تعرضت مصر في مرحلة الانحطاط المعاصرة والممتدة منذ 1974م ولليوم لعدة حملات من الحرب النفسية شنتها جهات متعددة ولأهداف متعددة، ذكرني بهذا الأمر حوار مع أستاذي الدكتور يوسف زيدان عن الإعلام الموجه ودوره في الستينات، والذي أرى أنه كان يخدم هدفا وطنيا في ظل نظام شمولي وطني، أما المراحل التالية فظل الإعلام فيها موجها، ولكن تغيرت وجهته لخدمة الخصم
هي مجموعة جهود مخططة ومنسقة للتأثير على مجموعة من الناس، وإحداث تغيير مطلوب في منظومة القيم، أو المعتقدات، أو السلوك أو المنطق لتلك المجموعة، بحيث تتبنى سلوكيات من شأنها أن تسهل هدفا أو أكثر للجهة التي تشن الحرب النفسية، وفي حالة مصر تعددت الجهات صاحبة المصلحة التي شنت الحملة تلو الحملة على العقل الجمعي للمصريين كما سيأتي تفصيله، ولكن الهدف كان مشتركا بينها، وهو هدم الشخصية المصرية الفاعلة والتي تكونت منذ بدأ محمد علي مشروعه التنويري وتبلورت مع بدايات القرن العشرين والطفرة التعليمية ووصلت لذروتها مع المشروع الوطني والقومي الناصري، لأن هدم هذا النموذج الفاعل لصالح نموذج المصري السلبي الاستهلاكي الخنوع هو ما يضمن مصالح تلك الجهات الداخلية والخارجية، وقد مرت الحرب النفسية في مصر بعدة مراحل
مراحل الحرب النفسية ضد المصريين
- المرحلة العشوائية من 1974-1978م وثقافة الاستسلام، وقام بها نظام السادات بمشورة ومساعدة أمريكية، واعتمدت على وسائل أولية هي إعلام الدولة والخطاب الديني الرسمي وبعض الدعم من الصحافة الأمريكية التي كافئت السادات بترويج نظامه دوليا، وانهالت خلال تلك المرحلة وعود الرخاء المقترنة بالسلام على المواطن المصري المطحون (الذي أمضى بعض شبابه قرابة العشرة أعوام على الجبهة) وكانت المبالغات بلا حدود، سيارة صغيرة لكل شاب، وعقد عمل في الخليج لكل فلاح وكل عامل، والمعونة الأمريكية التي ستحول المستشفيات والمدارس المصرية لمستوى قريناتها في كاليفورنيا، إلى آخر أوهام الرخاء، ووقف رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة ليقول "تعبنا وعايزين نرتاح بقى ونشوف لنا يومين"، وانتهت تلك المرحلة بوقائع الغلاء الأليمة المؤدية لأحداث 18 و19 يناير، والتي بددت أوهام سيارة وعلبة كومبوت وبرطمان مايونيز لكل مواطن بحقيقة الجوع الكافر مع ارتفاع أسعار القوت الضروي وسيجارة الكليوباترا والشاي الأسود
- مرحلة "نادي السفاري" من 1976 1982م والردة الاشتراكية، وقام بها تحالف رسمي وموثق (كان سريا قبل الكشف عنه بحكم قانون حرية المعلومات) بين أجهزة المخابرات في كل من مصر والولايات المتحدة والسعودية وفرنسا (في عهد جيسكار ديستان) والمغرب وإيران (في عهد الشاه)، بالتعاون مع جماعات أصولية دينية، وفقا لفكرة شيطانية واتت برلماني يميني فرنسي عتيد، تتلخص في مواجهة اليسار بالأصولية الإسلامية، وكانت الجماعات المختارة هي الإخوان المسلمين في مصر، وأسرة آل الشيخ المسيطرة على هيئة الأمر بالمعروف في العربية السعودية، وجماعة أنصار الإسلام في إيران، وكان مركز العمليات في باريس، ونطاقها ممتد من أفغانستان لمصر وأفريقيا. واسم نادي السفاري كان الاسم الكودي لهذه التوأمة المخابراتية، وفي إطارها تم دعم مباشر وغير مباشر لحملات صحفية تشوه التاريخ وتضلل الرأي العام وتشنع على القطاع العام، ولمجموعة كتب لكتاب متعاونين مع السفاري في مقدمتهم أنيس منصور وعبد العظيم رمضان، ولبعض أفلام سينمائية لم يتوفر لدينا أمثلة لها
- المرحلة التبادلية (الطموح الاستهلاكي/ الارهاب الأمني) من 1993 وحتى اليوم، وقام بها النظام المصري الحالي منفردا، بعد نهاية شهر العسل مع الإخوان، واستمرت في دعم قيم الاستهلاك، مضافا إليها تضاعف البطش الأمني والذي كان مبررا بالإرهاب في التسعينات مع انفلات الجماعات الأصولية التي فرخها النظام، واستمر دون تبرير حتى اليوم في مواجهة الحراك الوطني السلمي، والذي صار سلميا من جانب واحد هو الناشطين، وعنيفا من جهة الأمن، وهي المرحلة التي تم خلالها التطبيل والتصفيق لسقوط المعسكر الشرقي في أوروبا، وكأنه لم يكن حليفنا ومصدر سلاحنا في مقابل أمريكا والكيان الصهيوني، أما قنوات تلك المرحلة الراهنة وسماتها فنتناولها بقدر من التفصيل
المرحلة التبادلية .. القنوات والوسائل
- الإعلام الرسمي على القنوات التليفزيونية الحكومية والجرائد الرسمية، الأهرام والأخبار والجمهورية والمساء وروز اليوسف، وقبلها مايو وأكتوبر
- الجرائد شبه المعارضة مثل المصري اليوم والأسبوع، والتي تروج نفس قيم الجريدة الحكومية ولكن بغطاء سطحي من المعارضة، وبصورة غير مباشرة، مع الهاء القاريء بقضايا فرعية للرأي العام، لا تنتهي إحداها حتى يتم طرح أخرى
- امتلاك عناصر اليمين المتطرف من رجال المال والأعمال الخليجيين والمصريين لمعظم الفضائيات ومن ثم دعم قيم السوق والسلوك الاستهلاكي من خلالها بطبيعة الحال ودون الحاجة لتخطيط مسبق، ودون أدنى محاولة من الدولة لرفع وجودها الإعلامي
- الدراما التليفزيونية والسينمائية وأشهرها فوازير رمضان في الماضي، والتي جمعت في ابهارها وفي جوائزها ورعاتها معظم سمات وقيم المرحلة
المرحلة التبادلية .. الرسالة والمضمون
قلنا أن الحرب النفسية تستهدف تغييرا في كل من (1) القيم، (2) العقيدة، (3) السلوك، فكيف تم هذا في حالتنا في مصر؟
القيم: قيم السوق بدلا من قيم الكفاية والعدل
قلنا أن الحرب النفسية تستهدف تغييرا في كل من (1) القيم، (2) العقيدة، (3) السلوك، فكيف تم هذا في حالتنا في مصر؟
القيم: قيم السوق بدلا من قيم الكفاية والعدل
- منطق الثراء المادي بغض النظر عن الوسائل كمعيار اجتماعي يكاد يكون وحيدا للنجاح والتميز، ليحل محل قيم العلم والمستوى الاحترافي والمركز الوظيفي وغيرها من المعايير الاجتماعية
- منطق الصراع والتنافس الغير مقيد ببعد إنساني، والذي يتحول من معركة تميز لمعركة بقاء للأقدر، ليحل محل قيم التعاون والشراكة والتقارب الاجتماعي والجيرة والعائلة
- الذاتية المفرطة لتحل محل قيم التضحية والفداء
- التنفير من الادخار بتقزيم العائد على المدخرات تدريجيا، وتيسير القروض الشخصية في المقابل، لدعم قيم البذخ الاستهلاكي لتحل محل قيمة الادخار الوطني والتنمية
العقيدة: التدين الوهابي بدلا من التدين الثوري والإصلاحي (عبر الدكتور علاء الأسواني عن تلك المعاني تفصيلا في مقاله عن التدين البديل) و
- بروز منطق الحفاظ على الذات من المهالك وخفض نبرة الفداء والشهادة في الخطاب الديني المعاصر
- التركيز على فروض الدعم الروحي كالصلاة والصوم والحج وتركيز أقل على فروض البر القائمة على بذل المال والنفس كالزكاة والصدقات والنضال والقتال في سبيل الله والشهادة
- ترويج مفهوم ديني مغلوط مقتضاه عدم مسئولية الفرد عن أفعاله طالما فعلها في ظل فتوى إباحة، والحقيقة أن القرآن والحديث نص على المسئولية الفردية لجميع التصرفات في أكثر من موضع
السلوك: المخدرات، الجنس، وأشياء أخرى
- فك الارتباط بين قيمة الرجولة ومواقف الرجل، وخلق حالة من الرضا العام عن الخنوع والسلبية والجبن كصفات مقبولة ضمنا في الرجل من خلال الإعلام الموجه في الوجهة المضادة لوجهة الستينات النضالية، وترتب عليه كل ما نراه من سلوكيات متدنية للرجال في مجتمعنا انتهت بالرجل عاجزا عن دوره كأب وزوج
- ترتب على تشوهات الرجل النفسية والناجمة عن قهره وهزيمته الداخلية تشوهات مقابلة في سلوك المرأة والزوجة والأم
- التوافر الكبير للمخدرات بكافة أنواعها في السوق المحلية وكأنها مسموح بتداولها، ودون احتياطات كبيرة ولا تعتيم كما كان الحال في الماضي القريب
- ترويج الإباحية الجنسية في جانب من المجتمع وترويج الأشكال المستحدثة للزواج في جانب مقابل أكثر تمسكا نوعيا بالعقيدة، ليظهر الزواج السياحي وزواج المتعة والمسيار وغيرها، وكأننا لسنا مسلمين منذ أربعة عشر قرنا بنوع واحد من الزواج لم نعرف غيره سوى في الأعوام الخمسة عشرة الأخيرة
- البطالة الاختيارية التي يرفض فيها بعض شباب الطبقة الوسطى أعمالا تقتضي جهدا كبيرا بسبب تسفيه قيمة العمل واعتباره مصدرا للدخل وليس قيمة في ذاته
No comments:
Post a Comment