15.9.08

انهيار برج بابل- 28-29

(28)
سر من رأى
المئذنة الملتوية، أو الملوية بلهجة أبناء العراق، ذلك الصرح المتفرد، والقائم كشاهد عبر الزمان بالقرب من مرقدي الإمامين "علي الهادي" و"الحسن العسكري"، إنها إذا سامراء أو سر من رأى، الحاضرة التي بناها "المعتصم"[1] عاصمة لملكه على ضفاف نهر دجلة، حتى يؤوي إليها جنوده الترك الذين استعان بهم بعد أن تعكرت علاقة العباسيين بالفرس على عهد والده "الرشيد" بعد الأحداث الدامية التي عرفها التاريخ بنكبة البرامكة، "المعتصم" .. والسيف أصدق أنباء من الكتب .. في حده الحد بين الجد واللعب[2]، "الجاحظ" ما بين أهل الكلام[3] والمعتزلة[4] أهل العدل والتوحيد، "أحمد بن حنبل" وأهل الفقه، "البخاري" وأهل الحديث، "الكندي" والفلاسفة، "المتنبي" والموهبة الفذة مع المكيافلية الصارخة، "المهدي" وغيبته، وبرودة البطيخ السامرلي في قيظ الصيف! أي مدينة ملوية زاخرة بالأضداد أنت يا سامراء كمئذنتك الملوية؟ كم من العظماء مر بك في الزمن الغابر؟ وكم من السفهاء حاول تدمير بنيتك الفسيفسائية في الزمن الحاضر[5]؟ فالسفهاء لا يحتملون الثراء ولا يطيقون التعدد، التعدد والصغار ضدان لا يجتمعان، هذا ما يقوله لنا درس التاريخ، ولكن .. ماذا أردت مني يا سامراء ولدي ما يكفيني ويشجيني؟
سامراء خط التقاء الدم العربي بالدم الكردي، زحف الدم العربي شمالا من حضرموت، والدم الكردي جنوبا من جبال زاجوراس، وفي ميزوبوتاميا التقي النهران وامتزج العرقان، فأي سر تدخره لي اليوم تلك المدينة الذاخرة بأسرارها؟ أتوقع أن تبدأ أحداث حلمي الجديد، لكن صورة المئذنة الحلزونية المميزة تهتز أمام عيني، وأدخل في حالة ضبابية بين النوم واليقظة، حتى تقتحم أذني رنات المحمول الصاخبة، عندما أضبطه على وضعية النوم لا يصدر رنينا لغير المكالمات الدولية أو مكالمة من "ماري"، وبما أنها في الحجرة المجاورة فلابد أنها مكالمة دولية، هكذا فكر "علي" فنهض بجذعه في الفراش، التقط الموبايل وطالع الشاشة بعين مازالت بها آثار نوم، الرقم على الشاشة يبدأ بأرقام 964 .. العراق؟ .. مكالمة من العراق الآن وبعد هذه الحلم السامرلي؟ بدأ الأمر يتجاوز حدود المعقول، الرقم التالي لكود العراق هو رقم واحد؟ إذن فهي بغداد أو .. لعلها سامراء .. هل لسامراء شمالي بغداد كود مختلف عنها؟ عقدت الدهشة يديه فلم يستطع أن يفتح الخط مجيبا حتى سكت الرنين، اعتدل في فراشه جالسا ومد يده لعلبة سجائره يشعل واحدة، وعندما عاد الهاتف للرنين رد من فوره مجيبا ليأته صوت صديقه الدكتور "كاظمي عبد الأمير" المؤرخ العراقي المتخصص في التاريخ العباسي، والذي كانت فترة اقامة "علي" في بغداد من أروع فترات العمر بفضله، وبعد تبادل التحيات الحارة سأله "علي" عن أحواله وحال العراق فأجاب: مازلنا أحياءً يا صاحبي في هذه الأيام الخايسة[6]
- ستمر كما مر غيرها يا أبا هادي، نحن في مصر نقول "كم دقت على الرأس طبول"
- عزا العزانا[7] يا صديقي، الطبلة هذه المرة آلة حرب مجنونة يطلقها عميان، لكن ما لهذا خابرتك، قرأت مقالك لتوي على الإنترنت.. أراك ساطر هؤلاء المتاعيس سطرة[8] شديدة
- وما رأيك؟
- رائع، لكنها ليست معركتك، دعك من ضرب ذيل الحية عندك وتعالى لنضرب رأسها هنا سويا
- ماذا تعني بضرب رأسها؟ وهنا أين؟
- انتبه لي يا "علي"، أخابرك الآن بخصوص مخطوطات بدرجة عالية من الأهمية، مخطوطات تاريخية عالية القيمة
تنبه عند سماعه لفظ "مخطوطات" وتبددت من عينه آخر خيوط النعاس، فانقشعت عن نور النهار ينساب بحجرته من بين الستائر، قام يفتح ستائر الشباك بغرفة نومه وهو يرد مستزيدا من المعلومات حول المخطوطات، فأجابه: أشارك مع اليونسكو في ترميم آثار خربها محروقي الصفحة[9] في سامراء، بغير دخول في تفاصيل، عثرنا بمخطوطات .. أو .. عثرت علينا مخطوطات تنتمي لعدة عصور، سافر الدكتور "ديار كاكل" ببعضها لباريس لفحصها بالكربون المشع فثبتت أصالتها
- لم أعرف أن "ديار" معك في مشروع اليونسكو؟
- لجأت إليه حين احتجت إلى خبير أثري
- عالم أمين ورجل شهم، ليت العراق كلها "كاظمي" و"ديار"، عربي شيعي وكردي سني في فريق عمل واحد!
- لا طائفية مع المنهجية، المهم، متي يمكنك الحضور؟
- هل الأمر يستدعي سفري؟ وهل هناك مساعدة أستطيع تقديمها غير ارضاء فضولي التاريخي؟
أجابه "كاظمي" بالإيجاب، موضحا أنهم يحتاجونه لأمرين، أولهما ربط موضوعات الكشف في شكل طرح تاريخي مؤثر إعلاميا، فضلا عن موضوعيته أكاديميا، فتخصص "كاظمي" الزمني يكمله تخصص "علي" في القرنين الأول والثاني الهجريين، كذلك يحتاجون توثيقه لقراءة المخطوطات المكتوبة بالحجازية[10] القديمة الغير منقوطة أو محركة، ولأن الكشف مازال سريا فهو يحتاج لمن يثق به كعلي ليصبح العضو الثالث في الفريق، بدأ "علي" يقتنع بفكرة السفر، فمخطوطات عربية قديمة كانت إغراءً يصعب مقاومته، وخطر بباله أن "ماري" تتوق منذ زمن للمشاركة في عمل ميداني كهذا، فسأله: هل يمكنني الاستعانة بمن هو أقدر مني على قراءة المخطوطات الحجازية[11]؟ الدكتورة "ماري ماكسيمليان" خبيرة الآرامية والنبطية والعربية القديمة
- تخصصها عين المرام، مادمت تثق بها فهي على الرحب والسعة، ولكن عليك إطلاعها على خطورة الوضع في العراق، والتأكد من رغبتها في خوض المخاطرة
- إذا فأنت تخشى عليها وليس علي؟
- الحقيقة أني أعرفك بما يكفي لأعرف أنك ستقدم على ما نعد له هنا مهما كانت المخاطر، أما هي فلا أعرفها على الإطلاق
- هي عزيزة علي بما يكفي لأضن بها على المخاطر، لكن الخطر قدر إنساني يتكرر مع كل نفس يتردد بصدورنا، لهذا لا أرى في العراق خطرا أكثر مما هنا في الإسكندرية برغم ظروف الحرب "قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ"[12]
- هناك أمر آخر أقدر أنك مهتم به، فهو وثيق الصلة بإخوانك هؤلاء الذين أعلنت عليهم الحرب بمقالك، وسأشرح لك تفاصيله حين أراك في بغداد بإذن الله
اتفق الصديقان على مناقشة التفاصيل والترتيبات من خلال البريد الإلكتروني، بغير التصريح فيه بأي شيء عن الكشف وطبيعة الزيارة حرصا على السرية قدر الإمكان، وإن كانت الهواتف المحمولة ليست آمن بكثير من المكاتبات عبر الإنترنت في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وحين أغلق "علي" الخط تعجب من جرأته على تعريض معشوقته لتجربة السفر للعراق في ظروف الحرب، لكنه كان يشعر بشيء في قلبه يدفعه لهذا دفعا، وفكر كيف يفاتحها في الأمر، لكنه كان موقنا أنهما سيكونان معا هناك في العراق .. ويشعر أن زيارتهما تلك ستغير مجرى حياتهما معا
...

(29)
أشواك القلق

قام "علي" من فراشه نشطا والأفكار تأز في رأسه، فاجتاز الطرقة القصيرة بين غرفته والحمام في خطوتين واسعتين، ووضع رأسه تحت الماء البارد ليفيق لهذا اليوم الذي بدأ بداية حافلة، ثم عاد لغرفته فجلس على حافة فراشه وذهنه يطن بتساؤلات عدة، حلم بسامراء يصحو منه على "كاظمي" يدعوه لسامراء؟ ومادمنا نتحدث عن سامراء فالأمر متعلق بالإمامين "علي الهادي" أو "الحسن العسكري" أو أحدهما، هل لكل هذا علاقة بأحلامه حول أمير المؤمنين؟ هل للمخطوطات علاقة بالرق الذي كان الإمام "علي" يخطه في الحلم؟ ولو كانت الأحلام مجرد خبرات من الماضي فكيف صحى من سامراء على سامراء؟ هل هو نوع من التخاطر بينه وبين "كاظمي" حين قرأ صديقه مقاله على الانترنت وفكر بإطلاعه على سره؟ هل رأى سامراء أصلا في حلم أم في خيالات يقظة؟ كان جزء من عقله يأبى دائما أن يفسر تلك الأحلام إلا كإعداد له لأمر ما، إعداد روحي! فهل يكون أمر المخطوطات هو الأمر؟
طافت كل هذه التساؤلات برأسه، لكن السؤال الأهم كان: لماذا هو؟ لماذا "علي الإمام" تحديدا؟ وما دوره الذي ينتظره منه "كاظمي"؟ فمهمة صياغة الطرح التاريخي بصياغة يفهمها العوام، أو مهمة مراجعة المخطوطات القديمة ليستا بالسبب الكافي ليحتاج "كاظمي" دعما منه في وجود أثري بارز مثل "ديار" ؟ ولماذا قبل بإشراك "ماري" التي لا يعرفها في بحث وصفه بالسرية؟ "ماري" .. أين هي؟
قام متجها للصالة ليجد باب غرفتها موصدا والنور مازال يملأ حجرتها، تعجب لأنه لاحظ قبلا أنها لا تستخدم النور الكهربائي في النهار، فهل هي نائمة؟ هم بأن يقرع بابها ثم تراجع، بدأت شجرة القلق تنبت بقلبه، فقد ظن حين رأى النور بعد الفجر أنها نسته ونامت، ولكن الساعة الآن العاشرة والنصف صباحا، وعهده بها طائرا مبكرا؟ بدأت شجيرة القلق تنبت أشواكها لتخزه بوخزاتها الأولى الخفيفة، لا يستطيع أن يتجاوز الباب بأي حال، فهو لا يعرف عاداتها في النوم وقد تكون متخففة من بعض ملابسها
اتجه للمطبخ وأعد لنفسه كوبا من الشاي، تناول مع رشفات منه قطعة بسكويت مملح وقطعة شيكولاتة بيضاء، واكتفى بهذا إفطارا، سمع رنين موبايل "ماري" فتوقع أن يتوقف الرنين حين ترد، لكنها لم ترد وطال الرنين ثم سكت قليلا ليتكرر من جديد، هل يمكن أن تكون نائمة بهذا العمق؟ يتجه للصالة المستديرة على الطراز القديم في عمارة الخمسينات، فيجلس على أقرب الفوتيهات لباب حجرتها، وعقله يسأل في إلحاح: ماذا ألم بك يا ملاكي الحارس؟ أرجوك كوني بكل خير، لعلك لا تعلمين أن قلبا بهذه الدنيا دقاته في أعمق معانيها هي صدى دقات قلبك؟ يا رب، قد تكون الصبية لم تهتد بعد لشاطئ الإيمان والأمان، لكن قلبها بكل خير، فاحفظها يا عالما بحالها وحالي، وأرها طريق النور في قلبها لتسلكه نحوك، طريق الحقيقة يا إلهي .. صراطك المستقيم، هكذا كان يناجي ربه في جلسته المترقبة على بابها، كم يقتلنا الأرق على من يأرق لهمومنا ويحنو علينا! نحن ببساطة نفزع عليه ونفزع من تصور حياتنا بغيره، أي أننا نقلق على أنفسنا
مرت نصف ساعة إلتهم القلق خلالها كبده فقرر أن يقرع الباب وهم بذلك بالفعل، لكن خيل إليه أنه يسمع صوت تنفسها حين اقترب من باب الحجرة، كان صوت تنفسها منتظما هادئا، فطمئنه ذلك قليلا، المرضى لا يكون نومهم قريرا ولا تنفسهم هادئا كهذا، ولكن منذ متى كنت يا "ماري" نئومة الضحى؟ هل خيل إلي أن أنينا خفيفا صاحب أحد زفراتها؟ .. فتح التلفاز ليتلهى عن قلقه، أخذ يداعب الريموت بيده لعله يجد ما يستحق الرؤية، وقليلا ما يجد ذلك على القمر العربي، لا يستقبل هنا في شقته بالإسكندرية القمر الأوروبي حيث تذاع قنواته المفضلة مثل ناشيونال جيوجرافيك وسي إن إن، متى يكون لدينا قناة مثل ناشيونال جيوجرافيك في بلاد العرب؟ هناك إرهاصات لقنوات وثائقية جيدة لكن الشوط مازال بعيدا، ومازالت السياسة الرسمية لدولة القناة تتحكم في المادة التي تبثها، توقف للحظات عند واحد من إعلانات الحملة الضخمة التي تدعمها الولايات المتحدة لخلق رأي عام داعم لاحتلال العراق في العالم العربي، وذلك بإذابة الفاصل بين ما هو إرهاب وما هو مقاومة، وهذه الحملات مجدية جدا على عكس ما يتوهم البعض منا، فهي تغير الوعي الجمعي للشعوب بتكرار الرسالة حتى لو كان منطق الرسالة غير مقبول، فتكراره في إعلانات عديدة ومتكررة يكسبه مصداقية في نفوسنا دون أن نشعر، تلك هي لعبة الدعاية الإعلانية، الإضافة الأمريكية الأكبر للتراث البشري .. ويالها من إضافة!
عاد يبحث في القنوات من جديد، ليتوقف عند كليب خليع تبثه واحدة من قنوات الموسيقى، في أمريكا تذاع المواد الخليعة مساءً وبعد التنويه عن طبيعتها بحكم القانون، لكننا هنا نسميها فيديو كليب لتذاع بكل وقت وبدون تنبيه فيراها الجميع! حاول ثانية فلم يجد ما يستحق الرؤية فأغلق التلفاز وهو يردد في نفسه ألا خير يرجى من هذا الشيء أبداً، مد يده لحزمة الجرائد بجوار الباب، لم يجد بينها صوت مصر! فاستنتج على الفور أنها تستقر بالداخل بجوار فراش "ماري"، أهذا ما طرد النوم من عيني حبيبته العنيدة؟ فتح الصحيفة القومية الكبرى ليجد المانشيت الرئيسي حول العلاوة السنوية، هيهات، لن تسد العلاوات والأساليب التجميلية ثغرة، فالفجوة بين الدخول ومتطلبات الحياة الاستهلاكية فائقة، ولو أردت القضاء على شعب فارفع تطلعاته وقلل قدراته، في صحف المعارضة كانت بعض العناوين تتناول مسألة انتقال السلطة، واحتمالات تكرر التجربة السورية في مصر، ف تداعت لذهنه أحداث شورى الستة الشهيرة في تاريخ الإسلام، ربما لمناقضة حاضرنا لحال "عمر" يوم رفض أن يكون ولده بين مرشحي الخلافة، إذ أراد "المغيرة بن شعبة" أن يزين للفاروق وهو في فراش الموت أن يستخلف "عبد الله بن عمر" – وهو ذاته من زين لمعاوية استخلاف ولده "يزيد"، ولا سواء بين الوالدين أو الولدين - فأجابه الفاروق بما أحرجه وأسكته[13]، وقال في ذلك قولته البلجاء "إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فحسب آل الخطاب أن يسأل منهم رجل واحد عن أمة محمد"[14]
حدث هذا حين طعن الفاروق بطعنة الغدر، وفكر في أمر الخلافة، فكان بين أمرين، أن يستخلف كما استخلف "أبو بكر" أو يترك الأمر شورى كما تركه الرسول[15]؟ ويبدو أن رأيه استقر على الاستخلاف، ربما لظروف اغتياله واحتمالية مؤامرة فارسية اشترك فيها "أبو لؤلؤة" مع "الهرمزان"[16] و"جفينة"[17]، لكنه أحب مع ذلك أن يترك للشورى مجالا ولا يفرض على الناس رجلا بعينه، فحدد ستة من السابقين ممن يعرف أن الرسول مات راضيا عنهم، وهم "علي" و"عثمان" و"طلحة" و"الزبير" و"سعد بن أبي وقاص" و"عبد الرحمن بن عوف"، ليتشاوروا خلال ثلاثة أيام فيسموا منهم خليفة، ثم دعا "أبا طلحة" الأنصاري، فأمره أن يعد حرسا مسلحا لهذا المجلس المصغر، فلو اتفقت غالبية الستة على خليفة وعارض بعضهم وأصر على المعارضة يضرب عنقه تجنبا للفتنة، فلو انقسموا فريقان متساويان على رجلين، ترجح كفة الفريق الذي فيه "ابن عوف" كصوت ترجيحي[18]، ثم حدث أن فوض "طلحة" صوته لعثمان، وفوض "الزبير" صوته لعلي، وفوض "سعد" صوته لعبد الرحمن، وعندما تساوى "علي" و"عثمان" و"عبد الرحمن" لكل منهم صوتان، اقترح "عبد الرحمن" أن يعزل نفسه من الترشيح ويختار هو بين الرجلين، فوافقه المرشحان، فأمضى يوما في مشاورات مع ذوي الرأي والفطنة من المهاجرين والأنصار، ثم اجتمع بالناس في اليوم الثالث في المسجد، فدعا علياً فقال له: أتبايعني على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين من قبلك؟ فرفض "علي" في لحظة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي أن يلتزم بما لم يلزمه به الله وقال "بل على كتاب الله وسنة النبي .. وأجتهد رأيي" .. وكان منطق الإمام هنا واضحا جليا كالشمس، فكل بشر بعد النبي يؤخذ منه ويرد، وهذا المنطق العلوي هو الحجة البالغة على مبدأ التقليد المحض الذي سنه "ابن تيمية" رحمه الله، والذي قدس ما قاله الأولون، ومنع المتأخرين من الاختلاف عنهم بالرأي[19]، فأفرز بهذا نحلة التطرف الوهابية وغيرها من صنوف الفكر المرتهن للماضي، لهذا كان الحق كل الحق مع "علي" وفقا لفهمه وفقهه أن يرفض التقيد بسيرة الشيخين من قبله! دون أن ينتقص هذا من تقديره لهما في كثير أو قليل، وإنما هو رفض لمبدأ تقديس غير المقدس، لكن "ابن عوف" انصرف عنه، فدعا المرشح التالي وهو "عثمان" وعرض عليه ما عرضه على "علي"، فبايعه "عثمان" على ذلك، والمفارقة التاريخية هنا أن "عليا" رغم رفضه كان أقرب لسيرة الشيخين في خطوطها العامة حين حكم من "عثمان" رغم قبوله، بل كانت مخالفة "عثمان" لنص بيعته هذا واحدة من حجج الخارجين عليه، لأنهم رأوه قد بدل سيرة الشيخين الذين بايعه الناس على الالتزام بسيرتهما، فسقطت في رأيهم بيعته من أعناقهم! .. وفي كل حال، كانت بيعة "عثمان" رضي الله عنه بداية عهد جديد تمر به الدولة الناشئة، لتشهد تراجعا في اتجاهين محوريين، الخط الاشتراكي أولا، وخط المساواة الاجتماعية ثانيا، فتشهد بداية الردة الأموية لعصر البرجوازية والعصبيات القبلية، ولا ريب أن التراجع عن هذين الخطين الفاعلين في حياة الناس كان المحراث الذي هيأ الأرض للثورة على الخليفة الراشد بسبب بني أبيه من الأمويين، فكأن هذه البيعة كانت وقت الأصيل لدولة الإسلام التي انتهجت منهج السماء، والفجر لدول وامبراطوريات عادت لها أرضيتها

4 comments:

كلاكيت تانى وتانى said...

هناك بعض اللحظات فى الحياة تصبح الكلمات فيها خواء بلا معنى ولا طائل
فالمشاعرفقط هى ماتتحدث لتخبر وقعها على النفس
الوجع للفقد والرغبة فى القرب والتمنع والتمنى الألم المشوب بالحذر الرغبات المتعارضة والكلمات الحبيبة للنفس ككلماتك فى وصف مشاعر مارى الصادقة جداااااااا
الأمل موجود مادام الله موجود فقط اعتقد ان الندم على البعد سيكون اشد اذا ما لم تختر مارى القرب فأين سيجد كلاهما من يعوضة عن الأخر
اين سيجدكلاهما من يعوضة عن الاخر ..؟؟؟؟
وأين سيجد كلاهما هذا الهارمونى الذى يجعل الحياة اكثر سعادة وهناءة
مهما ياعزيزى حاولنا الفرار فلا حل الا بالمواجهة واعتقد ان مارى لابد ان تختار بين صداقة تدوم بألم وكتمان مشاعر متأججة وبين حب وعشق ينفجر ويريد الأعلان ويرفض الخنوع
لعل هذا اقل ما يقال لهذا الفصل الصادق الملئ بالمشاعر اما الجانب التاريخى فهو موثق بدلائل ولا وجود لوجة الخلاف فية عدا ان الربط بين ارهاصات وعيوب الجماعات الاخوان الوهابية ال سعود الدولة الاموية كلة دراسة فى تاريخ السقوط المدوى الذى نعانية الان
وكأنك يا د اياد تقف اعلى السلم وترى بعينيك ما جعلنا نهوى اسفلة
تحياتى وشكرى لأديب صادق المشاعر والحس

Anonymous said...

ماري الرقيقة ...

شهادتي مجروحه فتفكير الغرب يروق لي كثيرا ، بما ان التفكير العربي لا يزال يحبو ..

الرومانسيه .. لا اتقنها :)
لكن شدني ان ماري لادينيه ربما لم انتبه لذلك من قبل.
التوازي بين شخصيه علي\ الايمان وماري\الباحثه عن الحقيقه
يعطي بعدا اخر لروعه شخصيه البطل وتقبله للاخر المناقض له .

الحقائق عن الاخوان اهل مكه ادرى بشعابها

سؤال :
لم تفشل الحركات الدينية الاسلاميه في تبرئه ساحاتها من التشدد والفتنه والارهاب ؟

ليس عيب في الاسلام ولكن ...

تحيتي لك دكتور

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي كلاكيت تاني و تاني
ماري خيارها أخلاقي يا عزيزتي بين وعد لأغلى انسانة لديها و حبها لعلي ، لهذا فقرارها ليس بيدها تماما

أما عن أسباب السقوط فأكاد أزعم أني أراها كما أرى كف يدي ، و الله أعلم ، فقد سقطنا يوم خلطنا كل الأوراق و كفرنا بأنفسنا و قدرتنا على الفعل و عجنا الدين بالسياسة بالاقتصاد لنخرج بخلطة الفشل السرية

تحياتي و تقديري و شكري

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي غير معرف:
أهلا بك يا عزيزي ، و الميل للفكر الغربي لا يجرح الشهادة ، فالحق دائما وسط بين الأفكار ، و لو كان الفكر الغربي ينقصه خط روحي يدعمه و يزيده عمقا فالعقل الشرقي يحتاج لعقل!

علي يقبل ماري الإنسانة النيبلة و العقلية الرائعة ، أما عن اختلاف الدين فالله بيع بكونه الجميع ، و من يؤمن بالله عليه أن يستوعب قلبه الجميع

أما عن سؤالك عن فشل الاسلام السياسي في تجنب التطرف ، فالسبب يا عزيزي أن وجودهم ذاته تطرف ، دخول الدين في السياسة كلاعب رئيسي بحد ذاته فهم خاطيء لدور الدين و دور السياسة معا ، و عندما يعتقد أحد أنه يقود الناس للجنة بحق الهي لا يكون لديه مانع ان يقتل القلة الكافرة التي تريد حرمان الناس من الجنة ، اليس كذلك؟

تحياتي و تقديري و شكري