في عام 2008 صممت بيدي غلاف ديواني "القلب وسنينه"، واخترت له عناصرا بصرية هي المرأة والقلب وأجندة حائط عليها تاريخ الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970م، تاريخ اليوم الذي ترجل فيه فارس الحلم الجميل والعزم النبيل والكد الطويل، تاريخ رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، فهل كان شذوذا أن أختار تلك الذكرى لديوان تغلب فيه القصائد العاطفية؟ لا أرى ذلك، لعلاقة روحية ربطتني منذ الصبا بالزعيم رحمه الله، بعيدا عن السياسة والزعامة والحياة العامة، فأنا أدين بكثير من نبضات القلب للرجل الذي علمني كيف يصير الرجال رجالا، علمني أن الرجولة قضية ورؤية وإيمان يعبر عن نفسه في كل كلمة وكل موقف للشخص، وأن الرجولة طاقة فعل وقدرة على التغيير للأفضل، وقد تضمن الديوان قصيدتي التي ناجيته بها عشية التعديلات الدستورية بعنوان "قوم يا أبو خالد"، لكن القاريء المدقق سيجد شخصين متواجدين بكثافة في كل قصائد الديوان، أحدهما هو الزعيم رحمه الله، موجود بحضور معان وقيم ارتبطت به وارتبط بها وإن لم يوجد بشخصه واسمه
أنظر حولك
الفكر الناصري حولك في كل مكان عرفت أو لم تعرف، ببساطة لأن أعظم وأجل عقول وأقلام وأصوات الأمة ناصرية الهوى، انظر حولك تجد الشفرة الناصرية في صوت أم كلثوم تغني لمصر الناهضة الشامخة برأسها بين الأمم، كما في صوت فريد وحليم، في أفلام يوسف شاهين من العصفور وعودة الابن الضال للناصر صلاح الدين، في دراما أسامة أنور عكاشة من ليالي الحلمية لأميرة في عابدين، ودراما يسري الجندي في السيرة الهلالية، في الفكر الاستراتيجي لجمال حمدان من شخصية مصر لأوراقه الخاصة، في موسوعات عبد الوهاب المسيري، ودواوين نزار قباني وفؤاد حداد وصلاح جاهين وسعاد الصباح، في تصريحات أحمد زويل عن عصر مصر الذهبي، في قلمي هيكل وأحمد بهاء الدين، أكبر قامتين صحفيتين في تاريخنا، كما في قلم حمدي قنديل وعلاء الأسواني، أشجع الأقلام المعاصرة وأعمقها انخراطا في قضايا الوطن، في شوارع باسم جمال عبد الناصر من دبي للشارقة في الإمارات، لبنغازي وطرابلس في ليبيا، لتونس العاصمة، للجزائر العاصمة، لصنعاء وتعز في اليمن، لبوينس آيرس في الأرجنتين، لمحور جمال عبد الناصر الرابط بين الكويت العاصمة والجاهرة، لشارع جمال عبد الناصر في اللاذقية وحمص وحماة وداريا بريف دمشق، وميادين باسمه من بيروت لعمان، أما في الفكر فناصر يشرق باسمه في عناوين المئات من الكتب التي كتبت فيه وعنه بمختلف اللغات مدحا وقدحا، ويظهر شامخا في طيات الوثائق المخابراتية التي تفرج عنها الولايات المتحدة وبريطانيا دوريا، إذ لم ينج من تلوث اسمه مع الإفراج عنها سوى ثلاثة قادة عرب يأتي عبد الناصر في صدارتهم، فضلا عن شكري القوتلي وهواري بومدين، كل هذه أدلة تنطق بأن الجبال حتى حين تتصدع بأمر ربها .. لا تفنى ولا تموتأنين القوافي وسر عبد الناصر
اختار الأديب اللبناني محمد حور عنوان "بكاء رمز" لكتابه الصادر في 1997م ببيروت، والذي جمع وأشار فيه لعدد بلغ المائة وأربعة عشر قصيدة كتبت لعبد الناصر بعد وفاته، بأقلام سبعة وسبعين شاعرا عربيا من كل الأقطار، وعلى طول حقبة امتدت منذ وفاته في السابع والعشرين من سبتمبر عام 1970م حتى عام صدور الكتاب، وضم الكتاب كل نجوم الشعر الزهر في العالم العربي، فضم قصائدا لكل من فاروق شوشة، جمال بخيت، الهادي آدم، أحمد رامي، صالح جدوت، عبد الوهاب البياتي، نزار قباني، أحمد فؤاد نجم، صلاح جاهين، عبد الرحمن الأبنودي، صلاح عبد الصبور، سعاد الصباح، روحية القليني، فادية طوقان، محمود درويش، أحمد عبد المعطي حجازي، محمد الفيتوري، فؤاد حداد، زكي مراد، محمد إبراهيم أبو سنة، علي الجندي، يوسف صديق (الضابط اليساري االبطل والشريف لذي اختلف مع ناصر حيا ورثاه ميتا برثاء يفيض روعة وتقديرا)، وفاء وجدي، جورج جرداق، محمود حسن إسماعيل، أحمد شفيق كامل، وأخيرا وليس بآخر أمل دنقلتعددت القصائد في الراحل الكبير، وتكررت فيها معاني اللوعة والإكبار والافتقاد والافتقار، لكن هناك أبيات بعينها هنا وهناك عبرت عن حقيقة جمال عبد الناصر، وصورته الراسخة في وجدان الشعب العربي كما لم يعبر غيرها، فكأنها قدمت لنا في مجملها سر عبد الناصر، سر القائد الذي استعصى ذكره على الأيام، وهنا نحاول رصد تلك الأبيات وما عبرت عنه
- كانت للزعيم إنجازاته على الأرض، لكن ما ربط القلوب به لم يكن ما أنجزه ولكن ما حاوله دائما وجد فيه، كان إخلاصه الذي لم يتجاسر إلا موتور على التشكيك فيه هو مفتاحه الأول للقلوب، وعن هذا عبر عمنا صلاح جاهين بقوله: أنظر تلاقى الراية منشورةْ .. متمرغة لكن ما زالت فوق .. بتصارع الريح اللى مسعورةْ، وانظر تلاقى جمال .. رافعها باستبسال .. ونزيف عرق سيال على القورة، وفـْ عنفوان النضال .. وقف الشريط في وضع ثابت
- كان العالم العربي متعطشا لانطلاقة تنفض فيه عروق العزيمة والكبرياء بعد طول الهوان العثماني ثم طغيان الاستعمار الأوروبي، وكان جمال هو رمز الثورة العربية على تاريخ الهوان الحديث وقرون الفقر والجهل والمرض، عبر عن هذا نزار قباني وهو ينادي الوطن العربي بقوله: وأصرخ .. يا أرض الخرافات احبلي .. لعل مسيحا ثانيا سوف يظهر، وكذا وهو يناجيه في قصيدة أخرى ويقول: قتلناك يا جبل الكبرياء
- لم يكن القائد واقعيا حتى الهوان، ولا مترددا حتى الهزيمة، بل كان حالما حتى السماء، وشامخا حتى الكبرياء، وكان الاعتزاز ينتقل من نبرة صوته المنبعث من مذياع القهوة أو مذياع بيت العمدة أو أحد الأعيان لصدور سامعيه، القائد لا يخاطب الجماهير العريضة بلهجة تحمل التشكيك في قدراتهم أو عزائمهم، فهذا يجعلهم أخور عزما وأقصر أملا، عن هذا عبر نزار قباني بقوله: أبا خالد يا قصيدة شعر .. تقال فيخضر منها المدام، إلى أين يا فارس الحلم تمضي؟ وما الشوط حين يموت الجواد؟ إلى أين كل الأساطير ماتت بموتك .. وانتحرت شهرزاد
- كان الزعيم يشبه الرجل المصري من الطبقة الوسطى المثقفة في ملامحه وهيئته وطريقة حديثه ومفرادته، وحتى مظهر زوجته وتصرفاتها، وعن هذا عبر أحمد فؤاد نجم قائلا: وعاش ومات وسطنا .. على طبعنا ثابت .. فجومي من جنسنا .. مالوش مَرَة سابت، إلام كان الفجومي الخطير يلمح بحديثه عن المرة السايبة يا ترى؟
- لم تكن لاءات الخرطوم الثلاثة أول علاقة جمال عبد الناصر بالصمود رغم الصعاب والثبات على المبدأ، فقد كان الصمود جمال حتى في المعاني التي حملتها جنازته، وفي هذا يقول أمل دنقل: والتين والزيتون .. وطور سينين وهذا البلد المحزون .. لقد رأيت في الثامن والعشرين .. من سبتمبر الحزين .. رأيت في هتاف شعبي الجريح .. رأيت خلف الصورة ..وجهك يا منصورة .. وجه لويس التاسع المأسور في يدي صبيح
- أما انحيازه للمهمشين والكادحين والبسطاء فقد تغنت به الجماهير وهي تودعه للضريح وتقول: انت عايش في قلوبنا يا فقير يا ابن الفقير
- أما سعاد الصباح فقد رصدت فيزياء القائد، رصدت ما كان جمال يوحي به في خطوته الواثقة ونبرته المخلصة الصادقة وهي تقول: كان كبيرا كالمسافات .. مضيئا كالمنارات .. جديدا كالنبؤات .. عميق الصوت كالكهان .. وكان في عينيه برق دائم يشبه ما تقوله النيران للنيران
2 comments:
انت ناصرى القلب والقالب
وبصراحة عندك حق
كان فى عهدة فيه مصر
الله يرحمه ويقوينا ع اللى موجود
أشكرك
أنا كذلك فعلا ولكن هذا لا يعميني عن نقد التجربة الناصرية بحب كأحد اولادها المخلصين
تحياتي وتقديري وشكري
Post a Comment