6.7.08

لآليء القرآن-01

قبس من النور الخالد

القرآن، ذكر الله الذي به تطمئن القلوب، و نور الله الخالد الذي به تنير العقول، الكتاب السماوي الفريد الذي كتب في حياة المرسل به كاملاً و روجع أكثر من مرة، و الوحيد الذي مازال بين يدينا بلغته الأم التي أوحي بها، العربية، و لعل هاتان الصفتان فيه، كانا من ضمن الآلية الربانية في حفظ الذكر الحكيم الذي تعهد بحفظه، و ذلك بقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر:9، و كل كتاب الله در منضود، لكن بين هذه الدرر تتلألأ بعض الآيات الجامعة لأقطاب الحكمة، كالعلامات الفارقة بين الدر المنظوم في عقد القرآن، و مع هذه اللآليء نبدأ رحلتنا القرآنية، مستلهمين نور الله الخالد من معينه الأبدي، فباسم الله رحمن السماوات و الأرض نبدأ

قال تعالى (ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ) فاتحة الكتاب:6-7

الآية السادسة من سورة الفاتحة، يتجه فيها المرء لله تعالى بالدعاء، أن يعينه على الوصول للصراط المستقيم، و الصراط لغة هو الطريق الواضح المعالم، و هذا الطريق الواضح وصفته الآية بالإستقامة، فأي طريق هو؟ لقد رأت بعض التفاسير أنه القرآن الكريم، استناداً إلى حديث آحاد مروي عن النبي، و لو كان قد حدث صلوات الله عليه فقد صدق، و نحن نرى هذا التأويل جائزاً لو صح الحديث، لكننا نركن للتفسير الأقرب للمعنى اللغوي للآية، لدينا طريق واضح المعالم ، و مستقيم نحو غايته، و هو بالطبع طريق معنوي في الحياة، و ليس طريقا فعليا، و ليس في الآخرة، ففي الآخرة لا محل لطلب الهداية، لأن الإنسان فيها مسير وجوباً ، و ليس مخيرا ليهتدي أو يضل ، فأي طريق هو؟

من تأملنا لحياة الناس، و من سياق الآيات الكريمة، نرى الطريق الواضح المستقيم نحو غايته في حياتنا هو طريق الباحثين عن الحقيقة في هذه الدنيا ، الطالبين للحق و الخير و العدل و الجمال في دنيا الناس، فهؤلاء طريقهم واضح المعالم أولاً، لأنهم يتبعون الفطرة الإنسانية البكر في ولعهم بالحقائق، و في ميلهم لكل ما هو خير و جميل، و نفورهم من كل ما هو شر و قبح، و في سلوكهم منهج العدل قدر الجهد و الاستطاعة، و نفورهم من الظلم قدر الجهد و العلم، و لأنهم يتبعون بوصلتهم الداخلية، تلك التي ضمنها الرحمن في الأنا العليا للإنسان، في ضميره، فمن الصعب أن تضل أعينهم عن الطريق، لأن الخريطة مرسومة بداخلهم، لهذا كان طريقهم صراطاً جلي المعالم ، فلماذا كان مستقيماً؟ لأن من يطلب هذه الغايات، التي تعضد مهمة الإنسان على الأرض، في تحقيق العمران و النماء و السلام، لا تتجاذبه الأهواء يمينا و يسارا، و لا يقيم وزنا لأية عقبة في طريقه نحو الحق، فلا يلتف و لا يناور، بل هو في الحق سيف مشرع، لهذا يكون طريقه مستقيما، فطريق الحق و الخير و العدل يكون على هذا الفهم هو الصراط المستقيم ، و الله أعلم

أما الآية السابعة، فتصنفنا نحن البشر من منظور علاقتنا بطريق الحق و الخير هذا إلى ثلاثة أنواع، الأول هم من أنعم الله عليهم، و هم أصحاب طريق الصواب هذا، ممن يغلب عليهم الالتزام به قدر الجهد و العلم، و بنية خالصة لوجه الله في طلب الحق و الخير و النماء للناس جميعا، يغلب عليهم السير في هذا الطريق، لا يسيرون بغيره الا لماما، و لا يسير في هذا الطريق غيرهم، حتى ينسب الطريق لهم و يسمى باسمهم، " صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" كأن تقول طريق الحجيج من مصر لمكة قديما عبر سيناء ، أو طريق الحرير نسبة لمرور تجارة و قوافل الحرير فيه قديما، فلماذا وصفهم الله و ميزهم بأنهم من أنعم سبحانه عليهم؟ النعمة المقصودة هنا قد تكون أي نعمة من نعم الله، و لكن سياق الآيات و علاقتها بما قبلها، تجعلنا نميل لكونها النعمة التي من خلالها هداهم الله لهذا الطريق، و هي نعمة الضمير، أو الأنا العليا، التي تمثل بوصلتهم ، فهل خصهم الله بها و ترك غيرهم يضلون؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً، لقد أهدى رب العالمين هبة الضمير لكل خلقه، و جعله متناميا متزايدا مع النهضة الإنسانية، لكن منهم من يستخدم هذه البوصلة فيكون بها مستفيدا و تكون له نعمة، و منهم من لا يستخدمها، و لا ينتفع بها الا قليلا، و هؤلاء هم النوعين الثاني و الثالث في الآية، فلقد أنعم الله على كل البشر بالضمير، فنعم به من أفاد منه، و لم ينعم به من أهدره

أما النوع الثاني، فهم الذين عبرت عنهم الآية بنفي صفتهم عن المهتدين، و هم المغضوب عليهم، فكأننا نطلب من الله أن يهدنا لطريق الحق و طلابه و ليس طريق المغضوب عليهم، فمن هم هؤلاء؟ منطقي أن يكونوا النقيض المباشر للنوع الأول، و هم من حطموا بوصلة الهداية في عقولهم، و من أخرسوا صوت الضمير في وجدانهم ، ليس هذا فحسب ، لكنهم اختاروا الطريق المضاد لطريق الأولين، ليصبحوا أنصارا للظلم و الشر و الضلال، لأهداف ذاتية، تنبع من تمكن الأنا من عقولنا و سيطرتها عليها سيطرة كاملة بلا ضمير و لا وازع، و حين تنفرد الأنا بالقرار الإنساني، تميل لانتهاج أيسر الطرق لتحقيق الذات و لو بالظلم و الشر و القهر و غيرها من ضروب الفساد و الإفساد، و هؤلاء هم من يمثلون العقبة الكبرى في جهاد الإنسان لتحقيق مهمة الخلافة في الأرض، مهمة الرخاء و النماء و السلام ، فهم يحطمون كل شيء في مقابل تحقيق ذاتهم الضيقة على حساب المجموع، و لضررهم الشامل هذا بالمهمة الإنسانية في الخلافة ، استحقوا غضب الله عليهم
و أما النوع الثالث فهم الضالون، و هؤلاء لا يجدون السير في طريق الحق و لا طريق الباطل ، إنهم النوع التائه في حياته، المتردد و المذبذب، بين بين في كل شيء، و هذا قد يضل و لكن ليس عن عمد كالنوع الثاني، و لكن عن تقصير في استعمال البوصلة الالهية، فيتبع ضميره ساعة ثم يضل ساعات حين يغفل هذا الضمير، و لعل هؤلاء من عناهم النبي الكريم في حديثه عن الإمعة الذي يحسن لو أحسن الناس و يسيء لو أساءوا

و بهذا تكون الآيات قد قسمت البشر من حيث التوجه العام في الحياة، إلى أصحاب طريق الحقيقة و الخير، و أصحاب الطريق المضاد، و التائهين الضالين بين بين، و لما كانت الفاتحة هي ما يكرره المسلم في صلاته 17 مرة في اليوم و الليلة، فلعل من دورها تذكيره بهذا التصنيف ثلاثي الفئات للبشر، حتى يزيد انتباهه لأهمية بوصلته الداخلية، ضميره و فطرته، فيحرص عليها و يكون لطاعة صوتها أقرب، لعل من كان على طريق الحق يزداد به تمسكا، و لعل من كان على طريق الباطل أن يراجع نفسه، و لعل من كان ضالاً تائها أن يحزم أمره و يضع قدمه بأول طريق الخير و الحق، فليست الهداية بر يصل إليه الإنسان ثم يجمد فوقه، لكنها طريق يسير فيه و يجد السير، فتكون رحلة حياته هي رحلة في الخير بمجملها


قال تعالى ( أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) البقرة:16

و هذه الأية الكريمة و إن وردت في سياق الحديث عن الضلال الديني و العقائدي من سورة البقرة، إلا أننا نرى لتعميم اللفظ فيها هدفا يتجاوز الموضوع المباشر للآيات، إذ لو أراد الحق تعبيرا محدودا لما أطلق التعبير عن الخطأ عامة و عن الصواب عامة بقوله "الضلالة بالهدى" فالآية تشير إلى آفة من آفات البشر، لطالما كان طريق الصواب في العمل أو في الزوجية أو في السياسة به صعوبة نسبية لو قارناه ببعض الطرق الملتوية و الغير سوية، ليس لاعوجاج فيه أو غموض، و لكن لتعارضه مع بعض أو كل مطالب الذات الإنسانية المسرفة في طلباتها، و نحن في كثير من أمور حياتنا نقرر بمحض إرادتنا، و لهدف يتعلق بارتباط طريق الضلال ببعض الأمور المحببة لذاتنا، أن نستبدل طريق الصواب الواضح بطرق الخطأ، و لهذا كان التعبير القرآني عن ذلك بأنه فعل واعِ تماما كفعل البيع و الشراء، يعلم فيه الإنسان أن ما يبيعه هو الصواب و ما يختاره لنفسه هو الخطأ ، و لهذا، لا يحسن بنا أن نحترف تبرير أخطائنا بظروف خارجة عن إرادتنا المباشرة، ففي غالبية الأحوال نحن نخطيء لأن بالخطأ جانبا براقا يستهوي انظارنا، و يعميها عن الجمال البعيد الأمد في خيط الصواب ، فهل يتعارض هذا مع مبدأ نسبية القرآن الذي نتناوله قريباً؟ لا، فنحن عندما نقول صواب أو خطأ، نعني موقفا او اختيارا تغلب عليه صفة الصواب أو صفة الخطأ يصدر من إنسان محدد في مكان محدد و زمان محدد، و هذا لا يتعارض مع الفهم النسبي ، نحن نخطيء أو نصيب بمحض إرادتنا، و نسعى لمقايضة الحق بالباطل حين نفعل ذلك سعيا حثيثا كسعي التاجر في تجارته، و التشبيه القرآني الرائع في هذا الأمر واضح تمام الوضوح


قال تعالى (أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) البقرة:44

و الآية الكريمة هنا جاءت في صيغة سؤال للاستنكار، حيث ينكر الله على بني إسرائيل أنهم انقسموا طوائف، بعضها يتنمر لبعض للوقوف على خطأ وقع فيه الآخر، حتى يعيره به، فكأن كل منهم يراقب الآخرين ليعظهم و يغلظ لهم في النصح، و لعله يقع في نفس الخطأ سراً أو جهراً، و من هذه الآية نرى المعنى العام و هو استنكار موقف القاضي الذي يتخذه بعضنا كثيراُ على سلوك الناس و أفعالهم، مرض متوارث خاصة في البيئات التي لم تتآلف مع حرية الفرد بعد، فترى موضوعا يفتح في جلسة ودية باستنكار، كأغاني الفيديو كليب الخليعة مثلاً، و لعلك عندها تجد عشرة أشخاص هم كل من في الجلسة، و كلهم يستنكر هذه الأغاني و يعيب على من يذيعها و من يسمح باذاعتها و من يشاهدها، مالكم يا قوم؟ لو كان الجميع يكرهون هذه البضاعة حقا و صدقا، فلماذا تروج بيننا؟ و الحديث عن مؤامرة لنشر الانحلال و ما الى ذلك غير مقبول هنا، فالفضائيات مشروعات تجارية بحتة، تطلب البضاعة التي تحظى بأعلى نسبة مشاهدة لتحقيق أغلى الأسعار للدقيقة الإعلانية، إذن فالخلاعة يطلبها بيننا الكثيرون سرا، و يلعنوها جهراً، انها الازدواجية المقيتة لا أقل و لا أكثر ، و ما يصدق في هذا المثل يصدق في كثير غيره، فترى من يكثر حديثه مهاجما للانحلال الجنسي مثلا في كل وقت، هو أكثر الناس ولعاً بهذا الانحلال في سره، و لعنه له في الجهر بمناسبة و بغير مناسبة هو دليل هوسه بما يلعن ، كذلك ترى من يكثر الحديث عن الرشوة أقرب خلق الله لها سراً، فكأنه يجعل من مهاجمته لها في العلن وجاءً بينه و بين الناس حتى لا ينفذوا لسريرته

لماذا ينهانا الله عن هذه الإزدواجية، و عن هذا الستار المهتريء من البر و الفضيلة الذي نداري به انحرافاتنا و أخطاءنا؟ ألمجرد كونه كذبا؟ أم أن هناك هدف أكبر؟
بالطبع مجرد كونه كذب و تلون مقيت كافِ للنهي عنه و استنكاره من الحق تبارك و تعالى، لكن هذا ليس كل شيء فيما نرى ، في المثل السابق، لو تذكر من يشاهدون هذه المواد الخليعة هذه الآية الكريمة، فاستقر في نفوسهم أنهم لو لبسوا اهاب الفضيلة و خاضوا مع الخائضين، يلعنون بالنهار ما يأتون بالليل، لكان ذلك عند الله مقيتا مستنكر بذاته، فضلا عن خطأ الانحدار لهذه المواد الخليعة، فربما امتنعوا عن لبس القناع، و اكتفوا بالصمت، أو بلغت بأحدهم الشجاعة أن يقول " أنا أفعل هذا و ضعيف أمامه" عندئذ، يرون الخطأ واضحا جليا أمامهم، فتكون احتمالات التوقف في وقت ما أكثر، بينما لبس القناع الفاضل و التفنن فيه ، يعطي لمن يخطيء تبريرا لا شعوريا و غطاء يحتاجه ليستمر بلا وخز في ضميره أو شعور بالحرج، فهل فكرنا ماذا ستكون النتيجة لو بدأنا بأنفسنا، نأمرها بالبر، و لا نتطرق لنقد الآخر؟ على الأقل حتى ننقي أنفسنا؟ ستكون النتيجة ببساطة مجتمعا حرا ، و لا تعارض بين مضمون هذه الآية الكريمة، و بين موضوع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي سنأتي له لاحقا في مبحثنا هذا

قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) البقرة:170
أعظم بها من آية تقاتل آفة لعلها الأكبر في دنيانا، الجمود، هذا الداء الذي لا يخلو منه ضعاف العقول و محدودي المواهب أبداً في أي زمان أو مكان، و هو جمود متعدد الأسباب و متغير المظاهر، فأما أسبابه ، فيأتي في طليعتها التبلد و الكسل العقلي، و الذي يدفعنا لقبول موروثاتنا كما هي، بلا نقد لها و لا تدقيق ، فالطريق المعبد يتطلب جهدا أيسر للسير فيه من غيره من الطرق، ثم يأتي الخوف من الناس و من المجهول، من نقد الناس لنا لو فارقنا طريقتهم و عاداتهم التي ركنوا إليها، و من المجهول الذي قد يقابلنا في هذا الطريق الجديد لو نحن سلكناه، ثم يأتي ضعف ثقة الإنسان بذاته سببا ثالثا للجمود، فهو يجيب نفسه لو راودته عن سلوك الطريق الجديد و الفهم الجديد "و هل أنا أعقل من كل الأجيال السابقة التي مضت على طريق الآباء و الأجداد؟" و هو بذلك يستخدم منطقا مغلوطاً، فلو قبل الإنسان منذ البدايات الأولى معارف و مدارك آباءه الأولين على الإطلاق، لكنا الآن نأنس سويا في كهف، لكن التطور دائما يأتي من تبني التقدميين للعلم الجديد و الفكر الجديد و الفن الجديد ، و القرآن حافل بالحض على رفض الجمود الفكري، و الجمود الديني، و حافل بالتشجيع للفكر النقدي، و القراءة النقدية للواقع و الأفكار و الأشخاص، فأين نحن من هذا المعيار القرآني؟ أين نحن من عقيدة رفض الثبات و الجمود؟ أين نحن من العقيدة المتجددة الثائرة؟ أكاد أقول أننا أصبحنا نحترف الجمود، جمود يسيطر علينا في الدين و الفكر و العادات و التقاليد و الفن و الأدب، و لهذا الموضوع خصصنا مبحثا في تجديد الفكر الديني في الجزء الثاني من كتابنا، و يكفينا الآن أن نعلم أن القرآن طالبنا مرارا و تكرارا بعدم تقديس الفهم و الفكر الديني للسلف، بحجة أنهم الأولى منا بالحق، فالقول بأن الأقدم زمنا أكثر معرفة هو قول متهافت من الناحية المعرفية تهافتا تاما


قال تعالى ( وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:179
و هذه الآية ترسي المبدأ العقابي في التعامل مع السلوك البشري الذي يضر بالآخر، و تبين مباشرة أن الهدف ليس قاصراً على تحقيق العدالة، و لكنه يتجاوز هذا لردع المجتمع المحيط، و الذي قد يراود بعض أفراده تفكير في إتيان الفعل المعتدي على الغير، فيردع هؤلاء وجود قانون حازم، يتعامل مع كل جريمة بما يناسبها من عقاب، أيا كانت الجريمة و أيا كان العقاب وفق حالة كل مجتمع و ظروفه ، و نحن لا ننكر أن من الناس نفوسا نبيلة، لا تحتاج للردع للإمتناع عن الجريمة، لكنها تمتنع لاحترامها للآخر، و نفورها من بشاعة الجرائم، لكننا لا نستطيع أن ندعي لمجتمع بشري على الأرض خلوه من الصنف الأول الذي يستلزم الردع ، و الآية الكريمة تخاطب عقولنا بقوله تعالى "يا أولي الألباب" لتحثنا على إعمال العقل في هذا المبدأ، و التأكد من كفاية الردع و مناسبته للفعل في صياغة قوانيننا الجنائية و المدنية و غيرها مما يجوز فيه الاعتداء على الآخرين أو الاضرار بهم




قال تعالى ( وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة:188
تتعامل الآية الكريمة مع الفساد و الرشوة، أحد أهم الآفات البشرية على مر العصور، فأكل الأموال بالباطل يضم النصب و التدليس و الاحتيال على مستوى الأفراد، و يضم الفساد المؤسسي و اختلاس المال العام على مستوى المؤسسات، و يضم الغش و الجشع و الاستغلال و التنافس الغير شريف و الاحتكار على مستوى الممارسات التجارية، فمن يتحدث للناس في برنامج ، ظاهره ديني، و باطنه استنزاف أموالهم و استغلال حسهم الديني في مكالمات تليفونية بهدف الربح، يأكل مال الناس و يبيع كلمات الله بالثمن البخس، و الذي يسهل القروض بضمانات غير جدية يأكل أموالهم، و الذي يحتكر الحديد ليبيعه بأكثر من الربح الذي تقره أعراف الصناعة يأكل أموالهم ، ثم تتناول الآية فساد السلطة ، من خلال التحالف الأسود بين الحكومات الفاسدة و رأسالمال الغير شريف، و الادلاء بالمال هنا ليس بالضرورة الرشوة و حسب، و لكنه كذلك مشاركة الحكام في أعمال بغرض تسهيل أمور معينة، أو هدايا عينية أو مادية للحاكم ، و الحاكم هنا كل ذي سلطة أو صلاحيات، على أي مستوى من المستويات من أعلاها لأدناها

11 comments:

Meero Deepo said...

أستاذى العزيز...د.إياد

لا أعلم لماذا إنتابتنى حالة عجيبة عندما قرأت البوست
أحسست كما لو كنت أقرأ كتابات الإمام محمد عبده...ولولا أننا دينيا نرفض تماما فكرة تناسخ الأرواح لكنت قلت لك أن البوست مكتوب بيد الشيخ محمد الغزالى

تأكدت تماما من مقولتك بأن المجددين موجودون منذ الأزل يربطهم رباط أقوى من رباط الدم ...ألا وهو رباط العقل وحب الحق والإخلاص فى الدفاع عن العقيدة

كم كنت أتمنى طيلة حياتى أن نقرأ القرآن بتلك الطريقة التتى تتبعها أنت... قرآءة متأنية عميقة باحثة...وأعتقد أن أحد معجزات القرآن أنك عندما تقرأه مرات ومرات فى كل مرة تجد نفسك أمام فهم جديد ومعنى أعمق

ياليتنا نحب قرآننا ودستورنا ونحافظ عليه

د.إياد.... بارك الله فيك وبارك لك فى عمرك وصحتك ليكونوا معينا لك على طريقك الذى سلكت

عظيم إحترامى وتقديرى

Anonymous said...

يظل الاسلام رافدا الانسان
في التفكير والحرية والاعتلاء والمثالية

لله درك يا دكتور اياد

طارق هلال said...

د/ أياد
طبعا القرأن الكريم كله لألئ
ومنها الأيات من 24 إلى 32 من سورة النجم

بسم الله الرحمن الرحيم

أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى() فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى () وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى () إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى () وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً () فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا () ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى ()وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى () الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى
"
صدق الله العظيم


-------
my regards

Dr. Eyad Harfoush said...

صديقي العزيز Arabic ID

صدقت يا صديقي، و لنا بإذن الله وقفة يأتي حينها مع قوله تعالى "فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى" لو أحيانا الله

تحياتي و تقديري و ترحيبي

Dr. Eyad Harfoush said...

الصديقة فوق العادة ميرو ديبو
مش عارف بس موضوع أستاذي ده حسسني اني عجوز حبتين ، منورة بتعليقك الذي يسعدني كونه الأول على هذا البوست تحديدا

أكرمك الله يا صديقتي كما تكرمينني، لكن لا تظلميني بذكر هؤلاء الكبار العظام في معرض الحديث عما أكتب، أين الفقير إلى الله من إمام المجددين محمد عبده و من الشيخ الثائر العاشق للحق محمد الغزالي رحمهما الله

أما القرآن و فيضه بالجديد كلما قرأناه بعقلنا و زماننا فلك في هذا الحق كل الحق، و هذا سر استمراريته، و هي طبيعة منحها الله لآخر كتبه و آخر وحي السماء إلى الأرض، ليتجدد و يتمدد من خلال عقول الناس

شكرا لطيب دعائك يا عزيزتي، و دعواتي لك بمثل ما قلت

تحياتي و تقديري و اعزازي

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي Anonymous

الإسلام هو دين الله الخاتم، و يظل يتجدد في عقول من يؤمن به بلا نهاية، و في هذا عبقريته الفريدة التي منحها الله له

شكرا لك يا صديقي العزيز على كريم الزيارة و التعليق

Anonymous said...

MAHMOOD
DEAR FRIEND DR. EYAD
NO MATTER WHAT I SAY, I WON'T BE ABLE TO DO YOU JUSTICE, FOR YOU ARE A KNIGHT IN MY HUMBLE OPINION.
AND YOUR REWARDS HAVE BEEN STATED BY THE ALMIGHTY (3ILM YONTAFA3 BEH) SO YOU ARE ASSURED THE REWARD FOR THE ON GOING BENEFITS OF YOUR WORK.
I PERSONALLY DID BENEFIT BY READING YOUR OUTSTANDING BLOG AND I'M SURE COUNTLESS OTHERS OF YOUR RESPECTED AND HIGHLY INTELLIGENT READERS DID AS WELL, IF I MAY SAY SO.
THANKS AND BEST REGARDS DR.

Dr. Eyad Harfoush said...

Dear Mahmoud,

Thank you my friend for your inspiring words. I wish God accept this as a logic that benefits people as you said my friend. Part 2 is now online. Wish to hear what do u think about it. This series will be speedy. God knows when life ends, and I believe I have a big task to finish saying what I have. Best Regards

eshrakatt said...

العزيز اياد
مبرووووووووووك انا حبيت اقولك انى سعيده جدا انا لسه ماقرأتش اروح بقه اقرأ على مهلى واقول رائى
بس بجد اد ايه سعيده بغزارة انتاجك
وهفرح اكتر لما يكون كتاب
ربنا يوفقك

Dr. Eyad Harfoush said...

الصديقة العزيزة اشراقات
أشرقت الانوار، و شكرا لتعليقك المشجع ، اسعد الله ايامك و منتظر التعليق بعد القراءة، تحياتي و تقديري

Anonymous said...

تم حذف الإدراج الذي يهاجمكم في مدونتنا دون النظر في موضوع التهجم
فائق العلي