8.10.10

أوهام المصريين - قول على قول


لفت نظري الصديق العزيز د/ رفيق نخلة لمقال د/ يوسف زيدان في المصري اليوم في سبتمبر الماضي بعنوان "أوهام المصريين- الناصر أحمد مظهر"، وكان المقال مفاجئة لي بسبب كم الخلاف الذي أشعر به لأول مرة مع كاتب عبقري بحجم يوسف زيدان، عرفت معه اتساقا فكريا كاملا في العملين الإبداعيين الرائعين عزازيل وظل الأفعى، والعمل الفكري الأخير اللاهوت العربي، فضلا عن العديد من مقالاته في موضوعات مختلفة

يبدأ زيدان فيورد أبياتا من قصيدة كتبها أمل دنقل عام 1976 متأثرا فيما يبدو بموسم الهجوم على الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في ذلك الحين، فيها لمز غير مستتر للثورة وقائدها، وما من رد على تلك الأبيات أبلغ قصيدة أخرى للشاعر نفسه كتبها عام 1970م بعنوان لا وقت للبكاء ، وجاء فيها: والتين والزيتون وطور سنين، وهذا البلد المحزون، لقد رأيت ليلة الثامن والعشرين من سبتمبر الحزين، رأيت فى هتاف شعبى الجريح .. رأيت خلف الصورة .. وجهك يا منصورة، وجه لويس التاسع المأسور فى يدى صبيح .. رأيت فى صبيحة الأول من تشرين .. جندك يا حطين .. يبكون، لا يدرون .. أن كل واحد من الماشين .. فيه صلاح الدين، وكشاعر لا أرى تناقضا بين ما كتبه دنقل عام سبعين وبين ما كتبه بعد ذلك بستة أعوام في ظل تجربة شعورية مختلفة، فالشعر ليس تعبيرا عن موقف ثابت قدر ما هو تعبير عن شعور لحظي، وهناك تصريح منشور لأمل دنقل مفاده أنه يحب الزعيم ويقدره، ولكنه يتحفظ على الحكم العسكري بصفة عامة، وهو ما نتفق معه فيه

ناصر والناصر في الميزان
ونعود لأستاذنا يوسف زيدان، وتناوله في المقال لفيلم الناصر صلاح الدين ولشخصية صلاح الدين الأيوبي نفسه تاريخيا، وفي البداية يضع الكاتب عبارة لم يدلل عليها، موحيا للقاريء بأنها حقيقة بديهية، إذ يقول وهو يصف الفيلم "لكنه واجه فشلا فنيا ذريعا" فما علامات هذا الفشل الفني؟ وما هو مصدر الكاتب في قوله أن يوسف شاهين رحمه الله كان يكره الحديث عن فيلمه هذا ويعتبره سقطة؟ أما العبارة التي استنفرتني لكتابة هذا المقال فهي قول الكاتب "فى ذلك الزمان البائس المسمى اصطلاحاً الستينيات" فلو كانت الستينات حقبة بائسة في تاريخنا، فماذا يسمي الدكتور زيدان أربعينات بريطانيا الحليفة؟ وسبعينات العزلة وسلام الأوهام؟ وثمانينات الردة عن المدنية والاشتراكية؟ وتسعينات الإرهاب الأسود والوهابية الظلماء؟ وأخيرا ألفية التمديد والتوريث؟ أليست تلك العقود هي البؤس بعينه؟

ثم أرى الكاتب الذي عهدته عبقريا في منهجيته يصف الفيلم بأنه احتوى العديد من الأكاذيب، فهل هناك سينما صادقة وأخرى كاذبة؟ لا أختلف معه فيما أورده من حقائق تاريخية مخالفة لما جاء في الفيلم، ولكن هل الدراما مطالبة بنقل التاريخ أو الأمانة في سرده؟ لو كان الأمر كذلك لحق علينا أن نحرق كل أفلامنا التي تتناول التاريخ القديم والحديث والمعاصر لأنها جميعا لم تخل من عور تاريخي، لكن المنطقي أن الدراما والأدب يستلهمان التاريخ ولا يلتزمان به، من إسلاميات جورجي زيدان لوا إسلاماه باكثير لفيلم الناصر صلاح الدين، يضع المبدع ما يراه داعما للرسالة والمعنى المراد وصوله للقاريء أو المشاهد، ويتعامل مع الحقائق التاريخية بحرية التغيير والطمس والإبراز، طالما لم ينص في مقدمة عمله على صحة ما به من وقائع تاريخية، أما ما أورده الدكتور زيدان من تباين بين التاريخ والفيلم فلنا عليه عدة تعليقات
  • يرى الكاتب أن الفيلم جامل شخصية الناصر صلاح الدين على حساب التاريخ مجاملة للزعيم عبد الناصر لأنه عسكري مثله، ناسيا أنه يتحدث عن النصف الأول من القرن العشرين حيث كان وجود العسكريين في السلطة لا يحتاج للدعم الفني والتبرير الجماهيري، ففيه عرفت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وأسبانيا ويوغوسلافيا والاتحاد السوفيتي وغيرها حكاما ترجع أصولهم للمؤسسة العسكرية، بل عرفت العديد من دول العالم الأول أنظمة حكم شمولية ذات إعلام موجه، وحقيقة الأمر أن تجميل شخصية البطل بصفات الديمقراطية والتواضع والتسامح الديني خلافا للتاريخ كان بهدف خلق تعاطف مع الحق العربي الذي يمثله والقومية التي يرمز لها
  • يصف الكاتب سلوك صلاح الدين مع نور الدين محمود بالخيانة لأنه استقل بمصر عن الشام، ثم ضم الشام نفسها بعد موت نور الدين، والدكتور زيدان أخبر منا بكون هذا السلوك مألوفا للغاية في تلك العصور، ولو خونا صلاح الدين لذلك لقلنا أن والد عماد الدين زنكي والد نور الدين كان خائنا للأمير عز الدين محمود والي الموصل، حيث حل محل ولده على عرشه حين مات
  • تسليم الملك العادل شقيق صلاح الدين القدس للصليبيين بعد وفاة الناصر صلاح الدين لا يعيب صلاح الدين ولا يدينه، فهمم الرجال تتفاوت
  • عجيب أن يشترك الدكتور زيدان مع السلفيين في اتهام يوسف شاهين بالغرض في تحويله شخصية عيسى العوام المسلم إلى مسيحي مصري، فالسلفيين قالوا أن شاهين جعله مسيحيا لأن المخرج نفسه مسيحي، والدكتور يشير من طرف خفي لأن النظام أملى ذلك على المخرج وقتها ليجامل الأقباط، وهي تهمة تشرف النظام الحريص على إبراز توحد عنصري الأمة في النضال ضد المستعمر، والحقيقة أن المخرج جعل عيسى مسيحيا ليبرز الفارق بين المسيحي والصليبي من ناحية، ولتعميق مفهوم المواطنة من ناحية ثانية، لكن يبدو أن اشتباكات الدكتور زيدان الأخيرة مع قيادات كنسية متطرفة أكسبته حساسية خاصة
  • تظهر الحساسية ضد الكنيسة في النقطة التالية من مقال الكاتب، حيث ينتقد دعم النظام المصري في الستينات للكنيسة المصرية، وهي تهمة تشرف النظام بدورها، إذ عرف كيف يستغل دور الأزهر من خلال البعوث الإسلامية والكنيسة المرقسية لدعم نفوذ مصر الإقليمي والدولي وقتها، ثم يدفع الكاتب أن الدور السياسي الذي تقوم به الكنيسة اليوم مؤسس على دعم النظام لها في الستينات، مضافا إليه شخصية البابا شنودة المختلفة عن شخصية البابا كيرلس، والحقيقة أن الكنيسة ظهرت بهذا الدور مع تراجع المد الوطني والقومي كشكل من أشكال الانتماء البديل، ومع الغزو الوهابي لمصر كشكل من أشكال حماية الهوية، وإن كنا نرفض هذا الدور الغير صحي للمؤسسة الدينية
  • يختم الكاتب مقاله بالسخرية من صلاح الدين وسيف الدين قطز وركن الدين بيبرس واصفا إياهم بأنهم أبطال من البطلان لا من البطولة، وهنا قد يقصد الكاتب رفض الصورة الحالمة والمنزهة للشخصية التاريخية عند دراستنا لها، وهو محق في هذا من حيث الدراسة لا الدراما، لكن امتزاج الفضائل والمثالب في تلك الشخصيات لا ينفي عنها البطولة في مواقف بعينها وجوانب محددة من تاريخها، فكون خالد بن الوليد مزواجا لا ينفي كونه عبقرية عسكرية، وكون سعد زغلول مقامرا لا ينفي كونه بطلا وطنيا ، وكون محمد فريد مغرما بالفاتنات لا ينفي عنه دوره الوطني، وكون مصطفى النحاس ضعيفا أمام زوجته لا ينفي أنه كان حريصا على الوطن وفقا لتقديره. لو تصيدنا المسالب لرواد تاريخنا سننتهي بأزمة مثل عليا أفدح مما نمر به اليوم
في النهاية، كان هذا قول على قول، قول لقاريء بسيط تعقيبا على قول لمبدع كبير يحترمه ويقدره كل التقدير

2 comments:

ahmedabdulhay said...

تعليق على تعليق .. أو كما أوضحت .. قول على قول , بدأت أخشى عليك من دفاعك الدائم المستميت عن الحقبة الناصرية .. إلا أني أحترم هذا الدفاع
يأقوم بترك تعليقي على صفحتك الخاصة بالفيس بوك
أشكر مجهودك

Dr. Eyad Harfoush said...

صديقي أستاذ أحمد عبد الحي
لا تخش علي يا صديقي، فأنا أرى مواطن القصور في التجربة الناصرية، ولكني لا أحب أن نكون شعبا لا يفرز الغث من الثمين في تاريخه، ويسوي بينهم بكلمة لكل محاسن وعيوب، وبهذا نجعل مبارك والسادات مع عبد الناصر، وتلك خطيئة فكرية، فلا سواء لا سواء، في الأرض ولا في السماء، تحياتي وتقديري وشكري