18.9.08

انهيار برج بابل- 34

(34)
يا مال الشام

خرج "علي" و"ماري" من مطار دمشق الدولي فاستقلا تاكسيا إلى فندقهما، وما أن تحرك التاكسي خارجا من زحام المطار حتى بدأت أنسام دمشق المحببة تهل عليهما، لله درك من ساحرة يا دمشق، هكذا كان "علي" يقول إذا تذكرها، اختلف الناس في أصل اسمها، فقيل أنها سميت دمشق لأن من بناها دَمشَقَ في بنائها، أي أسرع، كأن يقال ناقة دمشق أي مسرعة[1]، وقيل بل سميت على اسم "دماشق بن قاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح" وهذه خرافة قال بها "ابن الكلبي"[2]، تماما كخرافة "مصراييم"، ودمشق واحدة من أقدم المدن المعمورة في عالمنا، أثبتت حفريات تل الرماد أنها سكنت قرابة عام 6000 قبل الميلاد، وحولها دارت أساطير بلا حصر، فمن قائل أنها كانت مستقرا لنوح عليه السلام لتنافس الكوفة في هذا، لقائل أنها كانت موطناً لإبراهيم أبي الأنبياء لتنافس العراق، غير أنها أقوال مرسلة لا يستقيم عليها دليل، وفي دمشق الحدائق الغناء من أشجار الفاكهة، تتخللها مكونة غوطتان شرقية وغربية، تعرفان بغوطة دمشق، تلك التي وصفها الأقدمون بأنها جنة الله في أرضه، وما كذبوا في هذا ولا جاوزوا الحق، ففيها أطيب هواء وأرق منظر يمكن للعين أن تراه في الوطن العربي بأكمله، تذكر "علي" والسيارة تمر في طريقها بين المروج بيت شعر يقول "سَقى اللّه أرض الغوطتين وأهلَها .. فلي بجنوب الغوطتين شجون" فحاول أن يتذكر الشاعر ولم تغنه المحاولة، وفي غضون أقل من ربع الساعة وصل التاكسي بالعروسين إلى قلب دمشق القديمة، ولها روحها الدافئة الخلابة التي تحسها في المدن العربية القديمة في المشرق والمغرب على اختلاف النسق والمشاهد، روح محملة بعبق التاريخ وذاكرة الزمن وتلاطم أمواج البشر، جاب السائق بهما بعضا من الطرقات المزدحمة الضيقة نوعا، حتى وصلوا لتل الحجارة في شارع الأمين الطويل الممتد، فتوقف السائق أمام مبنى رائع العمارة على الطراز الدمشقي، هو فندق تاليسمان حيث ينزل العروسان، وكان الفندق محببا لعلي لتفرده المعماري وإن لم يرق له اسمه أبداً، فالعمارة الشرقية الفريدة والرونق الدمشقي الجريء الصريح لا يناسبه اسم يعني الطلسم! فليست كالعمارة الهندية الموحية بجو سحري مثلا، لكن هذا لا يقلل روعة الفندق بداية من واجهته الخارجية مرورا بكل مرافقه وانتهاء بغرف النوم فيه، فكلها تتشابك لتشكل تحفة من الفن السوري الجميل، وفضلا عن هذا النسق الفريد، يمتاز الفندق بموقعه في قلب دمشق النابض الذي لم ينم منذ قرون، ولهذا قرر "علي" و"ماري" القيام بجولة في دمشق القديمة بعد راحة قصيرة أخذا فيها دشا منعشا وتناولا وجبة خفيفة من مقبلات شامية في مطعم الفندق، فقصدا أولا لسوق "مدحت باشا" المسمى باسم الوالي العثماني الذي أنشأه، ثم سوق الحميدية الأسطوري الشهرة، ومنه اشترت "ماري" عباءة دمشقية من حرير داكن الحمرة بلون النبيذ، مطرزة بخيوط بنية متعددة الدرجات، ولها منديل للرأس وشال للأكتاف من نفس قماشها، وكذلك علبة مصدفة لتقديم الشيكولاتة، ثم قصدا قصر النعسان، الذي كان صاحبه "جرجس نعسان" كبير أسطوات الآرابيسك والموزايك والتطعيم والمنمنمات في دمشق القرن التاسع عشر، قيل أن النعسان لقبه الحقيقي وقيل أنه سمي كذلك لنعس في عينيه، وفي القصر شاهدا روائع المنمنمات والنسق المعماري الرفيع الذوق، فلم يكن للأثرياء من أسطوات سوريا في ذاك الزمان ما لكبار الأسطوات في زماننا من ذوق مؤسس على ألوان السلاطة الخضراء وأحجام الديناصورات في اختيار الرياش والأثاث
ثم دلف العروسان لحي مئذنة الشحم، حيث مسقط رأس الشاعر العربي الأشهر "نزار قباني"، هناك حدثها "علي" بما خطر له وهو يراها تتهادى في مطبخ الدار ذاك اليوم، وكيف ذكره منظرها بقصيدة "نزار" عن "مايا" التي تحت الدش، ثم ألقى عليها ما أسعفته به الذاكرة من القصيدة الطويلة، فتضاحكا سويا وهما يمشيان عاقدي الذراعين، و"علي" يحيطها بذراعه كمن يخشى فقدها بعد طول اشتياق، سألته باسمة وهي لا تخفي سعادتها بما تسأل عنه: أنوي البقاء إلى جوارك لآخر العمر، فلماذا تضمني بقوة وتتأملني كل حين؟ كأنك تتأكد أننا في حقيقة، أو تخشى أن أضيع منك؟
- ربما لأنك تأخرت كثيرا، فأصابتني عقدة تجعلني أستكثر ما أنا فيه من سعادة لم يألفها القلب أبدا!
هكذا أجابها باسما، ثم ارتجل بيتين من الشعر من وحي اللحظة قائلا:
لا تعجبي من عشقه
من حرص قلب .. كالصلاة أوجبك
فحرصي عليك مريمي
كحرص أب .. بعد العقم .. أنجبك
تعلقت بعنقه في ضمة والهة يحبها منها كحبه للحياة أو أكثر، ثم نظرت بعينيه وهي تقول: لا أجد ما أقوله، وأشعر بالعجز، لكنك توقن كم أحبك، أليس كذلك؟
- لا يجب أن تقولي أي شيء، كم من الرومان صلى للربة فينوس في مجدها؟
- ملايين
- فهل سمعت أن فينوس ردت على صلاة أحدهم فصلت عليه؟
- فينوس! لم أتصور أن يقال لي هذا يوما، فالشقراوات ممن يقضين عشرون ساعة من أربع وعشرين أمام المرآة هن من يشبهن بفينوس، لا باحثات اللغات الشرقية
- لست فينوس وحدها، بل ثلاثتهن معا، فينوس الجميلة وهيرا القوية القادرة وآثينا نبع الحكمة والعبقرية، ولابد أن الراعي المسكين الذي طلب منه أن يختار بينهن قد دعى الله أن يخلصه من حيرته فيجمعهن في واحدة، واستجاب الله بعد آلاف السنين، فولدت أنت يا مريمي
- هل يمكن أن أكون قد مت يوم تأخرت في نومي في بيتك بالإسكندرية؟ ما أعيشه الآن لا يشبه الدنيا التي عشتها بضع وثلاثون عاما!
قبل يدها فرحا وممتنا لسعادتها، ثم توجها للمسجد الأموي، وحين اقتربا من ساحته الخارجية، ظهرت علامات الدهشة على وجه "ماري"، كان المسجد أكبر مما تخيلته كثيرا، وندت منها كلمة تدل على انبهارها وتصفه بالروعة، فعلق "علي": الأروع منه تاريخه، تاريخ توارث الأديان عبر العصور
هكذا أجابها وهما يدلفان لساحة المسجد، ثم استأنف يقول: خطأ شائع في بعض الكتابات المعاصرة يعد عمارة المسجد الأموي نموذجا للعمارة العربية الإسلامية، والحقيقة أنه مؤسس على طراز كنسي، يوم كان كنيسة "مار-يوحنا"[3]، أكبر كنائس دمشق المسيحية يوم فتحها الجيش العربي
حدثها كيف دخل القائد "خالد بن الوليد" المدينة من جهتها الشرقية بقوة السلاح، ولما تردد الخبر فيها، توجه مجموعة من أعيانها لأبي عبيدة بن الجراح، والذي كان على رأس جناح من الجيش يحاصر الجهة الغربية، وعاهدوه على التسليم والصلح، فاعتبر المسلمون أن دمشق فتح نصفها عنوة ونصفها تسليما، وكان عرفهم أن يحرموا سكان المدينة من المكاسب المدنية لو فتحوها عنوة، ومن هذه المكاسب الحفاظ على دور العبادة، أما المدن التي تسلم لهم فكانوا يحافظون لأهلها على كافة دور عبادتهم بل وأحيانا يبقون على حكامهم الإقليميين وموظفيهم، ولما كان وضع دمشق مختلفا، فقد قرروا أن يأخذوا نصف كنيستها الشرقي ويحولوه إلى مسجد، ويتركوا الباقي كنيسة، ويؤمنوا المسيحيين فيها على أربعة عشر كنيس لهم في ربوعها تبقى على حالها، ومن هنا كانت بداية المسجد الذي سمي بالأموي[4] رغم تأسيسه في عهد "عمر بن الخطاب"، لأن "الوليد بن عبد الملك" هو من وسعه وجعله مسجدا خالصا، فقبل خلافته كان المسلمون يصلون في الجزء الذي يعرف اليوم بمحراب الصحابة، فأحب "الوليد" أن يوسعه، وفاوض القسس أن يضيف لعهدهم كنيسة القديس "توما" خارج أسوار دمشق، ويأخذ بقية المسجد مقابلها، فوافق بعضهم ورفض بعض، وقال الرافضون أن من يهدم مذبح الكنيسة سيجن بسحر مرصود، وسمع الوليد بهذا فعلق بقوله "أنا أول من يحب أن يجن في سبيل الله" وضرب أول ضربة في المذبح، ثم صعد إلى المنارة الغربية مع حرسه، فوجد فيها راهبا متوحدا رفض أن يغادرها، فرماه الحرس من فوقها[5]، وهدم الأمويون الكنيسة من الداخل مخالفين العهد العمري، واحتفظوا بالجدران الخارجية، والتي بقي الجزء الأكبر منها موجودا حتى اليوم، ثم أرسل الوليد إلى قيصر في روما يطلب منه مائتين من أسطوات الرخام لعمارة المسجد، وتوعده لو لم يرسلهم بالهجوم على الكنائس القريبة من الحدود وتخريبها، فآسر قيصر السلامة وأرسل ما طلبه الأموي من صناع مهرة، أخذ "علي" بذراعها نحو المئذنة الشرقية التي تعرف بمذنة "عيسى" وقال: أول مئذنة أقيمت في الإسلام في الرأي الغالب تاريخيا[6]، ومن فوقها انطلق الأذان لأول مرة من منارة بعدما كان المؤذن يؤذن فوق سطح المسجد أو في ساحة، والبعض ينسبها لمعاوية بن أبي سفيان، أو لعبد الملك بن مروان، فلكل رجاله ومريدوه، لكن الرأي الأغلب أنها شيدت بأمر "الوليد بن عبد الملك" وتحت إشراف أخيه "سليمان"
اتجه الزوجان ليدخلا المسجد، بعد أن استأجرا عباءة لماري ارتدتها فوق ملابسها، طلب "علي" منها أن تقوم بجولة سريعة ريثما يصلي العصر، ولما انتهى من صلاته بحث عنها بعينيه ليجدها تتأمل مسبح المعمودية الرخامي شمال شرقي المسجد، اتجه نحوها وأحاط كتفها بذراعه وهو يقول: حوض معمودية في مسجد، فأين من يتهمون الإسلام بكراهية الآخر؟
- ألم تكن منذ لحظة تتحدث عن القاء راهب من فوق منارة!
هكذا ذكرته بما قاله منذ قليل، فأجابها مرحاً: في تاريخ كل دين وكل دولة تجدين ما تبحثين عنه! خير وشر، سلام وحرب، كرامة وذل، لأن كل دين يعتنقه البشر، وكل دولة يحيا فيها البشر، والبشر خليط من الأضداد
- ولماذا لم يفكر أحد في إزالة الحوض بعد أن صار المسجد كنيسة في زمن "الوليد"؟
- لا أعرف تحديدا، فالحوض مكتشف منذ أعوام معدودة خلال أعمال ترميم، وقبله اكتشفوا نفقا يصل المسجد بكنيسة قريبة، كانت تصل الكنيستان فيما قبل، ووجدوا في النفق آثارا لمذبحة قتل فيها عشرة أشخاص، لكن سوريا تكتمت الخبر حتى لا تتهمها أمريكا بقتلهم بسلاح دمار شامل!
قالها ممازحا وهو يأخذ بذراعها ويوجهها نحو الضريح الذهبي في المسجد، والذي أقيم فوق ما يعتقد أنه رأس "يوحنا المعمدان"[7]، قال وهما يخطوان نحوه: افتراض أن الرأس هو رأس "يوحنا" مصدق لحد كبير، لدرجة أن البابا "يوحنا بولس" الثاني زار المسجد بسببه منذ أعوام[8]، فبرغم عدم وجود تحقيق أثري لكون الرأس أو بقاياها ترجع للقرن الأول للميلاد، إلا أن ما يدعم الظن بهذا هو تواتر خبر عن القديسة "هيلينا" التي أمرت بالتنقيب عن الرأس في حديقة قصر "هيرود" ووجدته، ثم وهبته لكنيسة "مار-يوحنا" وهي في رحلة العودة من فلسطين لإستانبول[9]، فضلا عن أخبار إسلامية تدعم الظن بإنه ليحيى عليه السلام
- كم أنا محظوظة بدليلي الخاص!
قالتها وهي تنظر نحوه باعتزاز، فلاحظت أنه شرد بعينيه وهو ينظر للضريح الذهبي، سألته: أين ذهب خيالك المسافر دوما؟
- قد تكون زيارتي العاشرة للضريح، ومازالت مشاعر متضاربة تنتابني حين أراه، فيوحنا ليس مجرد نبي كغيره من الأنبياء، فهو نبي ورمز فريد، قال عنه القرآن الكريم "يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً"[10] وفي الإنجيل "فطلب لوحا وكتب قائلا اسمه يوحنا، فتعجب الجميع"[11]، وقال المسيح "الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان"[12]، فلماذا أفرده الله باسمه، وقال المسيح أنه أعظم من ولدت النساء؟
- البتولية والنبوة والشهادة
- نعم .. واجه "يوحنا" كل طواغيت عصره في وقت واحد وبمفرده، واجه الطاغية "هيرود" حين صرخ في البرية بأن "هيروديا" أرملة أخيه التي قتلته لا تحل له[13]، وتمرد على الفريسيين والطقوس اليهودية المعقدة حين خرج يكرز في البرية بمغفرة الخطايا ويعمد الناس بمعمودية التوبة في نهر الأردن، وواجه طغيان الرومان بتحريضه على الثورة قبل أن يأت ملكوت الرب، شاب بسيط في رداء من صوف خشن، طعامه الجراد وما يصادفه من عسل بري[14]، لكنه واجه الجميع بالحق وفي الحق شامخا كجبل من كبرياء، وكانت حكمته في صباه كحكمة الشيوخ، كما قال تعالى "يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً"[15]، اسمه في السوريانية معناه "الله رحم"، كان عليه السلام رحمة من الله، لأن هذا النموذج من البشر هو ميزان العالم، ولولا "يوحنا" ومن ينتهجون نهجه لانحدر العالم جيلا فجيل حتى وصل للحضيض! كذلك اسمه في العربية مرتبط باستمرار الحياة، لأن شهيد الحق وحده من بين البشر هو من يخلد حيا كما يخبرنا القرآن
- ذكرني حديثك عن النبي "يوحنا" بزميلة دراسة لي، كانت تقرأ قصص الأبطال الأسطوريين وترسمهم من خيالها، الملك "آرثر" والقديس "جون" وغيرهم، كانت صورها مختلفة عن تصورهم التقليدي القريب من الكمال في كل شيء، وكنت أنا المعجبة الوحيدة بفنها
تابعها بنظراته مهتما في سكتتها القصيرة، فواصلت تقول: الناس يرون البطل ملاكا عاش لغيره وحسب، والحقيقة برأيي أنه رجل حقق ذاته من خلال التضحية، فهو ليس ملاكا، لكنه بشر يختار أسلوبا نادرا لتحقيق الذات
- تصورك وأسلوب صاحبتك لهما وجاهتهما، لكن تقديرنا للروح السامية التي تحقق ذاتها بتحقيق منظومة من القيم هو أمر طبيعي كذلك، ولهذا نضفي عليها إهاب الملائكة، وكذلك احتقارنا للروح الدنيئة التي تقتل كل شيء لتحقق ذاتها بأرخص الوسائل أمر طبيعي، فنظهر الاحتقار في بشاعة منظرها حين نصورها، لا أتخيل صورة ليهوذا لا تشي ببشاعته مثلا
ابتسما وتشابكت أيديهما، ثم واصلا جولتهما حول معالم المسجد حتى وصلا لقبر الملك الكامل، وهناك قالت: هنا يرقد الرجل الذي لم تغره القوة بفرض نفوذه على مالا يحتاج
- أنت ترين هذا، لكن لآخرين رؤى مغايرة تماما
وسبب تعليقها عليه بالرجل السمح، أن الملك الكامل بن الملك العادل أخو السلطان "صلاح الدين الأيوبي" ووارث ملكه كان صديقا للإمبراطور "فريدريك"، صاحب تاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي اضمحلت وتضاءلت، وحفيد "فريدريك ذو اللحية الحمراء"[16] الذي مات أثناء الحملة الصليبية الثانية، وقد استعان به الكامل في حربه مع أخيه الملك الأشرف "عيسى" ملك دمشق، ووعده أن يسلمه مدينة القبر المقدس جزاء معاونته بالهجوم على الأشرف من البحر هجوما يتزامن مع زحفه بجيشه من البر، فركب "فريدريك" البحر في أسطول صغير وجيش محدود لمساعدة الملك الكامل، لكنه حين شارف ساحل عكا كان الأشرف قد مات واستولى أخيه الكامل على ملكه في الشام، ومع ذلك فقد سلمه الملك الكامل القدس، في ملابسة محيرة للمؤرخين، إذ كان جيشه وأسطوله المعروفين بالحملة الصليبية السادسة أهون من أن يخشى منهما الكامل وقد توحدت تحت يده جيوش مصر والشام، ولهذا سألت "ماري" قائلة: ما رأيك فيما حدث بينه وبين "فريدريك الثاني"
افتر ثغر "علي" وهو يسألها: هل أقنعك ما قاله المؤرخون من أن "فريدريك" استعطف الكامل حتى لا يعود لأوروبا صفر اليدين فأشفق عليه الكامل ووهبها له؟
- لم أقتنع وإلا ما سألتك، فلا عواطف في السياسة ولا تجدي فيها التوسلات
- رقة كلمات "فريدريك" في رسائله[17] هي سبب انطباع الاستعطاف والشفقة هذا، لكن الحقيقة أن كلا منهما لم يكن بوسعه أن يحارب الآخر إلا بثمن فادح، لهذا آثرا السلامة
شرح لها "علي" كيف كانت ظروف الملكين حرجة في ذلك الوقت، فأما "الكامل" فكان مهددا بخطر فلول الخوارزميين التي فرت أمام غزو التتار، ثم تجمعت في أصفهان وبدأت تناوش الحدود الشامية، آملة في تعويض ما خسرته شرقا في الشام[18]، وأما "فريدريك" فكان مؤيدا لبدايات الفكر العلماني الآخذة في الظهور بين ملوك أوروبا، تدفعهم للتمرد على البابا، وحين جاء للشام كان بالفعل محروما من التناول بقرار بابوي مقدس، ولهذا لم يتمكن من حشد جيش أوروبي ضخم كالحملات الصليبية السابقة، فهو محروم من بركات البابا[19]، لكن الكامل كان يدرك تماما أن خط الدفاع الأخير لدى صديقه القديم لو لم يتسلم المدينة المقدسة سيكون إعلان الخضوع للبابا "إنوسنت الثالث" وطلب المدد والبركات منه، فيعود بجيش يجعل الكامل بين الخوارزميين برا من الشرق والصليبيين بحرا من الغرب، ولأن الكامل أراد التفرغ للخطر الخوارزمي، ولأن "فريدريك" لم يرد أن يحني رأسه للبابا ثانية، فقد اتفقا على ما يشبه تدويل القدس بمصطلح زماننا في معاهدة يافا عام 1229م، فتكون للصليبيين كنيسة القيامة وبيت لحم والأماكن المسيحية المقدسة بشكل عام، وكذلك القرى الواقعة على الطريق من عكا لبيت المقدس، دون قرى القدس نفسها، ويبقى الأقصى والقدس الشرقية في يد المسلمين، وتقوم بهذا هدنة لمدة عشرة أعوام بين الطرفين[20]، وكانت حجة الكامل في هذا أن جده "صلاح الدين" نفسه تنازل عما بين صور ويافا لقلب الأسد في صلح الرملة على إثر انتكاسة طفيفة مني بها في معركة "أرسُف"، وكان السبب الرئيسي فيها هو إنهاك جيشه من النضال في الشام، حتى ظهر التململ على ضباطه[21]، كان هذا من حنكة "صلاح الدين" الذي أعطى الجيش هدنة لثلاث سنوات ليستعيد قدرته على القتال لو لزم الأمر، لكن الفارق الأساسي بين "الكامل" و"صلاح الدين" يكمن في تنازل الأول عن القدس بما لها من قيمة روحية في دينه، وحفاظ الثاني عليها
مرا بعد ذلك على المقام الذي يدعى بأن فيه رأس "الحسين"[22]، وكذلك قبة المال[23]، ثم اتجها للخروج من البوابة الجنوبية حتى يمرا على قبر "صلاح الدين الأيوبي" الذي يقع خارج المسجد، وفي مرورهما على البوابة أشار للنقوش الحجرية فوقها وقال: نص يوناني من المزامير يقول "ملكك أيها المسيح ملك كل الدهور وسلطانك في كل دور فدور"[24]، وعلي البوابة التالية لها وجدت صورة المسيح وعلى رأسه تاج الشوك، تذكارات من زمن كانت فيه الجدران تضم كنيسة مار "يوحنا"
- إذن فليست أياصوفيا فقط، لقد غصبتم العديد من الممتلكات المسيحية
قالتها مبتسمة في لهجة مزاح فرد عليها قائلا: نسيت أن أخبرك .. قبل الكنيسة كانت الجدران لمعبد الإله "جوبيتر"، ولم تدشن ككنيسة إلا في القرن الثالث الميلادي[25]، "هياصوفيا" كذلك كانت معبدا قبل أن تتحول إلى كنيسة
- ياله من رمز لصراع الأديان
- البشر وليس الأديان، وحتى قبل "جوبيتر" الروماني كان معبدا للإله الآرامي:حدد، والذي عبده الدمشقيون منذ القرن العاشر قبل الميلاد، ثم حوله الرومان معبدا لجوبيتر، وحين اعتنقوا المسيحية صار كنيسة مار-يوحنا، وجاء المسلمون فصار مسجدا لا ينسب لأحد، ثم جاء الأمويون فنسبوه لجدهم[26]! الأيام دول
تلفت يمنة ويسرة وقطب حاجبيه وهو يقول: التبس علي الطريق، القبر يقع خارج الجهة المقابلة، علينا عبور صحن المسجد لنصل لضريح الفارس الكردي الطموح الذي وحد العرب!
اتجها يقطعان المسجد حتى خرجا من بوابته الشمالية، وانحرفا يسارا متجهين نحو فناء المقام، وهو فناء صغير مشجر، يتفاعل اللون الأخضر فيه مع لون البناء الأبيض وقبته البنية المائلة للحمرة، ليعطي تناغما لونيا أنيقا برغم البساطة الشديدة لمعمار الضريح مقارنة بالثراء المعماري للمسجد الأموي، وعندما دخلا المقام، فوجئت "ماري" برؤية ضريحين وليس واحداً، الأول عليه شاهد من رخام فاخر والثاني عليه شاهد من خشب مشغول بسيط وأنيق، فتساءلت: هل الضريح الثاني لزوجته؟
- لا زوجته ولا لغيرها، فضريح الرخام فارغ، وجثمان "صلاح الدين" هنا تحت الشاهد الخشبي، أما الرخامي فهدية من "ويليام" الثاني إمبراطور ألمانيا حين زار الضريح معبرا عن إعجابه ببطولة وشهامة صاحبه، لكن السلطات السورية رغبت عن نقل الرفات احتراما لحرمة القبر، فاحتفظت بالضريح الجديد فارغا بجوار الأول
ابتسما وابتسم معهما الحارس السوري ابتسامة فاترة تنم عن ملل مَن سمع ذات السؤال وذات الإجابة آلاف المرات، ثم خرجا من الضريح فاتجها لسوق الحميدية القريب لينفذا منه للفندق، وفي الطريق قالت "ماري": العالم واسع بما يكفي ليجد كل إنسان مكانا يصلي فيه، فلماذا الاستيلاء على دور عبادة دين سابق؟ سواء قام بهذا الرومان أو المسيحيون أو المسلمون؟
- الاستيلاء على إنجازات الغير أسهل بكثير من تحقيق إنجاز جديد، أضيفي لهذا أن عملية التحول نفسها ترمز لتسود الجديد على القديم، وهذا إحساس تحبه الجماهير، إحساس بالانتماء للفريق الأقوى والأصح والأكتر عددا ونفوذا، فمشاعر تحقيق الذات الجماعية بقهر الآخر مهمة للغاية لكل فرد يعجز عن تحقيق ذاته الفردية
- لكن العالم اليوم سيطر نسبيا على نزعات قهر الآخر
- ربما يصدق قولك على مستوى الأفراد، أما على مستوى الدول والجماعات، فمازالت الكثرة العددية توحي برفض الأقلية حتى في العالم الأول، إنها غوغائية الكثرة، ولعل جنود المارينز في حرب الخليج وفضيحة أبو غريب أفضل دليل على هذا
سكتت للحظة كأنها ترددت في قول شيء، ثم استمرت قائلة: الإشكالية الفكرية التي حيرتني دوما في الطرح الإيماني للأديان الإبراهيمية هي قدم العالم وقدم الإنسان، عاش البشر على الأرض منذ مائتي ألف عام، فلو أن النبوات لم تنقطع من عهد آدم حتى محمد، فلماذا لم تحقق تطورا ملموسا في تحضر الإنسان والسيطرة على نزعاته لسفك الدماء والحرب والقضاء على الآخر؟ بينما نجح العلم والفكر الإنساني في تحقيق هذا في أقل من خمسين عاما بعد الحرب العالمية الثانية؟
- لأننا احتجنا لآلاف السنين حتى ننضج روحيا ونتهيأ لاستيعاب روح الدين وفلسفة الخلق، ولتحقيق مستوى علمي وتكنولوجي يعظم الاستفادة من موارد الكوكب، فلا نتصارع على الموارد المحدودة، وكذلك للوصول لمستوى من الفقه القانوني يصلح لتأسيس مجتمعات ومؤسسات مدنية بمستوى الاتحاد الأوروبي، وبكل هذا توصل البشر لآليات تحسن توزيع الثروة، فيتحقق الهدف من خلقهم وهو عمران الأرض
عندما وصلا لغرفتهما بالفندق، قالت باسمة في دلال أنثوي بينما يرتدي "علي" منامته: من تتزوج مؤرخا لابد أن تتوقع شهر عسل أثري للغاية
- الآثار كانت البرنامج الصباحي، أما في المساء، فالأمر يختلف
- حقا؟ ماهو البرنامج للمساء؟
قالتها بدلال زائد فأجابها ممازحا: النوم فورا استعدادا لجولة الغد

4 comments:

كلاكيت تانى وتانى said...

عزيزى فى البداية الأن فقط بدأت اوقن انك تكشف اجيالا من المعلومات المخفية فى تاريخنا الاسلاملى ويبدو لى ياعزيزى انك قمت بزيارة كل تلك الاماكن ممايتيح لك جيدا شرح الاماكن بهذة الدقة وتحليل ما جاء فيها وما حدث بها من احداث جسام
أما بعض ما ورد حول المسجد فلى تعليق اخر حولة غدا بأذن الله
اما علاقة مارى وعلى والتى تشتعل حبا وتألفا فهى رقيقة ولكن يشوبها التوافق الذى قل وجودة بين اصحاب الديانات المختلفة وخاصة ان مارى ليست حتى مسيحية او يهودية
عزيزى
بدأت احداث النهاية والصراع الحقيقى واعتقد اننا سنلهث يوميا لمتابعة تلك الرواية الشائقة
عزيزى د اياد
الهوامش اليوم تحتاج وحدها لدراسة حيث انها مفعمة بالاحداث هى الأخرى
تحياتى لك يا عزيزى ولنا لقاء غدا

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي كلاكيت
شكرا لك يا صديقتي على التعليق و التقدير للجهد المتواضع الذي بذلناه بهذه الرواية ، و كما قلت دوما لقد جاءتني فكرتها من شيفرة دافنشي و أحلام سوفي ، أن أضمن غير المروي من تاريخنا الإسلامي في رواية حتى نعرفها ، فمن عرف الحقائق تتخلخل بعينه النظرة الطوباوية و يبدأ في تقبل الآخر

أما عن الهوامش يا عزيزتي فقد فضلت ألا أحشو السياق القصصي بما يمكن معرفته من الهامش لمن أراد

شكري و تقديري و اعزازي

Anonymous said...

رحم الله ذو النورين ..
ورحم عمر بن الخطاب حين وصف نفسه
" لست بالخب ء ، ولا الخبء يخدعني "

عثمان كان حييا لينا ، وأحيط بدواهي من دواهي العرب العتاه عمرو بن العاص ومعاويه بن ابي سفيان ومروان بن الحكم ..

وفسق صحابه نتاج هذه الفتن كمحمد بن ابي بكر ...

ولا نجزم بشئ فالله اعلم

* ستصبح الخيانه يوما ما .. مجرد وجهه نظر *

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي غير معرف
نعم يا عزيزي ، و الدرس الذي نخرج به من هذه الفتنة أن كون الرجل صالحا تقيا ورعا ، فهذا لا يعني أنه صالح للحكم ، فللحكم متطلبات أخرى و احتياجات أخرى ، التقوى تضمن الأمانة في أداء المهمة و لكنها لا تضمن القوة عليها ، و الحكم يحتاج القوي الأمين معا

محمد بن أبي بكر لم يفسق يا عزيزي و قتله الأمويون ظلما و عدوانا و مثلوا به كمتلة الجاهلية الأولى

تحياتي و تقديري