15.11.08

انهيار برج بابل- 37

(37)
دماء في جبل قاسيون

السبت، الثاني و العشرون من سبتمبر
انطلق الزوجان بعد الظهر ليبدأ برنامج اليوم، كانت ليلتهما السابقة حافلة، فقد حضرا حفلا ساهرا للفن الشعبي السوري، عزفت فيه موشحات من ألحان "صبري مدلل" وغيرها من ضروب الطرب الشامي الذي تساعده انسيابية اللهجة على النفاذ للقلوب، فلهجات بلاد الشام التاريخي على اختلافها ذات سحر خاص وموسيقى ظاهرة، ما عدا بعض مناطق شرق الأردن وطرابلس في لبنان، لهذا قامت "ماري" غير المعتادة على السهر للصباح من نومها على صداع عنيف احتاج لقرص من مسكن قوي حتى يرحل عن رأسها الرقيق، وبعد الفطور الشامي انطلقا بسيارة الجر الرباعي التي استأجراها نحو جبل قاسيون الشهير، والذي وصل تمدد دمشق إلى سفوحه، كانت "ماري" تحتفظ برخصة قيادة دولية، ففضلا إيجار سيارة تظل معهما طوال اليوم، مستعينين بخرائط المدينة التي حصلا عليها من الفندق، فحتى لو زار "علي" مدينة ألف مرة، فمن الصعب الوثوق بذاكرته فيما يخص الطرق والشوارع والاتجاهات، كانت تعرف هذا جيدا، في الطريق أخبرته بأن اسم الجبل هو صيغة الجمع من لفظة "قاسي" في الآرامية، خلافا للعربية التي يجمع فيها بلفظة قساة، فليس في الآرامية جمع تكسير .. وصلا عند سفح قاسيون من جهته الشرقية، لتبدأ جولتهما في معالمه بمسجد الأربعين ومغارة الدم الشهيرة داخله، والتي تقول الأسطورة أن "قابيل" قتل أخاه "هابيل" فيها، وبها حجر أحمر ترجع الأسطورة حمرته لدم ابن "آدم" الشهيد! ومحرابان ينسب أحدهما للخليل إبراهيم والآخر للخضر عليهما السلام! كانت "ماري" ترتدي جينزا أزرق وفوقه قميص سماوي طويل الأكمام، فأخرجت من حقيبة يدها ايشاربا أبيض غطت به شعرها، فقد تحسبت لزيارة عدة مساجد في برنامج رحلة اليوم، وهي لا تفضل إيجار العباءات التي تنتقل من جسد إلى جسد كما فعلت في المسجد الأموي
سألته بينما يصعدان السلالم الحجرية نحو المغارة: وفقا للكتيب السياحي معي، فمغارة الدم هي أقدم معالم الجبل، أليس كذلك؟
- الله أعلم
- معقول "علي" لا يعرف؟ ماذا أصابك يا عراب التاريخ؟
- "علي" في جبل قاسيون كأي تلميذ في الصف الأول الابتدائي، ليس متأكدا من أي شيء! فقاسيون مزار أسطوري وليس تاريخيا، وأنا لست متخصصا في الميثولوجيا
- لست مقتنعا بالطبع بمسرح جريمة قتل "هابيل"؟
- مقتنع فقط أن كرات الدم الحمراء يتحول لونها خارج الجسم للسواد بعد بضعة أيام، ومقتنع أن وجود مسرح لجريمة حدثت منذ مائتي ألف عام مستحيل
عندما دخلا المغارة الأسطورية، كان أول ما بحثت عنه عيناها هو فم الجبل، والذي قيل أنه فتحه هلعا على "هابيل" يوم قتل، فبقي مفتوحا، فقد بالغ الكتيب في وصف التكوين الصخري بأنه مطابق تشريحيا للفم واللسان والأسنان والبلعوم! كأنه من نحت فنان عبقري! لكنها ما أن رأته حتى أحبطت تماما، فقد كان نتوء صخريا يمثل اللسان، فوقه قوس صخري يمثل الفك الأعلى المفترض لفم الجبل! مشهد قد تراه في الصخور في أي مكان فلا تنتبه إليه، لهذا علقت قائلة: فعلا نحت لفنان عبقري، فقط نسي كاتب الكتيب أن يقول أنه فنان عبقري عمره ثلاث سنوات!
ضحك "علي" لتعليقها وهو يشير للحجر الذي تقول اللوحة أنه كان الأداة التي قتل بها الأخ أخاه، وعلق قائلاً: وهذا الحجر الملون بأوكسيد النحاس، من المنتظر أن نصدق أنه ملون بدم "هابيل"
سارا جنبا لجنب يراقبان سقف المغارة ليعثرا على آثار كف جبريل ولفظ الجلالة، فالأسطورة تقول أن الجبل كاد يتداعي يوما بينما نبي الله "إلياس" قد آوى للمغارة هربا من حاكم ظالم، فهبط جبريل عليه السلام ودعم السقف بكفه، وتركت أصابعه أثرها في الصخور! وقفا جنبا لجنب أسفل التكوين الطبيعي الذي يفترض أنه بصمات حجرية، وبجواره ما يقال عنه لفظ الجلالة، مرة ثانية لا هذا شكل كف ولا ذاك لفظ الجلالة! فعلق "علي" قائلا: كأن أي خطوط متوازية تصبح أصابعا لكف! ولو أنكرت هذا الخرف أمام البعض سيجفل منك كأنك تقولين كفرا! رغم أن هذه الأساطير هي عين الضلال وسوء الأدب مع الله
- الضلال مفهوم، فما سوء الأدب؟
- حين نعتقد أن المغارة كادت تقع فوق رأس نبي، فأرسل الله الروح الأمين حامل الرسالات ليسندها فنحن نعتقد ضمنا أنها كادت تتداعى من باب الخطأ! وليس بمشيئة الله، وأن كن فيكون لا تسندها وتقيمها! فاحتاجت لكف الملك! فتلك إساءة أدب مع الله، لا تناسب الإيمان بطلاقة قدرته وإحكام الكون وما يحدث فيه
- سيدعون أن الهدف من الحدث بيان القدرة الإلهية
- القدرة الإلهية ظاهرة في رسوخ الجبل لا في تداعيه
- لكن الناس يحتاجون المعجزة لكسر رتابة الحياة اليومية، واستعادة دهشة الطفولة ولو للحظات، ولهذا كانت المغارة مزارا مقدسا حتى من قبل الأديان السماوية[1]
صعدا بعد ذلك لصحن المسجد المقام فوق المغارة لرؤية الأربعين محرابا التي تحتل جداره الأيمن و ينسب المسجد إليها، وتقول الأسطورة أنها محاريب للأبدال الأربعين، وهم من جاء في الأخبار أنهم من أولياء الله الصالحين وعددهم أربعون رجلا، كلما مات واحد منهم أبدل الله به غيره! وحين سألته "ماري" عما يراه في أمرهم، رفع كتفيه وهو يجيب: من قال لا أعلم فقد أفتى
لاحظ في تعليقها عندما كانا في المغارة أن المادية العتيدة تشتاق لدهشة الطفولة، فلم يرد أن يفسد عليها الجو المؤسطر لجبل قاسيون بمزيد من التفنيد المنطقي، وأوله أن مسجد الأربعين لا يتسع لصف من أربعين رجلا لو اصطفوا كتفا لكتف في جماعة
اتجه الزوجان بعد ذلك لجامع "ابن عربي" على سفح الجبل جهة الصالحية، والذي شيد على الطراز العثماني، الابن الشرعي للعمارة المملوكية بعد زواجها من العمارة البيزنطية على ضفاف البوسفور، وأسفل المسجد توجد غرفة الأضرحة وفيها ضريح شيخ الصوفية "محيي الدين بن عربي" وضريحان آخران لولديه، فضلا عن ضريح فارغ، كان للأمير "عبد القادر الجزائري"[2]، قبل أن تسترد الجزائر وديعتها بعد الاستقلال، فيحمل جثمانه لوطنه عام 1965م، كانت هذه هي الزيارة الأولى لعلي لمسجد ابن عربي كما هي لزوجته، فالتصوف وأئمة الصوفية لم يحتلا مرتبة متقدمة في اهتماماته إلا في السنوات الأخيرة .. أراد أن يداعب رغبتها الطارئة في سماع الأساطير، فحكى لها حكاية يرددها الناس عن خادم لابن عربي مات بعد مولاه، وحين اعتزم الناس دفنه في مكان بعيد عن ضريح "ابن عربي" طار نعش الخادم الوفي حاملا جثمانه ليستقر بجوار شيخه، علقت على حكايته قائلة: اليوم بحق يوم الأساطير؟
- اليوم خمرٌ .. وغدا أمر
هكذا قال مشيرا لسفرهما غدا للعراق، حتى الآن لا تكاد "ماري" تستوعب فكرة السفر للعراق في هذه الظروف، وإن كان التحدي الأكاديمي قد قضى على رفضها بضربة قاضية بمجرد سماعها عن مخطوطات من القرون الهجرية الأولى، أجابته بإجابة بعيدة عن شأن سفرهما في الغد قائلة: وهل تعتبر الأساطير خمرا؟
- مؤكد، ففي كل منهما خدر لذيذ أول الأمر لكن الإفراط في أي منهما يودي بالعقل
- وفيم تختلف الأساطير في هذا عن الغيبيات الدينية؟
لطالما تقبل الشك في الدين وحاور المشككين والمنكرين بصدر رحب، لطنه حين يسمع منها ما يوحي بعمق شكوكها يشعر بوخزة في قلبه، فقد اعتبرها مسيحية متشككة منذ كانا في المملكة المتحدة، ربما ليبقي على أمله في الزواج منها ككتابية، لهذا كان قلبه يخفق كلما سمع منها ما يوحي بغلبة الشك على اليقين في ضميرها، وحين أخبرته بحلمها بالمسيح وموافقتها على الزواج طار فرحا بالأمرين معا، فزيارة المسيح تلك حلت عقدة وعدها لأمها وعقدة تصنيفها دينيا، لكن عليه أن يتقبل مراودة الشك لليقين في كل حال، فهذا حال كل من أوغل في الشك يوما، ولا يعني هذا أنها منكرة، فهو يعلم أنها ترى الله في الكون بضميرها وإن لم تدركه بعقلها، تجاهل كل هذا وأجابها قائلاً: الغيب لله، والأساطير للبشر
مالت برأسها وقطبت حاجبيها مستوضحة وهي تنتظر المزيد، فتابع حديثه وهما خارجان من المسجد قائلاً: الغيبيات تمنحنا اضاءات إيمانية، تدور حول الخلق وهدفه ومآل الكون ونهاية الإنسان في هذا العالم، وكلها أمور خارجة تماما عن منظومة حياتنا البشرية، أما الأساطير فدنيوية جدا، تجدينها دوما مقترنة بشخص أو بمذهب أو فرقة وما إلى ذلك، وهدفها جمع العوام حول ذلك الشخص الذي تنسب إليه الكرامات والمعجزات حيا أو ميتا، أو ضم الأتباع لهذا المذهب أو ذاك من خلال تبهير تراثه المكتوب والشفوي بفيض من المعجزات الحادثة على يدي أقطابه، لإظهار تأييد الله لهم وأنهم الفرقة الناجية، وأحيانا تخترع الأساطير لهدف اقتصادي بحت هو في الغالب جذب التبرعات والنذور، والأمثلة كثيرة، منها موضوع الأبدال الأربعين هؤلاء والأحاديث المتهافته الإسناد التي تروى حولهم وتنسب للرسول عليه الصلاة والسلام، فدلالة هذه الأسطورة سياسية، وهي أن أهل الشام فيهم الأبدال، وعلى ذلك فمعاوية وجيش الشام هم الفئة الناجية في الفتنة الكبرى
- وبقية الميثولوجيا الصوفية كالنقباء والأوتاد والغوث[3]، هل كانت تهدف لجذب الأتباع كذلك ؟
- الصوفية بدأت فلسفة إسلامية، واشتق اسمها نفسه من لفظ الحكمة اللاتيني الذي اشتق منه اسم الفلسفة "صوفي"، وتأثرت بأفكار فلاسفة اليونان من جهة وبالميثولوجيا الهندية من جهة ثانية، فظهرت فيها مفاهيم مثل وحدة الوجود والغيب المطلق والحقيقة المحمدية[4] وغيرها، ثم دخلها عنصر الدروشة وانتشرت تحت مظلتها الدعوات الباطنية، وأقل الأساطير هي المنسوبة لمتصوفة بحجم "ابن عربي" و"ابن الفارض" و"الحلاج"، أما أكثرها فمنسوبة لمن يسمون الأولياء، مثل "الدسوقي" و"البدوي" وغيرهما، فالولاية بمفهومها المنتشر بين العوام هي التي قامت على التجارة بمشاعر البسطاء، وليس التصوف
عاد الزوجان للسيارة ليعودا لدمشق، وفي أثناء رحلة العودة بالسيارة، ألقى "علي" نظرة أخيرة على جبل قاسيون، وطالت نظرته كأنها نظرة وداع وهو يقول بصوت مسموع: دمشق بلد يحبنا ونحبه

2 comments:

كلاكيت تانى وتانى said...

لم ارغب حقيقة ان اطلب منك كقارئة لكتاباتك ان ترسل لى دعوة لمتابعة باقى القصة فقد كان بداخلى شعور بأنك تحاول الانتهاء منها سريعا فتتابع الاحداث وجمالها والتعليقات كل ذلك كان يشعرنى بالملل مع الرغبة فى متابعتها دون توقف فالاحداث غنية والانتظار يفقد الرواية متعة القراءة ويجعل التوقع والتوقع البديل اشياء مرهقة لنا كقراء
خيرا فعلت ومبروك وعقبال النشر برغم اننى كنت اتوقع ايضا انة بمجرد الانتهاء منها ستغلقها كمدونة تمهيدا لنشرها
ولكن step by step
الف مبروك وتمنياتى بنهايات اكثر سعادة ععند نشر وجع الدماغ
الف مبروك يا دوك
لأتمتع بالقراءة الان والتعليق المستفيض فيما بعد
تحياتى

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي كلاكيت
انتهيت لتوي أمس من اضافة بعض الكلمات هنا و هناك
يبقى حوالي عشرة فصول على النهاية
تحياتي و تقديري
و بارك الله فيك و لك
ان شاء الله عقبال كتابك ثم كتب الأولاد