة" أول أئمة الفقه السني لبيته وهو الشيعي، أجابه "كاظمي" قائلاً: إمام عظيم، ومنطقي أن يسمى باسمه بيت في الأعظمية التي اشتهرت بضريحه ومسجده
كان "علي" يضع "كاظمي" تحت المرتبة الأسمى بين أصدقائه، ويطلق عليه لقب "رجل من زمن الحب"، فهو عالم فذ ومثقف مستنير، وهو فوق ذلك رجل وضع الله في صدره طاقة حب بلا نهاية، كان "علي" يذكره حين يسمع عن مشاحنات طائفية ببغداد، ويتصور كم يتألم رجل مثله لهذا العنف الأحمق، ويذكره واصفا التطرف والطائفية قائلا "لكل داء دواء يستطب به .. إلا الحماقة أعيت من يداويها"، ومن حسن حظه أن منطقة الأعظمية حيث يسكن عرفت الهدوء النسبي بعد واقعة جسر الأئمة في نهايات 2005م، حين أنقذ ساكنوها من السنة عددا كبيرا من الحجاج الشيعة الذين انهار بهم الجسر، فسقطوا في نهر دجلة، يومها ظهرت الشخصية العراقية الحقيقية ممثلة في تدافع قاطني الحي السني لنجدة الغرقى القادمين من حي الكاظمية الشيعي، ولهذا ندر العنف الطائفي فيها بعد هذا الحادث
أما "علي" فيرتبط حي الأعظمية في مخيلته دائما بقصيدة "نزار قباني" في رثاء زوجته التي قتلت في حادث إرهابي ببيروت "بلقيس يا عصفورتي الأحلى ويا أيقونتي الأغلى .. ويا دمعا تناثر فوق خد المجدليه .. أترى ظلمتك إذ نقلتك من ضفاف الأعظميه؟ بيروت تقتل كل يوم واحدا منا وتبحث كل يوم عن ضحية" فهاهي الأعظمية الغناء الراقدة على ضفاف دجلة كغانية تتهيأ لحبيبها قد طالتها يد الحماقة بالخراب والموت! فصارت كبيروت السبعينات والثمانينات تبحث كل يوم عن ضحية، وكأن كأس الموت في بلاد العرب نخب نمرره بيننا!
استقر الجميع بعد الترحيب والأشواق في صالون البيت، فعرفهم "كاظمي" بفريد الذي كان حتى هذا الصباح مديرا لمشروع اليونسكو في العراق، فصار في المساء مقاتلا منفردا في كتيبة الحقيقة، صافحه "علي" بود وتبجيل يليقان بموقفه، وبعد استقرار الجمع قال "علي" موجها كلامه لكاظمي وابتسامة ودودة تعلو وجهه: أين شايك العراقي المهيل[1] يا "أبا موسى"؟
- القوري على النار يا صديقي
التفت "علي" لزوجته مفسرا فقال: القوري هو إبريق الشاي باللهجة العراقية، والشاي العراقي المغلي يشرب في أكواب صغيرة تسمى الاستكان، فللعراقيين طقوس في شرب الشاي لا تقل عن طقوسكم الإنجليزية، وإن كانوا قد عرفوه على أيديكم زمن الاحتلال
ثم التفت لكاظمي فقال: شرح لنا "ديار" ما حدث للوثائق قبل أن نفهم موضوع الكشف ذاته تفصيلا، كيف حدث وأين وما هو محتوى الوثائق الذي أزعجهم لهذا الحد؟ حان حين الفهم يا صاحب المبادرة
- كان "فريد" يخشى أنكم قد ترغبون عن العمل في مرمى الخطر الذي أظلنا بعد خطف الوثائق، لهذا شرح لكم "ديار" قبل خروجكم من آربيل
وصل الشاي تحمله مدبرة المنزل التي بدت ريفية بجلبابها الأزرق الفضفاض وطرحتها السوداء التي تغطي نصف رأسها وعنقها، وزعت الاستكانات على الضيوف، فبدأ "كاظمي" يحكي بينما ضيوفه الذين أرهقهم السفر ينعمون بمذاق الشاي ورائحته المنعشة، بدأ بالقاء سؤال على الجمع قائلا: ما هو الإمام؟
- ما أم من؟
هكذا علق "علي"، فابتسم "كاظمي" مجيبا: بل ما، ومن هنا تبدأ الحكاية، فأنا أتفق معك في نظريتك حول شيوع نظرية المخلص في كل الأديان، الفارس الذي يخرج في آخر الزمان فيغير وجه الأرض ويحل العدل محل الظلم والحق محل الباطل، وأوافقك في أن شيوع الفكرة وتضارب الأخبار لدينا يلقي ظلالا على الموضوع برمته، لكنني شخصيا كنت في انتظار إمام مختلف عن هذا الشائع في آداب العالم، فالإمام في لغة القرآن جاء بالفعل بمعنى الفرد الذي يقود الناس ويهديهم كقوله تعالى "قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً"[2]، ولكنه جاء كذلك بمعنى الكتاب والعلم الذي يهدي للحق، كقوله تعالى "وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً"[3] والذي تكرر بلفظه في سورتين من القرآن، هود والأحقاف، فلماذا لا يكون الإمام المنتظر علما ينفع الناس ويعينهم على صلاح دنياهم؟
- فكرة منطقية، لكن لماذا تميل لفرضية الإمام المكتوب؟
- ما الذي كتبه الإمام "علي" في عزلته؟ أو بدأ كتابته خلالها؟ ما الذي دعاه ليتفرغ فور وفاة الرسول فلا يضع ثوبه إلا لصلاة الجمعة؟ وما هو أساس الأخبار المتضاربة عن الجفر ومصحف فاطمة والصحيفة الجامعة، كل هذه الأخبار الشفوية لابد لها من أساس بنيت عليه وتفرعت منه، وقد يكون هذا الأساس نصوصا مكتوبة، كان الأئمة يقرأونها ويضيفون إليها مع إحاطتها بالسرية بسبب ظروفهم السياسية، فعرف هذا مع الوقت بعلم آل البيت، وخلق حوله العامة أساطيرا تحاول استنتاج كنهه وطبيعة محتواه
- ولماذا يكتم آل البيت عن الناس علما ينفعهم؟
سألته "ماري" فأجابها: لأن محتواه لم يكن موجها للصدر الأول من المسلمين، فلم يكن فيه جديد عليهم غير ما عرفوه وفهموه من الرسول، فهو مدخل للفكر الديني لا يضيف للسلف ولكنه يضيف لنا اليوم، ذخيرة لتصحيح المسار لو جاز التعبير، خواطر في الفكر الديني كتبها السلف في صدر الإسلام، ولم تصلنا مشافهة تروى عبر العصور وتتعرض للتشوه من فم إلى فم كما هو الحال في الأخبار التي كتبت بعد مئات السنين من موت أبطالها، لكنها أعدت لتصلنا مخطوطة بلفظها كما أراده من كتبها!
- ما هو محتوى المخطوطات وأين صورها؟
قال "علي" وقد أثار الحديث اهتمامه لأبعد حد، فقد دق الكلام على أوتار شغلته كثيرا هو الآخر، فأجابه: المحتوى يتكون من ثمانية وأربعين رقا، أقدمها ستة عشر رقا يرجع تاريخها للقرن الأول الهجري، جزء كبير منها يصعب تمييزه لكتابته بالحجازي القديم وتآكل أجزاء منه، وهذه مهمة خبيرتنا
- و بقية المخطوطات؟
- اثنان وثلاثون مخطوطا من القرنين الثاني والثالث للهجرة، كتبت في تقديري بيد خمسة أشخاص، ولدي تصور عمن تنتمي إليهم الرقوق من الأئمة لكن ثقتي بتصوري ليست كبيرة، وهذه مهمتك يا "علي" من الناحية البحثية
- وهل لي مهام أخرى في نواحٍ غير بحثية؟
هكذا سأله "علي"، ليشرح له "كاظمي" غايته في استخدام الكشف لدعم جهود التقريب بين السنة والشيعة الإمامية والشيعة الزيدية، حيث تفصل المخطوطات في كثير من الأمور الخلافية، وهذا يحتاج إلى مهارة خاصة في صياغة الطرح الذي ستتناوله الصحف والبرامج الاعلامية حتى يخرج بصورة مبسطة يسهل فهمها، وكذلك سيفيد نسب "علي" للأشراف في إضفاء بعد روحي على الكشف عند العامة
هنا عارضه "علي" قائلاً: وجود هذا التراث يعني أن كاتبيه قصدوا أن يتركوه مكتوبا حتى يتسنى لكل مسلم قراءته والإفادة منه، إمام مكتوب كما قلت أنت، لكن التركيز الإعلامي على وجود عضو في الفريق من الأشراف، سيجعل البعض يقول: ولماذا لا يكون هو المهدي المنتظر مادام منتسبا للرسول؟ وعندها نعود لنقطة الصفر، ويضاف اسمي لقائمة المجانين ممن ادعوا أنهم المهدي عبر التاريخ
- فكرت في هذا الاحتمال، ومع ذلك أرانا بحاجة للتأثير في البسطاء حتى نحقق نتيجة لشعب العراق الذي يسفك دمه بيد أبنائه، والتأثير في هؤلاء يختلف عن التأثير في الخاصة
كان شعور خفي لدى "علي" يخبره أن صاحبه لا يفصح عن الدور الحقيقي الذي يريده له، ولا عن خطته الحقيقية، فموضوع التقريب بين المذاهب ودوره الفوري في تهدئة الوضع الطائفي في العراق كان دفعا شديد التسطيح من رجل ككاظمي، لذلك علق قائلا: سنؤثر فيهم لو آمنا بما نقول بما فيه الكفاية، وإن كنت أرى أن ما يجري اليوم في العراق لا يجري على أساس من الخلاف المذهبي، قدر ما يجري على أساس من تكتل أصحاب المصالح، فالكتل الشيعية والسنية وغيرها لا تتناحر على الفرق بين المذاهب، ولكن على مكاسب ترجوها كل طائفة، عموما كل هذا سابق لأوانه، هل الصور موجودة هنا؟
- بعد العشاء تأخذ أنت و"ماري" نسختكما، وهي مصورة على جهاز تصوير الخرائط بالحجم الطبيعي للمخطوطات
- علينا أن نسرع يا سادة، فغدا سيحدد موعد المؤتمر الصحفي لإعلان الكشف الجديد بعد موافقة الحكومة على تأمين المؤتمر، وأنا أتوقعه خلال أيام
هكذا قال "فريد" فعلق "علي" في دهشة: خلال أيام؟
قاطع "كاظمي" صديقه "فريد" الذي هم بالرد قائلا: أعدت لكما "أم موسى" جناحا فيه غرفة مكتب وبها حاسب آلي ووصلة إنترنت فضلا عن غرفة النوم في الدور الثاني، لتكونا على أتم راحة في بحثكما، ولن نزعجكما في غير مواعيد الطعام
- لكننا لا نتكلم عن ورقة عمل، بل مخطوطات يتعين علينا دراستها بروية وصياغة طرحها التاريخي
هكذا علقت "ماري" فرد عليها "فريد" قائلا: للأسف يا سيدتي علينا الإسراع لو أردنا لكشفنا رؤية النور، ولو أردنا نحن شخصيا الاستمرار في رؤية النور
مرة ثانية رأى "علي" في عبارة "فريد" هذه تلميحا لخطر غير مبرر لو كانوا يتحدثون عن وثائق تاريخية! وتذكر عبارة "كاظمي" في مكالمته التليفونية الأولى عن الأمر الآخر والمرتبك بتيار الإسلام السياسي كما أشار، فبدأت شكوكه تتنامى

انهيار برج بابل- 42

(42)
نادي السافاري


كانت ثلاث ساعات قد انقضت منذ غادروا مطار آربيل حين سأل "علي" صديقه "ديار": هل لسيدة اليونسكو علاقة بالعالم الجديد في تقديرك؟
ابتسم "ديار" بسمة لها عمقها، وقال بطريقته حين يسأل في موضوع شائك، فيدلي برأيه ملقيا الضوء على حقائق مجردة بغير تصريح: أمريكية متزوجة من رجل أعمال فرنسي كبير، ولهما علاقات متشابكة في الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وغيرها، ومن مشجعي صقور الليبرالية الجديدة في البيت الأبيض
- فهي نقطة ارتكازهم في اليونسكو؟
- ربما
هنا تدخلت "ماري" بسؤال: عم تتحدثون يا سادة؟ تبدون لي كرجال مخابرات فجأة؟
- عن منظمة العالم الجديد يا سيدتي
هكذا علق "ديار" باسما وهو ينهب الطريق نهبا بسرعة مائة وعشرة كم/ساعة، فردت مستنكرة: هل تعتقدان حقا في هذه الأسطورة الحضرية؟
- ليس بالشكل الذي تقرأينه في روايات الإثارة، فالمنظمة ليست الوريث العصري لفرسان الهيكل[1] ولا لجماعة الإليوميناتي[2]، ليست حتى منظمة عنقودية بالمعنى المفهوم بحيث تحكمها قواعد مكتوبة وهيراركي إداري، فتسمية منظمة مجرد تسمية مجازية لشبكة مصالح مشتركة على اتصال ببعضها البعض عالميا، وتنعقد بين أطرافها تحالفات مرحلية تستمر طالما استمرت وحدة الأهداف وتنتهي بنهايتها، لكن خطوط الاتصال تبقى مفتوحة
هكذا شرح "ديار" قبل أن تسأل "ماري" مستزيدة عن التفاصيل والحقائق التي تشير لوجود هذه الشبكة وكيف استنتجا أن لها علاقة باختفاء الوثائق، يشير "ديار" إلى "علي" ليجيب زوجته، فيبدأ "علي" شرحه بسؤالها: ما هي مأساة الرأسمالية في صورتها القحة؟ قبل أن تقتبس من اليسار الاشتراكي المعتدل كثيرا من مبادئه، كالضمانات الاجتماعية وغيرها؟ ما هي مشكلة الفكر الذي يزرعه الليبراليون الجدد في عالم اليوم؟
يشعل "علي" سيجارته، ثم يجيب على تساؤله بنفسه فيقول: مأساتهم أنهم يريدون توظيف الجماهير في عملية الإنتاج بتكلفة اقتصادية بهدف تعظيم الربحية وتحقيق الاقتصاد المتنامي، وهذا معناه أن يظل عائد عمل هذه الجماهير الذي يدخل جيوبها محدودا، لكنهم يريدون من نفس الجماهير أن تستهلك أكثر وأكثر من منتجاتهم لتنمية السوق، وهنا يظهر التعارض، فالحد من دخل الموظف والفني والعالم والعامل يؤدي لتهافت قدرتهم الشرائية كعملاء، بينما تلح الدعاية الاستهلاكية على عقولهم صباح مساء ليستهلكوا المزيد ويشتروا المزيد مما لا يحتاجونه من منتجات، ولرتق هذه الفجوة ظهرت القروض الاستهلاكية في بلاد الاقتصاد المؤمرك، لنصبح مدينين للمؤسسة الرأسمالية بالفرق بين أجورنا المحدودة وتكاليف استهلاكنا الغير محدود، وبرغم هذا تبقى مشكلة، فالطبقة الوسطى المكونة من الفئات العاملة تصاب كل فترة ومع تصاعد الاستهلاك المجنون بالعجز، فتسقط أمام العربة الضخمة التي تجرها، ويؤدي هذا السقوط لعجزها عن سداد القروض فيؤثر هذا سلبا على المؤسسات البنكية الرأسمالية، وبالتالي على المؤسسات الإنتاجية التي تمولها تلك البنوك فيما يعرف بظاهرة الدومينو، وهكذا تتفاقم المشكلة ويحدث الركود التضخمي الذي مرت به الولايات المتحدة أكثر من مرة عبر تاريخها القصير
- تحليل جذاب، لكن ما علاقة كل هذا بمنظمة العالم الحر؟
- كيف تتوقعين أن يتقي اليمين المتطرف هذا الركود وتكرر حدوثه كل حين؟
- الحروب
- الحروب من آلياتهم الهامة بالطبع، لكن بصورة أعم يتعين عليهم إما أن يحصلوا على الطاقة والمواد الخام ومدخلات الصناعة بتكلفة معقولة من خلال نفوذ قهري على بعض عشوائيات العالم - ونحن على رأسها - أو فتح أسواق جبرية في هذه العشوائيات، أو الاثنين معا، ويحدث هذا من خلال احتلال، حروب، مناطق نفوذ، أو حكومات عميلة تنفذ ما يحتاجونه هم لا ما تحتاجه شعوبها، تعددت الأسباب والعولمة واحدة
- وبعد؟ أين الدليل على وجود المنظمة التي كنتم تتهمونها منذ لحظات
شرع "علي" يحكي لها، بادئا بواقعة حدثت في الولايات المتحدة عام 2002م، حين وقف رئيس جهاز المخابرات في دولة خليجية صديقة للولايات المتحدة ليخطب في حفل استقبال في أمريكا، ففوجيء به الجميع وهو يقول: "عام 1976، وبعد فضيحة ووترجيت، كان الكونجرس يقيد حركة المخابرات المركزية الأمريكية بقيود لا تطاق، فصارت مقيدة في تحريك الجواسيس حول العالم، وفي دفع النقود لعملائها، وكتابة التقارير السرية، كل شيء تقريبا، لهذا كونت الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً يجمع إمكانيات أجهزة مخابراتها، حتى تساعد المخابرات المركزية في الحرب ضد الشيوعية، فكونوا ما أسموه "نادي السفاري"، والذي شاركت فيه كل من فرنسا ومصر والسعودية والمغرب وإيران، وكان له دور رائع في الحرب الباردة وتحقق النصر الأمريكي فيها"[3]
كانت هذه الواقعة بداية طوفان من الكتابات التي تتبعت نادي السفاري وما سبقه أو تلاه من تحالفات مخابراتية بين قوى اليمين المتطرف حول العالم، فنادي السفاري لم يكن وليد لحظته، حدثت البداية الحقيقية من خلال صداقة الثنائي الملكي "فيصل بن عبد العزيز" عاهل السعودية و"محمد رضا بهلوي" شاه إيران، وثالثهما "أنور السادات" رئيس جمهورية مصر العربية، حيث اتفق الثلاثة على تحالف بين المخابرات السعودية والمصرية والسافاك الايراني لمواجهة المد اليساري في المنطقة، ويهدف التعاون لدعم الأنظمة الرأسمالية في الشرق الأوسط وعرقلة قيام أي أنظمة يسارية جديدة فيه، بل والعمل على إسقاط الأنظمة اليسارية القائمة بالفعل كلما أمكن، ثم انضم لهذا الحلف جهاز المخابرات العراقي بعد اتفاق "صدام حسين" مع كل من "فيصل" و"السادات" على ذلك، وحصولهما على موافقة الشاه[4]! برغم حساسية العلاقات الإيرانية العراقية، كان هذا في بدايات 1974، وحين قيد الكونجرس المخابرات الأمريكية كما نوه الأمير الخليجي، فكَّر يميني فرنسي متطرف هو "آليساندر دو مونارك" في فكرة نادي السفاري، واقترح على الولايات المتحدة دعم الحلف المخابراتي الذي بدأ في 1974م لمواجهة اليسار، فتكون نادي السفاري باتفاق سري في أول سبتمبر عام 1976م تحت رعاية المخابرات المركزية الأمريكية ودعمها الفني المباشر، وبدعم مادي جزئي من مجموعة أصحاب المصالح من ملوك المال في الولايات المتحدة والمعروفة بالمؤسسة الشرقية، يتممه دعم نفطي لا نهائي، وبعضوية كل من فرنسا ومصر والسعودية والمغرب وإيران، بهدف دعم المخابرات المركزية ضد القوى اليسارية في الشرق الأوسط وأفريقيا، بينما ظلت علاقة المخابرات العراقية بهذا الحلف موسمية وغير ثابتة، ثم أعد للنادي اليميني مركزا للاتصالات بباريس، ضم قاعة اجتماعات سرية ومركز اتصال دولي أسفل مطعم فاخر من مطاعم الدرجة الأولى، حتى يكون المطعم ستارا لدخول وخروج الشخصيات الهامة[5]
- و هل قاموا بعمليات مؤثرة بالفعل؟
هكذا سألت "ماري" مستفتسرة وموقفها يتحول من الاستخفاف بالفكرة إلى الإهتمام بها، فأجابها قائلاً: الأمثلة كثيرة، قمع تمرد إقليم كاتانجا في زائير ضد نظام "موبوتو سيسيسكو"، حيث أرسلت قوات مشاة مصرية ومغربية محمولة بسلاح الجو الفرنسي مع عدم التصريح بهوية القوات، إذ تم تسريب خبر مضلل للميديا يدعي أنها قوات فرنسية بلجيكية[6]! كذلك تم تخطيط وتمويل حملة تشويه الزعيم "جمال عبد الناصر" على مستوى مصر والعالم العربي بتوظيف إمكانيات صحفية وإعلامية وفنية ضخمة[7]
لم تكن "ماري" قد استوعبت ما سبق حتى فاجأها "علي" قائلاً: لكن العملين الكبيرين كانا معاهدة كامب ديفيد والحرب الأفغانية
ثم استأنف شارحا كيف تم الترتيب لكامب ديفيد من خلال النادي السري، ففي يوم 31 أكتوبر عام 1977م، توجه "السادات" لزيارة شاه إيران ليحدثه في الأمر، وتوقعا أن أمريكا ستحب الظهور كراعية وحيدة للسلام – وكانا على حق في تصورهم هذا – لهذا اقتصرت الترتيبات على مصر وإيران والمغرب، واستبعد الفرنسيون من مناقشة الأمر، ثم بدأ التنسيق مع الطرف الإسرائيلي من خلال اتصالات الشاه بمناحم بيجن مباشرة، واتفقا على تصوير الأمر بصورة مبادرة برلمانية حتى يمكن تسويقه جيدا في الغرب، فيشير "السادات" في خطاب أمام مجلس الشعب لاستعداده لمناقشة السلام مع الكنيست الاسرائيلي نفسه، ويلتقط "بيجن" طرف الخيط من هنا، فيوجه دعوة للسادات لزيارة الكنيست، وقد كان، أعلن "السادات" ما طلب منه يوم 9 نوفمبر، ووصله خطاب الدعوة لزيارة اسرائيل يوم 15 نوفمبر، واقترح فيه "بيجن" يوم 19 نوفمبر كتاريخ للزيارة، فرد "السادات" عليه في اليوم التالي بقبول الدعوة، وحدثت الزيارة المعروفة[8]
- لم يبد الأمر لي كذلك أبداً!
هكذا علقت "ماري" فأجابها: ولا بدا كذلك لأي أحد قبل تسرب حقائق السفاري من المخابرات المركزية الأمريكية ذاتها!
ثم استأنف موضحا العملية الكبرى الثانية والتي تمت بعيدة عن كل هذا، هناك في وسط آسيا وفوق جبال أفغانستان الوعرة، وهذا الجزء من مغامرات السفاري هو ما اشتهر إلى حد بعيد بعد 11 سبتمبر، فبتمويل سعودي وطاقات بشرية مصرية وسعودية، وتسليح وتدريب أمريكي، ودعم لوجيستي باكستاني، خلقت ظاهرة العرب الأفغان بهدف حصار واستنزاف السوفيت في أفغانستان، ومازال المصريون في الثلاثينات والأربعينات من العمر يذكرون اللافتات الكبيرة التي علقت بمباركة حكومية في شوارع القاهرة وعواصم الأقاليم داعية الشباب للسفر والجهاد في أفغانستان، وطرحت في الدول العربية عشرات الآلاف من الكتب والأشرطة زهيدة الثمن أو المجانية تحمل عنوانا موحيا هو "آيات الرحمن في جهاد الأفغان"[9]، ووزعت المدارس والجامعات السعودية نسخا منها على الطلاب، قبل أن يتبين للجميع أنها كانت آيات الرحمن في جهاد الأمريكان، فوصم كفاح الشعب الأفغاني لتحرير بلده بالغرض، وجر البلد النامي محدود الموارد لمستنقع الإرهاب[10] جرا فلم يخرج منه حتى اليوم، ثم انقلب السحر على الساحر، فحين انتهت الحرب الباردة، نسي الأمريكيون في نشوة النصر هؤلاء المساكين الذين تركوهم في جبال أفغانستان، رفضتهم بلادهم التي شحنتهم لآتون الموت هناك، فاعتقلت بعضهم ورفضت دخول البعض الآخر، لهذا تحول كل منهم إلى عبوة ناسفة تتحرق شوقا لهدم وتدمير أمريكا والعالم المتحضر بأسره
- أي مسرحيات أخرى قام بها جوالة السفاري؟
هكذا سألت "ماري" وعلامات الدهشة تعلو وجهها من كل ما تسمعه، فأجابها "علي" قائلا: القائمة طويلة، محاولة انقلاب فاشلة على الرئيس "أحمد سيكوتوري" محرر غينيا من الاستعمار الفرنسي، لأنه أمم الإقطاع الغيني وانتهج نهجا يساريا، ودعم نظام الديكتاتور اليميني "سياد بري" في الصومال في حركته المعروفة باسم "الصومال الكبرى" والتي أراد بها توحيد الصومال وجيبوتي وأوجادون، أي منطقة القرن الأفريقي، فساعده السفاري في حرب أوجادون ضد أثيوبيا عام 1977م، مما دعا لتدخل الاتحاد السوفيتي داعما أثيوبيا حتى لا ينجح نادي السفاري مع "سياد بري" في السيطرة على القرن الأفريقي، وكان "سياد بري" قبل الحرب قد عقد اتفاقا مع الولايات المتحدة طرد بعده الخبراء السوفيت كما فعل السادات في مصر ومزق معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي، وعلى كل حال فقد لقي عقابه المناسب حين نفاه الجنرال "فارح عيديد"، تماما كما حدث للشاه في إيران![11]
- لكن في عالم اليوم ما دور هذا النادي؟
سألت "ماري" فأجابها "ديار" قائلا: النادي كبروتوكول تعاون مخابراتي بين هذه الدول لم يعد قائما، لكن شبكة مراكز الثقل الاقتصادي والسياسي التي خلقته مازالت تحتفظ بدرجة كبيرة من التنسيق فيما بينها، والمهتمون بلعبة الأمم يسمون تلك الشبكة اصطلاحا بمنظمة العالم الجديد، منظمة غير رسمية لكنها قوية بلا نهاية ومنتشرة بلا حدود، تقودها الشركات العملاقة متعددة الجنسيات على الساحل الأمريكي الشرقي، تلك التي وضعت الليبراليون الجدد و"بوش" الأب ثم الابن في البيت الأبيض، وإلى هذه الشبكة اليمينية المتطرفة تنتمي رؤوس الأموال النفطية المستثمرة في تلك الشركات بمئات المليارات، كما تنتمي إليها العديد من عروش الخليج العربي اليوم، وكذلك ترتبط بها كل الحكومات الدائرة في فلك الولايات المتحدة! وأشهر إنجازات المنظمة المعاصرة هي حرب الخليج الثانية بعد وصول "بوش" الأب للبيت الأبيض، حيث استدرجوا "صدام حسين" لمصيدته في الكويت، لتتدخل القوات الأمريكية لحماية عروش النفط ظاهريا فتحتل الخليج كله فعليا، ثم كان الإنجاز الأخير خلال رئاسة "بوش" الابن، حيث اُختلق التصعيد اللازم لاحتلال العراق في 2003، فلا كان للعراق علاقة بما حدث في 11 سبتمبر، ولا كان لديه بالطبع أسلحة دمار شامل كما أيقن العالم اليوم، لكن لديه ببساطة أكبر احتياطي نفطي مؤكد في الكرة الأرضية! ولو كان البعث فقط أكثر مرونة وأقل وحشية في التعامل مع شعبه لما كانت العراق لقمة سائغة لهم أبدا
هكذا علق "ديار" فأجابته "ماري" قائلة: لقد سقط نظام "صدام حسين" بالفعل يوم اقترف كارثة حلبجة يا عزيزي، فنظام يقتل شعبه بالسلاح الكيماوي هو نظام ساقط ينتظر هبة ريح لتتم إزاحته! لكن اعذراني لو قلت أن عقلي لا يهضم ما تتحدثان عنه، مازلت أرى أن العلاقات الاقتصادية والسياسية في الألفية الثالثة أصبحت أكثر تعقيدا من إيجازها في نظرية للمؤامرة ومنظمة سرية
- ليست مؤامرة، إنما هي أشبه بمفهوم شبكة أصحاب المصلحة (stakeholders) التي تؤثر في قرارات أي شركة وتوجه الأحداث بها، فالفارق حجمي فقط، ففي حالة منظمة العالم الجديد نتحدث عن شبكة تدير العالم المعمور ذاته
- وهل أنت متأكد في ظل كل هذا أن علينا ألا نقلق؟
علقت "ماري" ضاحكة فقال "ديار" مطمئنا في لهجة مازحة: تقديري أن طيور الظلام لديها في العراق اليوم فرائسا سمينة تلهيها عن ثلة أكاديميين يبحثون في رقوق غزلان وثيران
رد "علي" مبتسما وشارد الذهن إلا قليلا: هذا يعتمد على نوع الطيور يا صديقي، وعلى درجة شبقها للدماء!

28.11.08

انهيار برج بابل- 41

(41)
الطريق إلى بغداد

حال خروجهما من المطار، التقى بهما الدكتور "ديار" خبير الآثار الإسلامية مرحبا ببسمته الودودة، فاستقلا معه سيارته، و"ديار" عراقي كردي، وحاصل على درجة الدكتوراة في علوم الحفائر من فرنسا، وقد أقام بها فترة من الزمن على إثر صدام مع نظام البعث الذي كان حرصه على طمس الهوية الكردية أكثر من حرصه على وحدة العراق، في نهاية الثلاثينات، شرقي الملامح وأنيق الطلعة، وأكثر ما يميزه ابتسامة تخرج من قلب صاف فتجد موقعها في قلب من يراه، في الطريق أخبرهما بفقد أصول الكشف الأثري في حادث سطو من جهة مجهولة بالغة النفوذ والسطوة، حاول بروحه المرحة أن يخفف وقع المأساة، فالعالم الكردي الذي عركته الحياة بخبراتها – وأهمها خبرة الصدام مع البعث العراقي في عز صولته - لم تعد تهزه الملمات، ربما لهذا السبب وبفضل شخصية "ديار" كان وقع الخبر عليهما أقل من وقعه على "كاظمي" هذا الصباح، فقد طمأنهما على استمرار البحث من خلال النسخ الضوئية الدقيقة، فضلا عن ثلاثة أصول لمخطوطات من القرنين الأول والثاني كانت معه في رحلته لباريس لتأكيد أصالتها بالكربون المشع، فنجت من السطو، استأذنه "علي" في الحديث بالعربية الفصحى أو الإنجليزية حتى لا تجد زوجته صعوبة في متابعة الحديث باللهجة العراقية، فاختار "ديار" الفصحى وعقب مازحاً: أم أنك صدقت دعايات البعث التي تتهم الأكراد بكراهية اللغة العربية ورفض الحديث بها؟ ربما كان هذا رد فعل على حظر القومية الكردية واللسان الكردي زمن البعث، لكن الموضوع ليس عنصريا، وكيف نرفض العربية ولغتنا الكردية تكتب بحروفها؟ لي صديق شاعر من الموصل يكتب الشعر بالعربية والكردية بنفس الطلاقة والبلاغة
فأجابه "علي" الذي استطاع أن يسيطر على مشاعره المضطربة منذ حلمه الكئيب على متن الطائرة، فقال: تعجبني الكتابة الكردية، أراها عملية لغياب التشكيل والاستعاضة عنه بحروف ومقاطع، فهي ميزة كبيرة خاصة في زمن الآلة الكاتبة ثم الكيبورد، حيث تصبح الحركات العربية مرهقة جدا
- ومع ذلك تبقى لانسيابية الحروف المتصلة في الخط العربي قيمتها الجمالية، فقد أتاحت طيفا من الخطوط الفنية يصعب تطبيقها في الكردية لكثرة مقاطعها
بهذا أثنى كل منهما على حضارة الآخر بغير عناء، فعندما يتحدث الناضجون من أبناء الحضارات المختلفة، يترك كل منهم مهمة الاطراء على حضارته للآخر، فضلا عن عدم نقد الآخر بغير حرص ولباقة
كانت هذه أول مرة يزور فيها "علي" فضلا عن "ماري" كردستان العراق، فأخذ "ديار" يشرح لهما نبذة من تاريخ آربيل الذي يعود لألفي عام قبل الميلاد، منذ كانت تحمل الاسم السومري القديم آربيلوم، وقبل أن تحور لأصلها الآرامي آربيلا، أما اسمها الكردي، هاولِر، والذي يكتب بالكردية "هه.ولير" فمعناه معبد الشمس، نظرا لدور الشمس الرائد في العقائد الزرادشتية ثم الإيزدية التي اعتنقها الأكراد لقرون طويلة قبل انتشار الإسلام في القرن التاسع الميلادي، ومازال بكردستان أقلية إيزدية حتى اليوم، فضلا عن أقلية آليفية[1]، والطائفتان تمارسان شعائرهما وحياتهما بحرية تامة في ظل الحكم المدني الحالي .. سألته "ماري": هل تصنف العقيدة الآليفية كفرقة من العلوية أم كعقيدة منفصلة؟
- الآليفية في تقديري نتجت من تزاوج الفكر الديني العلوي مع الفكر الديني الإيزدي، فمن الإيزدية أخذت النزعة الإنسانية واحترام الآخر والتطهر السلوكي وتقديس العمل كأعلى مراتب العبادة، ومن العلوية أخذت شخص الإمام "علي" كنموذج تاريخي لهذا السلوك القويم، وبعض روحانيات الفكر الصوفي، من "محيي الدين بن عربي" تحديدا، لكنها لا علاقة لها بالعبادات الإسلامية من قريب أو بعيد، فمن الصعب أن نعدها فرقة مسلمة على حالها اليوم، أما العلوية فتنويع من الشيعة الإسماعيلية في رأيي، نتج عن الطبيعة الجغرافية في سوريا والعراق، ومن امتزاج الفكر الديني الإسماعيلي بالفكر الديني النسطوري المسيحي أولا، ثم الفكر المسيحي الغربي خلال الحروب الصليبية
- وأنت يا "علي" ما رأيك؟
سألته "ماري" وهي تتجه إليه بنظرها لتكتشف شروده، ولتلاحظ عودة السحابة القاتمة لمحياه ثانية، وبدا غير متابع للحديث فاعتذر عن ذلك قائلا: عذرا، كنت أفكر في واقعة الاستيلاء على الوثائق، وعن دور الحكومة المؤقتة فيها
- دور المنفذ فقط، فهناك قوتان يفيدهما اختفاء الوثائق، الليبراليون الجدد في أمريكا أولا والمحافظون الإيرانيون ثانيا، فالليبراليون الجدد يريدون المقاومة العراقية مشغولة ومشلولة بالصراع الطائفي، والموارد العراقية مرتهنة في حرب الارهاب، أما الإيرانيون فيهمهم ثبات المذهب الإثنى عشري بالشكل الذي كرسوه، فهو آليتهم للهيمنة وكبت التيارات الإصلاحية في إيران، كذلك يهمهم بقاء الوضع مهلهلا في جنوب العراق، حيث يلوون ذراع أمريكا من خلال قواتها المرتهنة هنا للإفلات بمشروعهم النووي
هكذا أجاب "ديار" فعلقت "ماري" قائلة: هل تعتقد بحق أن هناك تراث ديني يمكنه أن يوقف حربا طائفية؟ حتى يعتقد الأمريكيون بخطورة المخطوطات على وجودهم في العراق ونفوذهم النفطي
فأجاب "ديار": دعنا ننتظر حتى يحدثكم "كاظمي"، فهو أقدر على شرح فكرته
استغرقت المسافة بين آربيل وبغداد قرابة الأربع ساعات بسيارة الجر الرباعي التي قادها "ديار"، كانت خطة سفرهم لبغداد بالطائرة قد ألغيت بسبب تعطل الطيران بين آربيل وبغداد لظروف أمنية، فكان خيارهم أن يقصدوا بغداد رأسا عن طريق البر توفيرا للوقت بدلا من قضاء الليلة في آربيل انتظارا لمواصلة الطيران غدا، وفي الطريق استمر الحوار، فأدلى "علي" برأيه في نظرية "ديار" في القوى التي تفيد من اختفاء المخطوطات قائلا: أوافقك على الجبهة الأمريكية كصاحبة مصلحة مباشرة، لكني أستبعد إيران لأن المخطوطات لو ضرتها مذهبيا تفيدها سياسيا، فتصاعد المقاومة العراقية وانخفاض موجة الإرهاب الطائفي يفيدها بزيادة الورطة الأمريكية في العراق، والتي تجعل حصول الإدارة الأمريكية على موافقة الكونجرس على عمل عسكري ضد إيران شبه مستحيل، وأضيف للقائمة بدلا منها القوى الوهابية، فلو كانت هذه المخطوطات أصلية فستكون بمثابة الضربة المنهجية القاصمة للفكر الوهابي
- وأي ضربة يا صديقي! محتوى الوثائق يبرز مبدأ حرية العقيدة ومسئولية الفرد المسلم الكاملة عن أعماله، ويقنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار بعيد جدا عما صاغته الوهابية، ويبرز فوق كل هذا دور التكافل والتضامن الإجتماعي كركيزة لبناء مجتمع مسلم
- ضع نفسك مكانهم إذا، لقد أنفقت المليارات لخلق نفوذ إقليمي للوهابية، وبالتالي خلق استعداد للتبعية وتبني النمط الحياتي الذي يخدم مصالح اليبراليين الجدد، فهم من يزعم الوهابيون أن الإسلام يوافق منهجهم وفكرهم الاقتصادي المستغل
علقت "ماري" على طرح زوجها قائلة: ليس للقوى الوهابية القدرة التنظيمية واللوجيستية لعمل كهذا الذي سمعنا تفصيله لتونا!
- لم أقصد أنهم نفذوا الجزء السابق من المؤامرة، لكنني أنتظر لهم دورا في مرحلة قادمة، تنظير ديني يكذب محتوى المخطوطات .. دعم مالي لحملة علاقات عامة ودعاية عالمية لبث الشكوك حول المخطوطات والمشاركين في الكشف، وقد يحتاج الأمر في النهاية لفتوى تهدر دمنا جميعا، وتنفذ بيد شاب متطرف لا يعي من كل هذا حرفا، كل هذه أمور لن يقوم بها الليبراليون الجدد بأنفسهم
- أعتقد أنك ضخمت الأمر كثيرا
- من يمكنه تجنيد موظفة بحجم سيدة اليونسكو يمكنه الكثير، نحن نواجه جبل الجليد عند قاع المحيط هذه المرة يا سادة
هكذا رد "علي" قبل أن يمد يده فيحيط عنق "ماري" ويقرب رأسها من فمه ليهمس في أذنها قائلا: لا تخافي يا حبيبتي، فلولا يقيني أنك ستكونين بكل خير ما كنت معنا الآن
سألته عن سبب يقينه، فكر أن يحدثها عن شعوره القاهر حين دعاه "كاظمي" للعراق بضرورة اصطحابها معه، ثم عن حلمه الذي كان نذيرا وبشيرا معا، لكنه خشي إزعاجها أولا، وخشي كذلك نقدها لتفسير أحلامه لا كعادم للعقل الباطن كما اعتادت أن تقول ولكن كرسالة روحية، لم يجد جوابا يهرب به من الموقف كله، فنظر إليها وأجابها بنظرة حنون ردد معها مقطعا من أغنية لفيروز يقول "سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى .. بأن البلابل لما تزل هـناك تعيش بأشعارنا .. ومازال بين تلال الحنين وناس الحنين مكان لنا"

27.11.08

انهيار برج بابل- 40

(40)
ثقافة الموت
نظر "فريد" إلى شاشة هاتفه المحمول ليجد الرقم يشير لمكتب اليونسكو الإقليمي في "بيروت" فأجاب رغم شعوره بعدم الرغبة في محادثة أي مخلوق، لكنه أدرك أن الاتصال لابد مرتبط باستقالته، وكما توقع، أتاه صوت مدير المكتب الإقليمي ليخبره أن بريده أشعل النار في المركز الرئيسي في باريس بسبب حجم الكشف والطريقة البوليسية التي تم الاستيلاء بها على المخطوطات، وأن مؤشرات التحقيق توحي مبدئيا بحالة فساد بطلتها هي من هاتفته وأرسلت له بريدا تطلب فيه تسليم المخطوطات، فقد استغلت منصبها الكبير لتساعد جهة مجهولة في الاستيلاء على كشف حضاري بالغ الأهمية، وفهم منه أن التحقيقات مستمرة، لكن أحدا في اليونسكو لا يعرف أين ذهبت الوثائق، وظاهر الأمر أن المتآمرة لم تتوقع رد فعل "فريد" العنيف، بل ظنت أنه سيمرر الريح، على هذه الملحوظة علق "فريد" بصوت غلبته الدهشة من جرأة المرأة على ارتكاب جريمتها، فقال: غبية .. لو كنت أعرف كيف أمرر الريح لكنت مكانها منذ عقد من الزمان يا صديقي
- كلنا نعرفك يا رجل، وهذه ليست أول أزمة لعلماء اليونسكو مع عملاء السياسة والمخابرات، كن واثقا أننا جميعا معك، وافعل ما يمليه عليك ضميرك كعالم تحت مظلة اليونسكو، سيشرفنا هذا جميعا، لهذا سأعتبر أنك سحبت الاستقالة، وأعدك أنني لو لم أتمكن من الوفاء بهذا فسنستقيل معا، نحن في العراق لنحافظ على تراثه لا لنسرقه أو نطمس تاريخه، ولن أقبل غير هذا
شكره "فريد" على موقفه المنتظر من عالم مثله، لكنه اعتذر بأن ما سيفعله يتضمن اطلاعا مكثفا للميديا العالمية على الموضوع، وأن الوقت لا يحتمل دورة الموافقات والاجراءات حتى يتم هذا تحت مظلة اليونسكو، عليه العمل بسرعة بعد ما حدث، فلو كان الموضوع مهما لدى من رتبوا المؤامرة لدرجة طائرة خاصة وعربات مدرعة تحرسها كتيبة من الجنود، فكل الاحتمالات واردة لمحاولة خنق الموضوع والتكتم عليه، عندها سأله محدثه: هل لديك أي خيط قد يساعد لجنة التحقيق على تحديد الجهة التي استولت على المخطوطات في حال رفضت تلك المرأة الإفصاح عمن وراءها في التحقيق الجنائي؟
- لا أتوقع أن يتم تحقيق جنائي، سيصفى الموضوع بعزلها من منصبها، ثم تمارس الجهات السياسية تهدئة للأمور حتى تمر الأزمة بسلام، الأعصاب الباردة التي ارتكبوا بها فعلتهم، وسطوتهم على الحكومة العراقية لتخرج تصريحا بنقل المخطوطات الأثرية للخارج، كل هذا يشي بالفاعلين يا صديقي! ليسوا من عصابات الشوارع في بروكلي على كل حال، سأرسل لك صورة ضوئية من الإذن الصادر من الحكومة العراقية المؤقتة، ربما تكون الحكومة العراقية هي طرف الخيط لتحديد الجهة الفاعلة، وإن كنت أظنها جهة لن يملك أحد وضعها في قفص اتهام!
في هذه اللحظات كان "علي" يفيق من نومه فجأة على ارتطام عجلات الطائرة الشديد نسبيا بأرض المطار، نظر لزوجته بجواره فوجدها تتأمله وعلى وجهها إمارات الخوف وتقول: لم يكن حلما، حاولت إيقاظك أكثر من مرة .. فأدرت وجهك نحوي مغمض العينين وابتسمت وأنت تربت على ذراعي بيدك، ثم تحركها بإشارة لأهدأ قليلا، كنت أشبه حالا بمرضى الصرع النفس-حركي، وكنت تتمتم بكلمات لم أتبينها!
هكذا حدثته بالانجليزية مندفعة بسرعة شديدة كعادتها حين تتوتر، فابتسم لها بسمة من يسترخي بعد إرهاق طويل وإن لم يغادر طائف غامض من الحزن ملامحه وقال: لا تفزعي، قد يكون آخر الأحلام على كل حال
قام معها عندما توقفت محركات الطائرة بحركة آلية، لقد رسخ في نفسه أن في الحلم إشارة لموته هو، ولدور غامض تلعبه "ماري" في وصول رسالة منه للعالم .. أو إتمام رسالته بطريقة غامضة، ثم شرد قليلا في ذكرى موت والده ووالدته التي داهمته فجأة، تذكر يوم هبط للقبر مع جثمان والده الراحل وساعد حفار القبور على وضع الجثمان مقتبلا القبلة، ثم نثر الرمال الطاهرة على الكفن رمزا للدفن، حين فتح الكفن عن وجه والده ليقبله شاعت في جسده رعدة حزينة، فقد امتص الموت سخونة الجسد وتركه باردا كقطعة من حديد في برد الشتاء، حين خرج من القبر لفح الهواء ظهره الذي تعرى من قميصه لفحة شديدة، فشعر بأن ظهره أصبح عرضة للرياح بموت أبيه، ثم تذكر قصة قبر والدته مع الريحان الأخضر، كان وأخته يجدان عيدانا من الريحان مشبوكة في باب قبرها الحديدي كلما زاراها، واستمرت الرياحين لعدة أشهر بعد الوفاة، كلما ذبلت بدلها من وضعها بأخرى خضراء! لم يكن لوالدته أقارب ولا أصدقاء أحياء في تلك المدينة التي توجد بها مدافن أسرتها! فمنذا يهتم بقبرها من بين كل القبور؟ لسبب ما تذكر كف والده الكبيرة القوية، كانت كفه الطفلة تطمئن فيها حين يسير معه على النيل بعد الفجر، ثم قذفته الذكريات لحضن أمه الدافيء أبد الدهر، وكيف كان يتسلل صبيا من فراشه في ليالي الشتاء ليرمي بنفسه في أمان حضنها، فليرحمهما الرحمن كما ربياني صغيرا وآزراني كبيرا! .. هكذا فكر "علي" وهو يسير بممر الطائرة، ثم اقتحمته عبارة "ماري" وهي تقول "في اليوم الثالث يقوم من بين الأموات" .. إنها عبارة المجدلية التي صرخت بها في وجه قيصر بعد صلب المسيح في التراث الديني المسيحي، فمن كانت تعني ماريته هو؟ لم تكن تعني المسيح بكل تأكيد؟ ولماذا تحتل عقله منذ الأمس أحداث الهوان العربي وذكريات موت الأحبة؟ أهي رغبة في تعذيب الذات؟ أم شعور بدنو الأجل؟ هكذا كان يفكر حين ركبا الأتوبيس الداخلي الذي نقلهما لصالة الجوازات في مطار آربيل الدولي، وقف في الطابور الطويل يتأمل رجال الجوازات ببدلهم العسكرية النظيفة، ويراقب من بعيد إجراءات تفتيش الأمتعة الصارمة، يقوم بها شباب كردي متحمس لحماية وطن عزيز حازه بعد قهر السنين ومآسي دامية كمأساة الموت الكيميائي في حلبجة، تذكر مقطعا من قصيدة لنزار قباني يقول "مواطنون نحن فى مدائن البكاء .. قهوتنا مصنوعة من دم كربلاء .. حنطتنا معجونة بلحم كربلاء .. طعامنا، شرابنا، عاداتنا، راياتنا .. زهورنا، قبورنا، جلودنا مختومة بختم كربلاء .. لا أحد يعرفنا فى هذه الصحراء .. معتقلون داخل النص الذى يكتبه حكامنا .. معتقلون داخل الدين كما فسره إمامنا .. معتقلون داخل الحزن .. وأحلى ما بنا أحزاننا"
كانت زوجته فزعة منذ رأته يتفصد عرقا أثناء نومه، وزاد من روعها وجهه الذي خيمت عليه سحابة سوداء لم ترها قبل اليوم أبدا، سألته أكثر من مرة خلال الساعة الماضية عما به، فأجاب بأنه مرهق، فمصارحتها بخاطر الموت الذي سيطر على وجدانه كانت قسوة تتجاوز قدرته

انهيار برج بابل- 39

(39)
دموع التاريخ


الدكتور "فريد حسني" مدير برنامج اليونسكو للحفاظ على التراث الإنساني في العراق، يجلس مطرقا على الفوتيه الجلدي في غرفة مكتبه، وعلى وجهه علامات الحيرة والانزعاج، في منتصف العقد السادس من العمر، تختلط فيه ملامح الوجه الشرقية التي ورثها عن والده المصري بصراحتها وطيبتها، بلون بشرة فاتح مشرب بحمرة وزرقة عينين صافيتين ورثهما عن والدته الإنجليزية، يجلس قبالته الدكتور "كاظمي عبد الأمير" بجسده الممتليء في بدلته الزرقاء ورأسه الأصلع اللامع، ووجهه الناطق بهوية جنوب العراق، يزيد من وضوح ملامحه حادة الخطوط شارب سميك خالطت سواده بضع شعيرات بيضاء، تعكس ملامح وجهه انفعالا واضطرابا هو الآخر وهو يقطع لحظات الصمت قائلاً: لكنها جريمة ضد الإنسانية كلها! لمصلحة من يطمس هذا التراث؟
يبتسم "فريد" بمرارة المطلع على باطن أمور لا ترضيه وهو يقول: دناءات السياسة مصرة على حرمان البشرية من تاريخها الحقيقي، والأذرع الظلامية تبرز وتخفي في تراث الإنسانية كيف شاءت ووفقا لتوجهات الكبار، قد يكون الأمر جديدا عليك، لكن صدقني يا عزيزي، حتى التاريخ الذي يدرسه الأطفال في المدارس توجهه المؤسسات المالية العملاقة خلف المحيط، تلك هي حقيقة عالمنا، لكني أظنهم هذه المرة أرادوا حرماننا من المخطوطات بسبب أمر آخر، تفهم ما أعنيه
- تعرف كل هذا، فلماذا أعطيتهم الأصول
- الأصول كانت معي بصفتي الوظيفية، ومن حق الإدارات العليا أن تطلبها لتحفظها في مكان آمن، خاصة في ظروف الحرب الحالية
- لكنه تراث عراقي! والحكومة العراقية لم تسمح ..
- كان معهم مندوب رسمي من الحكومة، وطلب مني بيانا مكتوبا بالمحتويات ليرفقه بإذن مختوم يسمح بسفر المخطوطات خارج العراق بطريقة شرعية تماما، وما أن تركوني حتى أتاني بريد الكتروني يطلب إغلاق الموضوع تماما وحتى إشعار آخر، وخبرتي تقول أنه لن يكون هناك إشعار آخر، فقد وصفوا المخطوطات في كل المكاتبات والبريد الإلكتروني بالمخطوطات الآشورية، وهذا يعني أنهم ينوون التعتيم الكامل، فلو حاولنا طرح الموضوع على الرأي العام العالمي سينكروه ويتهمونا بالجنون، ويثبتوا بهذه المكاتبات أن ما سلمناه لهم كان مجرد نصوص آشورية مكررة، قيمتها التاريخية محدودة!
- آثار آشورية يعثر عليها في سامراء؟!
- سيدعون أننا وجدناها في شمال العراق، أو في خبيئة حديثة في سامراء نقلت إليها من مكانها الأصلي، لن يعضلهم ذلك، فالكذب حرفتهم
هكذا رد "فريد" قبل أن يشعل سيجارة فينفث دخانها بغيظ واضح، غيظ من تعرض لهذه الأمور أكثر من مرة حتى فاض الكيل، ففي اليوم السابق، جاءته مكالمة هاتفية من أحد قيادات اليونسكو- الهيئة الدولية التي ترعى الثقافة والتراث الإنساني- طالبة منه أن يسلم أصول المخطوطات المكتشفة إلى لجنة تصل بغداد بعد الظهر، وتزوره في مكتبه في حراسة قوات أمريكية لاستلام المخطوطات، لأن الوضع في العراق ليس آمنا للحفاظ عليها، وحين طلب "فريد" الانتظار حتى تضطلع عليها خبيرة الحجازية القديمة وأستاذ متخصص في تاريخ الفتنة الكبرى يصلان للعراق ظهر ذات اليوم، أجابته محدثته بأن بإمكانهما الاضطلاع على نسخة ضوئية، ثم أضافت أن الأمر أتاها من جهة أعلى وغير مطروح للنقاش، وأن مكاتبة بهذا الأمر ستصله كتابيا على بريده الإلكتروني خلال لحظات، وأكدت عليه ألا يطلع كائنا من كان على أمر التسليم حتى تغادر المخطوطات العراق مع اللجنة بطائرة خاصة أعدت لذلك! .. عندها أيقن أن النية مبيتة لقتل الأمر تماما، وأن عينا لن تقع بعد اليوم على تلك المخطوطات، فكر في الرفض والتمرد، لكنه عاش عمره كله رجل واجب وشرف مهني، والمخطوطات ملك الحكومة العراقية التي وافقت واليونسكو الذي أصدر الأمر، فكيف يمنعها عنهما؟ لهذا كان عليه القبول بالأمر الواقع وشعور بالقهر يزلزله، قهر عالم تكبله ألاعيب السياسة والنخاسة، وزاد من قهره ما خطط له مع "كاظمي" و"ديار" من توظيف المخطوطات لإعلان السر الذي أثقل ظهر "كاظمي" في الشهور الأخيرة .. وقبل حلول الليل، كانت طائرة خاصة تقلع من مطار بغداد وعلى متنها المخطوطات التي أنفق عاما كاملا مع الدكتور "كاظمي" والدكتور "ديار" للحصول عليها ثم فك طلاسمها وسبر أغوارها! كان يحتاج لمشاورتهما في الكارثة بأسرع وقت، لكنه لم يهاتفهما إلا في صباح اليوم التالي التزاما بواجبات وظيفته وحفاظا عليهم، فمن يدري ما عاقبة أن يعرف أحدهما بالأمر في الوقت الخطأ؟
كان الصمت قد طال بينه وبين "كاظمي"، لهذا قام الأخير يهم بالذهاب لمنزله، وخبر اغتصاب أصول كشفه التاريخي مازال على عتبة دماغه لا يريد أن يدخلها، أو لا يريد هو أن يفتح له الباب فيدخل حتى لا يموت كمدا، فهو خبر يعني تداعي الكثير مما خطط له، فقد كانت خطته هي توظيف هذا الكشف الأثري لخدمة هدف أكبر، هدف من أجل هذا البلد المنكوب بواقعه الدامي، لهذا فهو يحتاج لشيء من الوقت والعزلة ليستوعب ويرتب البدائل، كان منظره وهو يقوم مهزوما من مقعده يوحي بأنه شاخ عشر سنوات في اللحظات الماضية، لهذا نظر له "فريد" نظرة فاحصة قبل أن يستوقفه بكلماته: لا تعتقد أني فعلت هذا حرصا على وظيفة، التزامي الوحيد كان واجبي الرسمي، تمويل الكشف جاء من اليونسكو، وعقدك معهم يحفظ السبق العلمي لك ولمجموعتك، والتراث الإنساني المكتشف للعراق ممثلا في حكومته، ويحفظ حق إدارة الآثار والتصرف فيها لليونسكو، وبهذا يكون حفظ الوثائق من اختصاص الحكومة ثم اليونسكو، وكلاهما طلب نقلها خارج البلاد
هز "كاظمي" رأسه متفهما في تبرم وإحباط من الأمر كله، ولما هم بالتوجه نحو الباب أوقفته كلمات "فريد": أرسلت استقالتي فجر اليوم، استقالة مسببة احتجاجا على غلق ملف المخطوطات والحصول عليها بنية اخفائها، وأرسلت صورة من بريد الاستقالة الإلكتروني للعديد من وكالات الأنباء العالمية ومعه صورة إلكترونية من المخطوطات، وطلبت عقد المؤتمر الصحفي الذي كنا نخطط له، من حق البشرية أن تعرف ما لدينا بأي ثمن
استدار "كاظمي" متجها نحو "فريد" وهو ينظر إليه بود بالغ، جلس أمامه واضعا يده على ساعده، كأنه يعتذر عن لحظات أساء فيها الظن به، فاستمر "فريد" في حديثه: هناك الصور الضوئية، وهناك جزء من المخطوطات الأصلية مع "ديار" منذ عاد من رحلة فرنسا، وهذا يكفي لعقد المؤتمر، فالمعركة لم تنته بعد، متي يصل صديقك المصري وزوجته؟
- اليوم، و"ديار" ينتظرهما في مطار آربيل
- الخطر يتزايد ومن حقهما أن يعرفا بجلية الأمر، فليحدثهما "ديار" بكل شيء ليشاركا لو قررا المشاركة على بينة من أمرهما، أو على الأقل يطلعهما على الاستيلاء على المخطوطات ليدركا وجود خطر ما في تلك المهمة
أشار "كاظمي" برأسه موافقا على ما قاله صديقه قبل أن يقوم من مقعده ثانية، ثم يشد "فريد" من كتفيه فيضمه لصدره ويعانقه، وانحدرت دمعة من عينيه لفرط تضارب مشاعره بين الأسى والحب والأمل وشعور بالقهر الذي تعرضا له معا، وتعرضت له حقائق الماضي في المخطوطات وحقائق الحاضر في الوثائق! كانت دموعه كأنها .. دموع التاريخ
...

22.11.08

الثالوث المقدس

الفقر و الجهل و المرض في بلادنا

لقطة (1) الست زيتونة
كانت هناك قريبا من منزلنا في طفولتي سيدة فقيرة ترعى أيتاما، و كانت داكنة السمرة و يقال لها "زيتونة"، كانت تبيع شيئا لا أذكره في الشارع، و تعد طعام أطفالها جالسة في الشارع كذلك، و قد لاحظت كلما مررت بها أنها إما تقلي الباذنجان الرومي مقطعا في الزيت، أو تقلي البطاطس في الزيت، فقط و لا شيء غيرهما، و ذات مرة كنت مع أبي فسألته و أنا طفل غرير: هي ليه فلانة يا بابا مش بتطبخ غير البدنجان و البطاطس المقلية بس؟ أجابني أبي يومها بأنه الفقر، فهي تقلي هذه الأطعمة زهيدة الثمن ليغمسها أولادها بالخبز فيشبعون! كانت هذه أول لقاءاتي الشخصية بالفقر

لقطة (2) عيد و الحديد
عندما تركت الحضانة لأنتقل للصف الأول الابتدائي، في مدرسة حكومية عادية، فلم تكن المدارس الحكومية وقتها عيبا و لا "بيئة" عند الطبقة الوسطى المثقفة المصرية، قابلته للمرة الأولى، طفل في مثل عمري، لكنه يسير بطريقة مميزة، مرتكزا بيده على إحدى ساقيه و منحنيا، عندما جلس على الدكة الخشبية (أيوة دكة مش ديسك) ظهر أسفل بنطلونه عمود من حديد يتصل بحذائه الجلدي غريب الشكل و يرتفع محاذيا لساقه فيختفي أسفل البنطلون، كان مشهد "عيد" هذا و الحديد في ساقه منظر أسطوري بالنسبة لعقلي الطفل، حين عدت من المدرسة سألت والدتي رحمها الله عن هذا، فعرفت منها أنه مريض بشلل الأطفال لأنه لم يأخذ التطعيم الخاص به و هو طفل، لهذا يرتدي جهازا حديديا ليمشي بهذه المشية، كان رد فعلي الأول أن سألت لو كنت أنا أخذت هذا التطعيم، و ارتحت حين أجابتني أمي ايجابا، فكان هذا اول لقاء بالمرض كحقيقة ثقيلة في حياة البشر

لقطة (3) لا لكشف النساء
ذكرى ضبابية من طفولتي، جاءت إحدى أقاربنا من البلد لتكشف في طنطا عند دكتور النساء و الولادة، فذهبت معها أمي لعيادة طبيب كان شهيرا وقتها و كان صديقا لأبي رحمه الله، و هناك وقعت الواقعة، البنت الريفية العشرينية ترفض توقيع الكشف عليها بأي صورة، ليس لفكرة دينية خاطئة، و لكنه الخجل فقط! لقد أتت الفتاة من البلد و هي لا تعلم ما الذي يعنيه كشف النساء و الولادة و هي زوجة! عادت مع أمي للبيت، و بعد دش بارد من أبي حل عليها و على من معها من رجال أسرتها، عادت ثانية في اليوم التالي و كشفت، كان هذا أول لقاء لي بالجهل المستفحل في بلادنا

و يمر العمر، و تقابلني من ضروب الفقر و المرض و الجهل آلاف الصور، حتى أتخرج في كلية الطب و أستلم فترة الامتياز في المستشفى الجامعي بطنطا ثم مستشفى المنشاوي العام بها، فأرى هذه المعاني تتجسد أمامي في صور تتزاحم، ثم انتدب نفسي لمدة ستة شهور في مستشفى الصحة النفسية في طنطا، فأراها أكثر و أكثر، لأقرر أن أتوقف عن الرؤية، و أن ممارسة الطب غير مناسبة لي من الأساس

ثالوث الجهل و الفقر و المرض كان في مصر دوما، و بلا توقف، منذ العصر المملوكي و حتى اليوم، لكن نخبة من أبناء هذا البلد منذ نهايات القرن التاسع عشر و حتى ستينات القرن العشرين كانوا دائبي البحث عن الحلول و السعي للأمام، حتى أتى السادات بالإفك الأمريكي السعودي و ارتددنا على أعقابنا، فها هي نتيجة الانتعاش الاقتصادي الذي وعدونا به و باعوا لأجله الغالي والرخيص، و الصور أبلغ من الكلام، توحش الفقر بيننا، و جر معه المرض، أما الجهل فساعد الاثنين و ساعداه، و صار عندنا الجهل صنوفا، و مقسما لتيارات معروفة الاسم و الكنه، فهذا معرض ما صرنا اليه اليوم، مجسما في صور تنطق









أما الجزء الذي تحقق من وعود المرحوم أنور السادات فهو المعونة الأمريكية، ذل الليل و هم النهار، و التي نشتري بها بضائع و خدمات أمريكية بالأمر، و تتناقص عاما بعد عام، فهل حقا نفعتنا المعونة؟ نعم هناك مستشفيات جهزت، و لكن ما نسبتها لما كنا نبنيه في الستينات كل عام من مستشفيات عامة؟ نعم فصول دراسية جددت، لكن كم مدرسة عامة بنينا مقارنة بماضينا؟

أنين الوطن

بصوت الشيخ إمام عيسى و ألحانه

الثنائي الجميل "أحمد فؤاد نجم" شاعرا و"إمام عيسى" رحمه الله ملحنا و مؤديا، أرخا خلال الستينات و السبعينات لآلام هذا الوطن، و بصفة خاصة لمرحلة انهيار الحلم النهضوي في السبعينات، فقد نقد عيسى و نجم النظام الناصري بأغان عديدة، كان أهمها و أشهرها أغنية: بقرة حاحا، غناها إمام بعد النكسة، و تقول كلماتها الحزينة
ناح النواح و النواحــــــــــــــــــــــة
على بقرة حاحا النطـــــــــــــــــــاحة
و البقرة حلوب .. تحلب قنطــــــار
لكن مسلوب .. من أهـــــــــل الدار
و الدار بصحـاب .. و حداشر باب
غير السراديب .. و بحـــــور الديب
و غيلان الدار .. واقـــــــفين زنهار
و ف يوم معلوم ... عملوها الروم

زقوا الترباس ... هِربوا الحراس
دخلوا الخواجات .. شفطوا اللبنات
و البقرة تنادي .. و تقول يا ولادي
و ولاد الشوم ... رايحين ف النوم

و عرف "إمام" و "نجم" السجن السياسي في عهد "عبد الناصر" رحمه الله، لكن كما يقول الفاجومي: كانت علاقتهما بالحقبة الناصرية علاقة عتاب بين الأصدقاء، و لم تعرف أغانيهما الأنين المرير إلا مع عصر بيع الانجاز الوطني و الحلم القومي و مبدأ الكرامة في السبعينات، و خلال حكم الرئيس السابق "أنور السادات"، فلنأخذ اليوم جولة مع الأغاني التي مازال بعضها حيا و مريرا حتى اليوم، لأن الطريق الذي بدأناه في السبعينات، هو الذي نمر اليوم بمنتصفه و ليس سواه

كان موت المناضلين الكبار على المستوى العالمي مناسبة للرثاء و تخليد البطل الراحل، و المقارنة خلال هذا الرثاء بين البطل الحقيقي و الأبطال المحليين وقتها، و على رأسهم بطل الحرب و السلام السادات، و أشاوس المقاومة الفلسطينية الهيكلية الذين طالتهم أغاني إمام و كاريكاتير ناجي العلي كثيرا، من هذا الرثاء أغنية انطلقت مع وفاة البطل الفيتنامي الأسطوري: هو شي منه، و اسمه الحقيقي نيوجين شن شونج، و أطلق عليه اسم: هو شي منه بمعنى الروح ذات الإشعاع، تعبيرا عن روح الحماس الذي كانت تشع منه، و هو البطل الذي هزم مع القائد الأسطوري "جي آب" الفرنسيين ثم الأمريكان محررا فيتنام الشمالية، فينتخب رئيسا لها، ثم يرسل القوات لمساعدة ثور فيتنام الجنوبية، ضد نظام "نجو دين ديم" العميل للأمريكان، و يموت القائد عام 1975م و لكن جنوده يواصلون المسيرة حتى تتحرر سايجون، ضيعة أمريكا الآسيوية قبل التحرير، و يغير اسمها لهو شي منه! في رثاء البطل الرائع قالت الأغنية الإمامية
و لما بان الخـــــــــــبر و اتــــــــــأكد الاثبات
صــــــــــاح الســــــــــلاح في الحــــــــــرس
قال: هو شي منه .. مـــــــــــــــــــــــــــــــات
الحـــــــاكم اللى زهــــــــد فى الملك واللذات
و الزاهد اللى حكم .. ضد الهــــــوى والذات
مات المسيح النبى .. ويهـــــــــوذا بالألوفات
مات الصديق الوفى للخضـــــــــره والغابات
مات .. بس فات للأمل فوق الطريق علامات
لو سار عليها العمل طول الطـــــــريق بثبات
تهدى الغريب سكته .. و تقرب المســــــــافات

أما مرثيته لما مات البطل الأرجنتيني الأصل الكوبي النضال "آرنستو جيفارا" فكانت الأروع على الإطلاق، فقد كانت شهادة "جيفارا" في ميدان المعركة ضد أمريكا، بعد استقالته من منصبه الوزاري في كوبا التي حررها، و سفره مع مائة من صحابه لدعم ثورة "لومومبا" في في الكنغو، ثم توجهه لبوليفيا لتحريرها من سطوة أمريكا، حيث استشهد فيها، منظرا ألهب الخيال الرومانسي في العالم كله، فقد هاجمه الجيش الموالي لأمريكا في 1500 جندي بينما كان هو مع 16 جنديا من رجاله، و مع ذلك صمد جيفارا و صحبه ستة ساعات كاملة، برغم الاصابات، و لما فرغت ذخيرته تماما وقع في الأسر، فقتله الأمريكيون في فالي جراند و بتروا يديه لارسالهما لأمريكا للتعرف على بصماته!!! يا لقذارة الكلاب؟
، و دفنت حكومية بوليفيا البطل سرا حتى لا تصبح مقبرته مكانا لتجمع الثوار حول العالم، حتى اكتشف رفاته عام 1997م بعد أن كشف عميل سابق للمخابرات المركزية وقائع القتل و الدفن، فأعد له رفيق نضاله كاسترو جنازة رسمية و دفنه في كوبا بمقبرة تليق بمثله، في مرثيته غنى إمام قائلا

جيفارا مــــــات .. جــــــيفارا مات
آخر خــــــبر في الراديوهــــــــــات
وفي الكـــــــنايس والجــــــــــــوامع
وفي الحتـــــواري والشــــــــوارع
و عَ القهــــاوي و عَ البـــــــــارات
جيفارا مات
واتمد حبل الدردشـــة والتعـــــليقات
مات المناضـــــــل المثال
يا ميت خسارة عَ الرجال
مات الجدع فوق مدفعـــه جوه الغابات
جسد نضاله بمصـــرعه ومن سكــات
لا طبالين يفرقعـــوا .. و لا إعلانـــات
ما رأيكم دام عــــزكم يا انتيكـــــــــــات
يا غرقانين في المأكولات والملبوسات
يا دفيانين ومولعــين الدفـــــــــــــــايات
يا محفلطـــــــين يا ملمعين يا جيمسنات
يا بتوع نضال آخر زمن في العـوامات
ما رأيكم دام عزكم؟ جيفـــــــــــارا مات
لا طنطنة ولا شنشـــــــنة
و لا إعلانات واستعلامات
***
عيني عليه ساعة القضا من غير رفاقة تودعه
يطلع أنينه للفضا يزعق ولا مين يسمــــــــــعه
يمكن صرخ من الألم من لسعة النار في الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم أو ارتعـــــــش أو انتشى
يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع لأجل الجــــياع
يمكن وصية للي حاضنين القضية في الصراع
صور كثير ملو الخيال وألف مليون احتـــــــمال
لكن أكيد ولا جدال جيفـــــــارا مات موتة رجال
و يغني إمام لثوار فلسطين الحقيقيين من المقيمين بداخلها و من يحتملون المرارة و القتام في سبيل الوطن السليب، فيغني من شعر توفيق دياب قطعة ملتهبة بالثورة يقول فيها

أناديكم .. أشد على أياديكم
أبوس الأرض تحت نعالـــــكم .. و أقول: أفديكم
وأهديكم ضيا عيني .. و دفء القـــــلب أعطيكم
فمأساتي التي أحيا .. نصــــــــــيبي من مآسيكم
أنا ما هنت في وطني ولا صغـــــــــــــــرت أكتافي
وقفــــــــــت بوجه ظـــــلامي يتيما، عاريا، حافي
حملت دمي على كفي وما نكست أعـــــــــــــلامي
وصنت العـــــشب فوق قبـــــور أســـــــــــــــلافي
و يقول في ثوار الأرض العزيزة على القلوب و النفوس كذلك أغنية رائعة

يا فلسطينية و البندقــــــــــــــــــــاني رماكوا

بالصهــــــــــــيونية تقتل حمامكو في حداكوا
يا فلسطينية وأنا بدي اسافر حـــــــــــــداكوا
ناري في أيديه .. و إيديه تنزل معــــــــــاكو
على راس الحيه .. وتموت شريعة هولاكو
***
يا فلسطينية والغربة طالت كـــــفاية
والصحرا أّنت م اللاجئين والضــحايا
والأرض حنّت للفلاحـــــين والسقايه
والثورة غاية والنصر أول خطــــاكوا
***
يا فلسطينية والثورة هي الاكـــــــيدة
بالبندقية نفرض حياتنا الجــــــــــديدة
والسكه مهما طالت وبانت بعـــــــيدة
مدّ الخطاوي هو اللي يسعف معاكوا
***
يا فلسطينية فيتنام عليكـــــوا البشـــــارة
بالنصرة طالعة من تحت ميت ألف غــارة
والشمعة والعه والامـــــريكان بالخسارة
راجعين حيارى عـــقبال ما يحصل معاكوا
و مع ضبابية التوجهات المصرية بعد أكتوبر العظيم غنى يقول
إذا الشمس غرقت في بحر الغمــام
ومدت على الدنيا موجة ظــــــــــلام
ومات البصرفي العيون والبصـــاير
وغاب الطريق في الخطوط والدواير
يا ساير يا داير يا ابو المفهـــــومية
مفيش لك دليل غير عيـــــون الكلام
و في بدايات الارتماء في حضن الخواجات و الانفشاخ الاقتصادي تصاعدت الصيحات الإمامية، فيقول
بوتيكات النات كوانات .. و شقق مفروشة و عمولات
يا حلاوة الناوة كوناوة .. يا بلدنا يا آخــــــــــر فتكات
شبيك لبيك فتح مخك .. لبيك شبيك غمــــــــض عينك
هتقفل مخك هنطخك .. و نلوشك لو تفتــــــــــح عينك
ركب قرنين تركب مازدا و تعيش سلطان في البرواز ده
مش عاجبك فالجبنة الفاسدة و الفول و العيش و الكرات
***
مين فيكوا ما يعرفش عليوه .. شيّال المينا الكـــــحيان
في ثواني اتمول واتحول .. بقي مسيو عليـــــوه عليَّان
إزاي؟

ما هي بوظه ومفتوحه .. على حس ولاد المفضــوحه

وأرانب صاحيه ومدبوحه .. تتأستك تبع البنوكــــــــات
يا حلاوه الناوه كوناوه .. يا بلدنا يا آخر فتكـــــــــــــــات

و حين ارتهن الوطن لأموال الأمريكان و عقود العمل في الخليج، و تفتحت الشهية للطفرة الاستهلاكية، و ضاعت الصناعة الوطنية، بعد أن ضاع استقلال الوطن و سيادته على أرضه في كامب ديفيد، غنى فقال
بنادي على كل واحد في مصـــــر
ندايا أنا لكل بيت مش لقصــــــــر
بلدنا في محـــــــنة نظامها دابحنا
و واجبنا إحنا نصـــونك يا مصر
***
بنادي على الورشجـــــية الصـــغار
و دول مسروقين من سماسرة كبار
هتخرب بيوتكم فلوس أمريـــــكاني
مع الانفتاح جت مصيبة لمصـــــر
***
بنادي على الجيش هناك ع الحدود
مسلح و رابض لمين بالبـــــارود؟
رئيسك خلاص سلمك لليهــــــــود
و ضيع عليك أي فرصـــــة لنصر
و مع طفرة المعمار الانفتاحي، و التطاول في البنيان على الطريقة الأمريكية، غنا عن البنائين أغنية تفيض شجنا بلهجتها الصعيدية، موضحا القطبية الوطنية بين من يجدون مالا ينفقون، و من لا يجدون ما ينفقون، متجسدة في بناء يبني عمائر الأغنياء، فقال
دلي الشيكارة جنب الشيكارة .. و اقعد يا حفني ولعلك سيجارة
دقق شوية في العيشة دية .. ايه القضـية؟ ايه العبــــــــــارة؟
من صغر سني .. شقيان لكني .. ما لط سني غير البصـــــارة
دخلت حارة من جوة حارة .. و في كل حارة عليت عمـــــارة
وقت المهاول بنا و مناول .. بس المقاول كلني بشطــــــــــارة
و لا خلا صرة و لا لقمة حرة .. و العيشة مرة أخر مـــرارة
و مع اعتصام ميدان التحرير برقت بارقة أمل فغنى يقول
رجعــــــــــوا التلامــــــــــذة
ياعم حمـــــزة للجـــــــد تانى
يامصــــــــــر انتِ اللى باقية
وانتِ قطف الامـــــــــــــــاني
لا كوره نفعت ولا اونطـــــه
ولا المناقشة وجدل بيزنطـــــه
ولا الصحافة والصحـــــــفجية
شاغلين شبابنا عن القضـــــية
قيمولنا صهبة يا صهبجـــــــية
ودوقـــــونا طعم الاغــــــــــانى

و حين زار "نكسون" المنطقة في مساعي السلام الفلسطيني، محاولا تحقيق أي انجاز يغطي على عار قضية ووتر جيت، فرحب به الحكام العرب و هللوا له، فغنى
شرفت يا نيكســـــون بابا يا بتاع الووتر جيت
عملولك قيمه و سيما سلاطـــــين الفول والزيت
فرشولك أوسع سكه من راس التين على مكـــــه
وهناك تنفد على عكـــــا ويقولوا عليك حجـــــيت
ما هو مولد ساير داير .. شيلاه يا صحاب البيت
***
جواسيسك يوم تشريفك .. عملولك زفــــه و زار
تتقصع فيه المومــــــــــس والقارح والمــــــــــندار
والشيخ شمهورش راكـب
ع الكوديا وهات يا مواكب
وبواقي الزفه عناكب ساحبين من تحت الحـــــيط
واهو مولد ساير داير .. شيلاه يا اصحاب البيت