انهيار برج بابل- 18-19-20

(18)
الرسالة

...
يقف أمام المرآة ليهذب شاربه بعد حلاقة ذقنه صباح يوم المناقشة مع الأساتذة المنتدبين، "جون بلوز" من معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر، "ريتشارد هيس" من قسم الدراسات الإسلامية بأكسفورد، فضلاً عن "إريك ماجنوم" أستاذه المشرف من شيفلد والمتخصص في تاريخ الشرق الأوسط بين القرن الأول الميلادي والحروب الصليبية، كان "علي" يغني في الحمام أغنية ارتبطت عنده منذ الطفولة بالاختبارات المهمة واللحظات الفارقة، أغنية صاحبت مناقشة "طه حسين" لإجازة السوربون في مسلسل الأيام في الثمانينات، وتقول كلماتها "اليوم ده يومك يا طه .. و لا شيء سواك راح يفيدك" .. انتهى من شاربه سريعا وارتدى البدلة الرسمية رمادية اللون مع رابطة عنق داكنة الحمرة بها خطوط رمادية وبيضاء مائلة، ثم وضع شعار شيفلد الذهبي في عروة الجاكت، وبعد رشات من عطره المفضل نظر لنفسه في مرآة غرفته راضيا، فحمل حقيبة الأوراق والحقيبة التي وضع بها الرداء الأسود والقبعة الأكاديمية وانطلق للجامعة
قاعة المناقشة هادئة وخافتة الأضواء لتتيح أفضل رؤية لشاشة العرض الالكترونية، "علي" خلف بوديوم كلاسيكي من خشب الماهوجني، مرتديا رداء الحرير الأسود والقبعة، لمسات كلاسيكية كانت شيفلد تتمسك بها حتى ذلك الوقت، قرأ في سره الآيات الكريمة من سورة "طه" بتمهل بينما الأساتذة يجلسون على طاولة الشرف مقابله: "رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي*وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي*وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي*يَفْقَهُواْ قَوْلِي"، ثم أشار له مشرفه بالبداية، فبدأ بالديباجة الأكاديمية والشكر المعتاد ثم ضغط على جهاز التحكم ليعرض أول لوحاته، والتي احتوت على أربعة صور، أعلى الشاشة لليسار صورة زيتية للإمبراطور "قسطنطين" المقدس، راعي المسيحية الأكبر كما يذكره التاريخ، أسفلها صورة لقداس داخل كنيسة وفيه قسس وشمامسة بزيهم التقليدي، أما الجانب الأيمن فأعلاه رسم زيتي لمعاوية ابن أبي سفيان، وأسفله صورة لدراويش يرقصون في حلقة ذكر، بدأ التعليق بإنجليزية بريطانية اللكنة قائلاً: قد تبدو اللوحة لأول وهلة بعيدة عن صلب الرسالة، لكنني أرى علاقة مباشرة بينهما، فالسادة في النصف الأعلى من اللوحة هم من تمكنوا في حالة الدينين المسيحي والإسلامي من السيطرة على الدين الجديد وإفراغه من طبيعته الثورية المنحازة للإنسان والثائرة على الطغيان، ليتحول الدين إلى صورة طقسية أكثر منه مشروع حضاري يغير واقعنا، وهذا ما تعبر عنه الصورتان بأسفل، ونحن لا ننكر بالطبع أن امبراطورياتٍ كبيرة تكونت في الحالتين، فثبتت أركان امبراطورية روما المقدسة وصارت أوروبا تسمى كريستيندوم بفضل عملية "القسطنة" التي أجريت للمسيحية، وتكونت إمبراطورية أموية بفضل عملية "التأميم"[1] التي أجراها بنو "أمية" للإسلام، ولكن ماذا عن البسطاء من ملح الأرض؟ لقد عادوا في الحالتين لحالتهم البائسة، تلك التي أرسل الله رسله ليخرجوهم منها، فقد صودرت ثورية الدينين لصالح رأسالمال!
- ليس جيداً أن تبدأ بالهجوم على الرأسماليين عندما يكون بين هيئة المناقشة أمريكيون يا صديقي
قالها البروفيسور "ريتشارد هيس" ممازحاً فابتسم "علي" وأجاب قائلاً: ربما أغرتني بذلك ثقتي في النزاهة الأكاديمية لصرح مثل أكسفورد، ثقة تنفي أية ريبة في انحياز أيديولوجي مسبق
- رد ذكي، تفضل وعذرا للمقاطعة، أردت فقط إضفاء مسحة من الألفة بيننا جميعا
- شكرا لك سيدي
هكذا رد "علي" ثم استأنف قائلاً: الرسالة كما تفضلتم بقراءتها تحتوي على برولوج عن الإمبراطور "قسطنطين" ودوره في عملية تنميط الكاثوليكية[2]، وتعميق الجانب التراجيدي في شخص المسيح على حساب الجانب الثوري فيه، الجانب الرائع الذي بشر بدنيا جديدة للبسطاء والكادحين والمقهورين، دنيا نلمح فلسفتها الجوهرية في العهد الجديد: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون"[3] .. "وأقول لكم ايضا أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"[4] .. "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم"[5] .. هذا هو ما حرص الإمبراطور على تهميشه في المسيحية، باسطا عليها مظلة النسر الروماني المتعالي على البسطاء والمتحالف مع رأسالمال، فهي الإمبراطورية التي قام اقتصادها على ثلاثة أعمدة: (1) احتلال عسكري يضمن مواردا وغلالا زهيدة التكلفة من المستعمرات البعيدة (2) طبقة أرستقراطية عسكرية وبرلمانية حاكمة (3) وأخيرا عضلات العبيد والفقراء زهيدة الثمن، نظام غير مؤهل للحياة في ظل مسيحية "يسوع" الناصري، وكما استخدمت الألعاب الأوليمبية لإلهاء المساكين حين يشتد الفقر، دعم "قسطنطين" المسيحية بمنظومة طقوس غيبية مفعمة بالأسرار، وقمع الصوت المعارض ممثلا في "آريوس" و"نسطور" وغيرهما، ليتربع الفكر الإمبراطوري على العرش ويصبح هو الدين ذاته وما عداه هرطقة، ونظراً لأن البرولوج ليس من أصول رسالتي، فسأطلب عذركم في النفاذ مباشرة إلى الموضوع المحوري للرسالة
أومأ المناقشون موافقين، فاستأنف قائلاً: جاء الإسلام بمنهج الاستقامة السلوكية على مستوى الفرد، ومنهج الكفاية والعدل على مستوى المجتمع، وطبق المنهجان طوال حياة النبي، ولبثا مطبقين في مجمل الخلافة الراشدة عدا الفتنة، ثم فقدت الخلافة رشدها بعد الراشدين، ولعل تسميتهم بالراشدين تعد دليلا على من جاء بعدهم، فقد أعطاهم العقل الجمعي للمسلمين هذا الاسم تمييزا لهم بعد أن رأوا النموذج فاقد الرشد في الدولة الأموية، حين حدث تأميم الفكر الإسلامي بتغيير البعدين الاجتماعي والاقتصادي فيه، فلنطالع معاً قصة هذه الثورة المضادة منذ بدايتها
...

(19)
التأميم

...
من مكانه خلف البوديوم عرض "علي" لوحة عليها المراحل الخمس الأساسية لأطروحته التاريخية، مرتبة من الأقدم للأحدث، ويظهر أمام كل مرحلة منها عدد من النقاط التي يغطيها البحث، وبدأ حديثه عنها قائلا: أعرض على سيادتكم الآن الطرح التاريخي الذي أقدمه في خمس مراحل أساسية: (1) خلفية المجتمع الجاهلي اجتماعيا واقتصاديا والتغيرات الاجتماعية السابقة للبعثة (2) البنية الاقتصادية والاجتماعية لدولة المدينة المنورة في عهد الرسول (3) البنية الاقتصادية والاجتماعية في عهد "أبي بكر" و"عمر" (4) خلافة "عثمان" والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية (5) تمكين الثورة الأموية المضادة في خلافة "علي" وما بعدها، ونبدأ المرحلة الأولى من الجاهلية، حيث كانت مكة قبل الإسلام مركزا تجاريا ودينيا بالغ الأهمية للجزيرة العربية، وكان من وجوهها "عبد مناف بن قصي بن كلاب" والد كل من "هاشم" جد الرسول، و"عبد شمس" والد "أمية" جد الأمويين[6]، وكانت المنافسة بين الأخوين في حياتهما شديدة والاختلاف بينهما كبيرا، فبينما كان "هاشم" قائدا اجتماعيا بطبيعته، تراضت قريش أن تجمع له رفادة الحجيج وسقايته، كان أخوه "عبد شمس" بعيدا عن سمت القيادة، فهو رجل أعمال لو جاز التعبير، كثير الترحال في التجارة للشام وغيرها لخدمة تطلعاته المادية .. وبعد وفاة "عبد شمس"، استمر ابنه "أمية" في منافسة عمه على السيادة، بنفس منهج الثقل الاقتصادي الذي اتبعه أبوه، وحدث أن اختصما مرة لكاهن من خزاعة ليقضي بينهما في خلاف على عادة عرب الجاهلية، وكانوا يسمون هذا منافرة، فجاء حكم الكاهن على "أمية" بالغرامة والنفي من مكة عشر سنوات، فرحل للشام وتاجر بها عشر سنين، مما رسخ عدائه لهاشم من ناحية، وضاعف ثروته من ناحية[7]، ثم عاد لمكة ليجد أن "هاشما" قد مات، فتستمر المشاحنات بينه وبين "عبد المطلب بن هاشم"، ولكن .. لسوء حظ "أمية" كان حدث كبير في تاريخ المدينة الصحراوية قد وطد زعامة "عبد المطلب"، إذ قام أحد قواد مملكة أكثوم الإثيوبية، واسمه "أبرهة" بحملة ناجحة ضد "ذي نواس" ملك اليمن، واحتل صنعاء كنائب عن ملك أكثوم المسيحي، ثم حنث بيمين ولائه وسمي نفسه ملكاً حوالي عام 525م، وأحبط حملة أكثومية ضده وقتل قائدها[8]، وكان "أبرهة" مسيحيا مخلصا، ومقتنعا تمام الاقتناع أن الرب أعانه في الوصول للملك ليحقق هدفا سامياً، فاهتم بنشر المسيحية في اليمن وجنوب الجزيرة، ثم بنى كاتدرائية في صنعاء، والكاتدرائية باليونانية كما نعرف تدعى إكليسيا، والتي حرفت لتظهر في تاريخ "الطبري" والمراجع العربية باسم "القليس"[9]، قاد "أبرهة" حملة لتوسيع مملكته بضم المناطق الساحلية من الجزيرة العربية ومنها الحجاز حوالي عام 570م[10]، وبعض المصادر – ونحن لا نوافقها – ادعت أن قرشيين دخلا كاتدرائية اليمن وأهاناها بالتبول فيها، فقرر "أبرهة" الانتقام بحملته تلك، ولو أن هذا هو السبب لطالب بتسليمهما إليه حين وصل مكة! كما أن جيشا من أربعين ألف مقاتل لا يجهز لسبب كهذا! ما يهمنا أن "أبرهة" قابل "عبد المطلب" خلال الحملة للنقاش حول إبل لقريش غصبها جيشه، ودار بينهما حوار شهير متداول، ثم نصح "عبد المطلب" قومه بصعود الجبال المحيطة بمكة للاحتماء من بطش الجيش، تاركين الكعبة لحماية رب الكعبة، وقد فشلت الحملة لسبب غير معروف تاريخيا وعاد "أبرهة" لليمن حيث مات بعد وقت قصير، نحن كمسلمون نؤمن وفقا للقرآن بأن الله قهر الحملة بإعجاز إلهي، وما يهمنا في هذا هو تعزيز مكانة "عبد المطلب" كزعيم بدوره القيادي في الأزمة، بينما استمرت الزعامة الاقتصادية لأمية وولده "حرب"، فكونا امبراطورية مالية أموية صغيرة تكرر بسببها موقف الآباء، فحدثت منافرة بين "عبد المطلب" و"حرب"، حين أغرى "حرب" بعض قطاع الطرق بقتل تاجر يهودي كان في جوار "عبد المطلب" بسبب منافسة تجارية في أسواق تهامة، ونلاحظ هنا الأسلوب اللا أخلاقي الذي اتبعه الأموي بتصفية منافس تجاري جسدياً! هكذا كانت امبراطورية الأمويين الاقتصادية تدار، ولابد لنا هنا من التنويه عن قيامها على عدة ركائز: (1) المرابحة في التجارة مع الشام واليمن، فيودع الرجل ماله مع كبار التجار الأمويين ليتجروا به مقابل نصيب من الربح، وهو نفس منطق توظيف الأموال الحديث (2) الربا، بإقراض صغار التجار والصناع، بهدف ضم تجارتهم كغرم للدين لو عجزوا عن السداد، ثم أخذ المدين نفسه أو أولاده كرقيق وفاء لدينه لو لم تكف تجارته (3) الرق الذي وفر اليد العاملة الرخيصة (4) تشغيل الإماء في البغاء لصالح السيد، وكان "أمية" أشهر من عرف منهم بذلك .. وهكذا، تسببت الأساليب اللا أخلاقية للأمويين في عزلهم عن مناصب الشرف والصدارة في مكة برغم الثراء الفاحش، وعلى ذلك يقوم دليلان: (1) مناصب الشرف وهي اللواء والندوة والسقاية والرفادة والحجابة كانت توزع بالتراضي بين العشائر فوزعت على "هاشم" و"عبد الدار" و"عبد العزى" دون "أمية" (2) حلف الفضول تكون من "هاشم" و"أسد" و"عبد العزى" و"تيم" دون "أمية" كذلك، وربما كان استبعادهم من حلف الفضول منطقيا أكثر من انضوائهم فيه، فقد قام هذا الحلف الفاضل اسما ومضمونا لحماية الضعفاء والفقراء من طغيان الأثرياء، وكان هؤلاء الطغاة أمويين في الغالب[11]
توقف "علي" لحظة ريثما شرب جرعة ماء قبل أن يستأنف قائلاً: المرحلة الثانية كانت ظهور الإسلام في بني "هاشم" كضربة قاضية لطموحات الأمويين في التسود على قريش، فضلا عن جوهر الدين المقاوم للاستغلال، والمانع للربا والبغاء، فكان منطقيا أن تقود البرجوازية الأمية حربا ضد الدين الجديد ذي النزعة الاشتراكية، فقاد زعيمهم وقتها "صخر بن حرب بن أمية" وكنيته "أبو سفيان" حملة اضطهاد وتعذيب ضد مسلمي مكة من المستضعفين والأرقاء، لم ينافسه في ذلك إلا "عمرو بن هشام" الملقب بأبي جهل، و"أمية بن خلف"[12]، ثم كانت الهجرة الأولى للحبشة، وكان المنطقي أن يُترَكَ المهاجرون وشأنهم، لكن القلق القرشي على العلاقة التجارية مع الحبشة حال دون ذلك، فنحن نعرف مما سجله "الطبري" أن الحبشة كانت مركزا تجاريا نشطاً بين جزيرة العرب وأفريقيا[13]، لهذا حاول القرشيون السعاية ضد المسلمين لدى النجاشي، فسجل التاريخ سعاية "عمرو بن العاص" الشهيرة[14]، ثم أسلم اثنان من أقطاب الرجال، "حمزة بن عبد المطلب" عم الرسول، والملقب في الجاهلية بصياد الأسود، و"عمر بن الخطاب" فتى بني "عدي" عظيم الهيبة وقوي الشكيمة، فعاد بعض مهاجري الحبشة اعتقادا بتوقف الاضطهاد بعدما أعز الله المسلمين بهما .. هنا لجأت قريش للضغط الاقتصادي والاجتماعي، فيما عرف بحصار المسلمين في شعب "أبي طالب"، وواقع الأمر أن المؤلفات العربية أوردت لفظة "حصار" واتبعتها المراجع الإنجليزية بغير تدقيق لمدى تعبير اللفظ عن حقيقة ما حدث، فما حدث كان معسكر تركيز (Concentration Camp) وليس حصارا، معسكر تركيز للهاشميين والمسلمين في طريق ضيق بين الجبال، أجبروا الهاشميين أن يضربوا خيامهم فيه مع الرسول والمسلمين ثلاث سنوات كاملة، ووضعوا عليهم رقباء يناوب بعضهم بعضا، وساوموا كل تاجر دخل مكة بطعام وزايدوا على المسلمين حتى لا ينفذ إليهم إلا أقل القليل وبأفدح ثمن، مما استنفذ مدخرات الرسول فضلا عن مدخرات عمه وزوجته، والغريب أن قرار قيادات قريش - والأمويون على رأسهم - لم يقتصر على تركيز المسلمين، ولكنه تجاوزهم إلى كل بني "هاشم"[15] مسلمين وغير مسلمين عدا "أبي لهب"، فالأمويون الحاقدون على البيت الهاشمي أقنعوا القبائل بحصار بني "هاشم" لأنهم عصبية "محمد" وأهله، ويجب الضغط عليهم حتى يكفوا عن حمايته أو يهلكوا معه، واستمر هذا حتى نقض القرار القرشي بالمعجزة الشهيرة .. وبعد ذلك .. في مرحلة لاحقة من الصراع، هاجر المسلمون وبعدهم النبي إلى يثرب، ولو كان الصراع أيديولوجيا في الأساس لهدأت حدته بابتعادهم عن مكة، لكن التهديد الاقتصادي أرق قريشا أكثر وأكثر، فوجود قوة متنامية على طريق تجارتهم مع سوريا القديمة كان أكثر مما تحتمله أعصابهم، وقد أمنوا تجارتهم في الماضي بعهود مع يهود يثرب، فكيف يمكنهم معاهدة المسلمين اليوم وقد قتلوا منهم من قتلوا وعذبوا من عذبوا؟ وهنا يبرز اسم ودور "أبي سفيان" من جديد، إذ كان كبير البرجوازيين الأمويين يقود قافلة مكية عائدا من تجارة في الشام، وكان لكل رجل من قريش مال في القافلة قل أو كثر، وعندما توقف للراحة عند بئر بدر قرب المدينة، وجد نوى بلح في فضلات لإبل حول البئر، فاستنتج وجود سرية من المسلمين تحوم حول القافلة لأن أهل يثرب كانوا يستخدمون البلح الرديء كعلف للإبل، فانتهز الفرصة لإلهاب حمية قريش بعد إحجام دام عاما ونصف العام، لم تطاوعه خلالها بطون قريش على الخروج لقتال المسلمين وقد رحلوا عنهم، فالغزوة حدثت في مارس 624م، بينها وبين الهجرة في 20 سبتمبر 622م ثمانية عشر شهراً، أرسل "أبو سفيان" لقريش لنجدته وهو واثق من فزع القوم على أموالهم، بينما وصل هو بالقافلة لمكة سالماً موفوراً، ببساطة لأن أحداً لم يهاجمه، فلم يسبقهم إلى البئر إلا سرية استطلاع عددها أقل من أصابع كف واحدة! وصل جند قريش لبئر بدر وحدثت المواجهة العسكرية الأولى بين دولة النبوة وبينهم، فانتصر المسلمون وقتل العديد من كبار قريش وفيهم أصهار "أبي سفيان"، فجعلت الهزيمة قريشاً أشد ذعرا، لأن تهديد طريق القوافل لم يعد احتمالا بل حقيقة واقعة، ونصر المسلمين لابد سيجعلهم أجرأ على مال قريش لو طالته سيوفهم، لهذا لم يمر العام حتى كان "أبو سفيان" قد استنفر قريش وكون جيشا قوامه ثلاثة آلاف رجل، فيهم ثلاثمائة دارع ومائتي فارس، وهذه قوة ضخمة بمقاييس الزمان والمكان، ثم مضى بهم لأحد في مارس عام 625م، فهزم أولاً وتراجع بجيشه، لكن "خالدا بن الوليد" كرَّ بالتفافته الذكية، فانتصر المكيون على المسلمين، ومن بين كل قريش وقف "أبو سفيان" يفاخر سعيدا ويقول: "يوم بيوم بدر" بينما كانت زوجته تقف في مؤخرة الجيش مع النساء لتحمس الجنود بإلقاء الشعر قائلة "نحن بنات طارق .. نمشي على النمارق .. الدر في المخانق .. والمسك في المفارق .. إن تقبلوا نعانق .. أو تدبروا نفارق .. فراق غير وامق" وكانت سيدة قريش الأولى هذه قد اكترت عبدا ماهرا في الرمي بالحربة ليرشق بها "حمزة بن عبد المطلب"، لأنه قتل أباها وعمها ببدر، ثم مثلت به بعد قتله فأخرجت كبده وعضت عليها بأسنانها فمضغت منها قضمة و ..
لاحظ "علي" امتعاضا على وجه البروفيسور "ماجنوم" مشرف رسالته الاسكتلندي الأصول، فابتسم ثم علق قائلاً: عذرا على المعلومة المثيرة للامتعاض، لم أتمكن من إغفالها لورود العديد من الإشارات في وثائق الرسالة تشير لهند هذه فتقول "آكلة الأكباد"، وفي كل الأحوال، نراها مفارقة طريفة أن تكون قاتلة عم الرسول أماً لخامس الخلفاء وجدة لسادسهم! والآن .. وبعد أن استعرضنا أحداث وقعة أحد .. لعلنا نتفق أن قريشا لو كانت تهدف للثأر من بدر وحسب لوقفت عند هذا الحد، لكن نصر القرشيين في أحد لم يحقق هدفهم، فالدين الذي يهدد التركيبة اليمينية المتطرفة للاقتصاد العربي في الجاهلية مازال قائما طالما بقي الرسول حيا، وكان "صخر بن حرب" الشهير بأبي سفيان يرى في "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب" مقابله الموضوعي في صراع الأجداد القديم، ونجاة الرسول كانت تعني عنده استمرار الخطر الهاشمي على التجارة الأموية للشام، لهذا أخذ يعد لضربة تكون القاضية، فراسل "حيي بن أخطب" من يهود المدينة، ثم أجرى محادثات مع قادة "غطفان" و"سليم"، وهي عشائر كانت ظروفها ومصادر ثروتها مشابهة لحال بني أمية، وكون من هذا التكتل محورا متكاملا، فتحرك من مكة على رأس أربعة آلاف مقاتل، ولقيته غطفان وسليم عند المدينة بستة آلاف فاكتملت عشراً، ثم حدثت الوقائع التي لا خلاف عليها تاريخيا، وفشلت الحملة التي أعدها وعاد لمكة، وكان واضحا من الزيادة المطردة لأعداد المسلمين أن هذا الخطر وجد ليستمر! ومر عام دون أن يدبر "أبو سفيان" معركة جديدة، وأنى له أن يوفر قوة كالتي كانت معه في غزوة الأحزاب؟ وهنا كان الوقت قد حان ليأخذ المسلمون بزمام المبادرة في الصراع، فقرر الرسول العمرة، واتجه لمكة فنزل بألف وخمسمائة من المسلمين عند الحديبية، ثم انتدب "عثمان بن عفان" ليفاوض المكيين على السماح للمسلمين بالعمرة، ونحسب أن قرابة "عثمان" لأبي سفيان زعيم قريش كانت ضمن أسباب ندبه، وحدثت التداعيات المعروفة من صلح ثم نقض لللصلح من قبل حلفاء قريش، وما أعقبه من فتح مكة عام 629م، وقد أسلم "أبو سفيان" عشية الفتح، ثم أسلمت زوجته وابناه وابن عمه "أبو أسد" و"عبد الله بن سعد بن أبي سرح"[16] وغيرهم من بني أمية بعد الفتح، في تغير مفاجيء للمواقف! وهؤلاء هم من عرفوا في التاريخ الإسلامي باسم طلقاء الفتح، ولا يحق لأحد أن يحكم على عقيدة هؤلاء بالطبع، غير أن المؤرخ ينبغي ألا يغفل أثر الإسلام عليهم، فقد أفقدهم أبهة الأرستقراطية وفرص الربح السهل، وهو بعد هذا شرف حازه خصومهم التاريخيون، كذلك كان انتقالهم لمعسكر الإسلام في اللحظة الأخيرة، ومع انهيار المعسكر المضاد تماما، لذلك ليس مستغربا أن نجد في سيرة "ابن هشام"[17] إشارات لجنوحهم لمجتمعهم الأول، فيقول واصفا غزوة حنين "فلما انهزم الناس، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن فقال "أبو سفيان" لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته" وهو خبر متواتر في العديد من مصادر التاريخ الإسلامي فضلا عن "ابن هشام"[18]، ونلاحظ أن المسلمين في حنين تمتعوا للمرة الأولى بتفوق عددي، لكنهم قاتلوا لأول مرة كذلك بجيش غير متجانس العقيدة والصلابة، وكانت النتيجة تضعضعا خطرا وخسائر كبيرة رغم تحقق النصر في النهاية، وكذلك عن موقعة اليرموك، روى "عبد الله بن الزبير" فقال "كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا أقاتل، فلما اقتتل الناس نظرت إلى ناس على تل لا يقاتلون، فركبت وذهبت إليهم وإذا "أبو سفيان بن حرب" ومشيخة قريش من مسلمي الفتح، فرأوني حدثا فلم يتقوني، فجعلوا والله إذا مالت المسلمون وركبتهم الروم يقولون: إيه بني الأصفر، فإذا مالت الروم وركبتهم المسلمون قالوا: ويح بني الأصفر، فلما هزم الله الروم أخبرت أبي، فضحك وقال: قاتلهم الله أبوا إلا ضغنا، لنحن خير لهم من الروم"[19]، علينا أن نتذكر أن اليرموك وقعت عام 636م بعد أربعة أعوام من وفاة الرسول، فلم يكن الرجل حديث عهد بالإسلام حينها بكل تأكيد، ولعل من الطريف أن يظهر لاحقا في العصر الأموي كتبة يدعون أن "أبا سفيان" كان مجاهدا فذا وقاتل في حنين حتى فقد إحدى عينيه، ثم قاتل في اليرموك ففقد الأخرى، صدفة عجيبة أن يفقد مقاتل عينيه في غزوتين متتاليتين! وواقع الأمر أن واضع الخبر أراد أن ينفي الخبرين السابقين عن حنين واليرموك، فاستغل أن "أبا سفيان" كف بصره في أواخر أيامه بحكم الشيخوخة كما نعرف من المصادر الأخرى، فألف هذه الأسطورة البطولية عنه تقربا وتزلفا للخلفاء من أحفاده! وبذكر اليرموك نكون قد ولجنا للمرحلة الثالثة، وهي مرحلة الراشدين "أبي بكر" ثم "عمر"، ولنا أن نعرف أن "أبا سفيان" قد استهل عهد الراشدين استهلالا جانبه التوفيق فيه، فقد لاحظ الداهية غياب الإمام "علي" عن بيعة "الصديق"، فزاره في بيته وكان عمه "العباس" عنده، فقال لهما "إيه بني هاشم! غلبكم على هذا الأمر أهون بيت في قريش؟ يا ابن عمي، أبسط يدك أبايعك، فوالله لأملأنها عليهم خيلا ورجالا"[20] .. رفض "علي" ورد عليه بقوله "والله ما أردت بهذا خيرا" فما كانت رغبته إلا اشعال التناحر على السلطة بين بني "هاشم" والسابقين من الصحابة مثل الصديق والفاروق ليفيد من ذلك الأمويون في نهاية المطاف، لكنه اختار الشخص الخطأ، فليس "علي" من يمكن إقناعه بتأليب فتنة بين المسلمين أو بمعاداة الشيخين، لم يكن من أهل الدنيا ليبكي عليها!
لكن ولده "معاوية" على كل حال، حقق على المدى البعيد ما لم يحققه أبوه، متخذا لنفسه منهجا ذكيا، حرص فيه على تجنب العداوات وائتلاف الرجال، وكان أحفظ للسانه من أبيه، فضلا عن مهاراته الإدارية والقيادية التي مكنته من إمارة الشام في عهد "عمر بن الخطاب" و"عثمان"، حتى قام بوثبته الذكية على السلطة في أحداث الفتنة الكبرى، فحقق السيادة والسلطة وأعاد المجتمع الطبقي الذي يعتلي الأمويون سنم الثروة والسطوة فيه
...

(20)
البدايـــــة

حين وصلت أفكار "علي" في جلسته بالشرفة لخلافة الراشدين، تذكر أمرا، وتعجب من نفسه .. كيف فاته ذلك؟ كيف لم يفكر في هذا من قبل؟ أخذت الصور تتدافع أمام عينيه بسرعة جعلته يضع رأسه بين كفيه، هناك تفصيلة بغاية الأهمية لم ينتبه لها قبل الآن، كانت هناك نقطة معينة خلال بحثه للدكتوراة بدأت بعدها الأحلام، بدأت بحلم رآه مرة واحدة، نساه بعدها لأنه لم يتكرر، حاول أن يتذكر التفاصيل، فشعر بحاجة ملحة لفنجان قهوة مع سيجارة، أف لعادة التدخين الغبية هذه، كم يكرهها ويكره تشوش أفكاره عند الحد منها، فلطالما كانت مشكلته مع ذاته هي ذاته! هذه الذات المتمكنة منه تماما، ولكن من قال أن قوة الإرادة تبرز في تحكمنا في ذاتنا أولا؟ لقد عرف نفسه دوما قوي الإرادة في معترك الحياة، يستفزه التحدي فتنطلق طاقاته لدرجة يتعجب هو منها أحيانا، لكنه على النقيض تماما مع ذاته ذاته كثيرة الطلبات ومتكررة الشكاوى، فهو لا يتحمل الألم أو أية أعراض مرضية ولو للحظات، لهذا يستهلك تلالا من المسكنات، ويدخن بلا انقطاع ثم يستهلك أنهارا من طوارد المخاط ليخلص صدره من عادم الدخان الذي يتراكم فوقه، وكل هذا فضلا عن مضادات الحموضة، فهي ضرورية لتهدئة معدته المحتجة على صب كل ما سبق فوق رأسها! قد يقتله كل هذا بفشل كلوي أو كبدي يوما، يدرك هذا تماما، لكنه حين يمنع عن ذاته الهلوكة ما يريحها تمنع عنه رحيقها، تمنع عنه أي طيف لإبداع أو لحظة من جلاء الفكر، يدخن خمسين سيجارة يوميا، وحين يحاول تقليل التدخين المميت تعتل دماغه وتناوره ذاته، فلا يكتب سطرا واحدا يرضى عنه، ذات حرون عنيدة! لكن المرأة عنيدة كذلك، لماذا تحاول المرأة دوما أن تفرض حمايتها على الرجل؟ لماذا تتوهم كل امرأة تدخل حياة رجل أن حياته كومة أنقاض؟ وأن العناية الإلهية بعثتها لإعادة انشائه من جديد؟ فتتصرف ولسان حالها يقول: سيكون الكون جنة لو أن هؤلاء الحمقى من الرجال فعلوا ما نريد! لماذا تفرض عليه "ماري" ترشيد التدخين من خمسين سيجارة يوميا لخمسة فقط؟ لقد استغلت الحبيبة الماكرة وعكته الطارئة لتثأر من تدخينه الشره، هي ذاتها تدخن ولكنها لا تتجاوز سيجارتين أو ثلاثة يوميا، وقد تنقطع أياما فلا تدخن أبداً، قالت له مرة وهما في يوركشاير: شيئان يبدآن بحرف (S) سيقتلانك يوما
كانت تشير للتدخين والحلوى (Smoking and Sweets) فأجابها ممازحا: دعيني أتم معلومتك، ثلاثة أشياء تبدأ بحرف (S) أرحب بأن تقتلني، التدخين والحلوى و.. وخمني أنت الثالثة
ابتسم وهو يتذكر كيف أجابته يومها بلكزة خفيفة في كتفه وقالت: ولد شقي .. لكن شقاوته لفظية فقط، أما في لحظة الحقيقة فكلي ثقة أن طيف أجداده سيظهر له كما ظهر برهان الرب ليوسف، كانت أمي حكيمة يوم قالت: لا خير يرجى من رجل يؤمن بالسماء حتى في الحب!
- أظنها عممت إحباطاتها الخاصة بعض الشيء!
هكذا أجاب يومها مداعبا، فضحكا سويا، شعر بشوق لرؤيتها، فقام ودخل إلى الصالة فوقف بجوار مائدة السفرة، يتأمل المستشرقة الإنجليزية وهي تتراقص كفراشة في المطبخ مع أوانيها والمغرفة بيدها، بينما تستمع للموسيقى من سماعات على أذنيها، جميلة ورشيقة كحلم من أحلام الربيع، كانت تقطع جبلا من شرائح الخيار والطماطم، وهو لا يحب عادة سلطة الخضروات، غير أن لسلاطة "ماري" مذاق آخر، حاولت "عزة" تقليدها وأخذت من "ماري" قائمة الإضافات، ثم صنعتها له فلم يستسغها، يومها علقت "عزة" قائلة: السر ليس في السلطة والخضرة يا ابن أمي، لكنه في الوجه الحسن
والحق ما قالته، فهي "ماري" الفريدة بين النساء ونسيج وحدها بين البشر، خفة ظل بغير تفاهة، ثقافة بغير حذلقة، دلال بغير ابتذال، جمال بغير تيه، رقة بغير اصطناع، وقامة فارهة كالنخيل، هكذا فكر "علي" قبل أن تقفز لرأسه أبيات "نزار قباني": "من يا ترى اخترع القصيدة والنبيذ وخصر مايا؟ .. مايا لها نهدان شيطانان همهما مخالفة الوصايا .. الشمس تشرق دائما من ظهر مايا" فهل من مجنون عميق وصريح غير "نزار" يكتب قصيدة في امرأة تحت الدش؟ .. هكذا فكر "علي"، وحين شعر بجموح أفكاره استدار عائدا للشرفة قبل أن تشطح الأفكار وتسوء العواقب .. وهنا جاءه صوت "ماري" من خلفه وفيه رنة ضاحكة: الحمد لله أن التلصص انتهى قبل أن يقبل "عزازيل" فيصدق فينا حديث الخلوة!
الماكرة الإنجليزية كانت تراقب وقفته بحدسها الأنثوي وهي توليه ظهرها، استدار واتجه نحوها وهو يقول: التلصص يكون على الحمامات أو غرف النوم وليس على المطابخ!
- ليس بالضرورة، قرأت ذات مرة عن جاذبية المرأة في المطبخ، لأن الرجل لا ينسى أحلام مراهقته التي كانت الخادمة هي بطلتها في أغلب الأحوال!
- لم يكن في بيتنا خادمات، بل مربية من قريتنا، وعلى كل حال أنا مريض بالقلب، ويمكن تصنيفي تحت بند غير ذوي الإربة في النساء
- كف عن هذا الكلام أرجوك، قلبك بخير وكل ما تحتاجه هو تعديل نمط حياتك
- على ذكر نمط الحياة، هلا شاركتني تمشية سريعة على البحر؟
قالها بمكر طفولي فأجابته: علي إتمام الطعام، وحذائي الرياضي ليس معي، فلتذهب أنت، المشي سيفيد دورتك الدموية
- لن أتأخر إذا، ساعة على الأكثر
- بلا تدخين
طمأنها على ذلك فوخزه ضميره وهو يستدير متجها لغرفة نومه ليبدل ملابسه، فهو يكذب ويترك المرأة الرائعة التي أتت لترعاه حتى يدخن ويفكر بحرية، فاعتذارها كان ما خطط له في اللحظات الماضية، يعلم أنها لا تحب شمس الظهيرة ولا تحب ترك عمل قبل أن تتمه، ولم يكن أمامه غير تلك الكذبة التي يحب أن يراها بيضاء ليتابع الفكرة التي خطرت له، يؤنبه ضميره لأنها وافقت بهذه البراءة العذبة، ولولا أنه يحتاج بالفعل لهذه الدقائق بدون قيود لتراجع فورا، لماذا نشعر بالندم حين نكذب على من يصدقنا؟ حمد الله لأنها لم تطلب وعده بخصوص الدخان، كان هذا سيفوق احتماله وينهار معترفا بالمؤامرة كلها
هكذا حدثت "علي" نفسه أو الأنا بلغة علم النفس، فأجابتها الأنا العليا[21] بحدة قائلة: كف عن هذا، أنت تحاول التفكير في أن ضميرك يؤنبك كذريعة أخلاقية لكذبتك، وكأن مجرد تأنيب الضمير على الخطأ يجعلك تحتفظ باحترامك لنفسك، هذا خطأ يا عزيزي، ومن الأفضل أن تتذكر أنه خطأ ترتكبه بسبب ذاتك العنيدة السخيفة، ولا شيء يعفيك من إثم الخطأ والكذب وخداع تلك الرائعة التي تركت حياتها لترعاك في مرضك، وهنا عادت الأنا تتحدث متغافلة عن تعليق الأنا العليا، جيدا جدا أنه ترك اللابتوب في سيارته بأسفل، كان من الصعب أن يجد طريقة ليخرج به وقد ادعى أنه يعتزم المشي على البحر، ارتدى ملابسه الرياضية ثم ألقى التحية على "ماري" وهو يمر أمام المطبخ نحو باب الشقة، هبط سلالم الأدوار الأربعة بهدوء نوعي احتراما لفترة نقاهة قلبه، وتمهيدا لتلقي هذا القلب المسكين جرعات من النيكوتين يقولون أنها ترهقه كثيرا، كم تتغير الحقائق عبر الزمن، في الستينات قام طبيب سويسري ببحث ادعى فيه أن النيكوتين والكافيين معا ينشطان عضلة القلب! واليوم فهمنا أنه لم يكن تنشيطا ولطنه إرهاق وتسارع مرضي في النبض .. عندما تجاوز باب البناية القديمة وعبر الشارع نحو محطة الترام، ندت منه التفاتة نحو شرفة شقته، كمراهق يتأكد أن والدته لا تراقبه من الشرفة، وعندما أقبل الترام الأزرق قفز في أول عربة أمامه، ثم تراجع حين لاحظ نظرات النسوة بالداخل والتي فهم منها فورا أنها عربة السيدات، متى سيتعلم النظر على جدار العربة الخارجي قبل الركوب ليتأكد أنها ليست عربة سيدات؟ حين صعد إلى العربة التالية كانت هناك العديد من المقاعد الخالية، لكنه فضل الوقوف .. في الماضي لم يكن غريبا أن يستقل أستاذ جامعي تراما، أما اليوم فيجد البعض هذا التصرف غريبا في زمن قسمت فيه الأفعال ليس لحلال وحرام، أو لائق وغير لائق، أو أخلاقي وغير أخلاقي، ولكن إلى "ستايل" و"بيئة"! مفهومان من مستحدثات عصر ما بعد الانفتاح لم يفهمهما أبداً، فهو "علي" حين يركب الترام وهو"علي" حين يستقل تاكسيا و"علي" حين يقود سيارته .. من نافذة الترام تابع المرئيات التي ألفتها عيناه بين بيته ومحطة الرمل، فلاحظ تغييرا في محل لملابس السيدات، تغير لمحل ملابس محجبات ومنقبات، حتى اسمه تغير ليصبح: المنتقبة! طالع اللوحة التي تحمل الإسم الجديد بعجب وهز رأسه، يعرف صاحب المحل، مغامر مشهور بغزواته النسائية في المجتمع السكندري، حتى قيل أنه فتح محل ملابس السيدات لمزاجه الخاص، ترى هل تغير كل هذا فجأة؟ يتذكر أبياتا لشاعر يدعى "شريف المنياوي"، يقول فيها "يعرف يزمر لكل العهود .. ويمسك كمنجة ويلعب بعود .. ولو مصر دي يحكموها اليهود .. هيصبح يهودي .. وممكن حاخام"
بعد لحظات كان الترام يمر أمام محطة "إبراهيم" باشا التي تغير اسمها الرسمي ليصبح "القائد إبراهيم"، لا بأس بحذف الألقاب التي تلت أسماء باشوات كثيرين، لكن مع نابليون الشرق العظيم كان يجب أن نضيف لألقابه لا أن ننتقص منها، خاصة في زمن ينتحل فيه أي ضباط شرطة حديث التخرج هذا اللقب، طيب الله ثراك يا قائدنا المظفر، يا فارسا دك الدرعية ومعها الوهابية في مهدها، "جنات مكان إبراهيم باشا"[22]، ترى ما رأي الوهابيين فيه؟ لابد أن له عندهم لقباً آخر غير نابليون الشرق .. آه .. ما أثقل أن يمضي الإنسان في الحياة محملا بخبرات الماضي! لماذا أدمن منذ صغره أن يبحث في أصل كل الأشياء وكل الأسماء؟ طار من الفرح يوم أهداه والده نسخة قديمة من الموسوعة البريطانية، اشتراها له مستعملة من شارع النبي دانيال هنا في الإسكندرية خلال إجازة الصيف، هكذا كان يفكر حين توقف الترام في محطة الرمل، وفي المسافة التي قطعها سيرا على قدميه من المحطة، وحتى استقر على طاولته الأثيرة في مقهى "تريانون"، كان سابح الذهن مع "إبراهيم" باشا ونهروانه الثانية
...