28.11.08

انهيار برج بابل- 41

(41)
الطريق إلى بغداد

حال خروجهما من المطار، التقى بهما الدكتور "ديار" خبير الآثار الإسلامية مرحبا ببسمته الودودة، فاستقلا معه سيارته، و"ديار" عراقي كردي، وحاصل على درجة الدكتوراة في علوم الحفائر من فرنسا، وقد أقام بها فترة من الزمن على إثر صدام مع نظام البعث الذي كان حرصه على طمس الهوية الكردية أكثر من حرصه على وحدة العراق، في نهاية الثلاثينات، شرقي الملامح وأنيق الطلعة، وأكثر ما يميزه ابتسامة تخرج من قلب صاف فتجد موقعها في قلب من يراه، في الطريق أخبرهما بفقد أصول الكشف الأثري في حادث سطو من جهة مجهولة بالغة النفوذ والسطوة، حاول بروحه المرحة أن يخفف وقع المأساة، فالعالم الكردي الذي عركته الحياة بخبراتها – وأهمها خبرة الصدام مع البعث العراقي في عز صولته - لم تعد تهزه الملمات، ربما لهذا السبب وبفضل شخصية "ديار" كان وقع الخبر عليهما أقل من وقعه على "كاظمي" هذا الصباح، فقد طمأنهما على استمرار البحث من خلال النسخ الضوئية الدقيقة، فضلا عن ثلاثة أصول لمخطوطات من القرنين الأول والثاني كانت معه في رحلته لباريس لتأكيد أصالتها بالكربون المشع، فنجت من السطو، استأذنه "علي" في الحديث بالعربية الفصحى أو الإنجليزية حتى لا تجد زوجته صعوبة في متابعة الحديث باللهجة العراقية، فاختار "ديار" الفصحى وعقب مازحاً: أم أنك صدقت دعايات البعث التي تتهم الأكراد بكراهية اللغة العربية ورفض الحديث بها؟ ربما كان هذا رد فعل على حظر القومية الكردية واللسان الكردي زمن البعث، لكن الموضوع ليس عنصريا، وكيف نرفض العربية ولغتنا الكردية تكتب بحروفها؟ لي صديق شاعر من الموصل يكتب الشعر بالعربية والكردية بنفس الطلاقة والبلاغة
فأجابه "علي" الذي استطاع أن يسيطر على مشاعره المضطربة منذ حلمه الكئيب على متن الطائرة، فقال: تعجبني الكتابة الكردية، أراها عملية لغياب التشكيل والاستعاضة عنه بحروف ومقاطع، فهي ميزة كبيرة خاصة في زمن الآلة الكاتبة ثم الكيبورد، حيث تصبح الحركات العربية مرهقة جدا
- ومع ذلك تبقى لانسيابية الحروف المتصلة في الخط العربي قيمتها الجمالية، فقد أتاحت طيفا من الخطوط الفنية يصعب تطبيقها في الكردية لكثرة مقاطعها
بهذا أثنى كل منهما على حضارة الآخر بغير عناء، فعندما يتحدث الناضجون من أبناء الحضارات المختلفة، يترك كل منهم مهمة الاطراء على حضارته للآخر، فضلا عن عدم نقد الآخر بغير حرص ولباقة
كانت هذه أول مرة يزور فيها "علي" فضلا عن "ماري" كردستان العراق، فأخذ "ديار" يشرح لهما نبذة من تاريخ آربيل الذي يعود لألفي عام قبل الميلاد، منذ كانت تحمل الاسم السومري القديم آربيلوم، وقبل أن تحور لأصلها الآرامي آربيلا، أما اسمها الكردي، هاولِر، والذي يكتب بالكردية "هه.ولير" فمعناه معبد الشمس، نظرا لدور الشمس الرائد في العقائد الزرادشتية ثم الإيزدية التي اعتنقها الأكراد لقرون طويلة قبل انتشار الإسلام في القرن التاسع الميلادي، ومازال بكردستان أقلية إيزدية حتى اليوم، فضلا عن أقلية آليفية[1]، والطائفتان تمارسان شعائرهما وحياتهما بحرية تامة في ظل الحكم المدني الحالي .. سألته "ماري": هل تصنف العقيدة الآليفية كفرقة من العلوية أم كعقيدة منفصلة؟
- الآليفية في تقديري نتجت من تزاوج الفكر الديني العلوي مع الفكر الديني الإيزدي، فمن الإيزدية أخذت النزعة الإنسانية واحترام الآخر والتطهر السلوكي وتقديس العمل كأعلى مراتب العبادة، ومن العلوية أخذت شخص الإمام "علي" كنموذج تاريخي لهذا السلوك القويم، وبعض روحانيات الفكر الصوفي، من "محيي الدين بن عربي" تحديدا، لكنها لا علاقة لها بالعبادات الإسلامية من قريب أو بعيد، فمن الصعب أن نعدها فرقة مسلمة على حالها اليوم، أما العلوية فتنويع من الشيعة الإسماعيلية في رأيي، نتج عن الطبيعة الجغرافية في سوريا والعراق، ومن امتزاج الفكر الديني الإسماعيلي بالفكر الديني النسطوري المسيحي أولا، ثم الفكر المسيحي الغربي خلال الحروب الصليبية
- وأنت يا "علي" ما رأيك؟
سألته "ماري" وهي تتجه إليه بنظرها لتكتشف شروده، ولتلاحظ عودة السحابة القاتمة لمحياه ثانية، وبدا غير متابع للحديث فاعتذر عن ذلك قائلا: عذرا، كنت أفكر في واقعة الاستيلاء على الوثائق، وعن دور الحكومة المؤقتة فيها
- دور المنفذ فقط، فهناك قوتان يفيدهما اختفاء الوثائق، الليبراليون الجدد في أمريكا أولا والمحافظون الإيرانيون ثانيا، فالليبراليون الجدد يريدون المقاومة العراقية مشغولة ومشلولة بالصراع الطائفي، والموارد العراقية مرتهنة في حرب الارهاب، أما الإيرانيون فيهمهم ثبات المذهب الإثنى عشري بالشكل الذي كرسوه، فهو آليتهم للهيمنة وكبت التيارات الإصلاحية في إيران، كذلك يهمهم بقاء الوضع مهلهلا في جنوب العراق، حيث يلوون ذراع أمريكا من خلال قواتها المرتهنة هنا للإفلات بمشروعهم النووي
هكذا أجاب "ديار" فعلقت "ماري" قائلة: هل تعتقد بحق أن هناك تراث ديني يمكنه أن يوقف حربا طائفية؟ حتى يعتقد الأمريكيون بخطورة المخطوطات على وجودهم في العراق ونفوذهم النفطي
فأجاب "ديار": دعنا ننتظر حتى يحدثكم "كاظمي"، فهو أقدر على شرح فكرته
استغرقت المسافة بين آربيل وبغداد قرابة الأربع ساعات بسيارة الجر الرباعي التي قادها "ديار"، كانت خطة سفرهم لبغداد بالطائرة قد ألغيت بسبب تعطل الطيران بين آربيل وبغداد لظروف أمنية، فكان خيارهم أن يقصدوا بغداد رأسا عن طريق البر توفيرا للوقت بدلا من قضاء الليلة في آربيل انتظارا لمواصلة الطيران غدا، وفي الطريق استمر الحوار، فأدلى "علي" برأيه في نظرية "ديار" في القوى التي تفيد من اختفاء المخطوطات قائلا: أوافقك على الجبهة الأمريكية كصاحبة مصلحة مباشرة، لكني أستبعد إيران لأن المخطوطات لو ضرتها مذهبيا تفيدها سياسيا، فتصاعد المقاومة العراقية وانخفاض موجة الإرهاب الطائفي يفيدها بزيادة الورطة الأمريكية في العراق، والتي تجعل حصول الإدارة الأمريكية على موافقة الكونجرس على عمل عسكري ضد إيران شبه مستحيل، وأضيف للقائمة بدلا منها القوى الوهابية، فلو كانت هذه المخطوطات أصلية فستكون بمثابة الضربة المنهجية القاصمة للفكر الوهابي
- وأي ضربة يا صديقي! محتوى الوثائق يبرز مبدأ حرية العقيدة ومسئولية الفرد المسلم الكاملة عن أعماله، ويقنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار بعيد جدا عما صاغته الوهابية، ويبرز فوق كل هذا دور التكافل والتضامن الإجتماعي كركيزة لبناء مجتمع مسلم
- ضع نفسك مكانهم إذا، لقد أنفقت المليارات لخلق نفوذ إقليمي للوهابية، وبالتالي خلق استعداد للتبعية وتبني النمط الحياتي الذي يخدم مصالح اليبراليين الجدد، فهم من يزعم الوهابيون أن الإسلام يوافق منهجهم وفكرهم الاقتصادي المستغل
علقت "ماري" على طرح زوجها قائلة: ليس للقوى الوهابية القدرة التنظيمية واللوجيستية لعمل كهذا الذي سمعنا تفصيله لتونا!
- لم أقصد أنهم نفذوا الجزء السابق من المؤامرة، لكنني أنتظر لهم دورا في مرحلة قادمة، تنظير ديني يكذب محتوى المخطوطات .. دعم مالي لحملة علاقات عامة ودعاية عالمية لبث الشكوك حول المخطوطات والمشاركين في الكشف، وقد يحتاج الأمر في النهاية لفتوى تهدر دمنا جميعا، وتنفذ بيد شاب متطرف لا يعي من كل هذا حرفا، كل هذه أمور لن يقوم بها الليبراليون الجدد بأنفسهم
- أعتقد أنك ضخمت الأمر كثيرا
- من يمكنه تجنيد موظفة بحجم سيدة اليونسكو يمكنه الكثير، نحن نواجه جبل الجليد عند قاع المحيط هذه المرة يا سادة
هكذا رد "علي" قبل أن يمد يده فيحيط عنق "ماري" ويقرب رأسها من فمه ليهمس في أذنها قائلا: لا تخافي يا حبيبتي، فلولا يقيني أنك ستكونين بكل خير ما كنت معنا الآن
سألته عن سبب يقينه، فكر أن يحدثها عن شعوره القاهر حين دعاه "كاظمي" للعراق بضرورة اصطحابها معه، ثم عن حلمه الذي كان نذيرا وبشيرا معا، لكنه خشي إزعاجها أولا، وخشي كذلك نقدها لتفسير أحلامه لا كعادم للعقل الباطن كما اعتادت أن تقول ولكن كرسالة روحية، لم يجد جوابا يهرب به من الموقف كله، فنظر إليها وأجابها بنظرة حنون ردد معها مقطعا من أغنية لفيروز يقول "سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى .. بأن البلابل لما تزل هـناك تعيش بأشعارنا .. ومازال بين تلال الحنين وناس الحنين مكان لنا"

5 comments:

مهرة عربية said...

عندما يتحدث العقلاء من أبناء الحضارات المختلفة، يترك كل طرف مهمة الاطراء على حضارته للآخر، فلا يمدح أحدهما حضارته فضلا عن عدم نقد حضارة الآخر بغير حرص و لباقة،

=======================

انك تتحدث عن العقلاء يا صديقى.....عندما تجدهم من فضلك أبلغنى
لأنى ابحث عن العقلاء ايضا ....ليسوا من اصحاب الحضارات المختلفة....ولكنى ابحث عن العقلاء - لو كانوا موجودون - من ابناء الدين الواحد ...!!!

او العقلاء من ابناء الوطن الواحد والأديان المختلفة المصطبغة بصبغة هذا الوطن الواحد ليضمهم برواز اخلاقى عام مهما اختلفت شعائر دينهم

العقلاء ...العقلاء...أين هم؟؟؟

مهرة عربية said...

البناء الدرامى وبالذات فى هذا الجزء البوليسى منها يثير اعجابى بقدرتك الادبية بل ويقفز بها من درجة لأخرى تفوقها عبقرية

كنت أحسبك كاتب رومانسى حالم وفقط....ولكن اتضح ان الموهبة لا تتجزأ ....حفظ الله موهبتك وحفظك من كل سوء


بالمناسبة ....انا التى بدأت تخاف بجد موش د.مارى...
بالله عليك ياصديقى ....رفقا بنا من نهاية روايتك السائرة فى طريق الأحزان

Che Ahmad said...

دكتور اياد
الفصل السبعة والاربعين الاولي كنت اخدتهم وحطيتهم في فايل بي دي اف علشان كان عندي ميد تيرمات وقريتهم ساعه الامتحانات ولولاهم كنت انتحرت من العته الرسمي بكتب الكلية اللى مش بفتحها اصلا

عجبتني التغيرات كتير

بالنسبة للفصول الخمسة اللى اضيفوا مؤخرا

هقول لحضرتك علي حاجة
مش عارف ليه وانا بقرا الفايل البي دي اف او الفصول السبعة وتلاتين الاولي قولت شخص بحجم علي الامام يستحق ف النهاية وفاة تأخذه عن عالمنا اللى زي الرصيف
ومش اي وفاة في بالى انها تكون موته درماتيكيه مؤثرة خاطفه

الرواية بشوفها اكتر ما بقرأها حقيقة
وفعلا اتعملت منها حاجات كتييييييييييييييير جديدة
وكمان وجبه روحية وعاطفية دسمة

دا كله ف رواية واحدة ؟؟؟
احمدك يا رب

حفظ الله قلمك دائما وابدا
تحياتي

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي المهرة العربية الأصيلة
شكرا لك يا صديقتي على الاطراء و التشجيع الذي أرجو أن أستحقه و يستحقه عملي المتواضع

أما عن نهايات الرواية يا صديقتي، فبعض الأشخاص و منهم د/ علي يسيرون في هذه الحياة نحو قدر محتوم لا يحيدون عن طريقهم اليه و لا يحيد هو عنهم، كأبطال التراجيديا الاغريقية تماما
لن تخلو النهاية من الأمل رغم الحزن يا عزيزتي

Dr. Eyad Harfoush said...

أخي العزيز و صديقي العزيز أحمد شي
أهلا و سهلا بك يا صديقي و ان شاء الله موفق في الامتحانات، سيسعدني ان اتعرف عليك شخصيا وقتما تحب بعد اختباراتك ان شاء الله

أما عن د/ علي فلعلك نافذ البصيرة يا عزيزي فيم يخص النهاية، غدا لناظره قريب و لم يبق الا شوط على النهاية

وافر تحياتي و تقديري و احترامي