9.9.10

حلم بجماليون


وقف المثال العبقري في ساحة بيته ينظر لمكعب الحجر الخام الضخم أمامه، إنه بجماليون الذي لم تعرف أثينا قبله تلك التماثيل التي تكاد تنطق بحيوية ملامحها وسلاسة وضعيتها، كانت عبقريته تغير وجه عاصمة اليونان القديمة، وتخلق في كل فراغ كتلة من الجمال، وقف الفنان يتأمل قطعة الحجر التي اشتراها لتوه بشغف، في الصباح سيبدأ العمل فيها، ليخرج من جوف الحجر ما لم يخرج من رحم النساء، ليصوغ بيديه معبودته ومعشوقته، المرأة الكاملة التي لم توجد في الأرض من قبل، هو نفسه ليس كاملا ولا حتى مثاليا أبدا، يعرف هذا جيدا، لكن المبدع مجبول على حب الجمال والكمال، المثال يريدها كاملة الجسد بلا شية ولا وهن، الموسيقي يريدها لحنا دائما في حياته، الشاعر يريدها رفيعة كمعانيه، جميلة كصوره، ورشيقة كأوزانه، والقاص يريدها أسطورة لا تنتهي، ولا تفقد قدرتها على إثارة الدهشة الطفولية في عينيه والجذل والخفة في قلبه

بجماليون قرر أن يصنع ضالته، سيدعوها جالاتيا، وسيصنعها من هذا الحجر المرمري، جسدا نورانيا، وسينتهي منها قبل عيد آفروديت المقبل، وفي العيد سيبتهل لربة الحب أن تبث فيها الروح فتصير معشوقته امرأة تسعى، وعندها سيتزوجها، ولن يعاني وحدته في أعياد الحب ثانية، ولن يظمأ للحب وفي بيته جالاتيا الساحرة، حبيبة من صنع يديه المبدعتين .. كان يتعجل البدأ في العمل لكن يومه كان مرهقا، لذلك قرر أن ينام ملء جفونه، وفي الصباح يبدأ العمل، وقريبا يلتقي وجهه بوجهها الحبيب، تلك التي سكنت خياله عاما بعد عام، حتى أنه كان يخالها حبيسة بداخل الحجر تناديه ليخرجها، فجالاتيا ليست خيالا، لكنها حقيقة ضلت طريقها، وتحتاج وجدانه كي تجد طريقها ثانية من عالم الظلال لعالم الحقيقة والنور، كانت هذه الأفكار تدور بخلد الفنان والنوم يغشى جفونه

رأى نفسه فيما يرى النائم معها في حديقة غناء، مع جالاتيا التي سكنت أبعد جزر الخيال منذ صباه، لكنها كانت مقطبة الحاجبين ومزمومة الشفتين، كاد يرجوها ألا تفسد ملامحها العزيزة عليه بذلك العبوس القبيح، حين سمعها تقول: ولماذا يتعين علي أن أكون دائما مطابقة لخيالك السقيم؟ أريد أن أكون كما أنا لا كما تريدني
  • خيالي السقيم؟ ولكنك من صنع هذا الخيال
  • كف عن ترديد تلك الأسطورة، لم يخلقني أحد غير الآلهة خلف أوليمب
وأظلم المشهد ثم أضاء ثانية فإذا بهما في غرفته وقد جلس على حافة الفراش واجلس جالاتيا على ركبتيه ليمشط شعرها ويقبل أطرافه بحنان، قطع المشهد صوتها وهي تقول: ألا تمل من هذا أبدا؟ لست دميتك ولم أخلق لآخذ رأسك المكدود في صدري كل مساء حين تحتاج لبعض الحنان، ولا لتمشط شعري كأني فتاة بلهاء حين تلح عليك أبوتك المحرومة
  • ولكن من يكره الحب والحنان؟
قامت من فوق ركبتيه وواجهته واضعة كفيها في جنبيها وهي تقول: وهل تستطيع أنت أن تعيش الحب والحنان طوال اليوم؟ بجماليون العظيم يجب أن يعمل طوال اليوم ليحتفظ بمكانته، حتى يظل الجميع في آثينا مأخوذين بعبقريته الخلاقة ويدبجون له المديح، بجماليون النحات العبقري .. بجماليون الفيلسوف الملهم .. بجماليون الكيميائي الماهر .. بجماليون كل شيء، أما أنا فدمية مخزنة هنا لاحتياجاته العاطفية
  • ومن منعك من الخروج؟ من أن تفعلي كل ما شئت؟ من أن تكون جالاتيا أعظم من بجماليون؟
  • وما الفائدة؟ سأظل دوما منسوبة إليك، جالاتيا بجماليون .. أكره هذا الاسم حتى الموت
  • ولكنك تحبين اسم ناركيس؟ الفتى الأبله الذي يداعب أمومتك باحتياجه الدائم لمن يرعاه ومن ينصحه ومن يوجهه، أليس كذلك؟ اذهبي إليه لو شئت، لكن هذا لن يسقط عنك الاسم الذي تكرهين، جالاتيا بجماليون .. لأنك بعض من خيال بجماليون يسعى على الأرض
  • قلت لك ألف مرة لا تقل لي هذا ولا تردد أسطورتك تلك أمامي
في الصباح بدأ بجماليون العمل في كتلة الحجر الخام، وأخذ يصنع منها تمثالا ضخما لطائر العنقاء الأسطوري يقف على جزع شجرة مقطوعة قاتحا جناحيه، لم يكن ينوي بيعه، فقد عزم على الاحتفاظ به ليذكره بحلمه وبأن فكرة صناعة امرأة فكرة في غاية الحمق، حتى لو كانت امرأة صنعها بيديه وبثت فيها ربة العشق روحها، أبدا لن تثق المرأة المصنوعة في ذاتها بما يكفي لتشعر بنفسها أما للمبدع العبقري، فالأمر يحتاج إلى عبقرية بذاته، والعبقرية لا تصنع ولا تمنح من آفروديت

4 comments:

آخر أيام الخريف said...

جميلة .... !!!!!!!!!!!!!!!

Dr. Eyad Harfoush said...

أشكرك يا عزيزتي، تقبلي تحياتي

Unknown said...

شكرا لبحماليون عشان قدر يفهم ان المراء ليست دميتة التى يتسلى بها وقت ضيقة يارب ناس كتير تفهم

Dr. Eyad Harfoush said...

وربما وجدها دمية كثيرة المشاكل يا صديقتي :) تحياتي وتقديري وشكري