كان "علي" يضع "كاظمي" تحت المرتبة الأسمى بين أصدقائه، ويطلق عليه لقب "رجل من زمن الحب"، فهو عالم فذ ومثقف مستنير، وهو فوق ذلك رجل وضع الله في صدره طاقة حب بلا نهاية، كان "علي" يذكره حين يسمع عن مشاحنات طائفية ببغداد، ويتصور كم يتألم رجل مثله لهذا العنف الأحمق، ويذكره واصفا التطرف والطائفية قائلا "لكل داء دواء يستطب به .. إلا الحماقة أعيت من يداويها"، ومن حسن حظه أن منطقة الأعظمية حيث يسكن عرفت الهدوء النسبي بعد واقعة جسر الأئمة في نهايات 2005م، حين أنقذ ساكنوها من السنة عددا كبيرا من الحجاج الشيعة الذين انهار بهم الجسر، فسقطوا في نهر دجلة، يومها ظهرت الشخصية العراقية الحقيقية ممثلة في تدافع قاطني الحي السني لنجدة الغرقى القادمين من حي الكاظمية الشيعي، ولهذا ندر العنف الطائفي فيها بعد هذا الحادث
أما "علي" فيرتبط حي الأعظمية في مخيلته دائما بقصيدة "نزار قباني" في رثاء زوجته التي قتلت في حادث إرهابي ببيروت "بلقيس يا عصفورتي الأحلى ويا أيقونتي الأغلى .. ويا دمعا تناثر فوق خد المجدليه .. أترى ظلمتك إذ نقلتك من ضفاف الأعظميه؟ بيروت تقتل كل يوم واحدا منا وتبحث كل يوم عن ضحية" فهاهي الأعظمية الغناء الراقدة على ضفاف دجلة كغانية تتهيأ لحبيبها قد طالتها يد الحماقة بالخراب والموت! فصارت كبيروت السبعينات والثمانينات تبحث كل يوم عن ضحية، وكأن كأس الموت في بلاد العرب نخب نمرره بيننا!
استقر الجميع بعد الترحيب والأشواق في صالون البيت، فعرفهم "كاظمي" بفريد الذي كان حتى هذا الصباح مديرا لمشروع اليونسكو في العراق، فصار في المساء مقاتلا منفردا في كتيبة الحقيقة، صافحه "علي" بود وتبجيل يليقان بموقفه، وبعد استقرار الجمع قال "علي" موجها كلامه لكاظمي وابتسامة ودودة تعلو وجهه: أين شايك العراقي المهيل[1] يا "أبا موسى"؟
- القوري على النار يا صديقي
التفت "علي" لزوجته مفسرا فقال: القوري هو إبريق الشاي باللهجة العراقية، والشاي العراقي المغلي يشرب في أكواب صغيرة تسمى الاستكان، فللعراقيين طقوس في شرب الشاي لا تقل عن طقوسكم الإنجليزية، وإن كانوا قد عرفوه على أيديكم زمن الاحتلال
ثم التفت لكاظمي فقال: شرح لنا "ديار" ما حدث للوثائق قبل أن نفهم موضوع الكشف ذاته تفصيلا، كيف حدث وأين وما هو محتوى الوثائق الذي أزعجهم لهذا الحد؟ حان حين الفهم يا صاحب المبادرة
- كان "فريد" يخشى أنكم قد ترغبون عن العمل في مرمى الخطر الذي أظلنا بعد خطف الوثائق، لهذا شرح لكم "ديار" قبل خروجكم من آربيل
وصل الشاي تحمله مدبرة المنزل التي بدت ريفية بجلبابها الأزرق الفضفاض وطرحتها السوداء التي تغطي نصف رأسها وعنقها، وزعت الاستكانات على الضيوف، فبدأ "كاظمي" يحكي بينما ضيوفه الذين أرهقهم السفر ينعمون بمذاق الشاي ورائحته المنعشة، بدأ بالقاء سؤال على الجمع قائلا: ما هو الإمام؟
- ما أم من؟
هكذا علق "علي"، فابتسم "كاظمي" مجيبا: بل ما، ومن هنا تبدأ الحكاية، فأنا أتفق معك في نظريتك حول شيوع نظرية المخلص في كل الأديان، الفارس الذي يخرج في آخر الزمان فيغير وجه الأرض ويحل العدل محل الظلم والحق محل الباطل، وأوافقك في أن شيوع الفكرة وتضارب الأخبار لدينا يلقي ظلالا على الموضوع برمته، لكنني شخصيا كنت في انتظار إمام مختلف عن هذا الشائع في آداب العالم، فالإمام في لغة القرآن جاء بالفعل بمعنى الفرد الذي يقود الناس ويهديهم كقوله تعالى "قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً"[2]، ولكنه جاء كذلك بمعنى الكتاب والعلم الذي يهدي للحق، كقوله تعالى "وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً"[3] والذي تكرر بلفظه في سورتين من القرآن، هود والأحقاف، فلماذا لا يكون الإمام المنتظر علما ينفع الناس ويعينهم على صلاح دنياهم؟
- فكرة منطقية، لكن لماذا تميل لفرضية الإمام المكتوب؟
- ما الذي كتبه الإمام "علي" في عزلته؟ أو بدأ كتابته خلالها؟ ما الذي دعاه ليتفرغ فور وفاة الرسول فلا يضع ثوبه إلا لصلاة الجمعة؟ وما هو أساس الأخبار المتضاربة عن الجفر ومصحف فاطمة والصحيفة الجامعة، كل هذه الأخبار الشفوية لابد لها من أساس بنيت عليه وتفرعت منه، وقد يكون هذا الأساس نصوصا مكتوبة، كان الأئمة يقرأونها ويضيفون إليها مع إحاطتها بالسرية بسبب ظروفهم السياسية، فعرف هذا مع الوقت بعلم آل البيت، وخلق حوله العامة أساطيرا تحاول استنتاج كنهه وطبيعة محتواه
- ولماذا يكتم آل البيت عن الناس علما ينفعهم؟
سألته "ماري" فأجابها: لأن محتواه لم يكن موجها للصدر الأول من المسلمين، فلم يكن فيه جديد عليهم غير ما عرفوه وفهموه من الرسول، فهو مدخل للفكر الديني لا يضيف للسلف ولكنه يضيف لنا اليوم، ذخيرة لتصحيح المسار لو جاز التعبير، خواطر في الفكر الديني كتبها السلف في صدر الإسلام، ولم تصلنا مشافهة تروى عبر العصور وتتعرض للتشوه من فم إلى فم كما هو الحال في الأخبار التي كتبت بعد مئات السنين من موت أبطالها، لكنها أعدت لتصلنا مخطوطة بلفظها كما أراده من كتبها!
- ما هو محتوى المخطوطات وأين صورها؟
قال "علي" وقد أثار الحديث اهتمامه لأبعد حد، فقد دق الكلام على أوتار شغلته كثيرا هو الآخر، فأجابه: المحتوى يتكون من ثمانية وأربعين رقا، أقدمها ستة عشر رقا يرجع تاريخها للقرن الأول الهجري، جزء كبير منها يصعب تمييزه لكتابته بالحجازي القديم وتآكل أجزاء منه، وهذه مهمة خبيرتنا
- و بقية المخطوطات؟
- اثنان وثلاثون مخطوطا من القرنين الثاني والثالث للهجرة، كتبت في تقديري بيد خمسة أشخاص، ولدي تصور عمن تنتمي إليهم الرقوق من الأئمة لكن ثقتي بتصوري ليست كبيرة، وهذه مهمتك يا "علي" من الناحية البحثية
- وهل لي مهام أخرى في نواحٍ غير بحثية؟
هكذا سأله "علي"، ليشرح له "كاظمي" غايته في استخدام الكشف لدعم جهود التقريب بين السنة والشيعة الإمامية والشيعة الزيدية، حيث تفصل المخطوطات في كثير من الأمور الخلافية، وهذا يحتاج إلى مهارة خاصة في صياغة الطرح الذي ستتناوله الصحف والبرامج الاعلامية حتى يخرج بصورة مبسطة يسهل فهمها، وكذلك سيفيد نسب "علي" للأشراف في إضفاء بعد روحي على الكشف عند العامة
هنا عارضه "علي" قائلاً: وجود هذا التراث يعني أن كاتبيه قصدوا أن يتركوه مكتوبا حتى يتسنى لكل مسلم قراءته والإفادة منه، إمام مكتوب كما قلت أنت، لكن التركيز الإعلامي على وجود عضو في الفريق من الأشراف، سيجعل البعض يقول: ولماذا لا يكون هو المهدي المنتظر مادام منتسبا للرسول؟ وعندها نعود لنقطة الصفر، ويضاف اسمي لقائمة المجانين ممن ادعوا أنهم المهدي عبر التاريخ
- فكرت في هذا الاحتمال، ومع ذلك أرانا بحاجة للتأثير في البسطاء حتى نحقق نتيجة لشعب العراق الذي يسفك دمه بيد أبنائه، والتأثير في هؤلاء يختلف عن التأثير في الخاصة
كان شعور خفي لدى "علي" يخبره أن صاحبه لا يفصح عن الدور الحقيقي الذي يريده له، ولا عن خطته الحقيقية، فموضوع التقريب بين المذاهب ودوره الفوري في تهدئة الوضع الطائفي في العراق كان دفعا شديد التسطيح من رجل ككاظمي، لذلك علق قائلا: سنؤثر فيهم لو آمنا بما نقول بما فيه الكفاية، وإن كنت أرى أن ما يجري اليوم في العراق لا يجري على أساس من الخلاف المذهبي، قدر ما يجري على أساس من تكتل أصحاب المصالح، فالكتل الشيعية والسنية وغيرها لا تتناحر على الفرق بين المذاهب، ولكن على مكاسب ترجوها كل طائفة، عموما كل هذا سابق لأوانه، هل الصور موجودة هنا؟
- بعد العشاء تأخذ أنت و"ماري" نسختكما، وهي مصورة على جهاز تصوير الخرائط بالحجم الطبيعي للمخطوطات
- علينا أن نسرع يا سادة، فغدا سيحدد موعد المؤتمر الصحفي لإعلان الكشف الجديد بعد موافقة الحكومة على تأمين المؤتمر، وأنا أتوقعه خلال أيام
هكذا قال "فريد" فعلق "علي" في دهشة: خلال أيام؟
قاطع "كاظمي" صديقه "فريد" الذي هم بالرد قائلا: أعدت لكما "أم موسى" جناحا فيه غرفة مكتب وبها حاسب آلي ووصلة إنترنت فضلا عن غرفة النوم في الدور الثاني، لتكونا على أتم راحة في بحثكما، ولن نزعجكما في غير مواعيد الطعام
- لكننا لا نتكلم عن ورقة عمل، بل مخطوطات يتعين علينا دراستها بروية وصياغة طرحها التاريخي
هكذا علقت "ماري" فرد عليها "فريد" قائلا: للأسف يا سيدتي علينا الإسراع لو أردنا لكشفنا رؤية النور، ولو أردنا نحن شخصيا الاستمرار في رؤية النور
مرة ثانية رأى "علي" في عبارة "فريد" هذه تلميحا لخطر غير مبرر لو كانوا يتحدثون عن وثائق تاريخية! وتذكر عبارة "كاظمي" في مكالمته التليفونية الأولى عن الأمر الآخر والمرتبك بتيار الإسلام السياسي كما أشار، فبدأت شكوكه تتنامى