الخميس، العشرون من سبتمبر
ودع العروسان "عزة" أمام صالة المغادرة في مطار القاهرة الدولي، وفي غضون الساعة كانت طائرة مصر للطيران تقلع بهما باتجاه دمشق، أسندت "ماري" رأسها لكتفه وأخذت تتصفح إحدى الجرائد الإنجليزية الصادرة في مصر والتي وزعت على متن الطائرة البوينج 767، لفت نظرها مقال عن الرئيس الراحل "محمد نجيب" تتوسطه صورة له بالزي العسكري، وصورة أخرى بملابسه المنزلية وقد تقدمت به السن، قرأت شيئا من المقال ثم قالت وهي تلتفت لزوجها: ظلم هذا الرجل كثيرا
نظر "علي" لحيث تشير ليرى صورة الرئيس السابق فيرد بقوله: نعم، إلى حد كبير
- لماذا فعل "ناصر" هذا؟
- كان الرئيس "نجيب" رجلا صالحا، ضابط منضبط وقائد عسكري من طراز ممتاز، نظيف اليد وحسن السمعة وله قبول اجتماعي كبير، لكن بكل أسف كانت تنقصه حنكة السياسي وقدرته على تمييز الأصوات حوله، واكتشاف الغرض وراء كل صوت، فوجد بعض الساسة القدماء وقتها، فضلا عن عناصر الإسلام السياسي في طبيعته هذه بابا خلفيا للانقضاض على الثورة وتصفيتها من الداخل، وأتاح لهم "نجيب" هذا بحسن نية أولا، ثم بخصومة مقصودة ضد الضباط الأحرار فيما بعد
تمهل لحظة ليرتب أفكاره، ثم أخذ يشرح لها منذ البداية، كيف عرض مجلس قيادة الثورة على قادة حزب الوفد تسليمهم السلطة بشرط واحد، وهو الالتزام بقانون للاصلاح الزراعي، وكيف رفض زعماء الوفد الشرط، وكان بينهم آنذاك العديد من الاقطاعيين المنتظر تضررهم من الإصلاح الزراعي لو طبق كما يراه الضباط الشباب، فبدأوا محاولة لإقناع "نجيب" باتخاذ قرارات منفردة بسلطاته الرئاسية بعيدا عن مجلس القيادة، وكان أهمها قرار بحل مجلس قيادة الثورة وعودة الضباط لثكناتهم، فانفجر الصراع بينه وبين مجلس القيادة ليصل لما عرف بأزمة مارس التي استقال فيها "نجيب" ثم تراجع في استقالته، وانتهى الأمر بتحديد إقامته في بيته، لمنعه من الإتصال بالوفديين والإخوان، بين "علي" بعد هذا الشرح رأيه فيما حدث، مقرا الثورة والضباط الشباب من حيث المبدأ، لكنه تحفظ على الأسلوب الذي عومل به "نجيب" لما له من سابقة وطنية ودور في نجاح الثورة على مستوى القبول الشعبي، سألته "ماري": قائد خلوق لكنه يفتقد للرؤية ومقومات الزعامة!
- بالضبط، أتذكرين يوم سألتني عن تقديري لعثمان بن عفان رضي الله عنه؟ سابقة "عثمان" وفضله لا ينكرهما إلا جاحد، وكذلك خلقه يربو فوق الشبهات، لكنه بدأ الولاية في عمر السبعين وتوفي عنها في الثمانين، وهذه سن لا تناسب أعباء القيادة، وزاد من خطورة هذا كونه أموي[1] النسب، وإن لم يكن أموي الخصال، لكنه كان يرى في تولية أهله مناصب الدولة برا بهم وصلة لرحمه، فاشتعلت الفتنة
- هذا يعني أن لثورة الأمصار عليه منطقا، كنت أعتقد هذا دوما
- الثورة نعم، أما اغتياله فلا، فالثورة على الحاكم ومطالبته بالرجوع عن أي مظلمة حق للجميع، لكن الاغتيال يبقى جريمة نكراء وغير مبررة
- فلماذا لعن "ابن حزم" وغيره الثوار كلهم ووصفوهم بأقذع الألفاظ[2]؟ برغم أن منهم صحابة الرسول
ضحك للملحوظة الذكية، وأجابها: سب معاصرو الدولة الأموية الثوار ولعنوهم ارضاء للخلفاء، ووصلت هذه البدعة لمن بعدهم ممن لم يعاصر الفتنة مثل الإمام "ابن حزم" فقالوا قولهم
- ودفاع التراث عن تولية "عثمان" لأقاربه بأنهم كانوا من أكفأ الناس للولاية، واستدلالهم بولاية بعضهم قبل خلافة "عثمان" هل كان لارضاء الخلفاء كذلك؟
أومأ برأسه وهو يجيب: تولى "معاوية" وحسب على دمشق في خلافة "عمر"، لكن مع ولاية "عثمان" أضيف إليه "عبد الله بن عامر" ابن خال الخليفة على البصرة بدلا من "أبي موسى الأشعري"[3]، و"سعيد بن العاص" ابن عم الخليفة على الكوفة بدلا من "سعد بن أبي وقاص"[4]، ثم تولاها "الوليد بن عقبة" أخو الخليفة من والدته[5] بعد "سعيد"، فضلا عن ولاية "عبد الله بن أبي السرح" أخوه في الرضاعة على مصر بدلا من "عمرو بن العاص"[6]، وتنصيب صهره "مروان بن الحكم" رئيسا لديوان[7] الخلافة، وتولية "يعلي بن منية"[8] ابن عمومته على صنعاء، ليصبح ولاة الشام والعراق والحجاز ومصر - وهي الولايات الرئيسية – كلهم من الأمويين
سألته باسمة وهي تعبث بإصبعها في شيب فوديه: كيف تتذكر كل هذه التفاصيل؟
أجابها: التاريخ عندي ليس مهنة وحسب، لكنه المنظار الذي أرى منه الحاضر وأشرف به على المستقبل، فالناس منشغلون في أمر الغيب بالعلم حينا وبالشعوذة أحيانا، وهو منا قاب قوسين، بوابة المستقبل هي الماضي الذي ينجبه
قبلت وجنته فقبلها وهو يربت على كتفها، ثم توسدت ذراعه ونامت بعد دقائق، وأخذ هو يفكر فيما استحضر بذهنه عن عصر "عثمان"، لديها كل الحق، فوصف ثورة الأمصار بأنها تمرد مغرض من حديثي الإسلام تسطيح مخل للأمور! فقد كان فيهم العديد من الصحابة، وكانت المآخذ على الولاة الأمويين في الأمصار كثيرة بالفعل ولم تكن فرية كاذبة، ولهذا ثار عليهم رجال بحجم "أبي ذر الغفاري"، فارس الثورة الاشتراكية في التاريخ الإسلامي، والرجل الذي لحق برسول الله سيرا على قدميه ليجاهد معه، فقال عنه الرسول: "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده"[9]، وقال له ذات يوم "يا أبا ذر، كيف أنت إذا أدركك أمراء يأكلون الفئ بعدي؟" فأجابه الفارس الشجاع في الحق قائلا "إذا والذي بعثك بالحق لأضربن بسيفي" فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم "أفلا أدلك على خير من ذلك؟ اصبر حتى تلقاني"[10]، ولهذا لم يضرب الصحابي الفارس بسيفه، لكن ذلك لم يمنعه من الثورة على "معاوية" في الشام لبذخه مع الخاصة وأثرته على العامة، حتى شكاه "معاوية" للخليفة واتهمه بتأليب أهل الشام عليه، فاستدعاه "عثمان" للمدينة، حيث واجه الصحابي الخليفة في عاصمته بما كان يواجه به "معاوية" في دمشق، معترضا على السياسة المالية للدولة ومخالفتها للمنهج النبوي ومنهج الشيخين بعده، فنفاه "عثمان" إلى الربذة، فمات في صحرائها وحيدا، وصدق فيه قول الصادق المصدوق الذي قاله قبل عشرين عاما، وكذلك عارض الخليفة في سياساته المالية "سلمان الفارسي" و"عبد الله بن مسعود" و"عمار بن ياسر" وإن لم ينضموا للثائرين عليه، أما من ثار واشترك في الحصار من الصحابة فكانوا "مالك الأشتر"، و"ابن عديس"[11] و"فروة بن عمرو"[12] و"ابن أبي حذيفة"[13]، و"جبلة بن عمر"[14] الذي عارض دفن "عثمان" في البقيع بعد اغتياله، و"محمد بن أبي بكر"[15] و"ابن الحمق" و"ابن بديل"[16] و"حُكَيم بن جَبَلة"[17] و"حرقوص بن زُهَيْر"[18]، وهؤلاء ليسوا بالنفر القليل
انتبه "علي" للمضيفة تسأله وزوجته عما يفضلان من قائمة الطعام، فلم يجد بنفسه شهية للأكل، فالرحلة أقصر مما يقتضي تناول الطعام وقد بقي من زمنها أقل من ثلاثين دقيقة، بعدها تستقبلهم دمشق الساحرة بأحضانها العربية الدافئة، ربت "علي" رأس زوجته الناعسة فوق كتفه وهو يتطلع لغلاف مجلة انجليزية، رسم عليه كاريكاتير يصور تكالب الأثرياء على امتلاك أدوات الرفاهية، وما يؤدي إليه من تضخم يضير الفقراء في النهاية لاستنفاذ الناتج القومي في سلع وخدمات استهلاكية واستفزازية لا تخصهم، المال .. دائما المال .. كم من حلم كبير دفنته عواصف المال التي تعصف برؤوس الناس فتقتلع ما عداها؟ ولطالما كان التطلع المادي هو البذرة الأولى لانحراف كل دعوة فاضلة؟ ألم يقل الرسول يوما "إن لكل أمة فتنه، وفتنه أمتي المال"[19]، وفي عودته من غزوة حنين، أول غزوة شارك بها طلقاء الفتح، حين تألف قلوبهم بالمال وقال لأصحابه "إنكم ستجدون بعدى أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"[20]، فما جدوى الدفاع عن قضية خاسرة؟ ومحاولة تسفيه عشرة آلاف إنسان لإبراء الخليفة من خطأ اعترف به هو نفسه؟ كان "عثمان" يرى أول الأمر أن المسلمين عابوا عليه ما لو فعله "عمر بن الخطاب" لأطاعوه، وهذه طبيعة الرجل الحيي، يحسب أن الناس تستضعف حياءه فتتجرأ عليه[21]، وكان يظن في المتظلمين الكذب على ولاتهم، ولم يكن هذا الظن بعيدا، فقد تظلم بعض أهل البصرة من أميرهم "سعد بن أبي وقاص" في زمن الفاروق، فلما انتدب الخليفة لجنة لتقصي الحقائق، ظهر بطلان شكواهم[22]، وأحسب أن رجلا كمروان بن الحكم كان يذكر الخليفة بهذه الواقعة وأمثالها دوما، ليسوغ له سوء الظن برعاياه[23]، ومع ذلك، وفي مرحلة تالية بعد أن كثرت القلاقل، بدأ الخليفة يقتنع بوجود انحرافات من جانب عماله، فبعث بخطاب قرأ في مساجد الأمصار يدعو الناس للقدوم بمظالمهم في موسم الحج لينظر فيها[24]، شعر الخليفة الراشد بما أخطأ فيه، وأصغى لوصية "علي"[25]، فصعد المنبر وأعلن رجوعه عما دفع الناس للخروج عليه[26]، فكان هذا دلالة جديدة على عظمة معدنه، فلا يرجع لخط الصواب إلا من طلب الحقيقة، ولو أنه فقط ثبت على نيته تلك، لانتهت الفتنة في مهدها، لكن "مروان" استأذنه في الخروج للناس، يشتد عليهم حتى لا يظنوا بالخلافة ضعفا، فأذن له الخليفة، فخرج للناس يهدد ويتوعد من يحاول نزع ملك الأمويين من أيديهم[27]! ملك الأمويين! "ابن الحكم" يصف الخلافة بالملك هكذا جهارا نهارا؟ يسمع "علي" بهذا فيرى فيه تراجعا من الخليفة عما اتفقا عليه، فيقرر ألا ينصح له بعدها أبداً
"كان مروان بن الحكم وحده ثلاثة أرباع الفتنة" .. بهذه الجملة استهل "علي" الجزء الرابع من رسالته للدكتوراة، وفي يوم المناقشة، بدأ عرضه لهذا الجزء بالحديث عن "الحكم بن العاص"والد "مروان"، وهو من طلقاء الفتح كأبي سفيان، وكانت له عادة فاجرة، إذ اعتاد أن يقلد الرسول ساخرا في مجالس المنافقين، حتى رآه الرسول مرة متلبسا بهذا[28]، كما تكرر منه افشاء ما يسمعه من ابن أخيه وصهره "عثمان" من مشاورات الرسول، فنفاه الرسول للطائف[29]، وحاول "الحكم" العودة للمدينة خلال خلافة الشيخين فرفض كلاهما، حتى تولى "عثمان" فسمح له بالعودة، فكان هذا أول ما كره الناس من خليفتهم الجديد! [30]
ثم عرض على هيئة المناقشة عرضا سريعا لدور ابنه "مروان" في الفتنة، فهو من أوغر صدر "عثمان" ضد "عبد الله بن مسعود"، فأمر بضربه حتى كسر ضلعه[31]! وهو من أوغر صدره كذلك ضد "عمار بن ياسر" يوم قدم له عريضة بمظالم الناس، فقال له مروان: إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من ورائه[32]، لكن الخليفة لم يعمل بتلك المشورة السوداء، فوقاه الله من الوقوع في دم صحابي كعمار، وصفه الرسول بأن قتله يكون على يد الفئة الباغية، والأهم أن "مروان" هو من جرأ الناس على الخليفة بما ارتكبه باسمه من مظالم دون علمه، ومن هذا أنه أصدر خطابا ممهورا بخاتم الخليفة لبيت المال يأمر فيه بتوزيع عدد ضخم من إبل الصدقة على أبناء "الحكم بن العاص"، فعلم "عبد الرحمن بن عوف" بهذا، وأرسل من استحوذ على الإبل من بيت المال ووزعها بين الناس بالعدل[33]، فكسر هذا هيبة الخلافة بنقض أمرها، ومع تكرار مظالم "مروان" والولاة الأمويين، انضم بعض أهل المدينة لثوار الأقاليم، وحاصر الجميع الخليفة في بيته، حتى أرسل لعلي يوسطه بينه وبينهم ليمهلوه ثلاثة أيام حتى يعزل من كرهوا من الولاة ويرد المظالم، ففعل "علي" وأمر "الحسن" و"الحسين" أن يقوما على باب الخليفة فلا ينفذ إليه أمر يكرهه، ووقف معهم "عبد الله بن الزبير" و"سعيد بن العاص" و"محمد بن طلحة" يحرسون الخليفة، لكن هذا لم يمنع الشوط من بلوغ نهايته، فتسور الثوار الباب، وقتل ثالث الراشدين وسال دمه طاهرا على مصحفه، ولعل ما قاله "علي" في هذه الفتنة كان أفضل الأقوال وأوجزها، حين قال "استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع"[34]
انتبه "علي" من غفوة أخذته للحظات على ارتطام عجلات الطائرة بأرض مطار دمشق، ففتح عينيه وضم زوجته الحبيبة بذراعه ضمة حميمة وهو ينظر إليها كمن لا يصدق أنها أصبحت زوجته في النهاية! وأنه معها الآن في دمشق كما تمنى في أحلام يقظته .. فما أحلى الأحلام حين تتحقق!
6 comments:
لا يوجد تعليق على هذا الكم الرائع من المشاعر التى تغلفنا كبشريين حين نتوق لشئ ما ثم نجدة بين ذراعينا فجأة
فك الله عقول محبينا مثل مارى واسعدنا جميعا بقرب من نحن
دة دعاء شخصى ههههههههههه
لى وللجميع
تحياتى
عقبالنا :)
غير المعرف اعلاه لست انا
الله محبه أحب هذه الكلمه جدا
كأنك ترمز لاختلاف الاعتقاد الديني للعروسين الجديدين
تحيتي دكتور
عزيزتي كلاكيت تاني و تاني
نعم يا عزيزتي ، فأجمل ما في البشر يخرجه الحب و ألعن ما فيهم تخرجه الكراهية و حمق العناد
حقق الله لك كل الأماني الشخصية و العامة لك و للجميع
تحياتي و تقديري
عزيزي غير معرف
أم تراك عزيزتي؟ لأن عهدي بالرجال أنهم لا يتمنون الزواج بهذه الحرقة :) حقق الله لكم مرادكم في كل حال
تحياتي و تقديري
صديقي غير معرف
أعرف هذا يا عزيزي ، فقد صرت معرفا لنا بأسلوبك و طبيعتك الفكرية الشيقة و الواضحة من تعليقاتك التي ننتظرها
نعم يا عزيزي "الله محبة" كلمة تجمع تحت لوائها كل الأديان ، و أجد في كتاب الله من الآيات ما ينص على وجود حكمة لله تعالى في الاختلاف أكثر من عشرين آية
تحياتي و تقديري و شكري
Post a Comment