الجوع ظاهرة صحية وجرس تنبيه بيولوجي يدفعك لتأكل ما يقيم أودك، والشعور بالجهل بأمر ما ظاهرة فكرية صحية تدفعك لطلب المعرفة به من مصادرها، فلو خدرت شعورك بالجوع ستتعرض لخطر الهزال، ولو خدرت الشعور بالجهل ستتعرض لخطر الهزال الفكري، وكلامنا هنا عن مخدرات معرفية منتشرة بيننا اليوم، وتنشر الهزال الفكري بيننا بدرجة أظنها غير مسبوقة، لتعدد هذه المخدرات المعرفية وجاذبيتها لكل الفئات، والتي نحاول هنا أن نلقي بعض الضوء عليها، وخطابنا نعني به النشأ والشباب تحديدا، في محاولة للحد
من جوتنبرج للويب
لم يستطع الإنسان أن يورث المعرفة للأجيال القادمة قبل ظهور الكتابة في مصر وسومر عام 3000 قبل الميلاد، لذلك حقق من التطور في مائتي ألف عام قبل الكتابة أقل مما حققه في خمسة آلاف عام بعدها، ومع ذلك كان الكتاب المخطوط سلعة استفزازية لا يطيق ثمنها غير الأمراء والوجهاء، حتى طبعه جوتنبرج فصار في متناول يدي ويدك نحن عامة الناس، وتطورت البشرية في خمسة قرون بعد المطبعة كما لم تتطور في خمسون قرنا قبلها، واليوم جعلت الويب الموسوعة البريطانية وقيمتها مطبوعة ألفي دولار مجانية، ولهذا فحجم القفزة الإنسانية المتوقع في الخمسة أعوام فضلا عن الخمسين عام القادمة مهول، ولكن كيف نستخدمها؟ كيف نقرأ أونلاين حتى لا تتحول الانترنت من وسيلة معرفية لمخدر معرفي؟ لنا في هذا عدة ملاحظات- الاستخدام الأروع للنت هو المكتبات الإلكترونية العملاقة، وبصفة خاصة القابلة للبحث في مراجعها بمحركات بحث خاصة، مكتبة الكونجرس، مشروع جوتنبرج لحفظ التراث الفكري الإنساني، مواقع تفسير القرآن، كلها مصادر عبقرية ولا شك لهذا الغرض
- الانترنت وسيلة ممتازة للوصول لكتاب الكتروني أو بحث وقراءته مجانا، حتى لو كنت مثلي من مدمني الكتب المطبوعة، والتي مازالت لها السيادة عالميا رغم تكلفتها، لكنك أحيانا لن تجد كتابا ما بسهولة في المكتبات وقد تجده أونلاين، لكن عليك أن تحفظ كل ما تقرأ في ملفات على جهازك ولا تتصفحه أونلاين فقط لتتمكن من العودة إليه حين تريد، الحفظ في المفضلة لا يكفي لأنك قد لا تجده متاحا حين تريده بعد عام من الآن أو بعد إعادة تحميل الويندوز
- المنتديات وساحات الحوار والفيسبوك ليست مصادرا لمعلومة تاريخية ولا علمية بحد ذاتها، فلو لفتت نظرك فيها معلومة عليك باقتفاء أثرها والبحث عنها حتى توثقها بمرجعية محترمة يمكنك أن تنسبها إليها، وإلا فلا تعتد بها ولا ترددها لأنك قد تنشر بهذا معلومة مغلوطة وأحيانا مغرضة
- ويكيبيديا بكل اللغات مصدر معقول للمعلومة ولكنها ليست مرجعا بذاتها رغم الضوابط، لأنها موسوعة يحررها الجماهير مثلي ومثلك وفقا لمعايير محددة، فهي مجال جيد للتصفح والمطالعة ولكن ليس للتوثيق ولا للبحث الموضوعي
- عليك التعرف على هوية وتوجهات كل موقع ترتاده بحثا عن معلومة، حتى تتأكد من نزاهة وموضوعية المعلومة محل البحث
لا تقرأني بقلم الآخر أولا
من أكبر الخطايا المعرفية أن تحصل على معلوماتك حول تيار فكري، أو حركة سياسية، أو عقيدة أو مذهب ديني، أو حتى شخصية تاريخية أو معاصرة، من كتب التيار أو الدين أو المذهب المناهض لها، وهو خطأ شائع بيننا، نقرأ أول ما نقرأ عن الناصرية لكاتب إخواني، عن الشيعة لكاتب سني، عن القطبيين لكاتب يساري، عن الماركسية لكاتب يميني، والطبيعي أن تأت هذه القراءات في مرحلة تالية بعد أن نوفي الموضوع حقه من الدراسة من واقع كتابات المفكرين والكتاب والمرخين المنتمين للفكر، فإذا انتهينا من هذا بدأنا في مطالعة الفكر المضاد، لنكون لأنفسنا رأيا راسخا مؤسسا على الطرح والطرح المضاد، على سبيل المثال أن لا أعتبر نفسي ملما بالديانة أو بمعنى أدق الديانات الهندوسية لأنني لم أعثر على كتاب محترم لكاتب هندوسي باللغة العربية أو الإنجليزية، رغم حرصي على مطالعة أديان وعقائد العالم بوجه العمومالدراما والثقافة التاريخية
أن يهتم الناس فجأة بفاروق بعد مسلسلات تدور حول حياته وحياة والدته بشكل خاص أمر طبيعي، لكن أن تتخذ هذه المسلسلات قوة مرجعية في حواراتنا فهذا ليس طبيعيا ولا مقبولا، وبصفة عامة، الأخطاء المعرفية التي رسختها الدراما التليفزيونية والنصوص الأدبية في عقولنا كثيرة جدا، فالروائي علي أحمد باكثير هو من منح السلطان المملوكي سيف الدين قطز اسم محمود، واخترع شخصيات جلنار وسلامة اختراعا، وهو كذلك من أخفى توران شاه من الوجود، وهذا من حقه لأنه روائي وليس مؤرخا، ويوسف شاهين هو من جعل الناصر صلاح الدين رجلا طيبا بلا حدود وهو السياسي الأريب الذي قوض دولة وأنشأ غيرها ووحد مصر وسوريا بهمته وفطنته، وهو كذلك من جعل عيسى العوام مسيحيا ليبرز صفة التسامح الديني فيه، وهذا من حقه لأنه مخرج، وقل مثل هذا في أفلام أيام السادات وناصر 56، ومسلسل شيخ العرب همام آخرها رغم روعة المسلسل دراميا وفكريا، أما أفلام نادية الجندي في التسعينات فقد هلهلت تاريخ مصر لخدمة نزوات ممثلة درجة رابعة. بصفة عامة الدراما والأدب ليسا مصادر تاريخية بحال من الأحوال
No comments:
Post a Comment