4.7.10

خيوط الوجدان

طفل مصري أسمر من الطبقة المتوسطة المثقفة المصرية، يشبه ملايين الأطفال بطول مصر وعرضها، يسكن مدينة طنطا التي كانت حينها هادئة، ويزور القرية حيث مسقط رأس والده في الأعياد، يرتاد المدارس المصرية الحكومية منذ الابتدائي وحتى التخرج من الجامعة، ويتردد على نادي طنطا الرياضي، يتشكل وجدانه يوميا بين المدرسة والبيت وعالم الكتب الملونة المسحور، منذ نيف وثلاثون عاما كنت ذلك الطفل، واليوم مع حوار حول تشكل وجدان الطفل المصري، تتداعى الذكريات ومكونات الوجدان في فلاشات متلاحقة
(1)
مدرسة رقي المعارف الابتدائية المشتركة بطنطا، كانت أبلة منيرة بمثابة أمي الثانية، كنت أرى في نظرة عيونها مزيج الفخر والحنان حين ألقي مادة الإذاعة المدرسية في الصباح، أخبار الصباح من جرنال الأهرام ثم أبياتا شعرية كانت تسمح لي باختيارها، كانت مسيحية فنشأت أحب إخوة الوطن بغير تكلف ولا افتعال، مازلت أذكر فرحتها الصاخبة في غرفة المدرسين يوم تحرير سيناء وأذكرها وهي تغني أغنية وطنية وتصفق مع باقي المدرسين، ثلاث سنوات كنا في احتضان كامل من أمنا الرؤوم أبلة منيرة وفق نظام ذلك الزمان، كانت تدرس لنا كل شيء من ألف باء وحتى الآداب العامة، هي من علمتني نشيدنا الأشهر على لسان كل طفل بجيلي: لي أخ مجند .. اسمه محمد، قام في الصباح .. يحمل السلاح، قال إني ذاهب .. يا أخي أحارب، وهي من قرأ معي دروس القراءة، عمر هات الكرة .. أمل خذي الكرة، أمل أنا أطول من أبي .. أتذكرون؟
(صور الكتاب المدرسي من مدونة تباريح آدم)
(2)
عم محروس مبروك السوداني، البواب داكن السمرة، في ليالي الشتاء كانت مكافأتي عن انتهائي من واجباتي مبكرا هي أن تتركني والدتي أنزل ليحكي لي عم محروس السيرة الهلالية، كان جنديا متطوعا بالجيش وطاف كل أطراف مصر الصحراوية وتعلم السيرة من شعرائها الشعبيين، ووضعت الخضرة فجابت غلام أسود غطيس اللون، وسمته سلامة وكنيته أبو زيد زايد عن الناس .. ولما الهلالي رفع سيفه وقال يا حاس، طارت رؤوس الفوارس والرؤوس تنداس، رزق بن نايل وخضرة الشريفة، أبوزيد والجازية، الزناتي خليفة وبنته سعدى، دياب بن غانم الزغبي، في يوم الجمعة كان الطفل المبهور يعيد تمثيل كل ما سمع من ملاحم ومعارك بسيفه الخشبي، ممتطيا صهوة جواده الخشبي كذلك

(3)
أعود من المدرسة في ذلك اليوم المطير لأجد والدتي قد اشترت لي مجلة كابتن سمير وبضعة كتب أخرى ذات صور ملونة، تعد لي غذائي الساخن فأتناوله بسرعة وأنا أقلب صفحات مجلتي التي كانت تأت في المرتبة التالية لسوبر ميكي عندي، لم أكن أحب كابتن ماجد بجلبابه الأبيض الخليجي، ربما لبعده عن بيئتي، انتهيت من وجبتي ومجلتي في وقت واحد، منذ الطفولة لازمتني عادة السرعة في تناول الطعام وفي القراءة والكتابة

(4)
في المساء تضمني أمي في فراشي، فيسري الدفء في كل كياني، تردد على سمعي حكاية مسجوعة هي النسخة الممصرة التراثية من سندريلا، تنتهي بوقوع زوجة الأب الشريرة وبناتها في بير عميق تلتف حولهم فيه الحيات والعقارب، جميلة تلك الحكايات التي تنتهي بردع الشر، كم نفتقدها كلما كبرنا يوما فيوم

(5)
بعد عملية اللوزتين قدمت لي صديقة أمي مجموعة كتب عالمية تتناول أزياء العالم وتاريخه المبسط والعادات والتقليد الشهيرة في كل بلد من البلاد، كانت ككنز صغير صار عندي أغلى حتى من الجيلي البارد والآيس كريم الذي كان تناوله بإفراط متاحا فقط إثر هذه العملية الجراحية

في الإجازة الصيفية في الإسكندرية كانت أمي رحمها الله تستجيب لحب صغيرها لعالم التاريخ المسحور، فتصحبني تارة إلى كوم الشقافة وعمود السواري، وتارة إلى المسرح الروماني بكوم الدكة، وثالثة للمتحف اليوناني الروماني بالرمل، ثم تأخذني للبحر حين تكون شمس الظهيرة قد خف هجيرها، لم أحب الحر ولا شدة الضوء يوما في حياتي وحتى اليوم

حين ينقضي شهر المصيف ونعود إلى طنطا، كانت مكتبة جدي لأمي، أو ما أفلت منها من الدمار على أيد آثمة هي ملاذي، ألف ليلة وليلة في طبعتها الأصلية، مجلدات صنعها جدي بنفسه من مجلات الرسالة القديمة، روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان، عبقريات العقاد، الأيام لطه حسين، دعاء الكروان، ترجمات الأدب العالمي، جميع إصدارات دار الهلال، أعداد مجلة العربي وملاحقها

No comments: