15.11.08

انهيار برج بابل- 38


(38)
يوم الظلمات

الأحد، الثالث والعشرون من سبتمبر
بعد منتصف ليلة السبت، الثاني والعشرين من سبتمبر، أقلعت من مطار دمشق الدولي طائرة خطوط الزوراء العراقية من طراز يوشن-18 روسية الصنع، متجهة نحو كردستان العراق، حاملة على متنها خليطا متباينا من مختلف الجنسيات والأعراق، كان هناك عراقيون يتحدثون اللغة الكردية، وآخرون يتحدثون العربية بلهجة جنوب العراق، واثنان في نهاية الطائرة تسمع منهما السريانية، فضلا عن عدد من المواطنين السوريين بدو كمجموعة واحدة في مهمة، وفي الصف الثالث من صفوف الطائرة متوسطة الحجم جلس "علي" على الكرسي الخارجي جهة الممر وإلى جواره زوجته، كلاهما ممدد ومغمض العينين في هذه الرحلة الليلية، نامت "ماري" ورقدت فوق ساقيها رواية بوليسية، من نوع خفيف سلس تفضله في السفر لتزجية الوقت مع عدم إرهاق العقل، وإلى يسارها جلس "علي" مغمض العينين، مستيقظا كما هو ظاهر من تمتمة شفتيه بغير صوت كعادته إذا اندمج مع أغنية يطرب لها، إذ كانت سماعات جهازه الصوتي في أذنيه، وصوت "أم كلثوم" يتدفق بقوة في وجدانه وهي تشدو: "بغداد يا قلعة الأسـود .. يا كعبة المجد والخلود .. يا جبهة الشمس للوجود" .. اختلجت عيناه لذكر قلعة الأسود التي يزورها اليوم محتلة، إنها زيارته الثانية للعراق تحت القتام، ومازال عقله منذ أقلعت الطائرة يسترجع كل حلقات المأساة منذ عام 1991م وحتى اليوم، إذ نجحت أمريكا في التسعينات ثم في الألفية الثالثة فيما فشلت فيه في الستينات، يوم حاولت توريط العراق في غزو الكويت عام 1961م، تحت حكم "عبد الكريم القاسم" الداعم لسياسة الأحلاف، فطالبت العراق يومها بضم الكويت رسميا وبدأت حشود عراقية تتحرك صوب الحدود الكويتية، ونشطت معها أساطيل أمريكية في المتوسط لتكون على مقربة من الأحداث تماما كما حدث في 1991م، لكن في الستينات كان للوطن العربي قائد ذو رؤية نافذة ونفوذ قومي، فمنع الكارثة قبل وقوعها، تدخل "جمال عبد الناصر" بثقل زعامته الشخصية وثقل مصر الذي كان إقليميا فحسم الأمر، مثنيا "القاسم" عن عزمه الأخرق ثم مسقطا نظامه الموالي للإمبريالية العالمية بيد الشعب العراقي نفسه، تدخل "عبد الناصر" لأنه كان يرى بعين القائد كل الكوارث التي حدثت فيما بعد منذ غزو الكويت وحتى اليوم، وأولها تواجد عسكري أمريكي مباشر في خضم النفط العربي من الخليج للعراق
هكذا حدث نفسه وهو يخرج من حقيبته السوداء الصغيرة علبة لبان النيكوتين، يتذكر تعليق "ماري" على هذه العلبة فينظر لوجهها الحالم المستلقي بجواره في وداعة طفلة، فهو يذكر أنها قالت له حين ابتاعها: لا أحب هذه العلبة، تجعلني أراك ضعيفا متلهفا على جرعة من عقار
- التدخين هو الرفاهية الوحيدة التي سمحت لنفسي بها
- ليس رفاهية بل لعنة، ثم لماذا تمنع نفسك من الرفاهية، وأين يتبخر دخلك من الجامعة ومن إرثك وعائد بيع كتبك ومقالاتك؟
نظر إليها يومها مبتسما، ثم أطرق بوجهه نحو الأرض، واضطر أن يلمح لها عن الحقيقة حتى لا تظن به الظنون، فقال بتورية ظاهرة المعنى: من ملك الله في ملك الله
فهمت ما يعنيه يومها، فربتت على كفه بحنان، فقد كان المناضل الاشتراكي حريصا على تطبيق أفكاره على نفسه بأقل تقدير، تذكر "علي" ذاك الحوار وهو يمضغ لبان النيكوتين ليهدأ الصداع برأسه، ذلك الصداع السخيف الناجم عن سحب النيكوتين من خلاياه، ثم داعب أزرار جهازه ليبدل النشيد الوطني بموسيقى هادئة تناسب الاسترخاء وتمدد في كرسيه، ومرت دقائق بطيئة سمع فيها نبض قلبه المنتظم، حتى شعر بثقل في جفنيه، فرحب بالكرى لقتل الوقت، لكن النوم لم يقتل الوقت وحسب!
...
أرى عسكرا فيه الراكب والراجل، يتقدمه فارس في وجهه شبه بمالك الأشتر، أكاد أقسم أنه "ابراهيم بن مالك" دون غيره، فعدا وجه أبيه وبسطة بنيانه، ورث الولد من والده هيبة تجلله في غير كبر، وأرى بجواره راجلا يأخذ بمقود فرسه ويجد السعي بخطوات حثيثات، توحي ملابسه بتقشف زاهد، لكن اتقاد عينيه يوحي بذكاء السياسي، يمر بي الركب فأسير قرب الرجلين، وأسمع الفارس يدعو الراجل لركوب فرس أو العودة، فيجيبه الراجل بعبارة مميزة: "أحبُّ أن تَغْبَرَّ قدمايَ ساعة في نصرة آل محمّد"[1]
إذن فالراكب هو بحق "إبراهيم بن مالك" والراجل بجواره هو "المختار بن أبي عبيد"[2]، الثائر الذي أنصف آل بيت النبي مضطلعا بثأرهم، هكذا تخيلتك دائما يا "مختار"، هكذا رأيتك بعين خيالي كلما قرأت عنك .. ليث حزين، كانت حركتك ثورة للحق والحقيقة، وغضبة على الجور والبهتان، فكافأتك الأقلام المؤلفة جيوبها بالنكران حينا وبالتشويه أحيانا! زعموا أنك ادعيت النبوة ودعوك بالكذاب! وزعموا أنك قمت طمعا في حكم الكوفة، وافتروا عليك أنك من السبئية! والله عليم بالقلوب رغم ما يفترون، ويذكر الزمان لو نسوا يوم فجع المسلمون بقتل سبط النبي وآله في الطَّف، وكنت أنت يا ربيب حجر "علي بن أبي طالب" سجينا في الكوفة، سجنك "عبيد الله بن زياد" مع من سجن من الموالين للحسين ليمنعكم من الخروج لنصرته، وأتاك في سجنك نعي "الحسين"، فزلزل النبأ المشئوم قلبك، وقهرك الغبن حتى النخاع، ويذكر الدهر لو نسي البشر قسمك ألا تهنأ بعيش حتى تنهض بثأر السبط المغدور، وتخرج من محبسك بوساطة صهرك "عبد الله بن عمر"، فتقيم في مدينة النبي ترتقب الفرصة لتبر بالقسم، لكن قدر الله كان أعجل "ليزيد بن معاوية" من ثأرك، فمات ورفض ابنه "معاوية" الثاني ولاية عهده واعتلاء كرسي خلافة جاءه ملوثا بدم آل البيت[3]، واستقل "عبد الله بن الزبير" بالحجاز والعراق، وولى على الكوفة "عبد الله بن مطيع"، فخرجت يا "مختار" إلى أصحابك وثقاتك فيها، ووافقته في ذلك يا "ابراهيم بن مالك"، طلاب ثأر لا طلاب حكم، فعزمتما على القيام لثأر الحسين، بعد أن أخفقت ثورة التوابين[4] في النهوض به، وفي تلك الليلة الحالكة من عام 687م، صحت الكوفة من نومها على الثوار يحملون المشاعل ويجرون في شوارعها يدعون الناس بدعوة الحق، هادرين بشعار ثورة "المختار" الذي رحبت به القلوب: يالثارات الحسين .. يالثارات الحسين، وتمكن الثوار من الكوفة وغلبوا حاميتها، وقامت دولتك يا "مختار" فيها، وأنصفت الموالي من من الفرس والترك وغيرهم من الجور الأموي الذي ميز العربي على الأعجمي بنعرة قومية، فاتبعك الموالي من العجم والمهمشون من العرب، وخرجت من قاعدة الكوفة لتبر بالقسم الكريم، فقتلت "شمر بن ذي الجوشن" الذي ضرب عنق سيد الشهداء، وقتلت "أبجر بن كعب" الذي كشف ستر السيدة "زينب" في كربلاء وشرم أذنها ليسلب قرطها، وكذلك ذبحت "إسحاق بن حوية" الذي سلب قميص "الحسين" بعد موته، وهأنذا أراك و"ابراهيم" على رأس جيش جيشته للنيل من "عبيد الله بن زياد" فأمكنكم الله منه بفضله فأرديتموه
...
تتغير صورة الراكب فوق الفرس، فأرى "المختار" معتليا جوادا وهو في زي من جلد مدبوغ غير ما كان عليه منذ قليل، لا يبدو في معركة، فليس في يده سيف ولا رمح، لكن أمامه جمهرة من الرجال كأنهم تكالبوا على رجل وسطهم، والرجل يصرخ طالبا الرحمة، ثم يندفع من وسط هذه الجمهرة والنيران تشتعل في ثيابه، يكاد قلبي ينخلع من صراخه المحموم، ثم تصل لأنفي الرائحة الخانقة لاحتراق جلد بشري، فأشعر بانقباض يعصر معدتي، وتجتاحني رغبة في القيء، لابد أنه "حرملة بن كاهل"، الرجل الذي أحرق قلب "الحسين" على فلذة كبده "عبد الله" الرضيع الذي لم يبلغ العام، فرماه بسهم وهو على ذراع أبيه في كربلاء[5]
...
تهبط على عيني غشاوة سوداء، بل هو الليل قد أرخى على الصحراء سدوله، أرى على بعد خطوات مني جماعة من الرجال تحلقوا حول نار، وحين أقف على بعد خطوات منهم، أرى وسطهم وجها وضيئا أعرفه بسيماه، النبل والكرامة والجلد وقد تجسدت تمشي على الأرض، هو سبط رسول الله، وخيط دمه في الأرض، "الحسين بن علي" سيد الشهداء، فلابد أنها تلك الجلسة في صحراء كربلاء ليلة المأساة الكبرى، ليلة الطف وما جرى فيها، ويالهول ما جرى فيها! هو اجتماع السبعين رجلا من آل "الحسين بن علي" على ظمئهم ليلة المعركة، بعد أن منع عنهم جيش "عبيد الله بن زياد" الماء، أقترب فأجلس على مرمى حصاة من الجلسة المباركة، لم يسمع وقع أقدامي على الحصى أحد ولا رآني أحد، لقد اعتدت هذا على كل حال، يصلني صوت سيد الشهداء رخيما مطمئنا، كأنه لا يوقن أن موعده مع جيش البغي هو الغد، وأنه مقتول فيه لا محالة، فأسمعه يقول "لا أعلم أصحاباً أوفى من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراً، إني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري"[6]
- ولم نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً
قالها صوتٌ فيه فتوة وحزم، أنظر لصاحبه الجالس على يمين "الحسين" فأرى رجلا فارع القامة، جميل الوجه، يعتم بعمامة خضراء فيها ريشتان، هو قمر بني هاشم إذن، "العباس بن علي بن أبي طالب"، أخو "الحسين" لأبيه من زوجته أم البنين، الفارس الملقب بساقي العطاشى، من اقتحم الماء مع عشرين رجلا يوم الطف، فسقى "الحسين" ثم حمل قربة من ماء ليسقي آل البيت، لكن جيش البغي تكالب عليه حتى قطعوا كفيه وضربوا رأسه ضربة ألحقته بركب الشهداء
أرى "الحسين" يطرق قليلا ثم ينظر لنفر من الرجال أمامه ويقول: يا بني "عقيل بن أبي طالب"، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم
فيخرج من بينهم صوت يقول: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك
أي معدن من البشر أنتم يا بني هاشم؟ أي عترة مباركة يا بني عبد المطلب؟ أي نسل من أسود الشرى يا بني أبي طالب؟ .. وهاهو "الحسين" السبط يقترح خطة المواجهة المريرة فيقول "فإن شئتم فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فاحفروا حولنا وخيام أهلنا خندقا، فإذا كان الغد أشعلنا فيه نارا فلا يحيطوا بنا، ونحن بضعة وسبعون رجلا وهم فوق الأربعة آلاف، وما أحسب خندقنا هذا يدفع عنا الموت حتى غروب الشمس غدا، لكن علينا الجد في قتال الباغين لو قاتلونا، حتى نهلك دون الحق ولم نقصر فيه"
هكذا قال الإمام "الحسين بن علي"، صاحب أشرف ثورات الأرض، ثورة ضد البغي والظلم الذي طال، فقد خالف "معاوية" عهده لأخيه "الحسن"، وكانا قد اتفقا في عام الجماعة أن يلي "معاوية" الخلافة، فإذا مات عاد الأمر شورى بين المسلمين، يولوا أمرهم من أرادوا، لكن "معاوية" أطمعه موت "الحسن" –وقيل أنه هو نفسه من دس له السم - فأخذ البيعة لولده "يزيد" حيا، وأصحاب رسول الله بعد على وجه الأرض يمشون! ويتألمون من هذا الواقع الغريب الكئيب، حين يلي من كان كيزيد منصبا تولاه الراشدون الأربعة ويجلس مجلسهم، حتى ندم بعض من اعتزل الفتنة منهم وقال: "ليتني نصرت عليا على الفئة الباغية" .. ثم أصبح "يزيد" خليفة، فأيقن "الحسين" أن الغمة الأموية التي حلت بالأمة بعنصريتها ومظالمها لن تنزاح بغير القوة، فلا عهد لهم ولا ميثاق، فكان خياره الثوري أن يستجيب لأهل الكوفة، فيخرج إليهم بأهله ثائرا، يحسب أن عرب الكوفة اليوم كعرب يثرب أمس، أنصارا للعدل والحق ينصرونه كما نصر أهل مدينة النور جده المصطفى، ولم يعلم أن قلوبهم معه، لكن سيوفهم مع "عبيد الله بن زياد"، والي "يزيد" المخلص الذي هددهم حين علم بخروج "الحسين"، فخافوا سيفه وطمعوا في خزائنه إلا نفرا قليلا، فاعتصم ببيته منهم من اعتصم، والتحق بالجند الأموي من التحق طمعا في صلة أو منصب يصيبه بسفك دم آل محمد!
...
ظلام للمرة الثانية، لكنه ظلام دامس ليس به شبح من ضياء هذه المرة، يتناهي إلي صوت الحسين هادئا، ينساب في أذني كماء في غدير، فأسمع سبط النبي يقول " اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعُدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، شكوته إليك، رغبة مني إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت ولّي كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة"
ياللظلام، يالصولة البغي في الأرض وجولته، أهكذا يفعل بالحسين؟ أهذا ما وعيناه من قول الله في كتابه العزيز "قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ"[7] أهذه مودتنا لآل بيت نبينا بعرضهم على السيف والتكاثر عليهم في عزلتهم ووحدتهم؟
صوت الحسين يتردد ثانية، هادرا كالبحر هذه المرة كأنه يخطب في جمع، يقتحمني صوته من كل الجهات، يقول "فانظروا .. هل يصلحُ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيِّكم، وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين لرسول الله بما جاء من عند ربّه؟ أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أوليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمّي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي، هذان سيدا شباب أهل الجنّة؟ أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟"
لا أسمع جوابا من جيش البغي الذي صاح فيه "الحسين" بهذه الكلمات الموجعات صباح المعركة، كأنه يخاطب الريح التي تصفر في خلفية صوته، فلا مجيب له غيرها! ثم أسمعه يسمي قوما بأسمائهم فيقول: يا "شبث بن ربعي"، يا "حجّار بن أبجر"، يا "قيس بن الأشعث"، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثِّمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جندٍ لك مجنّدة؟
ولا جواب غير عصف الريح، لكن .. ما هذا الظلام الدامس؟ ما أسمعه هو ما ورد في الآثار على أنه خطاب "الحسين" في العسكر الأموي صباح كربلاء، في وضح النهار، فمابال الظلام يحيط بي بلا نهاية؟ أسمع صليل سيوف وصهيل خيل وحمحمتها وهي تهلك، لكنني لا أرى قتالا، لا شيء غير الظلمة الحالكة! وأسمع صوت السبط النبوي يقول لصحبه "يا كرام، هذه الجنة فُتحت أبوابها واتصلت أنهارها وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتطلعون لمقدمكم، ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذبوا عن حرم رسول الله"
- نجعل القلوب فوق الدروع وندفع عنهن بصدورنا يا ابن بنت رسول الله
هذه الصيحة كانت عند الظهر، حين رفض جند "ابن سمية" أن يمهلوا سبط النبي للصلاة، واشتطوا في القتال، فسقط من عسكره القليل أكثره، حتى لم يبق حوله إلا خاصة أهله وولده، ما بال هذا الظلام لا ينقشع؟ أهو رحمة من ربي حتى لا أرى وقعة البغي؟ لا .. الله نور السماوات والأرض، والظلمات غياب النور، فهذا ظلام القلوب التي فارق نور الله حناياها لتحتلها ظلمات الطمع والجزع! الطمع في مال "يزيد" وسلطانه، والجزع من كلبه "ابن زياد" الذي سلطه على من خالفه
أسمع صيحة حسينية ملتاعة تتقطع لها نياط القلوب، سبط الرسول يصرخ قائلا "واولداه"
يختلج قلبي، لقد سقط "علي بن الحسين" إذن، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما أعظم مصابك ومصاب الأمة فيك يا ابن سيد شباب الفردوس! قتل أشبه الهاشميين بجده المصطفى صلوات الله عليه! فطوبى لك وتعسا لنا أيها الشهيد بن الشهيد بن الشهيد! وهاهو صوت "الحسين" بين قعقعة السيوف كأنه مذبوح بألمه يقول "صبراً على الموت يا بني عمومتي، لا رأيتم هواناً بعد اليوم إن شاء الله"
نعم يا سيد الشهداء، لا هوان بعد يومكم هذا إلا لمن هان على نفسه، فقد بينتم طريق الشرف والكبرياء، ورسمتم بدماكم الزكية خطة العنفوان والإباء، حياة مع الشرف والعزة أو موت يطيب للكرماء، فلو أنكم يا عترة الهادي لم تضنوا بنفوسكم الزكية الطاهرة في سبيل الحق وعلى مذبح الحقيقة، فبأي نفوس نضن نحن بعدكم؟ سبعة عشر رجلا من رهط النبي وخيط دمه تساقطوا زهرة فزهرة، في يوم هو ربيع بني أمية، وخريف المسلمين جميعا! فأي بلاء نخاف بعدك يا كربلاء؟ يصك أذني صوت لم يغادر صباه بعد: يا عماه
إنه "القاسم بن الحسن"، سقط ابن الإمام الذي ترك الخلافة طلبا للسلام وحقن الدماء! أهذا عهد "الحسن" إليكم يا بني أمية؟ أهذا ما صالحكم عليه من أمر المسلمين يعود إليهم؟ فما لبثتم أن خيرتم ولده وشقيقه بين البيعة لسيدكم أو الموت في الصحراء؟ أسمع صوت "الحسين" تعركه بحة شديدة يقول "الآن انكسر ظهري يا عباس"
سقط قمر الهواشم إذن، رحمك الله يا ساقي العطاشى! يا عجبا من نجوم تسقط إذا سقطت نحو السماء، وسيوف ترتفع إذا رفعت للحضيض، يا عجبي من انتصار رهط "الحسين" بموتهم وهزيمتكم بحياتكم يا عبيد الدرهم والدينار! هم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنتم جيف تترمم فوق الأرض لا في بطنها، وهاهو سيد الشهداء ينشد أنشودة الشهادة الكبرى "القتل أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار، بسم الله وعلى ملة رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله"
أراه بعين خيالي واقفا وسط القتام يزود عن حريم البيت النبوي وحيدا، والسهام تتكالب عليه من كل حدب وصوب، ولو وعت السهام ما أصابته، ولو كان لها فؤاد لكانت عليه بردا وسلاما، وأراه يسقط وما في جسده مكان لضربة سيف أو رشقة سهم! فرع النبوة يسقط، نجم يعلو نحو مكانه في سماء الحقيقة ليبقى أبد الدهر! أواه يا سيد الشهداء! يالغربة الحق والعدل بعدك بين الناس يا خيط دم النبي .. قتلك البغي عطشانا في أرضنا يا "حسين بن علي"، فاهنأ بشربة من كأس جدك في الجنان لا تظمأ بعدها أبداً .. أمكنهم منك خوف الجرذان في صدورنا! ووهن العناكب في سواعدنا! وخور المخاط في عزائمنا! نحن من قتلك بسيف البغي يا "حسين" يوم سكتنا عن نصرة الحق، قتلناك ألف ألف مرة في هذه الأرض، قتلناك في كل ثائر وكل مناضل وكل صارخ في برية الحق قبلك وبعدك .. فتبت أيادينا .. تبت أيادينا!
تنقشع الظلمات لأرى سيدة ترفل في ثوب فضفاض .. إنها .. إنها "ماري"! لماذا هنا؟ وكيف؟ وما هذا الثوب؟ أراها ترتدي ثوبا من كتان أبيض وعلى رأسها طرحة بيضاء مسدلة نحو كتفيها! ما أقربك من مريم العذراء على هذه الصورة يا ماريتي؟ أو ما أقربك من .. مريم المجدلية؟ أرى خلفها سماء وسحاب، كأنها تسير في السماء! من هذا الذي يقف أمامها؟ يعترض طريقها السماوي؟ كأنه رجل؟ لكني لا أميز منه شيئا غير ظلام! رجل من ظلال سوداء! تقف أمامه منتصبة القامة شامخة الرأس، ثم ترفع يدها وبها بيضة كبيرة تتوهج بنور أبيض، تضعها في وجه رجل الظلام، يقتحم نورها وجهه الظلامي كأنه يقشعه، ها هي ماريتي تنظر له نظرة حزم وبسالة أعرفها في وجهها وتقول "في اليوم الثالث يقوم من الأموات"

2 comments:

مهرة عربية said...

يا الله ...!!!

لاتزال ذكرى كربلاء وأحداثها تثير فى النفس عميق الأسى والألم القاتل

لا أعلم كيف سيقابل هؤلاء ومعاونيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ...

تحياتى ....ومبروك لمارى....هههههههه

Dr. Eyad Harfoush said...

سيقابلونه كما سيقابله معاوية الخارج عن ولي الأمر الشرعي، و يزيد الآمر بقتل الحسين و بوقعة الحرة التي استبيحت فيها مدينة الرسول، و كما سيلقاه صلوات الله عليه كل من قال أن معاوية و يزيد كانت لهما وجهة نظر مختلفة مع علي و الحسين!

شكرا عزيزتي الله يبارك فيك، برافو للقط الرمزية
تحياتي و تقديري و شكري