16.9.08

انهيار برج بابل- 31-32


(31)
عش الدبابير

السبت، الخامس عشر من سبتمبر
أمام أحد المشارب الصغيرة في ميدان السوق القديم أو "جروت ماركت" في بروكسل، وقف الأمريكي يتناول قهوته السوداء ويطالع على الناحية الأخرى من الشارع ذلك التمثال البرونزي الذي يتخذه البلجيكيون رمزا لعاصمتهم، تمثال لطفل يلبي نداء الطبيعة، تقول الأسطورة أنه وارث لقب الدوق "جودفري" الثالث دوق ليوفين، وقد وقف على فرع شجرة ليعين حامية الدوق على أعدائها بالتبول عليهم، وببركة البول الملكي حلت اللعنة بالأعداء فهزموا هزيمة منكرة، جميلة ومسلية هي الأساطير القديمة بشرط أن ندرك أنها أساطير ولا نعود لادعاء واقعيتها كل حين، وألا يوجب أحد علينا الإيمان بها لنصبح رجالا طيبين! اليوم يوم مهرجان، ومهرجانات بروكسل كثيرة، وهاهم الشباب والصبايا يملئون أكوابهم الورقية بالبيرة الباردة التي تندفع من تمثال الطفل الملبي لنداء الطبيعة بدلا من الماء في بعض أمسيات السبت
ابتسم الأمريكي ولوح لرجل ذو وجه أحمر وشعر بني كثيف كان يعبر الطريق نحوه، كهل في نحو الخمسين من العمر تبدو على عينيه آثار صداقة وطيدة مع المشروبات القوية كعادة الكثير من البلجيكيين، استدار الأمريكي فابتاع لصاحبه مشروبا قبل أن يصل إليه، فلابد أنهما على ود قديم حتى عرف الأمريكي كيف يفضل الآخر قهوته!
عبر البلجيكي الطريق ومد يده مصافحا وهو يقول: مساء الخير أيها الكاوبوي المزعج في عطلة نهاية الأسبوع
- ليس في عملنا عطلات أيها السكير الكسول
أجابه الأمريكي وهو يصافحه بود مبتسما، ثم استأنف وهو يمد يده بكوب من ورق مقوى يتصاعد منه بخار القهوة: ستفيدك في التغلب على صداع الخمر
- لم أشرب منذ عامين، مازلت ترفض تصديق هذا؟
- لن أصدق حتى أقضي معك أسبوعا في دبي وأتأكد بنفسي من فراغ بارك المنزلي وعدم ترددك على حانات الدرجة الثانية ومعاكسة فتيات الليل، كيف حال ملهى "سيكلون"؟
- لم أذهب منذ دهر، "كلارا" تخضعني لنظام رقابي صارم لتتأكد من انقطاعي عن الخمر منذ إصابتي بالقرحة اللعينة
- دعنا نتحدث في العمل إذن حتى تعود لكلارا سريعا وألحق أنا بطائرتي، فلنتمشى قليلا ونتحدث
قالها الأمريكي وهو يسحب البلجيكي أحمر الشعر من ذراعه ويتجه نحو بوابة السوق الأثرية سائرا فوق الرصيف العريض، فيبدأ البلجيكي حديث العمل قائلا: أخبار قليلة لكنها هامة
- لست أنا من يسعر الأخبار ومدى قيمتها، فهات ما عندك دون تضخيم لأهميته أيها الاستغلالي العجوز
- مصدر باريس قال أن الكربون المشع أثبت أن المخطوطات يرجع بعضها بالفعل للنصف الأول من القرن السابع، الأثري الكردي ثرثر مع واحدة من حسناوات المعهد بأن المخطوطات قد تغير خريطة الشرق الأوسط بحسم خلافات عقائدية بين السنة والشيعة
- هراء، لا يوجد مخطوط يوحد الكاثوليك مع البروتستانت حتى لو كان مكتوبا بيد "يسوع" نفسه، الملالي والمراجع والمشايخ لن يعترفوا بهذا أبداً حتى لو كان "محمد" نفسه هو من وقعه، علمنا التاريخ أن الأديان والمذاهب لا تزداد مع الزمن إلا تباعدا
- فلم الاهتمام الزائد بالأمر من قبلكم؟
- المخطوطات قد تشغل الناس في بلد له تركيبة العراق الدينية، وهذا بحد ذاته سيقلل الاحتكاك بين السنة والشيعة هناك
- لست فتاتك السوداء يا راعي البقر، لفق سببا يحترم ذكائي أو قل الحقيقة
- حسنا .. قد تزيد المخطوطات من قبول حزب الله وشعبيته في المنطقة، وهذا غير مرغوب فيه، هذا كل شيء، فلا تبالغ في أحلامك عن مكافآت سخية على المعلومات
قالها مداعبا في سخرية صاحبتها الاستهانة بالآخر بعض الشيئ، لم يعجب هذا البلجيكي لكنه استمر قائلاً: هذا تلفيق يحترم ذكائي، لكنه ليس الحقيقة، هل للموضوع علاقة بالعالم الجديد؟ توحي أسماء الكوادر التي تلعب في خلفية المشهد بهذا.
عبس الأمريكي قليلا وقال بلهجة خلت من الود تماما: هل لديك المزيد من المعلومات؟
أدرك البلجيكي فورا أنه لمس الوتر المطلوب، إنه تنظيم العالم الجديد - أو ما عرف بهذا الاسم عند العامة - هو من يحرك عرائس الماريونيت هذه المرة، وتعجب لانشغال التنظيم بمخطوطات أثرية! فهل ترك اليمينيون ألعاب السيرك السياسي والمخابرات ليصبحوا مهتمين بالتراث الإنساني في العراق؟ هكذا فكر البلجيكي لكنه احترم رغبة الأمريكي في تغيير مجرى الحديث والعودة للعمل الذي يتقاضى عليه أتعابا، فأجابه: أخبار من بغداد، مصدر اليونسكو يقول أن رئيس الفريق قد يستعين بعنصر جديد، بروفيسور مصري لم يعرف اسمه، لكنه يقول أنه متخصص في تاريخ القرون الهجرية الأولى وينحدر من نسل "محمد" النبي نفسه
قالها البلجيكي قبل أن يشعل سيجارا صغيرا ثم يقول: لا أعرف كيف يتسنى إثبات النسب بعد كل هذه القرون
يغطي وجوم لحظي وجه الأمريكي وتتبخر السخرية من لهجته وهو يقول: هذا يستدعي تحركا فوريا من قبلنا، فأيا كان من قرر ضمه للبحث فهو حاد الذكاء، يريد أن يعطي لفريق العمل العلمي ثقلا روحيا بين العراقيين، قد لا تكون فكرته جيدة في بروكسل أو نيويورك، لكن في مجتمع كالعراق تؤمن أغلبيته الشيعية بشرف النسب وعصمة آل "محمد"، فالأمر يختلف تماماً، لن نجد صعوبة في تحديد اسمه والمعلومات الأولية عنه، فليس هناك ألف متخصص مصري في التاريخ ينتسب لمحمد، أليس كذلك؟
- لا يمكنني الجزم بهذا، سمعت يوما أن شهادة النسب كانت تباع بما يعادل خمسين دولارا ذات يوم
- قد تباع الشهادات وتزيف الأنساب في البلاد الغير مهتمة بالنسب كمصر، لكن ليس في العراق، أعتقد أن رئيس الفريق العراقي تحقق من نسبه بالفعل قبل أن يخاطر باستقدامه، فنسب مزيف سيلقي بالظلال على الموضوع ككل، والعكس لو أنه حقيقي، سيضاعف من قيمة الكشف عند العامة والإعلام
- كان هذا كل ما عندي
- ما عندك استحق عناء الطيران من بيروت لهنا في كل الأحوال، هل ستكون في العراق قريبا؟
- الأسبوع المقبل في دبي، سأكون هناك يوم الثلاثاء من الأسبوع التالي
- أراك هناك، سندبر هذا بالطريقة المعتادة
افترق الرجلان فمضى الأمريكي نحو الاتجاه الآخر للشارع واستقل حافلة لفندقه ليحزم حقيبته الصغيرة قبل أن يقلع لبيروت بعد ثلاث ساعات، بينما واصل البلجيكي السير نحو بيته القريب من الميدان، لقد كلفه هذا البيت وسيارته الفارهة ثروة كبيرة ما كانت وظيفته في دبي لتوفرها لولا نشاطه الإضافي الذي يقتضي منه الخروج في نهاية الأسبوع، الحياة كفاح مستمر، هكذا كان يقول دائماً قبل أن يصف نفسه بمواطن بلجيكي مسكين يفني عمره في محاولة مواكبة الأسعار التي جنت مع تفعيل الاتحاد الأوروبي
في القاهرة، وفي وقت متأخر من مساء ذلك اليوم، جلس رجلان في غرفة صالون مبالغ في أثاثها ورياشها، الأول مرتديا حلة رسمية أنيقة ورابطة عنق مناسبة، يوحي مظهره في مجمله بثري يحرص على إظهار ثرائه، حليق الوجه وعلى ملامحه سمت الرياسة والتسود، أما الآخر فيرتدي جلبابا خليجيا من حرير أبيض مع عباءة حريرية سوداء مقصبة الأطراف، وتلمع في يده ساعة ذهبية صارخة البريق، حليق الشارب مطلق اللحية، وعلى وجهه ترتسم تعبيرات التبعية والتزلف وهو ينظر للأول جالسا على طرف مقعده، ومتجها نحوه بكليته بينما يتخذ جذعه وضعا أقرب للانحناء، قال لسيده وهو يصطنع ابتسامة باهتة: بلغ السيل الذبى منه ومن ذلك الصحفي العلماني الذي يساعده، لم يجرأ علينا أحد لهذا الحد أبدا
ابتسم الأول بسمة الواثق الهاديء، وحرك مسبحته الفضية حركة لولبية رتيبة وهو يقول: دعه يكتب، كم فرد سيفهم ما كتب؟ لدينا الأهم، أمثاله لا يفهمون أن المعركة تدور في الأوراق المالية لا في أوراق الكتب! ومن الأفضل لنا أن يبقوا هكذا، على العموم لا تقلق، فأمامه رحلة طويلة في العراق، تابع أنت من يراجعون كتبه ليوصوا للمجلس بالمصادرة، فيعود ليجد القرار نافذا
- وهل سيعود؟ لماذا نرسله للعراق إذن؟
- لا تشطح بخيالك، لا علاقة لنا بسفره، لقد وصلتني المعلومة من صديق في الخارج وحسب
- وكيف نفوت هذه الفرصة، كيف يذهب بقدميه للنار ونتركه يخرج منها سالما؟ في العراق إخوان غيورون على دينهم، وفيهم كل البركة
نظر له الرجل الأول نظرة ثاقبة كمن يحاول أن يرى ماذا بقلبه، حيره اهتمامه بهذا الأمر، لم يكن عادة يهتم بالأمور الثقافية والمناظرات والكتب، فلماذا يلح بشأن "علي" هذا؟ هكذا كانت نفسه تحدثه بينما اعتقد "يزيد" أن صمته يعني مباديء اقتناع فقال وعلى وجهه علامات الحماس والإقبال على أمر هام: لو اتصلنا بأخينا "سعود" في العراق و..
قاطعه الأول وهو ينتصب واقفا من جلسته ايذانا بنهاية الحديث والمقابلة: انس الموضوع، وإياك والتحرك بغير علمي
قالها وهو ينظر نحوه بنظرة تمتزج فيها الحدة بالاستعلاء والتهديد، فأجابه "يزيد" بسرعة وهو يعقد يديه كمن يعتذر عن تطاول أفلت منه: عفوا لو كنت قد أثقلت على سيادتكم، وأنا دوما طوع أمرك وإذنك
- سنرى
قالها الرجل بلهجة سيادية وهو يتجه لباب غرفة الصالون فيفتحه ليخرج الضيف الذي بدت على وجهه علامات الندم على تجاوز حدود تعلمها من طول معاشرته للرجل الكبير، رجل الأعمال البارز وصاحب الحقيبة الوزارية مؤخرا، والذي ينفي عن نفسه ليل نهار أية علاقة تربطه بجماعات الإسلام السياسي، رغم شغله موقعا يقترب من القمة في أهمها، بل لعله يفوق هذه القمة فعليا بما له من مال ونفوذ، فالمال الوافر في بلادنا لا يقهر حين يعرف صاحبه أين يرمي بفتاته

(32)
وكان القمر بدرا

الاثنين، السابع عشر من سبتمبر
توجه العروسان للإسكندرية عبر الطريق الصحراوي بعد تقديم الطلب في سفارة بريطانيا، فوصلا قبل المساء، وقاد "علي" بعروسه حتى شقتها في زيزينيا لتعد بعض أشيائها في حقيبة، واتفقا أن يمر عليها بعد ثلاث ساعات، فقام خلال الساعات الثلاث ببعض المشتروات ليتم اللمسات الأخيرة لمفاجأته التي أعدها، ثم توجه لشقته فارتدى التوكسيدو السوداء التي اشتراها لهذا اليوم من بريطانيا منذ سنوات، عقد البابيون الأنيق وشد الحزام الحريري الأسود حول خاصرته، ثم جال في الشقة ليتأكد من وضع كل شيء في مكانه، ومر على الغرف يعطرها بمعطر الياسمين، ألقى نظرة أخيرة على حامل اللوحات المغطى بملاءة بيضاء في الصالة، ثم خرج، وفي التاسعة مساء كان أمام العمارة الحديثة نسبيا والتي تسكن "ماري" بالدور السادس منها، هاتفها على المحمول فطلبت منه الصعود، وعند باب شقتها لاقته إحدى صديقاتها، لم يرها من قبل، أوروبية شقراء هادئة الملامح، دعته للدخول لانتظار عروسه باسمة، ومرت لحظات كان فيها مستوى الأدرينالين في دمه يكاد أن يرتفع للسماء السابعة، ثم خرجت "ماري" للصالة في فستان زفاف من الحرير الأبيض، آية في بساطته ورقته، مشغول عند الصدر بتطريز خفيف بنفس لونه، متوسط الطول ينتهي فوق الأرض بشبرين تقريبا، ويجسم عودها الفارع برقة وبغير التصاق، وقد جمعت شعرها الحالك اللامع في ضفيرة كبيرة عقدتها مع شريط دانتيل أبيض ومررتها أمام كتفها لترقد على صدرها الريان وتصل لمستوى منتصف ذراعها تقريبا، فوق رأسها وضعت تاجا صغيرا أنيقا يناسب هيئتها الملكية وغطت كتفيها وأعلى ذراعيها بشال أبيض من صوف رقيق له وبرة غنية، مكياجها الخفيف أعطى وجهها شكلا أسطوريا لأن عينيه لم تتعود على رؤية أحمر الشفاه فوق شفتيها ولا رؤية عينيها المرسومتين، تصور للحظة أن هناك هالة من النور تحيطها! هل يمكن أن يكون الحور أكثر جمالا يا معشوقتي؟
هكذا فكر وهو يقف لاستقبال أميرته منبهراً، فسبحت عيناه تحاولان الإلمام بكل التفاصيل، خرجت وراءها صديقة ثانية فلم يتبين ملامحها، رآها كطيف لأن "ماري" كانت تحتل كل قدرته على تمييز المرئيات، إذا .. فهي أيضا أعدت له مفاجأة؟ عندما سألها في القاهرة لو كانت تحب أن يشتري لها فستان زفاف أجابته بأنها لا تحب فساتين الزفاف ولا تنوي أن ترتدي واحداً! كان يحلم بالمشهد الرومانسي وذيل فستانها الأبيض يرقص على قدميه وهو يرتدي التوكسيدو السوداء كما غنت نجاة الصغيرة[1]! لكنه احترم رغبتها ولم يناقشها فيها، فعلت هذا لتفاجأ عينيه بهذا المشهد الأسطوري لثوب لم يره إلا في هذه اللحظة وبهيئة تخالف "ماري" التي زاملها وصادقها ثم عشقها، ما أروع المرأة حين تحب وحين تريد بصدق أن تثير الدهشة في عيني حبيبها؟ دهشة ضرورية للرجل حتى يحيى الحب، لا تقل ضرورة عن فخر المرأة بشيء أو اثنين في حبيبها، كانت تنظر في عينيه مبتسمة، أحبت نظرة الرضا التي يراودها الانبهار في عينيه، فلا توجد امرأة لا يسعدها انبهار رجلها بجمالها، أو بجمال شيء صنعته يداها من أجله، تقدم نحوها مادا ذراعيه أمامه وباسطا كفيه فاستقبلتهما بكفيها، قبل وجنتيها ثم رفع كفيها فلثمهما، سمع صوت تصفيق صديقتيها فانتبه لوجودهما واستدار لهما شاكرا، سألته "ماري" ووجها مشرق بالسعادة لأنها ترى إجابة سؤالها مقدما في عينيه: إذا فجهود الفتاتين قد أثمرت، وتمكنتا من تحويل الباحثة الشمطاء إلى عروس؟
- أسطورية
هكذا همس لها قبل أن يستمر قائلاً: تمكنتا من تحويل العبقرية الفاتنة إلى عروس أسطورية، كدت أقسم أني أرى هالة من نور تحيط بوجهك رائع الجمال
شكر العروسان الصديقتين ثم خرجا، وفي الشارع فتح لها باب سيارته لتجلس، فوجدت دواسة السيارة تحت قدميها مغطاة بأوراق الفل اليانعة! يعرف أنها تحب رائحة وملمس الفل، مالت العروس للأمام فأمسكت قليلا من الفل بقبضة يدها واستنشقت رائحته الطازجة المنعشة، ثم مالت على "علي" الذي احتل كرسي السائق إلى يسارها فمنحته قبلة ممتنة على عنقه، انطلق العاشق الذي انتظر سنينا بالسيارة السوداء يتعجل اللحظات ليصلا للبيت، فحين يقترب الفرج ينفذ صبرنا بعدما انتظرناه مليا وهو بعيد عنا، كان يذوب لهفة ليرى أثر المفاجأة عليها، يتمنى أن تسعدها كما أسعدته، لا يدري كيف مر الطريق، فهو لا يذكر أنه رأى أو سمع شيئا خلال العشرون دقيقة التي استغرقها الطريق من بيتها لبيته
صعدا في المصعد الكهربائي عتيق الطراز، وعند باب الشقة مد يده بالمفتاح وطلب منها أن تتفضل بافتتاح العش المؤقت بعد التعديلات، سألته عما يعنيه بالتعديلات فأجاب بأن عليها أن تفتح لترى، أدارت المفتاح متطلعة وعلى شفتيها بسمة لم تلبث أن اتسعت حين دلفت للصالة، لقد تغير كل شيء تقريبا، أعيد طلاء الجدران بلون أبيض بهيج، ولمع خشب الأبواب والأرضيات بلمعة أنيقة أظهرت جمالها، وتألق في جنبات الصالة آنتريه من الآرابيسك دقيق الصنع، تناثرت حوله طنافس ومساند جلدية فوق كليم من الصوف، كان يعرف أنها تعشق الآرابيسك والديكور الإسلامي، صرخت سرورا بعد أن استوعب عقلها المفاجأة الجميلة وقالت: لكن .. متى .. وكيف وقد كنا سويا طوال الوقت؟
أجابها وهو يحيط كتفها بذراعه: تماما كفستانك يا مولاتي، فالأصدقاء ذخيرة حياتنا، طلبت من صديق مهندس إصلاح ما أفسده الدهر في العش القديم، وطلبت منه الاستعانة بجيش من العمال ليتم العمل في غضون يومين، أما الآنتريه فاشتريته بنفسي ساعة تركتك مع "عزة" في محل المصوغات في خان الخليلي، واخترت معه قطعة ثانية
لاحظت حامل اللوحات المغطى، فأشارت إليه وهي تقول وقد اتخذت خطوة نحوه: تبدو كمفاجأة ثانية؟
تقدم فوقف بجوار الحامل كاشفا الغطاء عن اللوحة، فاتسعت عيناها وغطت فمها بكفيها وهي تنظر لوجهها الذي يحتل منتصف اللوحة، وخلفه ظلام دامس إلا من بدر في السماء، وقد قارب الفنان الذي رسمها بين لون واضاءة وجهها وبين نور البدر لدرجة لا تخطئها العين، كأنه يعكس البدر على وجهها أو العكس، رأت توقيعا أسفل اللوحة باسم "أحمد فتحي"، فأشارت نحو التوقيع، وقبل أن تسأل أجابها: تخيلتها دوما، وتمنيت لو رسمتها بنفسي، لكن قدراتي في الرسم دون هذا بكثير، رسمها صديق فنان بعد عودتنا من بريطانيا منذ سنوات، أعطيته صورتك ووصفت له ما أريد، فرآها العبقري بعين خيالي ورسمها كما تصورتها وحلمت بها، فأودعتها هنا في الإسكندرية لتكون ونيسي في ليالي الوحدة
- لهذه الدرجة يا "علي"؟ كل هذا الحب؟ ما أحمقني!
هكذا علقت وهي تضمه إليها ضمة حميمة، فقال: يبقى جزء أخير من المفاجأة، القطعة المتممة لآنتريه الآرابيسك التي اخترتها معه
قالها وهو يجذبها من يدها نحو الغرفة الداخلية، فتح باب الغرفة ووقف مستندا للباب المفتوح ثم انحنى بحركة مسرحية مشيرا لها بذراعه لتدخل مقلدا الخدم الإنجليزي الأرستقراطي، انبعثت رائحة الياسمين التي استخدمها لتعطير الجو والأثاث منذ ساعتين، كانت غرفة النوم بأكملها من الآرابيسك كذلك، وزادتها ستائرها الحريرية شرقية الطراز روعة بلونها الذهبي الهاديء، وحين خطت العروس خطوتها الأولى، سمعت صوت كصوت أوراق شجر جافة تحتد قدميها، نظرت لترى الأرض كلها مغطاة بأوراق ورود جافة، وحين رفعت عينيها تتأمل الغرفة، فغرت فاها من فرط الدهشة، لم تكن الأرض فقط، بل غطت الورود كل سطح في الغرفة، التسريحة، خزانة الأحذية، الكومود، وعلى الفراش كتبت بأوراق الورود عبارة من كلمتين "الله محبة"
تعلقت بذراعيها في عنقه وقبلت شفتيه قبلة طويلة مفعمة بالإثارة هذه المرة، ثم أفلتت ضاحكة وتقدمت نحو خزانة الملابس وهي تنزع الدبابيس التي تثبت تاجها وتقول: لم تترك لي خيارا، فلتستعد لردي على مفاجأتك بمفاجأة لم تحلم بها يوما
ابتسم لها وهو يلتقط جهاز تحكم صغير من فوق التسريحة ويضغط أحد أزراره، لتنبعث موسيقى سيمفونية "شهرزاد" لكورساكوف، يعرف أنها تحب "شهرزاد" لأنها أول ما دفعها للاهتمام بالشرق في صباها، أطفأ نور الحجرة الرئيسي مكتفيا بالأباجورة الصغيرة بجوار الفراش وضوء القمر المتسلل من النافذة التي تركها مفتوحة ليتسلل منها نهر النور الفضي الساحر، تقدم نحوها وكانت قد تخلصت من حذائها وتاجها وفكت ضفيرتها، ليحيط شعرها الأبنوسي بوجهها العاجي البشرة، رقصا معاً في ضوء القمر .. وكان القمر بدراً

4 comments:

Anonymous said...

جميل جدا ..

في خلافه عثمان اتهم انه جعل أقاربه ولاه للأقاليم كعبدالله بن ابي السرح اخيه من الرضاعه ومعاويه بن ابي سفيان ..

كل فصل غني بشئ جديد ..

انار الله بصيرتك دكتور

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي غير معرف
قريبا ان شاء الله نأتي للحديث مع أحداث القصة عن خلافة عثمان رضي الله عنه ، شكرا جزيلا يا صديقي العزيز ، و سمع الله منك و هدانا و اياكم بنور البصيرة ، آمين
تحياتي و تقديري

كلاكيت تانى وتانى said...

عزيزى د اياد
هل قلت لك من قبل ان هذة الرواية تعدت الروعة بكثير ؟؟؟
وان اجمل ما يميزها ذلك الخلط المتأنى للاحداث مع الشرح المستفيض لها وتحليك الرائع الذى لا شك انة سيحدث علية لغط كثير عند نشرها
رفقا بنا ياعزيزى فالاحداث تتوالى والفصول تنهمر كالمطر ولا نجد الوقت للبحث والقراءة معاااااا
تحياتى

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي كلاكيت
جميل شكري يا عزيزتي ، و كل سعادتي لأنهك تجدين في جهدنا المتواضع هنا ما يوصف بالروعة ، كما قلت يا عزيزتي ، هي رواية ليست لوجه الأدب و لكنها تهدف لكشف جوانب مطمورة عمدا من تاريخنا الاسلامي ، رغم ان كشفها يقرب هوة الخلاف بين الشيعة و السنة و هو عين ما نحتاج اليه ، و ليس لاجتماع مشايخ يتصيدون لبعضهم بعضا السقطات

تحياتي و تقديري