19.9.08

انهيار برج بابل- 35-36

(35)
اغتيال رؤية

الجمعة، الحادي و العشرون من سبتمبر
في الصباح، تناولا فطورا مهجنا من أصناف سورية ولبنانية، مناقيش الزعتر وجبن قشقوان بزيت الزيتون، وجبن حلومي مقلي، فضلا عن الكنافة النابلسية، كانت إذاعة المطعم الداخلية تذيع أغنية من التراث السوري تقول كلماتها: "لعبوا الفرسان ع خيول الأصايل .. والملعب لان لحلو الخصايل" فاستدعت كلمة الفرسان إلى ذهن "علي" حلم الليلة الماضية، حتى في ليالي زفافه الأولى لا يريد طيف الإمام أن يفارقه؟ وقد شهدت ليلته الماضية جوانبا من أم معارك الفتنة الكبرى، صفين
...
رأى الإمام "علي" يدعو الله وهو يلبس لأمته للحرب فيقول "اللهم إن أظهرتنا على عدونا فجنّبنا البغي وسدّدنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة، واعصم بقيتنا من الفتنة"[1] ثم رآه وقد اصطف الجيشان وتهيأ الناس للقتال، يخرج فيقف بين الصفوف، ويدعو "معاوية" للمبارزة حتى لا يقتتل الناس بينهما، فلا يجد مجيبا[2]، فقد ضربت لمعاوية خيمة في مؤخره جيشه، ليقي نفسه بجيشه لو جد الجد، ثم رأى الإمام وقد التقى الجمعان، ممتطيا صهوة جواد أدهم[3] وممتشقا سيفه "ذو الفقار"، فكأن الشمم والإباء والشجاعة تجسدوا جميعا، فكانوا فارسا نبيلا يدافع عن الحق كما علمه، يوغل في صفوف العدو بجرأة من اتخذ على الموت عهدا، يردد بينهم عبارة ذات صدى، كأنها تتردد في صدره قبل أن تخرج من فمه: "أقاتلكم على تأويله كما قاتلكم النبي على تنزيله"[4]
...
سألته "ماري" عما شرد فيه، فلم يرد أن يخبرها بحلمه حتى لا يزعج عروسه بحلمه الدامي بعد ليلة عشق من ليالي الجنة، لكنه أراد ألا يكذبها، فاختار التعبير عن حلمه رمزا، وقال: ذكرتني الأغنية عن الفارس حلو الخصال بمثل شامي يقول "الرجال عند أغراضها نسوان" - مع كامل احترامي للنسوان - فالغرض حين يتمكن من الإنسان يصبح كمرض حل بعقله، فيجعله يرى الحق باطلا والباطل حقا، ولطالما كان تاريخ البشر في مجمله صراع بين أهل الرؤية وأهل الغرض، بين رؤية التطور والنماء والحب، وأغراض المال والسلطة والنفوذ، عذرا للمثل المناهض للمساواة
ردت عابثة وضحكاتها الهادئة تتخلل كلماتها: مثل متوقع من العقلية العربية بتكوينها الذكوري
- هذا تعميم مخل، فوضع المرأة هنا في سوريا اتسم دوما بالمساواة مع الرجل، حتى في زمن الاحتلال العثماني المتفنن في قهر الحريم، لم يكتسب الرجل السوري تراث قهر المرأة من الترك
- بسبب الأصل الفينيقي، فقد اشتهرت المرأة الفينيقية في العالم القديم بقوة الشكيمة وعظمة أثرها في مجتمعها، و"بيير هوبك" يقول في هذا قولا جميلا مفاده أن الرجل الفينيقي لم يكن يتزوج المرأة .. بل يقترن بها
- لكن هذا ليس محدودا في سوريا، فللسودانية والتونسية كذلك وضع اجتماعي مميز نتيجة لتراث شعبي مختلف، فليس كل التراث الشرقي مجحف للمرأة، في حالة تونس مثلا تأثر وضع المرأة إيجابا بطبيعة المجتمع الزراعي، وبتميز مكانة المرأة عند البربر، فبعض المؤرخين اعتبر البربر مجتمعات شبه-ماترياركية[5]، وتعريب تونس بالكامل لا ينفِي جذورها الحضارية البربرية
- أحبك
قالتها وهي تميل لترتكز على حافة الطاولة بذراعيها، مغيرة دفة حديث التاريخ الذي طال، فابتسم خجلا وقال: آسف للحديث عن التاريخ على مائدة الإفطار، لكني حين أحدثك أجدني مسترسلا كأني أفكر وأحادث نفسي .. فقد توحدت معك يا .. يا أنا
- كم تمنيت أن أكون شاعرة لأعبر عن خفقات قلبي مثلك
- عيناك تعبران يا مريمي، وإنما أحاول أن أكسب كلامي مذاقا لعله يجاري بلاغة عينيك
- حسن جدا
قالتها بلهجة مزاح متوعدة، وهي تقوم مرتكزة على الطاولة بينهما، وتميل بجزعها عبر الطاولة، لتمسك برأسه وتقبله قبلة خاطفة، ابتسم وهو يداعب شعرها بيديه، فقالت وهي تعود لجلستها الأولى: لو كنت تخجل من تقبيلي إياك أمام الناس فلا تتغزل ثانية أمامهم
- فليذهب الناس للجحيم، الجحيم يا غاليتي هو الآخرون كما كان خالك "سارتر" يقول
قالها مداعبا، فسارتر أحد أعمدة الفكر الوجودي الذي كانت والدتها تعتنقه، ضحكت للدعابة بفتور، ثم ذكرت أمها فاربد وجهها سريعاً، فطن لذلك في وجهها، وقرر في نفسه أن عليه ألا يذكرها بوالدتها كثيرا حتى لا يثير بداخلها الصراع القديم، فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، فكر للحظة أن يغير الموضوع ليخرجها من الذكرى، لكن السنين علمته أنه شاعر أكثر منه دبلوماسي، وحين يتحدث لمجرد تصحيح ما يفلت من لسانه عفوا، غالبا يقول ما هو أسوأ! .. مرت لحظة قبل أن تستعيد صفاء وجهها وتسأله عن برنامجهما لذلك اليوم، فيجيبها بأنه خطط للمرور على قلعة دمشق سيرا على الأقدام ثم زيارة ضيعة يقضيان بها بقية اليوم، ولما احتجت على إهدار يوم كامل بمكان واحد في تلك الزيارة القصيرة، وعدها بأن يمد الزيارة يوما لو لم يرق لها المكان، بدا واثقا وهو يعدها بينما بدت هي غير مقتنعة بالفكرة المهدرة للوقت، وانطلقا نحو القلعة
فريدة هي قلعة دمشق، ممتدة التاريخ من العصر الروماني قبل الميلاد وحتى اليوم في غير انقطاع، بنيت بعقلية المدينة-القلعة، فاختار لها الرومان هذا السهل المنبسط في مستوى المدينة، وخلال زيارتها أخذهما الحديث للسلطان المملوكي "ركن الدين بيبرس" الذي استخدم هذه القلعة يوما، فقد كانت "ماري" معجبة به، بينما كان لعلي العديد من التحفظات عليه، أهمها اعتلائه كرسي السلطنة على جثة المظفر "سيف الدين قطز"، كانت "ماري" تنتقد في "علي" دوما نزوعه لعواطف شبه شخصية نحو الشخصيات التاريخية، وكانت ترى في هذا عيبا خطيرا فيه كمؤرخ، أما هو فكان يرى أن المؤرخ إنسان لا يستطيع تحييد مشاعره في تقييم الحدث أو الشخصية التاريخية، فأمانته ألا يخفي أو يبرز في رواية الحدث وفقا لهواه، أما تحليل الحدث وشخوصه المحورية فمنطقي أن يعكس مجمل قناعاته الذاتية، وحين خرجا من القلعة متجهين نحو ساحة انتظار السيارات ليستقلا تاكسيا كان يقول: التاريخ يسجل عبر عيون المؤرخ، ويتأثر بقناعاته دوما، لهذا نحتاج للمقارنة بين نصوص مختلفة لتحصيل رؤى مختلفة للحدث والخروج بقناعاتنا الشخصية حوله
- أرى حكمك على "بيبرس" بالانتهازية غير موضوعي تماما، فهو ابن زمنه وبيئته كما تقول أنت دائما، المماليك كانوا يقتلون بعضهم بعضا كما يتنفسون[6]! و"ٌقطز" ذاته شارك في قتل الأتابك "أقطاي"، فعلى أي أساس نصنف "قطز" بطلا و"بيبرس" ميكيافيلِّيا؟
- كانت آفة المماليك قتل بعضهم بعضا كما يتنفسون .. هذا صحيح، كان هذا شأنهم قبل اللحظة الفارقة التي هددت فيها جيوش "هولاكو خان" مصر، فارتفع "قطز" لمستوى اللحظة وعفا عن المماليك المتهمين بقتل أستاذه "أيبك"، وعاهدهم على توحيد الجيش تحت قيادته لمواجهة الغزو على أن يتنحى عن السلطة بعد المعركة ليختاروا من يريدون عليهم سلطانا، ثم تنازل عن جميع ممتلكاته لصالح المجهود الحربي قبل أن يطالبهم بالتبرع له، وشارك بنفسه في القتال في الصفوف الأمامية، فحقق الله على يديه النصر، وظن أن نفوسهم قد تطهرت من الصغار مثله فصاروا إخوانا، لهذا خرج معهم للصيد منفردا بغير حرس، لكن كل هذا لم يثنِ "بيبرس" ورفاقه عن عزمهم الغادر، فقتلوه وبايعوا "بيبرس" سلطانا ليوزع عليهم الإقطاعيات مكافأة على وصوله لكرسي السلطنة[7]، لهذا ينتمي "قطز" لأصحاب الرؤى الكبيرة في الحياة، وقد حقق ذاته بتحقيق هدف كبير هو حماية مصر والبشرية من خطر التتار، أما "بيبرس" فينتمي لمدرسة الغرض، وطريقه لتحقيق الذات لم يتجاوز السلطة والثروة فتآمر للوصول إليهما مع من يبيعون ولاءهم بالمال، فكان وصوله للحكم بيعا لا بيعة
- فكرة أهل الرؤية وأهل الغرض هذه دواليزمية[8] جدا، والدنيا ليست خيرا وشرا .. ليست أبيض وأسود، فبينهما طيف واسع من الدرجات الرمادية
- الرؤية والغرض أعبر بهما عن الخطوط العريضة في حياة الإنسان، لكنهما ليسا نقيضين بنقاء الخير والشر، فرؤية "قطز" مثلا لم تعصمه من المشاركة في خطأ إغتيال "أقطاي"، وأغراض "بيبرس" لا تنزع عنه شرف مواجهة التتار والجيوب الصليبية في الشام، الفارق أن رؤية "قطز" التي اغتالوها معه كان من شأنها تغيير مصير دولة اللماليك البحرية كلها، خصوصا فكرته في التخلي عن السلطة وتطبيق مبدأ البيعة بالاختيار بين عدة مرشحين لكرسي السلطنة
- مازلت غير مقتنعة
- لماذا أشعر أنني منذ تزوجتك فقدت قدرتي على الإقناع؟
قالها مازحا وهو يربت على كتفها قبل أن يتركها ليتفاوض مع سائق التاكسي، وحين سمعت اسم المكان الذي يتجهان إليه من حديثه مع السائق، دق قلبها بشدة وتغير رأيها في الفكرة تماما، وابتسمت بكل خلية في وجهها الجميل، فما أن انتهى زوجها من التفاوض ودعاها للركوب حتى نظرت إليه بود غامر وشكرته على المفاجأة التي اختارها، فقد كانت وجهتهما هي ضيعة معلولا الساحرة، أجابها زوجها بأن خبيرة لغة آرامية تزور سوريا لابد لها من قضاء يوم في هذه الضيعة التي فرت من يد الزمن!
...

(36)
مخرج النجاة

معلولا ضيعة مسيحية تبعد قرابة الستين كيلومترا عن دمشق، فوق هضبة مرتفعة عليلة الهواء، وهي المكان الباقي فوق الأرض الذي يتحدث الناس فيه باللغة السريانية في حياتهم اليومية، لغة المسيح المميزة آرامية المصدر التي تميز المذهب السرياني حتى اليوم، فغير معلولا لا توجد سوى جماعات إثنية متفرقة في العراق وتركيا وغيرهما تتحدث السريانية، لكنها لا تكون مجتمعا كاملا كهذه الضيعة الرائعة
وحين كانت السيارة تجتاز المروج الخضر حول دمشق، ربتت "ماري" على ساق "علي"، فقبل باطن كفها بإعزاز وهو يقول: اليوم تكونين أنت دليلنا، فمعلولا تقع في نطاق تخصصك أكثر
- لدي فكرة عن تاريخ المكان بالطبع، لكن تذكر أنني متخصصة في اللغات وليس التاريخ، فلا تتوقع الكثير
- كلي آذان صاغية
- القرية ضاربة في القدم، مسكونة قبل ميلاد المسيح، حين كان اسمها سركوبوليس أيام الرومان، والدير الأساسي بها هو دير تقلا البطريركي، والذي كان بدوره معبدا وثنيا كالمسجد الأموي وهيا صوفيا، وهناك تلك النقوش المميزة داخل الكهوف، الباقي سأتذكره حين أرى المكان
من بعيد بدت جبال قلمون وعلى قممها تستقر الثلوج البيضاء، مرت ربع ساعة أخرى على طريق جبلي قبل أن تظهر بيوت معلولا البيضاء بعمارتها المميزة من بعيد، وبعد لحظات كان العروسان يغادران السيارة نحو القرية الوادعة، فأخذا يصعدان ممرا جبليا معبدا بحجارة بيضاء، تسارعت أنفاس "ماري" قليلا، مقارنة بحركة صدر "علي" العنيفة صعودا وهبوطا، والتي جعلتها سنون التدخين متسارعة مع كل خطوة، تذكرت شيئا فانطلقت تقول: لفظة معلولا تعني مخرج النجاة، وسبب التسمية غير معروف، لكن يرجح أنه بسبب الممر الجبلي فيها، يردد الرهبان أن بركة الرب شقته في الجبل كمهرب للقديسة "تقلا" من مطاردة الرومان، فصار مخرجا للنجاة، وعمارة البيوت المبنية في قلب الصخور فيها تتميز بارتفاع موحد، فلا يرتفع أي بيت عما حوله أكثر من ارتفاع طابق واحد، وذلك أنهم يعدون أسطح البيوت ملكية عامة كالشارع يستخدمها الناس للتنقل بلا قيود، فتصبح بمثابة دور ثان للضيعة الجبلية يتميز بسهولة السير عليه مقارنة بالممرات الجبلية الوعرة
أشارت بسبابتها نحو شق جبلي يبدو مظهره غريبا بالفعل، وإن كان حدوثه في الجبال يحدث طبيعيا بغير خوارق، وقالت: هذا هو الشق الجبلي، أعتقد أن الطريق للدير من هنا
- نعم
قال "علي" و هو ينظر لها بإعجاب لأنها استنتجت جغرافية المكان في أول زيارة له، بينما سألته هي: هل زرت الضيعة من قبل؟
- نعم
- ومع ذلك تركتني أشرح كل هذه التفاصيل التي لابد أنك سمعتها من قبل؟
- بالعكس، كنت مستمتعا جدا بمتابعة شرحك
- لا بأس، من أين نصل لدير تقلا؟
- من هنا كما استنتجتي تماما
وصلا للفج الصخري الضخم الذي يشق طريقا في الجبل بين جانبين، وفيه حفرت بيوت، عاشت القديسة "تقلا" في واحد منها فرارا بدينها لهذا المكان النائي، ثم تفجر الماء من سقف البيت الصخري الذي سكنته، فظنه الناس شافيا من الأمراض ورددوا عنه المعجزات
دلفا لدير تقلا أسفل الفج الجبلي، كان تردد اللغة الآرامية حولها بين الناس يسبب لماري شعورا رائعا، فتسري بجسدها قشعريرة إثارة ودهشة، وكلما شعرت بهذا أثناء اليوم كانت تضغط على يده في امتنان، فلو كانت معلولا لكل شخص تجربة رائعة، فهي بلا شك لمتخصصة الآرامية تجربة فريدة ولحظات لا تتكرر في العمر كثيرا، تماما كدارس لتاريخ الفراعنة يجد نفسه فجأة في الأقصر عام 3000 قبل الميلاد! .. حين دلفا من بوابة الدير، أخذت تترجم له ما تسمعه بالسريانية حولهما، وكان معظمه دعوات من أجل الشفاء أو رد الغائب وما إلى ذلك، فقد اعتاد الناس طلب شفاعة القديسة ورفاتها المدفون بالدير لقبول الدعوات، ويبدو أن واحدة ممن يلقون الأدعية كانت تعرف العربية جيدا فقالت بلهجة سورية محببة: عجائب كثيرة تحدث هنا على يدي الطاهرة "تقلا"، وببركة صلوات الآباء، وعجائب أكثر تحدث في دير صيدنايا في طريقكما للشام
- شكرا يا أمي
أجابها "علي" باسما في رقة وامتنان، وحين ابتعدا بخطوات قالت "ماري" معلقة: ظنتنا زوجين مسيحيين لهذا نصحتنا بزيارة دير صيدنايا
- ليس بالضرورة، هنا وفي مصر يزور الناس مسلمون ومسيحيون مساجدا وكنائسا وأديرة يظنون أنها مباركة طلبا للمعجزات، يزورون الأولياء والقديسين بل والحاخامات أحيانا كأبي حصيرة لتحقيق حاجاتهم، فأصحاب الحاجات وصوليون تماما فيما يتعلق بهذه الحاجات، المهم .. ألن تحكِ لي قصة القديسة "تقلا"
- كانت تلميذة صديقك القديس "بولس"
ابتسم وهو يوميء مشجعا لها على الاسترسال، فاستأنفت حديثها قائلة: اضطهدها أهلها فجاءت هنا وعاشت حتى ماتت في التسعين من عمرها
- ولماذا اضطهدها أهلها؟
- بسبب دينها الجديد، لقد كانوا وثنيين
أحاط كتفها بود بالغ وهو يقول: متخصصو اللغات يتعاملون مع سطح التاريخ لا باطنه، وثنية أهلها ليست سببا كافيا للاضطهاد، فالديانات الوثنية متعددة الآلهة لم تكن تضيق بإضافة مقدسات جديدة، واقع الأمر أنها كانت تنتمي لأسرة غنية في أيقونيا، وكانت فضلا عن ذلك خطيبة لشاب من النبلاء، وعندما مر "بولس" بأيقونيا عام خمسين للميلاد بعد سماح القديس "جيمس" له بالتبشير للجينتيلز[9]، وكان بصحبته "برنابا" الرسول، سمعت القديسة واحدة من خطبه التبشيرية، فآمنت وعمدها "بولس" بنفسه، فوهبت بتوليتها للرب وأسرت لأمها برغبتها في فسخ خطبتها لأنها وهبت عذريتها للمسيح، وهنا ثار عليها أهلها وأهل خطيبها من أعيان أيقونيا، فهربت لتلحق ببولس في أنطاكية، لكنها حين وصلتها قبض عليها، وتقول الأسطورة أن حاكم أنطاكية ألقاها للأسود عارية، فسترها الله برداء من نور، ونامت الأسود عند قدميها كالنعاج! لهذا تظهر الأسود دوما في أيقوناتها، ولما رأى الحاكم كرامتها، حررها لتأت هنا وتعيش متفرغة للعبادة[10]
كانت "ماري" تتابعه في دهشة، وغضبها يتصاعد برغم محاولتها ألا يبدو هذا عليها، حين انتهى لم تتمالك نبرة الغضب في صوتها وهي تقول: تعاملني كطفلة وتطلب مني الشرح لترضيني؟ أم أنك أردت أن تختبرني وتظهر لي ضعف معلوماتي مقارنة بك؟
- من قال هذا؟
- لا بأس، شرحك كان مفيدا، لذا سأطلب منك العودة لدورك المفضل كراوٍ للتاريخ
هكذا قالت وهي تتأبط ذراع "علي" الذي أدرك أن موضوع تركها تشرح لمجرد إرضاءها هذا قد ضايقها فعلا، لكنها لم تحب أن تجعله موقفا حادا في شهر العسل، هذا ما يحبه فيها، تعرف كيف ومتي ولأي درجة تقف وقفة لتحدد ما يسرها وما يضايقها بدون تحويل الحياة لمسلسل نكد، وضحت أمرا يضايقها بذكره مرتين متتاليتين بصيغة المرح، في رسالة واضحة وذكية، قال "علي" ليمرر الموقف: هناك نبع مياه يخرج من بين الصخور هناك، فما رأيك في دش بارد؟
أشار للطريق فتقدمته فيه حتى وصلا للكهف الصخري عدواً، فوقفا أسفل نبع المياه الصافية المنهمرة من سقف الكهف وهما يتبادلان دفع الرذاذ، ثم شربا من ماء النبع العذب البارد، الذي يترك في النفس إحساسا عميقا بالنقاء، لا ريب أن إحساس كهذا يساعد على شفاء المريض لاعتقاده في قداسة ما شرب، هكذا فكرت "ماري" فقالت وهي تنظر لعلي بعد أن ارتكنت متأبطة ذراعه ثانية وهما خارجان من المغارة كالخارجين من حوض سباحة، وبعض الزوار العجائز ينظرون إليهما بشيء من الدهشة: هل تصدق موضوع الشفاء بالشرب من ماء مقدس؟ أم تراه مثلي إيحاءً
- إيمانٌ وليس إيحاء
- وما الفارق يا فيلسوفي العزيز؟
- الإيمان تحرير طاقة داخلية جبارة في الإنسان، أما الإيحاء فهو سقوط في بئر الوهم، الإيمان نور والإيحاء ظلام
شرح لها رأيه في أن الإيحاء يحتاج لوجود الوسيط، كراسبوتين الذي كان يبيع الوهم مقابل ثمن مادي أو سلطة أو جسد امرأة، أما الإيمان فهو تجربة فردية بحتة بين الفرد وربه، بغير وسيط، فلما عارضته بأن البعض يخضع للإيحاء بغير وسيط، أسهب موضحا أن الوسيط ليس قاصرا على البشر، بل قد تلعب الأساطير المترددة حول مكان ما أو شخص ما دور الوسيط في التمهيد والايحاء، وقد يلعب الواقعون في الوهم دور الوسيط نحو غيرهم، فأي تمهيد سابق للتعرض المباشر للمكان أو الحدث أو الشخص يعد وسيطا، ثم ضرب مثلا فقال: رويت لمحمد بن سيرين[11] نادرة تبين الفارق بين الإيمان والشعوذة، فقد سألوه في أمر رجل إذا سمع القرآن أو قرأه يبكي حتى يغشى عليه، فقال لهم: ميعاد ما بيننا وبينه[12] أن يجلس على حائط عال ثم يقرأ عليه القرآن، فإن وقع فهو كما قال[13]، وتكمن مهارة "ابن سيرين" هنا في كون أغلب المبالغين في مظاهر الإيمان واقعين بين أمرين، شعوذة مقصودة أو هستيريا، وفي الحالتين سيفيق الموهوم مع الشعور بالخطر فوق سور عالي
- حيلة بسيطة وذكية، لعلكم تحتاجون لتطبيقها مع الكثير من البكائين في فضائياتكم اليوم
- زرت مسجد السيد البدوي في طنطا مع والدي طفلا، فأشار يومها نحو إطار خشبي بجوار الضريح قائلا أنه أثر لقدم الرسول على الصخر، اقتربت من الأثر متأملا، ليلفت نظري خلوه من أي تضاريس لقدم، فضلا عن حجمه الهائل الذي ينم عن عملقة صاحبه، وكنت أعرف أن الرسول كان ربعة بين الرجال، صحت أقول لوالدي ببراءة أنها مزيفة، فوجدت وجوها متنمرة تنظر إلي نظرتها إلى شيطان صغير، فما كان من والدي إلا أن اعتذربأني طفل غرير، ثرت باكيا حين عدنا للمنزل لأنه أهانني بقوله هذا، وحين سألته لو كان ما قلته صوابا أم خطأ قال لي أنه صواب، لكن ليس كل صواب يجوز مواجهة الناس به، فعلينا مخاطبتهم على قدر عقولهم، صدمت هذه الحكمة الحياتية عقلي الطفل، الحكمة التي صورها "يحيى حقي" رحمه الله أروع تصوير
- قنديل أم هاشم رواية رائعة بحق، العلم والحقيقة في غلاف من الوهم يتقبله البسطاء
نظر لها نظره تفيض إعجابا وعجبا وهو يقول: لو أنني تمنيت من الله أن يخلق لي حبيبة كما أريد لما فزت بأكثر منك! لطالما أعجبت بالكثير من عناصر تكوين المرأة الأوروبية، لكنني كنت أرى الخلفية الحضارية المشتركة كذلك جوهرية من أجل التفاهم بين الزوجين، فقسم لي الله زوجة إنجليزية تعرف قنديل أم هاشم، فما أروع ما قسم لي!
دخلا بعد ذلك دير "سرجيوس" و"باخوس"، قائدان رومانيان خسرا مكانتهما ثم رأسيهما عقابا على التمسك بالمسيحية في عهد الإمبراطور "مكسيميانوس هرموليوس"، وانتهيا من هذا الدير سريعا لأنهما لم يجدا ما يسترعي الاهتمام، ثم هبطا نحو بلدة صيدنايا، حيث تناولا غذاء سوريا تقليديا في مطعم جبلي، تكون من ورق العنب والسمبوسك مع كبة السفرجل الحلبية المميزة والقاورمة، ثم استقلا سيارة عادت بهما لدمشق، مدينة التاريخ، مدينة ينتمي إليها رجلان بارزان في تاريخ الأديان، "بولس" الرسول، الرجل الذي غير دفة التاريخ المسيحي، و"معاوية بن أبي سفيان" الذي انطلق منها ليغير اتجاه التاريخ الإسلامي! فما أكبر أثرك على حياة العالم الروحية يا دمشق؟

6 comments:

Anonymous said...

شكرا لهذه الجوله السياحيه ...
شدني في معرض حديثك عن المجتمع الـ
ماترياركي والبربر والفينيقيه التي
ميزت دور المرأه



جاري الجوجله عن معلولا

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي غير معرف
عن المجتمع الماترياركي للبربر يا عزيزي ، لسبب ما كانت الأصول القديمة للبربر منذ عصر ما قبل الأسرات في مصر تعطي مكانة خاصة للمرأة ، و بعد القبائل حكمتها النساء و اشهرهن في تراثنا الكاهنة التي هزمها موسى بن نصير ، أما المرأة الفينيقية فكانت زوجة بحار بالضرورة ، و عليها أن تعتمد على ذاتها في ادارة شئون بيتها طوال غياب الزوج طلبا للرزق

مع تحياتي و تقديري و شكري

كلاكيت تانى وتانى said...

معلولا إحدى قرى القلمون في سوريا تقع في شمال غرب دمشق على بعد 50 كم ، وترتفع عن سطح البحر بحوالي 1500 متر. إسمها يعني المكان المرتفع ذو الهواء العليل حسب اللغة السريانية.
مازلت مصرة على انك قد زرت هذة الاماكن من قبل ياعزيزى فوصفك لها رائع وليس من الخيال اطلاقا واعتقد ان كتاب عن انطباعاتك عن المناطق التى زرتها سيكون رائع جدا كروايتك تماما
تحتفل الكنيسة سنويا بذكرى القديسة تقلا التى حار فيها المكلك سمت نفسها عبدة المسيح الحى
اعتقد ياعزيزى ان قصة والدك حقيقية وحدثت معك شخصيا حيث انها تدل على تلك العقلية التحليلية التى اراها على صفحات مدوناتك لك رحمة الله
الفصل بأكملة يحمل مجموعة رائعة من المعلومات
واعتقد انك تجعل على يتلفظ بلهجة البلد التى يتجول فيها حين اطلق على الستات لفظ نسوان كما ينطقها الشوام
اما عن الطعام فقد اسلت لعابنا بالتبولة السورى الرائعة والحلويات الشامية
المرأة فى سوريا لبنان وتونس تحظى بنوع خاص من المعاملة وحتى القانون هناك يعطيها حقوق عديدة ولكنها بتكوينها بصفة عامة تشعر بالتميز وتحب كثيرا كينونتها كأمرأة وتعتز بها وخيرا فعلت ان لم تذكر المرأة المصرية حتى لا نصاب بالاحباط
ونعم انا معك فى ان الناس هم نعيمنا وجحيمنا ولكننا فى لحظة ما يجب ان نقرر نحن ام هم كقصة جحا وحمارة تماما
تحياتى

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي كلاكيت تاني و تاني
أهلا بك ، موضوع ربط معلولا بمعنى الهواء العليل غلط شائع ، المعنى السرياني بعيد عن النسيم و الهواء تماما ، أما عن القصة فجزء منها حقيقي و الآخر وجبت تكملته للحبكة

علي كان يقول مثل سوري لهذا نطق بمنطوق المثل و فيه كلمة نسوان ، و كلمتي نسوان و مرة في سوريا و لبنان كلمتان محترمتان جدا لأنهما ببساطة فصيحتان فنسوان فصحى و مرة تخفيف مرأة ، الناس عموما يشكلون عنصر ضغط عصبي على كل كائن حي متعامل مع المجتمع في كل الاحوال

تحياتي و تقديري و شكري

Che Ahmad said...

في هذا الزمن الارعن انتظر بقية القصة عسي انها تعطينا بعض الامل لنكمل الطريق

منتظر البقية وتقوم بالسلامة يا دكتور

Dr. Eyad Harfoush said...

صديقي العزيز Che Ahmad
شكرا لك يا عزيزي، و قريبا اعيد نشر الفصول بعج مراجعتها و الزيادة فيها و فصول جديدة ان شاء الله
سلمك الله من كل أذى
تحياتي و تقديري