عصر الانحطاط الثاني
من نظرة عملية بدأ الاضمحلال الثاني مع حكم الملكة "سوبك-نفرو"، والذي دام ثلاث سنوات عاطلة من الإنجازات، فرغم أن أغلب المراجع التاريخية تربط نهاية حكمها وليس بدايته بالانحطاط الثاني، إلا أن دروس التاريخ تعلمنا أن توقف الإنجازات والنماء والبناء هو طليعة الانحطاط.
زادت الفوضى مع حكم الأسرة الثالثة عشرة ضعيفة النفوذ، واستمرت مع الأسرة الرابعة عشرة، فتكرر غزو الهكسوس لمصر، واستقر لهم حكم الدلتا، وتكررت مشاهد الانحطاط الأول وامتدت حتى تجاوزت قرنين من الزمان، حكمت فيها أسرتان من الهكسوس هما الخامسة عشرة والسادسة عشرة.
الفجر الجنوبي من جديد
من حكام طيبة تأسست الأسرة السابعة عشرة التي شكلت البيت الحاكم المصري في ظل احتلال الهكسوس للدلتا، وتزايدت قوتها حتى قاد حاكم طيبة "سكنن-رع-تاو" حملة قوية ضد الهكسوس واستشهد فيها، فخلفه ولده "كا-موس" في قيادة الجيش ولحق بوالده شهيدا، ليخرج ولده الثاني "أحمس" من الجنوب طاردا الهكسوس في الملحمة الشهيرة للتحرير المصري، وتبدأ المملكة الحديثة من تاريخ مصر الفرعونية، وفيها حكم مصر أعظم فراعنة وسعوا سلطتها وأمنوا حدودها، في عصر عرف بمصر الإمبراطورية، ومن طيبة قلب الجنوب حكم فراعنة عظام بحجم "آمون-حتب الأول"، "تحتمس الثالث" ، "حتشبسوت" ، و"رمسيس الثاني" . ودام المجد لأكثر من خمسة قرون قبل أن ندخل في ثالث عصور الانحطاط. وأطولها على الإطلاق!
أطول عصور الانحطاط
انتهى حكم الأسرة العشرين من الدولة الحديثة والمعروف بحقبة الرعامسة بفرعون ضعيف هو "رمسيس الحادي عشر"، ودخلت مصر عصر الانحطاط الثالث حوالي عام 1050 ق.م.، حين حكمت المؤسسة الدينية من كهنة آمون الجنوب من طيبة، وعلى رأسها الأميرات حاملات لقب "زوجة الرب آمون" ، وحكم الفرعون الدلتا، وكان هذا هو الخلط الأول في مصر القديمة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، حيث اعتاد الفراعنة منذ عهد "أحمس" وضع أحد سيدات البيت الملكي على قمة المؤسسة الدينية، حتى يتحكموا فيها، ولكن بمرور الوقت، ولوجود حق إلهي للأميرات في الحكم بفضل الدم الملكي، بدأت المؤسسة الدينية بقيادتهن تظهر ولاء متناقصا للسلطة المركزية، حتى صارت أشبه بسلطة مستقلة في عصر الاضمحلال الثالث هذا. واستعانت المؤسسة الدينية على هذا الاستقلال بشبه تحالف مع حكام النوبة جنوب الشلال الثالث. وخضعت مصر في مطلع الانحطاط الثالث لسلطة غير مباشرة للآشوريين.
والسواد الأعظم من المؤرخين يعتبرون انفصال "بسماتيك الأول" عن الدولة الآشورية في عام 656 ق.م. هو نهاية هذا الاضمحلال، وبهذا يكون امتداده لقرابة الأربعة قرون فقط، لكننا نرى أن هذا العصر امتد حتى الدولة الطولونية في العصر العباسي المتأخر، فلماذا؟
استبدل "بسماتيك الأول" نفوذ الآشوريين بنفوذ جديد لليديين ، كما استعان في جيشه بكبار ضباط من المرتزقة اليونان، وأقطعهم أراض واسعة في مصر، وبهذا وحد "بسماتيك الأول" المملكة وحقق استقرارا نوعيا دام بعده حتى حكم حفيدة "بسماتيك الثالث"، أي لأكثر من المائة عام، لكن الاستقرار هنا كان على حساب استقلال مصر وحريتها، وكانت نتيجة طبيعية لتلك التبعية أن تسقط مصر كثمرة ناضجة في يد الفرس إثر موقعة بيلوسيوم في عهد ذلك الحفيد. فالدول التابعة لقوى خارجية تكون هشة ومفرغة من الداخل بطبيعتها، ذلك أن التبعية والحس الوطني والترابط والتماسك في الجبهة الداخلية أضداد لا تجتمع، وحالنا اليوم خير دليل.
من هذا التاريخ، 1050 ق.م.، وحتى اعتلى الضابط المغامر أحمد بن طولون سدة الحكم في مصر في القرن التاسع الميلادي، أي لأكثر من ألفي عام، كافح الشعب المصري كفاحا اتصل حينا وانقطع حينا، وشهد لحظات مجد تاريخية لا ريب فيها، لكن تلك اللحظات كانت فلاشات في ليل طويل بهيم، لا يمكننا أن نجد بينها عصر استقلال إرادة وطنية كامل، أو مشروع حضاري نهضوي شامل وممتد.
حاول ملوك الحقبة المتأخرة من تاريخ مصر القديمة التمرد على النفوذ الفارسي، وحقق بعضهم نجاحات لكنها كانت عادة بدعم من اليونان والاسبرطيين، ثم صارت مصر قطرا من أقطار الامبراطورية الهيلينية التي أسسها الإسكندر الأكبر، وورثها عنه البطالمة، ثم قنصها الرومان. وهكذا صار تاريخنا مسلسلا من التبعيات لقوى وشعوب خارج حدود مصر.
النظام العالمي القديم والنزح الاقتصادي
كما تحكمت الولايات المتحدة وحليفتها الأصغر المملكة المتحدة في مقدرات العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى اليوم، وزادت سطوة قبضتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد حكمت روما القديمة العالم تحت شعار السلام الروماني (باكسا رومانا)، ونزحت ثروات شعوبه، وزعم الرومان أنهم بهذا يحققون رخاء البشر بضمان السلام والاستقرار والأمن عبر الأراضي الخاضعة للنسر الروماني. وكغيرها من الأقطار بدأت سياسة النزح الاقتصادي المنظم لمصر، والتي لم تنته إلا في نهاية العصر العباسي لفترات متقطعة، تخللها عودة للنزح كل حين.
فرض الرومان الضرائب المالية والعينية على الغلال والمحاصيل والبهائم بنسب باهظة وعشوائية، وغير مرتبطة بفيضان النيل طبعا، حتى جاع المصريون بينما سفن النسر الروماني تعبر بالغلال من الإسكندرية لروما في العهد الروماني الأول ثم للقسطنطينية في عهد الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية). واستمر الحال على ما هو عليه رغم تحول الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطورية مقدسة إثر تبني قيصر قسطنطين للمسيحية، عقيدة الرحمة والسماحة والحب، لم تقل الجباية حبة قمح واحدة، فلو كان يسوع الناصري عليه السلام قال بأن دخول الجمل من سم الخياط أصعب من دخول الغني لملكوت الرب، فقد قال كذلك "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وفسرها بولس الرسول على هوى قيصره، والذي كان يرى أن ما لقيصر هو ببساطة كل شيء يريده قيصر! وقد ركزت كتب التاريخ المدرسية كما أذكر دوما على اضطهاد المصريين الأقباط الأرثوذكس على يد الرومان الملكانيين، والحقيقة أن القاريء المدقق لتاريخ مصر الذي سجله الآباء الأقباط يرى المعاناة الاقتصادية أفدح بكثير من الاضطهاد المذهبي.
ثم انتصر العرب بقيادة عمرو بن العاص على الرومان وأخرجوهم من مصر، فصارت تابعة لدولة الخلافة العربية في عهد عمر بن الخطاب، ثم للامبراطوريتين الأموية فالعباسية. فهل تغيرت الصورة كثيرا مع انتقال مصر لقبضة العرب بعد الروم ؟ ربما اختفى الاضطهاد المذهبي وقتيا مع الفتح العربي، لكن النزح الاقتصادي لمصر استمر قطعا، بل زاد تحت حكم ولاة مثل "عبد الله بن أبي سرح"، والذي زاد الجباية ليتمكن من توسيع فتوحه في أفريقيا، بينما كان ولاة معتدلون مثل "عمرو بن العاص" يجبون وفقا لمنسوب النيل وبنسب معقولة لا تقصم ظهور المصريين.