27.11.08

انهيار برج بابل- 39

(39)
دموع التاريخ


الدكتور "فريد حسني" مدير برنامج اليونسكو للحفاظ على التراث الإنساني في العراق، يجلس مطرقا على الفوتيه الجلدي في غرفة مكتبه، وعلى وجهه علامات الحيرة والانزعاج، في منتصف العقد السادس من العمر، تختلط فيه ملامح الوجه الشرقية التي ورثها عن والده المصري بصراحتها وطيبتها، بلون بشرة فاتح مشرب بحمرة وزرقة عينين صافيتين ورثهما عن والدته الإنجليزية، يجلس قبالته الدكتور "كاظمي عبد الأمير" بجسده الممتليء في بدلته الزرقاء ورأسه الأصلع اللامع، ووجهه الناطق بهوية جنوب العراق، يزيد من وضوح ملامحه حادة الخطوط شارب سميك خالطت سواده بضع شعيرات بيضاء، تعكس ملامح وجهه انفعالا واضطرابا هو الآخر وهو يقطع لحظات الصمت قائلاً: لكنها جريمة ضد الإنسانية كلها! لمصلحة من يطمس هذا التراث؟
يبتسم "فريد" بمرارة المطلع على باطن أمور لا ترضيه وهو يقول: دناءات السياسة مصرة على حرمان البشرية من تاريخها الحقيقي، والأذرع الظلامية تبرز وتخفي في تراث الإنسانية كيف شاءت ووفقا لتوجهات الكبار، قد يكون الأمر جديدا عليك، لكن صدقني يا عزيزي، حتى التاريخ الذي يدرسه الأطفال في المدارس توجهه المؤسسات المالية العملاقة خلف المحيط، تلك هي حقيقة عالمنا، لكني أظنهم هذه المرة أرادوا حرماننا من المخطوطات بسبب أمر آخر، تفهم ما أعنيه
- تعرف كل هذا، فلماذا أعطيتهم الأصول
- الأصول كانت معي بصفتي الوظيفية، ومن حق الإدارات العليا أن تطلبها لتحفظها في مكان آمن، خاصة في ظروف الحرب الحالية
- لكنه تراث عراقي! والحكومة العراقية لم تسمح ..
- كان معهم مندوب رسمي من الحكومة، وطلب مني بيانا مكتوبا بالمحتويات ليرفقه بإذن مختوم يسمح بسفر المخطوطات خارج العراق بطريقة شرعية تماما، وما أن تركوني حتى أتاني بريد الكتروني يطلب إغلاق الموضوع تماما وحتى إشعار آخر، وخبرتي تقول أنه لن يكون هناك إشعار آخر، فقد وصفوا المخطوطات في كل المكاتبات والبريد الإلكتروني بالمخطوطات الآشورية، وهذا يعني أنهم ينوون التعتيم الكامل، فلو حاولنا طرح الموضوع على الرأي العام العالمي سينكروه ويتهمونا بالجنون، ويثبتوا بهذه المكاتبات أن ما سلمناه لهم كان مجرد نصوص آشورية مكررة، قيمتها التاريخية محدودة!
- آثار آشورية يعثر عليها في سامراء؟!
- سيدعون أننا وجدناها في شمال العراق، أو في خبيئة حديثة في سامراء نقلت إليها من مكانها الأصلي، لن يعضلهم ذلك، فالكذب حرفتهم
هكذا رد "فريد" قبل أن يشعل سيجارة فينفث دخانها بغيظ واضح، غيظ من تعرض لهذه الأمور أكثر من مرة حتى فاض الكيل، ففي اليوم السابق، جاءته مكالمة هاتفية من أحد قيادات اليونسكو- الهيئة الدولية التي ترعى الثقافة والتراث الإنساني- طالبة منه أن يسلم أصول المخطوطات المكتشفة إلى لجنة تصل بغداد بعد الظهر، وتزوره في مكتبه في حراسة قوات أمريكية لاستلام المخطوطات، لأن الوضع في العراق ليس آمنا للحفاظ عليها، وحين طلب "فريد" الانتظار حتى تضطلع عليها خبيرة الحجازية القديمة وأستاذ متخصص في تاريخ الفتنة الكبرى يصلان للعراق ظهر ذات اليوم، أجابته محدثته بأن بإمكانهما الاضطلاع على نسخة ضوئية، ثم أضافت أن الأمر أتاها من جهة أعلى وغير مطروح للنقاش، وأن مكاتبة بهذا الأمر ستصله كتابيا على بريده الإلكتروني خلال لحظات، وأكدت عليه ألا يطلع كائنا من كان على أمر التسليم حتى تغادر المخطوطات العراق مع اللجنة بطائرة خاصة أعدت لذلك! .. عندها أيقن أن النية مبيتة لقتل الأمر تماما، وأن عينا لن تقع بعد اليوم على تلك المخطوطات، فكر في الرفض والتمرد، لكنه عاش عمره كله رجل واجب وشرف مهني، والمخطوطات ملك الحكومة العراقية التي وافقت واليونسكو الذي أصدر الأمر، فكيف يمنعها عنهما؟ لهذا كان عليه القبول بالأمر الواقع وشعور بالقهر يزلزله، قهر عالم تكبله ألاعيب السياسة والنخاسة، وزاد من قهره ما خطط له مع "كاظمي" و"ديار" من توظيف المخطوطات لإعلان السر الذي أثقل ظهر "كاظمي" في الشهور الأخيرة .. وقبل حلول الليل، كانت طائرة خاصة تقلع من مطار بغداد وعلى متنها المخطوطات التي أنفق عاما كاملا مع الدكتور "كاظمي" والدكتور "ديار" للحصول عليها ثم فك طلاسمها وسبر أغوارها! كان يحتاج لمشاورتهما في الكارثة بأسرع وقت، لكنه لم يهاتفهما إلا في صباح اليوم التالي التزاما بواجبات وظيفته وحفاظا عليهم، فمن يدري ما عاقبة أن يعرف أحدهما بالأمر في الوقت الخطأ؟
كان الصمت قد طال بينه وبين "كاظمي"، لهذا قام الأخير يهم بالذهاب لمنزله، وخبر اغتصاب أصول كشفه التاريخي مازال على عتبة دماغه لا يريد أن يدخلها، أو لا يريد هو أن يفتح له الباب فيدخل حتى لا يموت كمدا، فهو خبر يعني تداعي الكثير مما خطط له، فقد كانت خطته هي توظيف هذا الكشف الأثري لخدمة هدف أكبر، هدف من أجل هذا البلد المنكوب بواقعه الدامي، لهذا فهو يحتاج لشيء من الوقت والعزلة ليستوعب ويرتب البدائل، كان منظره وهو يقوم مهزوما من مقعده يوحي بأنه شاخ عشر سنوات في اللحظات الماضية، لهذا نظر له "فريد" نظرة فاحصة قبل أن يستوقفه بكلماته: لا تعتقد أني فعلت هذا حرصا على وظيفة، التزامي الوحيد كان واجبي الرسمي، تمويل الكشف جاء من اليونسكو، وعقدك معهم يحفظ السبق العلمي لك ولمجموعتك، والتراث الإنساني المكتشف للعراق ممثلا في حكومته، ويحفظ حق إدارة الآثار والتصرف فيها لليونسكو، وبهذا يكون حفظ الوثائق من اختصاص الحكومة ثم اليونسكو، وكلاهما طلب نقلها خارج البلاد
هز "كاظمي" رأسه متفهما في تبرم وإحباط من الأمر كله، ولما هم بالتوجه نحو الباب أوقفته كلمات "فريد": أرسلت استقالتي فجر اليوم، استقالة مسببة احتجاجا على غلق ملف المخطوطات والحصول عليها بنية اخفائها، وأرسلت صورة من بريد الاستقالة الإلكتروني للعديد من وكالات الأنباء العالمية ومعه صورة إلكترونية من المخطوطات، وطلبت عقد المؤتمر الصحفي الذي كنا نخطط له، من حق البشرية أن تعرف ما لدينا بأي ثمن
استدار "كاظمي" متجها نحو "فريد" وهو ينظر إليه بود بالغ، جلس أمامه واضعا يده على ساعده، كأنه يعتذر عن لحظات أساء فيها الظن به، فاستمر "فريد" في حديثه: هناك الصور الضوئية، وهناك جزء من المخطوطات الأصلية مع "ديار" منذ عاد من رحلة فرنسا، وهذا يكفي لعقد المؤتمر، فالمعركة لم تنته بعد، متي يصل صديقك المصري وزوجته؟
- اليوم، و"ديار" ينتظرهما في مطار آربيل
- الخطر يتزايد ومن حقهما أن يعرفا بجلية الأمر، فليحدثهما "ديار" بكل شيء ليشاركا لو قررا المشاركة على بينة من أمرهما، أو على الأقل يطلعهما على الاستيلاء على المخطوطات ليدركا وجود خطر ما في تلك المهمة
أشار "كاظمي" برأسه موافقا على ما قاله صديقه قبل أن يقوم من مقعده ثانية، ثم يشد "فريد" من كتفيه فيضمه لصدره ويعانقه، وانحدرت دمعة من عينيه لفرط تضارب مشاعره بين الأسى والحب والأمل وشعور بالقهر الذي تعرضا له معا، وتعرضت له حقائق الماضي في المخطوطات وحقائق الحاضر في الوثائق! كانت دموعه كأنها .. دموع التاريخ
...

2 comments:

مهرة عربية said...

....دناءات السياسة

... حبك الكذب حرفتهم

... معركة غير متكافئة

لقد تفوقت على نفسك فى إختيار التعبيرات المؤثرة ياصديقى

والتغيرات التى أحدثتها فى الفصول الأولى تشير كذلك لذلك التفوق

ولكنى لا أعلم لماذا ينتابنى شعور خفى بأن النهاية التى أوشكت لن تكون سعيدة بل موجعة

لعل السبب هو الإنعكاس المؤسف للواقع على أحداث روايتك...وبما أن الواقع لا يبشر بأدنى خير فبالتالى من أين سنتوقع الخير فى الخيال

تحياتى وتقديرى

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي مهرة عربية
أهلا و سهلا بك يا مشجعة الرواية الباقية في فصولها الأخيرة، يبدو أن باقي الرفاق لم يستطيعوا معنا صبرا، فلك كل الشكر
أما النهاية فقد اقتربت يا عزيزتي، و هي كواقعنا، مؤلمة و لكن ليس لدرجة الموت، حزينة و لكن ليس لدرجة اليأس

تحياتي و تقديري و اعزازي