9.7.08

لآليء القرآن-03

القبس الثالث

قال تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ) البقرة: 269

فما هي الحكمة التي تحدثنا عنها الآية الكريمة؟ و التي وصفها الله بأنها الخير الكثير لمن تحلى بها؟ أول البعض الحكمة في الآية بأنها القرآن و علومه، ناسخه و منسوخه، و محكمه و متشابهه، و قال البعض بل هي الفقه في الدين بوجه العموم، لكننا لا نجد سببا من سياق الآيات و من لفظ الآية المحكم الصريح يجعلنا نركن للتأويل، فالحكمة هي الحكمة كما يعرفها الجميع، هي القول المناسب في الوقت المناسب، و الفعل المناسب في الوقت المناسب، هي مراعاة مقتضى الحال في كل زمان و مكان، و هذا ما رجحه بعض المفسرين كالطبري رحمه الله في جامع البيان ، و كثيرا ما يقع الخلط من الناس بين الخبرة و الحكمة، فيحسبونهما صنوان و هم في ذلك واهمين، فهناك من يملك الخبرة الوافرة، و نصيبه من الحكمة قليل ضئيل، و هناك من يملك خبرة قليلة و نصيبه من الحكمة وافر شديد الوفرة، فلماذا؟ لأن القدرات الذهنية و الملكات في كل فرد تتحكم في قدر الحكمة التي يستطيع أن يستخلصها من الحدث، فقد يمر الرجلان بنفس الظروف و التجربة العملية، فيخلص واحد منهما لخلاصة التجربة و ما فيها من دروس مستفادة، من خلال تحليله الدقيق لجوانبها و أشخاصها و عناصرها، بينما قد لا يدرك الثاني من أمرها إلا الظاهر الواضح الجلي، لذلك قد تجد شابا يافعا يدير مؤسسة إدارة ناجحة تأخذها للأمام، و قد ترى رجلا أسن منه بعقد أو اثنين يقودها فيتجه بها نحو الهاوية، فهذا هو الفارق و الشتان بين أقدار الرجال، و الحكمة موضوع يضيق به المجال هنا، فلا نطلب تغطيته و لكن الإلمام السريع ببعض جوانبه ، و لعل من أهم جوانبها ما قاله الرسول (ص) من أن رأس الحكمة هو أن نرقب الله في كل قول و عمل، و أن نرقب الله في اقوالنا و أعمالنا يعني أن نتمسك بجانب الخير و الصلاح قدر الجهد، و أن نواجه الشرو الخطأ قدر الإستطاعة و الجهد، و هو تقريبا نفس ما قاله نبي الله سليمان في العهد القديم، حين وصف معرفة الله بأنها رأس الحكمة، ثم عرف معرفة الله بأنها كراهية الشر في هذا العالم

و تعرف الموسوعة البريطانية الحكمة، بأنها التطبيق العملي للمعرفة و نتائج الخبرة التي نحصلها بحياتنا ، و هذا أمر من المفيد و لا شك أن نتذكره دوماً، الحكمة ليس أن تعرف فقط، و لكن أن تعرف لتعمل بما عرفت، فلا خير في معرفة لا ترفع من مستوى عملك و أداءك في هذه الحياة، و لا تخدم مهمتك السامية التي أسندها الله لك في إعمار الكون و تحقيق السلام للعالم ، و كما نرى، فتعريف الموسوعة البريطانية ليس كبير البون من تعريف الرسول و الكتاب المقدس للحكمة، إلا في تجاوز جانب التقوى و الحرص على الخير إلى غيرها من التطبيقات العملية للمعرفة في شتى الميادين، و بما أن لفظ الحكمة في الآية الكريمة جاء مطلقاً ، فالأحرى بنا أن نتحراها في كل القول و العمل ، ما كان منه خاصا بأمر الدين أو بأمر الدنيا، فالحكمة هي ثروة المرء الذهنية التي يحصلها في حياته، و هي ما يبقى معه بعد هذه الحياة، حين يفنى الجسد، و يبقى الوعي الإنساني الذي يمثل ماهية الشخص و كينونته

قال تعالى (لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) آل عمران: 92

لم يستثقل ضعاف الإيمان بعد موت الرسول صلاة و لا صياما و لا حجاً، لكنهم استثقلوا أن يشركوا غيرهم وجوبا في أموالهم! فرفضوا دفع الزكاة في إطار أحداث الردة و منع الزكاة الشهيرة إبان خلافة الصديق رضي الله عنه، و هذا نموذج متكرر في حياتنا، غير أن الإنفاق الذي تتحدث عنه الآية هنا لا يخص الزكاة، لأن الزكاة فريضة إجبارية على المسلم، و هي الحد الأدنى، أو أضعف الإيمان لو جاز القول، فربع العشر هذا في زكاة المال و غيره في زكاة العروض و الزروع و ما إليها، هو حق للفقير في مال الغني، و لا ينال المرء البر بأن يعطي لكل ذي حق حقه و كفى، فالبر هو تجاوز توفية الحقوق إلى التفضل بغيرها ، فالآية تحدثنا عن أوجه الإنفاق فيما فوق الزكاة المفروضة، و هذه لها أوجه عديدة و منها

الصدقات: و يجب فيها أن نلتزم بما وصفته الآية هنا "مما تحبون" فلا نتصدق بالمرقع من الثياب و نحسب هذا براً، و لا نتصدق بالمال الهين الذي لا يضر و لا ينفع ، فكما قال الإمام علي رضي الله عنه (إذا أعطيت فأغني) بمعنى أن يكون عطاءك كافلا لأن يغني السائل عن مذلة السؤال للآخرين و لو وقتيا، فتعطه ما يكفيه مدة يوم لطعامه مثلاً، أو تعطه ما يحميه من البرد، أما الأفضل من هذا كله، أن تعينه على الكسب بتوفير مسلك من مسالك الكسب الحلال له، من خلال فرصة عمل، أو أداة من الأدوات التي يستعين بها على الإنتاج البسيط كتلك المشاريع الحميدة التي توفر ماكينات الخياطة و التريكو، او الأكشاك الخشبية و غيرها ، و نحن ان نقول أن هذا شرط من شروط الصدقة، و لكننا نقول أن هذا ما يحسن بالمسلم الفاهم لقوله تعالى "مما تحبون" و كذلك لقوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) فأن تنفق أو تطعم مما تحب، معناه أنك تنفق كما ما يحب الجشع أن يحتفظ به، فهذا لا ينطبق على القروش، و أن تطعم مما تحب، معناه أن تطعم من طعامك الذي تشتهيه، عند هذه الدرجة تكون الصدقات من البر المأجور من الله بعظيم الأجر

التسامح في المعاملات المالية : قال الرسول الكريم (رحم الله رجلا سمحا إذا باع و إذا اشترى و إذا اقتضى) فهذا التسامح في البيع و الشراء، هو وجه من أوجه الإنفاق غير المباشر، و هناك خلط يقع كثيرا بين المرونة التجارية و هي أمر لا علاقة له بالبر و لا بالسماحة، لأن هدفه في النهاية هو تحقيق العلاقة الدائمة مع العميل مثلاً، و هذا من أمور قانون المنفعة التي لا تخضع للتسامح، لكن التسامح أن تبيع لرجل مقدر عليه الرزق، فتتسامح في جزء من الثمن و أنت تكن في صدرك أنك تحتسب هذا الجزء إنفاقا في سبيل الله و تكافلا مع الرجل المعسر، و كذلك تشتري من الفقير فتجزل له الثمن بنفس النية، و إذا اقتضيت دينا من فقير أن تمهله في السداد، او تعفو له عن الجزء أو الكل و أنت تضمر أن هذا لوجه الله

توفير الحياة الكريمة لمن تعول: حين يقول الرسول الكريم ( من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة) فلا يجب أن يفهم من يقتر على بيته و ولده و زوجته، فينفق عليهم القليل و هو قادر على الكثير أن هذا الحديث يشمله ، فنحن نرى أن تحقق الثواب في نفقة الرجل لأهل بيته، يأتي من خلال شرطين، مع ملاحظة كلمة "يستعف بها" في الحديث الشريف، الشرط الأول، أن يكون الإنفاق متناسبا مع الدخل و مستوى الفرد الاقتصادي ، كل على قدر جهده و استطاعته، و الشرط الثاني هو ألا تكون نفقة يقصد بها الرياء، كأن يشتري سيارة لزوجته أو ولده ليعطي انطباعا بالغنى و الرفاه لمن حوله، فيجب أن يكون القصد اسعاد و راحة أهل بيته حتى تكون النية نية خير، فيحتسب له بها خيراً

قال تعالى ( ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ) آل عمران: 173

هذه الآية تؤدبنا بأدب لو تحلينا به و فهمناه حق فهمه، و آمنا به إيمانا حقيقيا، لكان الحال غير الحال، و لكان مآلنا لغير ما نحن عليه الآن في كافة أمورنا السياسية و الاجتماعية و الفكرية، فالآية تؤدبنا بأدب الشجاعة في الحق، فلا يخاف الإنسان على حياته أو رزقه أو ممتلكاته خوفا يجعله يحيد عن طريق الحق الذي أراده لنا الله، منهجا في هذه الحياة و صراطا، و ذكرنا بقراءته سبعة عشر مرة في اليوم و الليلة، فمن يعتقد في نفسه أنه يسير على صراط الحق، يجب عليه ألا ينحرف عن هذا الطريق لوازع من الخوف تسرب إلى قلبه، فالخوف على النفس و المال غريزة طبيعية، لكن مهمة الإيمان بالحق و صلابة هذا الإيمان هو التغلب على هذه الغريزة و ترويضها ، و نرى من أهم ما يخوف به السائر على طريق الحق في زماننا قوتان هما تيار التطرف المتأسلم و ليس من الإسلام في شيء، ثم السلطة الغشوم

تيار التطرف الديني

فالتزايد العددي المستمر لجحافل التطرف الظلامي في مجتمعاتنا المبتلاة بهم، مع ضعف يد الحكومات عن السيطرة عليهم و مواجهتهم بما يستحقوه من بطش عندما يتجاوزون حدود ذاتهم، و يتدخلون في حريات الناس و حياتهم، جعلهم أشبه بمراكز القوى، و هم يعتمدون على كثرتهم العددية هذه، و هي كثرة كغثاء السيل تماما كما قال الرسول الكريم، فليس منهم رجل رشيد، في إرهاب من يختلف معهم فكريا، و لهذا تتعالى أصواتهم لتطمس على صوت العقل و صوت الضمير في المحافل العلمية و الأدبية ، و كذلك يعتمدون على خلل القوانين، كقانون الحسبة المشين الذي تم الغاؤه مؤخراً، ليرهبوا كل من يختلف عن صوتهم النشاز فكريا، و هكذا فعلوا مع الدكتور نصر أبو زيد، أستاذ التفسير بجامعة القاهرة سابقا، فإذا لم يسعفهم هذا الطريق، رجعوا لطريقهم المفضل، فخلعوا قناع التمدين و كشفوا عن وجه الإرهاب الحقيقي، فيعتمدون على التصفية الجسدية، و هكذا فعلوا مع القاضي أحمد الخازندار قديما، و مع نجيب محفوظ و فرج فودة حديثا، و كل من يواجه هذه الجحافل الظلامية حتى من المغمورين من أمثالي، يجد ممن يحبونه و يحرصون عليه من يحذره، و هكذا حذرني إخوتي و العديد من أصدقائي هنا ، لكنني أكاد أقول أن مواجهتهم واجب ديني و حضاري في آن واحد

أما الواجب الديني، فهو ما أفهمه من حديث رسول الله (ص) حين يقول (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون في قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم‏) و قد فهمه المسلمون قديما على الخوارج، و ما يصدق على الخوارج من صفات بالأمس، نراه صادقا على التيارات المتطرفة اليوم، ألا يهتمون بتجنيد الشباب الغرير أكثر من غيره ليكون لهم أداة طيعة، فيكون مجموعهم بهذا من حديثي السن؟ ألا ترى سفه عقولهم في أي حوار عقلي، فإذا افتقروا للحجة، و كثيرا ما يفتقرون، صرخوا و أرغوا و أزبدوا؟ أليسوا أكثر الناس رواية للحديث الشريف، ما يستقيم منه مع متهج سيد الخلق و ما لا يستقيم؟ ألا يقرأون القرآن و يحثون الناس على ذلك و يمنعونهم من تدبره و التفكر فيه بحجة التخصص؟ فلا يجاوز القرآن حناجرهم لعقولهم؟ و لهذا الحديث مجال آخر نفصله فيه بأمر الله ، فأما الواجب الحضاري، فقد وقعت البشرية في تجربة الحكم الكهنوتي ففاضت بحور الدم و ساد الشر أوروبا قرونا، حتى اجتازت البشرية هذه المرحلة، و أن يوجهنا هؤلاء نحو هذه الهوة السحيقة ثانية، ثم لا نواجههم، كل على قدر جهده، فهذا هو عين الخيانة للإنسانية جمعاء

السلطة الغاشمة

الأدلة العقلية و النقلية على وجوب مواجهة السلطة الغاشمة بقول الحق و الإصرار عليه أكثر من أن نحصيها هنا، فيكفينا حديث الرسول صلوات الله عليه حين جعل قول الحق عند السلطان الجائر هو أعظم الجهاد ، فكيف نواجه السلطة بالحق؟ دون أن نخرج عن إطار احترام القانون وفقا لقاعدة المعروف القرآنية؟ نرى أن ذلك يكون باستخدام القنوات الدستورية لنصرة الحق كما نراه، و منها الجهد الفكري كتابة و خطابة بهدف رفع الوعي العام، و تثقيف الشعب، فلا وجود لطغيان مع شعب مثقف مستنير، و كذلك الاضرابات السلمية هي وسيلة دستورية مشروعة ، و كذلك الاعتصامات العمالية و غيرها، بدون أدنى مساس بالممتلكات العامة أو الخاصة، و أذكر هنا يوما تحطمت فيه سيارتي تماما في نطاق مظاهرة همجية في جامعة الإسكندرية، حيث كنت أقيم وقتها بجوار الجامعة، فتعجبت كثيرا لدرجة الإضرار العمدي بملكية خاصة لفرد من المجتمع، لا تنم عن تصرف يقوم به صاحب حق يطالب بحقه، و لكن بلطجي يفرغ طاقة الكبت و القهر بداخله، و هنا يخرج الرجل من المعروف للمنكر، بل و لحد الجريمة التي يعاقب عليها القانون، و هذا ليس منهج المسلم كما أراده الله

قال تعالى ( وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) النساء:86

لعل الأمر الذي تعالجه هذه الآية يكون أمراً بسيطاً في ظاهره، إلا أننا نراه بالغ الأثر في المعاملات الاجتماعية، فعلى سبيل المثال عندما يقول لك زميل في العمل أو غيره "صباح الخير" كيف ترد عليه؟ الطبيعي و المنطقي أن ترد هذه التحية بمثلها ، أو تزيد عليها قائلا "صباح الخير، كيف حالك و حال أسرتك؟" ، نعم، لقد أضاف الإسلام للسلوك الإجتماعي تحية رقيقة جميلة هي تحية تتضمن دعاء بالسلام و الرحمة و البركة لمن تحييه، و جميل أن تبدأ بها السلام لو كنت انت الباديء، و ترد على من حياك بها قائلاً " و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته" لكن لو افترضنا أن زميلا حياك بتحية الصباح فرددت عليه أنت برد تحية السلام، أو العكس، حياك بتحية السلام فرددت بتحية الصباح، ألا يكون هذا ضربا من ضروب السماجة؟

عندما ننظر للهدف من الآية الكريمة نراه ازكاء محيط اجتماعي جيد من خلال التحية الحارة الطيبة، التي تترك في نفس من حياك انطباعا عن ترحيبك به و بشخصه، فينعكس هذا على معاملته معك ، و على أسلوب حديثه فيما جاءك فيه من أمر، أليس كذلك؟ جميل جداً، فهل يحقق الأسلوب السمج في رد التحية بتحية مغايرة تماما هذا الهدف؟ بالطبع لا، بل يخلق حاجزا نفسيا غبيا لا داعي له، فأن تدعو ضمنيا لصاحبك بأن يكون صباحه صباح خير ، هو دعاء طيب، لا يقول عنه عاقل أنه مكروه ، و أن تدعو له بالسلام و الرحمة و البركة فهو دعاء طيب كذلك ، و افشاء السلام لا يتحقق بهذه السماجات في المعاملة، بل بالعكس، و الآية الكريمة لم تلزمنا بلفظ التحية، لكنها ألزمتنا بأن تكون مماثلة لما حيينا به أو أفضل و أكثر حرارة، و هو المقصود هنا "بأحسن منها" فالأحسن منطقيا هو الأقدر على تحقيق الهدف، و الهدف هو المودة و اظهار الترحيب، و هذا لا يتأتى من مغايرة التحية ، و لكن بمماثلتها و الزيادة عليها

و ما ينطبق على اللفظ ينطبق على المصافحة، فمصافحة الرجل للمرأة في حدود المصافحة الاجتماعية العادية هي أمر لا شيء فيه ، لكن الامتناع عنها بعد أن يمد الطرف الآخر يده يفسد هدف التحية، فيوقع الطرف الآخر في حرج يشكل حاجزا نفسيا بدلا من رفع الحاجز النفسي و كسره ، و لقد أكثرنا من البحث لعلنا نجد علة منطقية واحدة تمنع مصافحة الرجل للمرأة فلم نجد، فهناك خلاف حول مصافحة الرسول للنساء في بيعتهن من عدمه، فقال البعض و منهم أم عطية الأنصارية أنه صافح، و قال البعض لم يصافح، و قال البعض صافح بعد أن غطى يده بمحرمة، و هذا كله لا يقوم منه دليل على المنع، فالرسول (ص) لم يأكل الضب لأنه ليس بأرض قومه و لم يكن هذا تحريما ، أما من يتذرعون بملامسة النساء، و أنها تنقض الوضوء ، فهذه مال الغالبية من المفسرين أنها الملامسة الجنسية، او الملامسة مع الاشتهاء، و هذا ليس واردا في المصافحة الا للمهووس جنسيا، فمن كان كذلك لا يقاس عليه

التحية و المجاملات الاجتماعية بصفة عامة هو وسيلة هامة لنشر روح المودة في المجتمع، و أن يحاط الإنسان بروح المودة هو أمر يجعله أميل للخير في تصرفاته، لأنه يكون أميل للهدوء في نفسه، و التفتح على الحياة بقلب مبتهج، فيغلب عليه أن يحسن القول و العمل، في هذا الإطار يجب علينا أن نفهم المضمون الكلي للآية ، و الذي يجعلها من لآليء القرآن النادرة، لأنها تتعامل مع أمر بسيط الظاهر عميق الباطن ، فليكن هدف السلام الإجتماعي هذا واضحاً أمامنا، و عندها لن نحتاج للعديد من الأدلة لنفهم كيف نتصرف مع الآخرين ، و افشاء المودة بيننا و بين من حولنا له دور كبير في اعطاء صورة مشرقة عن المسلم، لذلك ذكرنا الله أننا محاسبون على هذا في قوله تعالى "إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً" حتى لا نستهين بهذا الأثر الذي تتركه التحية و المجاملة بالقول في النفوس

قال تعالى ( يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) النساء:135

هذه الآية الكريمة واسعة التطبيقات في حياتنا المعاصرة، فهي لا تقتصر على الشهادة القضائية، و لكنها تتخطى ذلك لكل موقف يتطلب القول الحق أو الرأي الصادق في العمل أو في شؤون الناس أو في أمور المجتمع و غيرها، و قد بينت لنا أمور عدة لعل أهمها الإنصاف من النفس، و هذا نراه أعلى درجات العدل و الالتزام به، ألا تنحاز لنفسك، فتنصف الناس من نفسك لو كنت على خطأ، و صعوبته تكمن في تمكنك من الحكم على تصرفك بأنه خطأ، فهذا يقتضي أقصى درجات الموضوعية، و الوصول إلى هذه الدرجة من الموضوعية ليس ميسوراً، لكنه ممكن جداً ، لو أراد الإنسان أن يشعر بإحساس السمو الذي يهبه العدل للعادل و المنصف من نفسه ، فإذا شعر به مرة أدمنه فلا يستبدله بمال الدنيا و جاهها ، ثم يأتي الإنصاف من القريب و النسيب و الصديق، فلا ننحاز لهم على حساب الحقيقة، و لكن نحسن النصح لهم أن ينصفوا من أنفسهم و ننصف منهم نحن لو قدرنا ، ثم يأتي عدم الإنحياز لفقير رحمة و لا لغني تقربا، ألم تر يوما مديرا يقيم موظفا، فيعطه أكثر مما يستحق لأنه يراه محتاجا لعلاوة أو مكافأة؟ فيكون بهذا من لا يملك أعطى لمن لا يستحق، لهذا تأمرنا الآية بالعدل و القسط عندما نقوم مقام شاهد العدل في أي أمر، و ألا ننحاز لفقير رحمة به على حساب قول العدل و الحق، و لا ننحاز لغني تقربا له أو خوفا من سطوته ، و ما ينطبق على الغني و الفقير ينطبق قياسا على القوي و الضعيف، على المهمش و صاحب السلطة و السلطان، و هذا في شأن العدل، مع عدم تعارضه مع مبدأ التراحم و الإحسان عموما، فعليك أن تشهد على الفقير في قضية قد يغرم فيها مالاً، و لك بعد هذا أن تعطه من مالك ما يدفع به هذه الغرامة، لا أن تضلل العدل بحجب شهادة الحق ، فالعدالة يجب أن تعمى عن القرابة و الفقر و الغنى و غيرها حتى يتحقق العدل، ثم بعد العدل تأتي الرحمة


قال تعالى (إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) النساء:138

كأن الله سبحانه قد أهدانا هذه اللؤلؤة القرآنية لتكون حجة دامغة على من يتقولون بقتل المرتد المغير لدينه، فكيف تغلب القائلون بالقتل من الدمويين على هذه الحجة الربانية الدامغة، انظر معي لما قالوه في تفسيرها، و كيف لا يستقيم لغة و لا معنى، فقد قالوا أن المعني في الآية هم اليهود الذين آمنوا بموسى ثم كفروا و النصارى الذين آمنوا بعيسى ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد (ص) !!!!!!! فأي قول هذا؟ أليس قول الغرض و الترقيع؟ الآية تتحدث عن جماعة واحدة و ليس عدة جماعات، فهذه الجماعة تؤمن ثم تكفر ثم تعود فتؤمن ثم تكفر و تزداد لجاجة في الكفر، و الآية بغير هذا الفهم لا تستقيم لغويا و لا بلاغيا، فلماذا حاولوا مثل هذا التاويل الغريب؟ لأنه يقطع بأن حرية العقيدة كانت دوما حقا مكفولا للجميع، فالآية ذكرتهم يتذبذبون بين الكفر و الايمان بغير عقاب دنيوي، و لم تتوعدهم الا بعقاب الآخرة، أما بقية الآيات المؤيدة لهذا، و قولنا في الأحاديث المدعاة سندا لقتل المرتد فمكانها في مبحث حرية العقيدة من الجزء الثاني من هذا العمل

4 comments:

Anonymous said...

أما عن الحكمة فزادك الله منها
فأنت اهل لها


عن انفاق بالبر فهو روح التضامن الاسلامي يتجلى في النكبات
وان كانت نكباتنا مضحكه نوعا ما
ففي التطهير العرقي للبوسنه أرسلت الكويتيات أغطيه رأس للبوسنيات
نحتاج لمعرفه بروتوكول الانفاق


عن التطرف الاسلامي
فهو فقس الارهاب الذي في الاصل صنعته امريكا وبينما كنا نسمتع لأشرطه المجاهدين في افغانستان ونحن مراهقين اصبحنا نراهم الان في جوانتنامو ارهابيين !!!
الحق يقال
ان الليبراليين العرب متطرفين كالمتطرفين دينيا
هؤلاء نفوا الاسلام وحكروا الحريه عليهم والاخرين جابهوا ذلك بايدلوجيه الدين المسيس
لا اعتدال في الشرق الأوسط
والحق أنك تثير اعجابي
لأنك جمعت بين علمانيه دون اقصاء للدين
فهناك علمانييون عرب احتكيت بهم
يقصون كل ما يمت للدين ويبدون لا دينيين أكثر من كونهم علمانيين


عن السلطه الغاشمه لا تعليق :)


أكثر الله من أمثالك

Anonymous said...

د/ اياد..
ادرك تماما انه لا يوجد تعليق او كلمات تعبر عن تقديري لشخصك الكريم و لكتاباتك و لكن كل ما لدي امنيه لك و لنا ان يجعلك الله درجة من درجات سلم الحكمه التي يحاول كلا منا ارتقائه لمواجهة الحياه

الحكمة ليس أن تعرف فقط، و لكن أن تعرف لتعمل بما عرفت، فلا خير في معرفة لا ترفع من مستوى عملك و أداءك في هذه الحياة، و لا تخدم مهمتك السامية التي أسندها الله لك في إعمار الكون و تحقيق السلام للعالم ،

ولكن لي تعليق بسيط على نقطة التحيه فلقد امرنا الله تعالى ان نرد التحيه بالتحيه واوباحسن منها فمابالك بمن تلقي عليهم كلمة صباح الخير مثلا او مساء الخير ليردوا عليك وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ؟
د/ اياد
التيارات الدينيه المتكاثره اذا حاولنا تحليلها سنجد ان عناصرها يوما كانوا اطفال ابرياء تحالفت ضدهم عوامل محت البرائه الانسانيه و الضمير بداخلهم
عوامل اساسها الفقر و الاحتياج للشعور بالامان يقينا منهم بأن اولي الامر ليس فيهم املا معلق للاصلاح او للرقي بمستقبلهم لما هو افضل تماما كالجسد عندما يداهمه مرض ما فيصبح عرضه في حالة اهمال العلاج للكثير من الامراض التي تداهمه بلا رحمه! حتى يضعف الجسد تماما كما يحدث لهذه العناصر المتطرفه و الذين هم في النهايه ابنائنا وكانوا من الواجب ان يكونوا عماد امتنا الاسلاميه لتقوى بهم ولكن..
السؤال هنا هو:
هل الخطاء في حالة هذا الشباب الغرير كما اطلقت عليه من التربيه و اسلوب التوعيه و الارشاد من جانب الاسره ؟
ام هي بعد الاباء انفسهم عن الدين و تعاليمه السمحه ليعاملو ويعلموا ابنائهم الاسلوب الامثل لمواجهة عثرات الحياه؟
ام من و اقع نحياه اثر على الكبار و بالتالي لم يعد لديهم ما يعطوه للصغار ؟
ام من مستقبل بعيد مظلم من وجهة نظر هؤلاء الشباب افقدهم الامل في محاولة مواجهة المواقف الصعبه بقوة ايمانهم ؟
اما جميع هذه الاسباب مجتمعه؟؟؟؟؟؟؟!
اخشى على ابنائنا من مستقبل يجهل ابعاده الكبار فما بالك بالصغار؟
اعتذر للاطاله

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي Anonymous
تعليق رائع بحق يا صديقي، أشكرك عليه، و لعلها المرة الأولى التي يصبح لي فيها صديق لا أعرف له حتى اسما كودياً، أنت على حق في هزلية المعونة الكويتية، فما أزعج الخليج كان عري رأس المرأة الكويتية أكثر من التطهير العرقي و اغتصاب الآلاف، رحم الله زمانا كانت فيه الكويت تموج بالناصرية، اما رجال العرب الأشاوس، فقد شاركوا بالدعم الجنسي، حيث تهافتوا على الزواج من البوسنيات ليخففوا عنهن، و لم يدركوا أن الزواج من أمثالهم أحيانا لا يكون أسوء كثيرا من الاغتصاب

نعم بكل تأكيد صنعت أمريكا التطرف و بعثته من مرقده الذي نام فيه بعدما قاتل علي الخوارج، لقد كنا يا سيدي الواقي الذكري الذي استخدمته أمريكا لمضاجعة روسيا في أفغانستان ، فنالوا مرادهم و لم ننل نحن غير الدنس

كما أن لك كل الحق فيما يخص كثير من العلمانيون العرب، في رد فعل للتطرف الديني يتطرفون ليصبحوا ضد-دينيين، و لكن لماذا نلومهم؟ لو كان كل أفندي من الخطباء يربط لفظ علمانية بكمال اتاتورك مثلا؟ و لم يكن أتاتورك علمانيا بل ضد-ديني متطرف، و ان كان له فضل على تركيا الحديثة لا ينكره عاقل
تحياتي و تقديري و شكري

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي beer
شكرا لك يا عزيزتي على أمنيتك، هدانا الله لخيرنا أجمعين

جميع الأسباب التي تفضلت بذكرها تتشارك في خلق هذا المناخ، و أضيف لها ضعف يد الدولة عن مواجهة التطرف بالحزم المناسب و الخليق بدولة تريد الحياة في المجتمع الدولي بشكل محترم

كلنا يخشى على أولاده يا عزيزتي من هذا التيار المهووس و المتزايد زبده في زماننا، و علينا أن نسلحهم بالعقل ، العقل الواعي الذي لا يبلع الا ما يستسيغ، ان نحضهم على القراءة الوافرة حتى تتكون لدماغهم بنية تحتية

تحياتي و تقديري و شكري لكريم تشجيعك