الشمس ساطعة في السماء، تلمع صورتها على صفحة الفرات كالذهب، وعلى ضفته تلاحمت بيوت من الآجر، مدينة من مدن العراق التي بنيت بعد الفتح إذا، فقبله كانت المباني الحجرية هي الأكثر شيوعا على ضفاف الفرات، أرى منازلها تنتظم في قطائع متقاربة كأنها تتكئ على بعضها بعضاً .. فكأني بها تصنع في مجملها دائرة! هذه هيئة الكوفة في نهاية القرن السابع للميلاد، الكوفة .. مركز الدعم اللوجيستي لجيش المشرق، لم تكن هذه الأرض مأهولة حتى أراد قائد جيش المشرق "سعد بن أبي وقاص" أن يبني نقطة انطلاق وإمداد لجيوشه المغيرة على المدائن عاصمة الإمبراطورية الساسانية، وتكون كذلك مثابة لهذه الجيوش إذا عادت للكر، حيث كان القادة يفضلون البعد بمعسكراتهم عن المدن المفتوحة حفاظا على انضباط الجنود وحدا من المظالم وانتهاك الحرمات التي قد تحدث عرضا من راغبي الدنيا بين الجند، فعهد "سعد" لسلمان الفارسي باختيار موقعها وبنائها لتكون "كوفة الجند"، أي معسكرهم .. اختار "سلمان" هذه البقعة طيبة الهواء على ضفاف الفرات وخط مدينته، ثم بدأ فبني بها المسجد الجامع وداراً للأمير "سعد"، ثم دورا للجند في قطائع تتحلق حول المسجد، وها هي دار الإمارة هناك، يلتصق بها بيت المال من ناحية، ومن الناحية المقابلة نهدة من الأرض عليها بيت منتظم البنيان هو .. هو بيته .. بيت "علي بن أبي طالب" حين سكن الكوفة، البيت الذي مازال قائما حتى اليوم كواحد من أهم المزارات الشيعية في العراق، ففيه قضى الإمام الثلاثة أيام الأخيرة من حياته جريحا كليم الفؤاد، وفيه غسل جثمانه الطاهر وجهز للدفن، ويح قلبي يا ابن عم رسول الله .. في المدينة المنورة "علي" .. وهنا في العراق "علي" .. فإلى أين ستأخذني في المرة القادمة يا أمير المؤمنين؟
ها هو مسجد الكوفة يبدو صغيرا بسيط البنيان، فنحن في نقطة زمنية بين عامي 630 و650م قبل توسعته، كم شهدت يا مسجد الكوفة من الأحداث؟ وكم عرفت من عظام الرجال؟ ومن صغارهم أيضاً؟ أسير حتى أبلغه فأقف بالباب، فأرى المنبر الذي خطب فوقه أمير المؤمنين يوما، هذا هو الباب الشمالي للمسجد إذن؟ باب الثعبان؟ حيث ادعى البعض أن جنيا دخل منه ليسأل "علياً" في أمر من أمور الفقه، فدخل في هيئة ثعبان حجمه كالفيل![1] كم يعشق المهمشون حشيشة الأحلام التي يلوكونها صباح مساء! الأساطير تسعدهم وتربت على عقولهم النائمة في حنان بالغ، لهذا يحبونها ويرفضون الاستغناء عنها، أما صوت العقل فيطرح إشكاليات تصدع رؤوسهم المصدعة بالفعل من هموم السعي على الرزق، لهذا يرفضونه ويكرهونه .. أهم بخلع حذائي لأدخل المسجد، فأجدني حافياً! فهل هي إشارة لموتي كذلك؟ أخشى أن أنظر لجسدي حتى لا يفاجئني مشهد كفن يلفني! أدخل لأرى في صحن المسجد مصطبة مرتفعة عن الأرض قدر شبر، يصر العوام أنها القاعدة التي بنى عليها النبي "نوح" سفينته، وقد ظنوا هذا لأن الفرات عودهم أن يفيض كل عام بمائه القادم من تركيا، فيغمر بيوتهم وزروعهم، حتى احتاج المسجد لرفع مستواه أكثر من مرة حتى لا يغمره الماء، واليوم تحتاج لأن تنزل بسلم حلزوني من صحن المسجد لتقف على تلك الأرض التي أقف عليها أنا الآن .. الآن .. واليوم .. هل يعرف أحد وهو في حلم أنه كذلك؟ أدركني يا الله، أنا في حلم وأعرف أنه حلم، فلماذا لا أستيقظ؟ هذا الصداع كم أكرهه
أذكر كيف يبدو المسجد من الداخل في عصرنا تماما كأني أراه أمامي، فقد تعددت زياراتي له خلال بحثي في العراق .. ما أصعب العيش في عصرين .. اليوم يظهر في منتصف المسجد سلم حلزوني يهبط لأرضية المسجد القديمة، وعليها المقامات الأصلية، ومصطبة السفينة، ومازالت قصة سفينة "نوح" تلك تردد على آذان أطفال الكوفة حتى اليوم، فيحكى لهم كيف كان فناء بيت "نوح" في موقع المسجد، وكيف بنى فيه الفلك التي حملته وذريته ومن اتبعه على الحق واثنين من كل زوج من الطير والحيوان لبر الأمان
...
يتبدل المشهد .. ويخفت الضوء .. أرى قاعة محاضرات مظلمة وشاشة عرض بلازما عليها صورة للمسجد بسلمه الحلزوني، فهل هو حلم داخل حلم؟ هل يعرف من يحلم أنه يحلم أم أن هذه أعراض الجنون؟ خلف البوديوم الخشبي يقف الدكتور "سلمان العقيبي" أستاذ التاريخ الإسلامي بتلك الجامعة الخليجية الشهيرة، وهابي عتيد، يضايقني الانطباع الذي يتركه عن الأكاديمي المسلم حين نكون بمحفل عالمي، تذكرت الآن .. لقد حضرت هذه المحاضرة منذ سنوات، أذكر تماما أقواله المرسلة عن سفين "نوح" عليه السلام، والتي خلط فيها بين العقيدة الدينية والنص التاريخي والموروث الشعبي، محاولا الخروج بنتيجة محددة سلفاً، وهي انطلاق السفينة من فناء بيت "نوح" في الكوفة لتستقر فوق جبل تندوريك في تركيا، والذي أصر "سلمان" على تسميته بالجودي وفقا للنص القرآني[2]، آخر ما يصلح له هذا الرجل أن يكون مؤرخا معاصرا، فهو يحتذي أسلوب "المقريزي" و"ابن كثير" و"ابن خلكان" في عصر تجاوز هذا كله! وهاك صوته يرتفع وهو يشير لشاشة العرض بيمينه التي يتألق فيها خاتم فضي مطعم بالماس، ويقول: نعم، بحثنا يعيد الثقة لنظرية جبل الجودي المسمى بالتركية تندوريك، فالتكوين هنا ليس تكوينا طبيعيا كما يدعى السادة "دافيد فاسولد" و"آلان كولينز" في تقرير عام 1996م[3]، تقرير تحيطه الشكوك من كل جوانبه، نعم
يكرر "العقيبي" لفظة نعم كثيرا في حديثه، ابتسم وأنا أتصور الإعلانات المدفوعة التي ستنشرها مؤسسات تمويل أبحاث الإعجاز العلمي بصورة مقالات في أعرق الصحف العربية حول الموضوع، وكيف ستجد الجرائد الوهابية من لندن للرياض مادة جذابة في البحث المتهافت، فتنشره تحت مانشيتات من عينة "عالم مسلم يثبت بالأدلة القاطعة صحة الرواية القرآنية لقصة "نوح" عليه السلام وخطأ رواية الكتاب المقدس" بينما الحقيقة كالعادة أنه لا توجد أدلة ولا قرائن ولا يحزنون! .. أرى أحد الحضور يرفع يده ليستأذن في النقاش، بدا لي من هيئته يومها أنه بريطاني، وأكدت هذا لكنته الرصينة المنمقة وهو يتحدث الفصحى بطلاقة نسبية، فقال: عذرا بروفيسور "سلمان" ولكن هل لديك تصور واضح للإطار الزمني للحدث؟ أعني حدث الطوفان؟
أعجبني دوما في الأوروبيين قدرتهم على مناقشة حتى أسخف الأطروحات بجدية، وبغير أن تلح على وجوههم ابتسامة السخرية، ولا أنكر أنها فضيلة أفتقدها في نفسي، فهاأنذا أغالب ابتسامتي بينما يشرع "سلمان" في الإجابة وهو يحرك شماغه[4] الأبيض الأحمر ويعدل من وضعه فوق رأسه باهتمام، ثم يقول: سيدي نحن نتكلم عن عصور سحيقة القدم، نعم، عشرات القرون قبل بداية الكتابة في سومر القديمة أو مصر، في مثل هذه الحالات يستحيل تحديد إطار زمني إلا من الحفريات ذاتها، والتي لم تكتشف بعد!
- هذا يعني أنك تصطاد حيوانا لا تعرفه! لنفرض أنك وجدت مجموعتين من البقايا تصلح لتكون فلك "نوح" المنشود، وفحصتها بالنظائر المشعة فتبين لك أن واحدة ترجع لعام 30 ألف قبل الميلاد والثانية لعام 60 ألف، أيهما سترجح؟
- مركبين على قمة جبل؟ عن جبل نتحدث أم عن قاع الأطلسي؟ سبحان الله!
- ما تسميه اليوم قمة جبل اليوم ربما كان وهدة من الأرض عام 60 ألف قبل الميلاد، بل ربما كان قاع المحيط كما قلت أنت مازحا
يتقدم "سلمان" نحو محدثه البريطاني بضيق واضح في خطوته وتعبيرات وجهه، وإن حاول أن يحتفظ بنبرته هادئة وهو يقول: لماذا كنتم تبحثون إذا عن نفس القطعة فوق جبل آرارات منذ بضع سنين؟
- عفوا؟ من تعني بقولك كنتم؟ لم أبحث عن أي شيء هناك
حتى البريطاني فقد السيطرة على سخريته! كالعادة نتكلم عن الأمريكيين والأوربيين فنضعهم في سلة واحدة نسميها الغرب، ثم نتوهم حربا يتجدد أوارها بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، بينما العالم المسيحي ذاته تخلى عن مسمى كريستيندوم[5] هذا منذ قرون!
يقلب الدكتور "سلمان" يده ناظرا في ساعته وقد حلا له إنهاء اللقاء قبل المزيد مما يعده سفسطة، لكنني حلت لي مداخلة سفسطائية، فطلبت الكلمة وطرحت سؤالي قائلاً: لماذا تفترض أن الجودي في القرآن وآرارات في التوراة مختلفان؟ لماذا لا يكون الجودي بالعربية هو الاسم المعبر عن ذات الجبل المذكور في التوراة السريانية باسم آرارات؟
- الفارق اللفظي أبعد مما يحتمل التصحيف
- لفظة آرارات ليست أبعد عن الجودي من تندوريك، وهو اسم الجبل في كل الخرائط، والذي يعرفه به سكان المنطقة جميعا، لكن الأسماء لا تعني شيئا، وهاك المثال: كانت مصر على عهد قدماء المصريين تسمى "كيمبيت"، أي الأرض السوداء، ثم أطلقوا عليها صفة "ثاميرا" - أي الخصبة - فيقال "كيمبيت ثاميرا"، ثم استخدمت "ثاميرا" وحدها كاسم، ثم استخدم الهكسوس اسم الإقليم الأكبر في الوجه البحري الذي احتلوه وهو "هيكوبتاح" - أي أرض الإله بتاح – كاسم لمصر كلها، فحورت مع الوقت إلى "كوبتا"، فأسماها اليونان حين احتلوها "كوبتاس" بإضافة المقطع اليوناني التقليدي "us" ومنها أصبحت "آيجيبتاس" ثم "إيجيبت" اليوم[6]، فما علاقة هذه الأسماء ببعضها؟ تباعد الأسماء ليس قرينة على اختلاف المسميات؟ وهل كان أحد يسمي الجزيرة العربية قبل الحرب العالمية الثانية والمخطط الإنجليزي الشهير باسم السعودية؟
يجيبني متصنعا الفكاهة بينما يظهر الضيق عليه من حركة ساقه العصبية تحت الثوب الأبيض: متخصص في التاريخ الفرعوني أم الإسلامي دكتور؟ ولكن ماذا عن لفظة مصر؟ نعم .. ما مصدرها؟
- هناك رأيان، الأول أن "مصر" تعني الحضر المتمدن في لغة عرب الشمال، دعوها بهذه الصفة حين صعبت عليهم الأسماء القبطية واليونانية، أما الرأي الثاني فهو للدكتور "عبد الحليم نور الدين"، ويقول بأنها اشتقت من الأصل المصري القديم "مِجِرْ" بمعنى محمية[7]، وكان يطلق على "كيمبيت" فيقال "كمبيت مجر" أي "مصر المحروسة"، تعبير مصري ضارب في القدم مازال مستخدما لليوم، ثم استخدمت "مجر" وحدها، وصحفت إلى مصر مع الفتح العربي
وهنا سألني "سلمان" بشغف من وجد غفلة ينقض منها على فريسته: ولكن القرآن الكريم ذكرها باسم مصر
- القرآن نزل بلسان عربي، وبلسان قريش تحديدا، فسميت باسمها الشائع بينهم، ولو أنزل الله كتابه بالقبطية لسميت فيه "كوبتا" كما أطلق عليها أهلها في الحقبة القبطية
يعود ليسأل مجددا أمله في تفنيد المثل الذي ضربته فيقول: وماذا عن "مصراييم بن نوح"[8]؟
- رواية توراتية بلا أساس تاريخي، رددها رواة مسلمون نقلا عن اليهود، فشاعت في الكتب التراثية
- حسن جدا، لنرجع للموضوع
- ملحوظة أخيرة دكتور "سلمان"، النسخة الآرامية من التوراة سمت الجبل الذي رست عليه السفينة باسم كاردو، أي جبل الأكراد
- نقطة ممتازة
هكذا علق البريطاني الذي بدأ الحوار على ملحوظتي، بينما هز "سلمان" رأسه في عدم اهتمام ثم استدار عائداً نحو البوديوم، فأقوم أنا وأتجه لباب القاعة متحسسا جيوب سترتي بحثا عن سجائري وولاعتي، إلى متى يحاولون إثبات ما لا يحتاج لإثبات؟ إلى متى خلط الأوراق؟ أما اكتفينا من البقاء في موقعنا المفضل في ذيل العالم؟ .. أشعل سيجارتي بعد أن أغلقت باب القاعة خلفي ثم أقطع الممر الطويل الذي يصل باب القاعة بالبهو الخارجي حيث أقداح القهوة الساخنة، ها هي "ريما نمر" أستاذة الدراسات الشرقية في المعهد الألماني بلبنان تدخن سيجارة مع قهوتها، تماما كما رأيتها تقف يومها، يا إلهي ماذا أسمي هذا؟ حلم أم فلاش باك لأحداث حياتي؟ أم لأحداث حياتي الحالية وحيوات سابقة؟ أستغفر الله العظيم، لو استمر بي الحال هكذا فسأنتهي كراهب بوذي في التبت! ما علينا من هذا .. ما زلت حلوة وفياضة برواء الشام التاريخي يا "ريما" كأن الزمن لا يمر ببابك، رقيقة برغم النظارة والبدلة الرسمية ذات اللون الرمادي الوقور؟ أتجه نحوها مبتسما لأحييها: صباح الخير "ريما"
- أسعد الله صباحك، كيف حالك بعدما سمعت بالداخل؟
- مازلت حيا
مدت ذراعها مصافحة وتحدثت بلهجتها اللبنانية التي تختلط فيها عذوبة الجبل بسلاسة البقاع، فقالت: توقعت أن أجدك هنا حين خرجت لأدخن، لم أتوقع أن تحتمل هذا الهراء طويلا
أوميء برأسي موافقا ومبديا امتعاضي وأجيب: عمر البشرية العاقلة على الأرض مائتي ألف عام، و"نوح" كان ثاني الأنبياء بعد آدم بفارق لا يزيد عن عشرة قرون، معنى هذا أنه يبحث عن سفينة بنيت منذ تسع وتسعين ألف سنة! دهر مرعب يكفي لتحويل السفينة إلى رماد تذروه الريح
- المبدأ ذاته ليس مقبولا، توقف العالم منذ مائة عام عن القول بتاريخية التوراة، فمتى نتوقف نحن عن خلط الدين بالتاريخ؟
- العالم لم يتجاوز هذا السخف تماما، في 1993 خرج علينا أحد مهاويس تاريخية الكتاب المقدس بقصة التكوين الجليدي فوق جبل آرارات في تركيا، فأثبت البحث الجاد أنه تكوين طبيعي، وكذلك الحال مع ظاهرة "دوربينار"[9] التي يتكلم عنها "سلمان"، تكونت بعثة وفحصت كل شيء وقررت أنه تكوين طبيعي يشبه قاع سفينة، حتى الأثقال الحجرية التي كانت تستخدم لحفظ اتزان المراكب في البحر الهائج - والتي وجدت غير بعيد من الجبل - أثبتت الدراسات أنها حديثة جدا[10]
- هذا لا يغنينا عن إعادة الكرة، فربما خدعنا الأمريكيون! تعلم أننا فطنون فوق العادة
هكذا قالت "ريما" ضاحكة وهي تطفيء سيجارتها في المنفضة العمودية المثبته على الأرض، قبل أن تستأنف قائلة: متى تتناول غداءك؟
- سأرد على بريدي الإلكتروني أولا، ربما في الثانية عشرة والنصف
- هاتفني بغرفتي لو أردت لنتغدى سويا
- بالطبع، تقبريني "ريما"
...
صوت قوي يلقي السلام، كأنه يلقيه على جمع كبير، وتتغير الصورة أمام عيني قافزة للماضي، فأفقد صورة "ريما" ويظهر أمامي مسجد الكوفة ثانية، أتذكر الصوت الرخيم، إنه صوت "علي"، وها هو فوق المنبر يتكئ على سوره الخشبي بيمناه، زاد الشيب في شعره ولحيته كثيرا، حتى بدا وكأنه في العقد الثامن من العمر وإن كان بعد في أول السابع، يتبدى على محياه كرب شديد، أراه يعقد حاجبيه الكثيفين، ويزفر زفرة تحمل لهيبا من صدره العريض وهو ينظر للجموع أمامه، ثم يبدأ بمأثورات استهلال الخطبة بصوت هادئ، كأنه هدوء يسبق عاصفة، وتبدأ العاصفة بالفعل مع ارتفاع حاد في صوته حين انتهى من الدعاء المأثور فقال: "أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء، ألا وإنني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، سرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان .. فيا عجبا! يا عجبا!"
يصمت برهة كمن يكظم غيظه ثم يقول وهو يرمق القوم أمامه بنظرات تلتهب كمداً: "يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم .. فقبحا لكم وترحا .. صرتم غرضا يرمى؟ يغار عليكم ولا تغيرون؟ وتُغزَون ولا تَغزُون؟ ويعصى الله وترضون؟ ويعصى الله وترضون؟ ويعصى الله وترضون؟"
قال جملته الأخيرة مجلجلاً، لعلهم يفيقون، أراه الآن يطيل النظر فينا، نعم .. فينا .. فأنا جالس بين أهل الكوفة، أتفرس بوجوه من حولي، فمن هؤلاء من كانوا جنده يوم عسكر قرب الكوفة بعد النهروان، كان عازما أن ييمم صوب الشام للقاء "معاوية"، ليحسم أمر والي الشام المتمرد على الحاكم الشرعي، لكن مطلبا شاع بين الجند بالراحة، فلم يجد بدا من الموافقة وعسكر بهم خارج المدينة، وطلب إليهم ألا يدخلوها فينفرط عقدهم ويغلبهم التراخي، وحدث ما خشي منه، فأقام هناك ليرى جنده ينسلون من معسكره رجلاً فرجلاً حتى لم يبق في معسكره إلا نذر يسير لا يصلح لزحف
يطيل الإمام النظر فينا، ينتظر ليرى وقع كلامه علينا، أو عليهم، فلا يجد غير التواني في وجوههم وهم يشيحون بأعينهم من مواجهة عينيه الثاقبتين، يزم شفتيه في أسى مرير، قبل أن ينطلق صوته هادرا كالرعد يقول: "يا أشباه الرجال ولا رجال! قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن "ابن أبى طالب" رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب .. لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وهأنذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع .. لا رأي لمن لا يطاع"[11]
كم قرأت هذه الخطبة وأنا أتصورك بموقفك هذا يا أمير المؤمنين؟ موقف الحق المخذول من أشباه الرجال؟ وكم بدنيانا من أشباه وأقزام! ما زالوا كما هم يا أمير المؤمنين، ما زال العرب كما هم، خذلوا كل داعٍ للحق بعد أن خذلوك، وحشدهم للباطل كل أفاق بعد أن حشد "معاوية" من أهل الشام مائة ألف جندي على الدرهم والدينار، على هذا كان دأبهم حتى صاروا قاع العالم ومهزلة التاريخ! نعم سيدي، فأصحاب الرؤوس المنحنية أمامك اليوم هم أنفسهم من قبلوا بصاحب القرد "يزيد بن معاوية" خليفة! وهم من خذلوا الثائر "عبد الله بن الزبير"[12] حتى صرعه "الحجاج بن يوسف" ثم مثل به بعد أن قصف الكعبة بالمنجنيق[13]، هم بذاتهم من تركوا دم المظفر "سيف الدين قطز" يذهب هدراً وأقسموا يمين الولاء لقاتله[14]، ومن ظهورهم خرج "حسن بن مرعي" الذي خان "طومان باي" وسلمه لعدو الوطن تقربا وزلفى![15] ومن أحفادهم انحدر من خذلوا "محمد كريم" في محبس الفرنسيين، بعد أن حكم عليه بفدية قدرها ثلاثين ألف ريال أو الإعدام بالرصاص عقابا على مقاومة المحتل! فوقف الزعيم الذي بذل ماله في المقاومة يهيب بالناس من محبسه، ويقول "اشتروني يا مسلمين .. اشتروني يا مصريين"[16]، ولكن .. لا حياة لمن ينادي، وهم من خانوا بعد هذا فرصة الوحدة العربية الأخيرة في الخمسينات والستينات لضعفهم أمام دولارات البترول[17]، هم من صالحوا اسرائيل ليفرغوا لقصف ليبيا[18]! هم بذاتهم في كل حين وكل قطر، في مصر أو الشام أو العراق أو الجزيرة، أشباه الرجال أمة واحدة، مهما تباينت الأسماء والأزمان والأماكن!
...
والآن، ألا يكفي هذا حلما ليوم واحد؟ أشعر بثقل فوق صدري .. أتمنى لو أفيق من هذا النوم المرهق كالسفر الطويل، لكن المشهد يتبدل لأرى مجلسا لوجوه تعرف بسيماها، هو مجلس لصحابة رسول الله وإن لم أميز شخوصهم، لكنني أحسهم، وأشعر بمجلسهم كأنه يضاء بنور الحقيقة، لا أسمع ما يتناجون به، حتى يدخل عليهم رجل سمين عظيم البطن مائل للطول، وعليه رداء من حرير قرمزي مذهب الأطراف، إنه "معاوية بن أبي سفيان"، نعم ومن غيرك يا "أبا يزيد"؟ من غيرك فض هذه المجالس النورانية للأبد؟ أراه يصافح الجمع الكريم فردا فردا، ثم جلس بينهم، وها هو يميل تجاه أحدهم، فيقول بصوت جهوري قصد به أن يسمع الجميع وإن وجه الخطاب لأحدهم: "يا عمار، إن بالشام مائة ألف فارس يأخذون العطاء مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم، لا يعرفون عليا وقرابته، ولا عمارا وسابقته، ولا الزبير وصحبته، ولا طلحة وهجرته، ولا يتقون سعدا ودعوته، فإياك أن تقعد غدا في فتنة تنجلي فيقال: هذا قاتل عثمان وهذا قاتل علي"
أتهدد بقتل "علي" لو قتل "عثمان"؟ فمالك لا ترسل بعضا من آلافك المائة لتنقذ الخليفة الذي حاصره الثوار وتثبت الأمن في المدينة لو كنت تحرص على دمه؟ أم أن الدرج الذي نويت اعتلاء كرسي الحكم عليه يحتاج لدم الرجل الصالح، الصحابي الكريم الذي حجبتم عنه الناس والحقائق؟ أتراك أردت دمه لتحصل على شرعية بين مرشحي الخلافة؟ شرعية ولي الدم المطالب به؟ .. مائة ألف فارس! مرحى يا أبا يزيد، أسمعتهم رنين الذهب وقرع السياط وملكت جنود المال وعبيد العصا فدانت لك الأرض، ألا رحم الله من لم يتألف بمال ولم يهدد بسطوة .. لماذا؟ لماذا ينتصر الضلال فيك يا دنيا على الحق؟ ولماذا لا يعتدل في أرض العرب أمر إلا لينحرف؟ لماذا كتب على أرباب الحكمة والعدل أن يبذلوا أرواحهم لمجرد إثبات موقف شريف، بينما يرث الدنيا أصحاب العصا والجزرة؟ لماذا لم تستمر دولة الكفاية والعدل التي أسسها رسول الله على التقوى، ولم يقدر لدولة الشيخين "أبي بكر" و"عمر" أن تتوالى حلقاتها الراشدة؟ لماذا قتل "عمر" بعد أربعة ليالٍ من عزمه على رد فضول مال الموسرين إلى الفقراء؟ ولماذا وصلت الخلافة لعلي بعد أن انفرط العقد واحتلت الدنيا قلوب الناس؟ لماذا لم تستمر دولة خامس الراشدين إلا بضع سنوات كحلم جميل تخلل كابوسا أمويا؟ لماذا لم يقدر لثورة "مصدق" في إيران أن تستمر؟ ولثورة "ناصر" في مصر أن تعيش بعده؟ لماذا انتصر الملكيون مع الأمريكان والصهاينة في معركة الستينات وقتل حلم الوحدة العربية؟ لماذا لكل نبي في أرضنا ألف مسيلمة؟ غفرانك اللهم، لا راد لمشيئتك، ولكن النفس على الفرص الضائعة لتدمى، والقلب على كبار الرجال ليبكي أحر البكاء .. القلب .. ما هذا الألم بصدري؟ أطعنة غادرة أم قلب ينفطر؟ آه
...
يفيق من نومه مقطب الجبين عابس الوجه غارقاً في عرقه، ليجد منامته القطنية التي يرتديها بدون أزرار .. لقد مزق أزرار ملابسه وهو نائم! وذراعه الأيسر قد التوى متشنجا بينما كفه اليسرى المضمومة تضغط على صدره بقوة لبرح الألم .. يمد يده إلى زجاجة مياه بجوار فراشه ويرفع رأسه ليجرع منها جرعات قبل أن يصب الماء صباً على رأسه ووجهه وعنقه، ثم يسقط الزجاجة من يده على الأرض، يشعر بنبضه وضربات قلبه كأن شياطينا تطاردها، ماذا؟ أهي أزمة قلبية؟ لقد أصيب والده بجلطة الشريان التاجي وهو في مثل سنه تقريباً .. لا .. بل كان في الخمسين حين حدث هذا، لا يذكر، ويهمس لنفسه قائلا: أهي النهاية يا "علي"؟
فكرة أنها النهاية جعلت نبضه يتسارع أكثر .. لا .. اهدأ .. لا تجعل الخوف يفكر لك .. أنت تحتاج لرعاية طبية عاجلة فقط حتى لا يتطور الأمر وتسوء العاقبة، ولكن .. بمن تتصل الآن؟ هكذا فكر محاولا تهدئة نفسه حتى لا يزيد الجزع حالته سوءاً، يمد يده فيلتقط المحمول ويستدعي قائمة الأسماء، يضغط الحرف (s) ليستعرض الأسماء حتى يصل لاسم "شريف الإمام" ابن عمومته وصديق طفولته السكندري، يضغط الرقم وينتظر ليسمع رسالة محبطة: الرقم الذي طلبته ربما يكون مغلقاً، يحاول ثانية لعل وعسى، ولكن بلا فائدة
"ماري" إذن؟ لكن كم الساعة الآن؟ يمد يده لساعة اليد التي خلعها على الكومود قبل نومه، يلتقطها ثم تسقط منه على الأرض، فيلتف بجزعه ليلتقطها ثانية .. يشتد الألم نتيجة لحركته تلك، لهذه الدرجة؟ مجرد حركة تزيد الألم؟ هكذا فكر وهو ينظر للساعة اليدوية المضيئة فيجدها الحادية عشرة وأربعين دقيقة قبل منتصف الليل، غالبا هي في سابع نومة، هكذا حدثته نفسه، فتمنى ألا تكون معتادة على إسكات أجراس المحمول عند النوم مثلما يفعل هو، يبحث عن الاسم الحبيب ويضغط الرقم، بعد عدة رنات يأتي الصوت العذب كأول الغيث، لابد أنها كانت نائمة: أليس من حقي أن أحلم مثلك؟
خف الألم قليلا وسرت بجسده رجفة انتعاش حين أتاه صوتها، يحاول الرد فيجد صعوبة في أن يخرج صوتا، يحاول ثانية لتخرج الجملة وببدايتها حشرجة لا تخطئها الأذن: لا تفزعي .. أحتاج لزيارة طبيب قلب في منزلي .. فورا
- "علي" ماذا بك؟
هكذا قالت والانفعال يملأ صوتها الذي استيقظ بلمح البصر حين سمعت جملته، أجابها: عرق .. ألم بصدري وصعوبة في التنفس و .. أحتاج طبيبا
- فورا حبيبي، سأرسل إسعافا لمنزلك من مستشفى قريب منك وألحق بها على الفور
برغم الألم ترسم كلمة حبيبي بسمة على شفتيه ويرد: لا أحتاج لإسعاف، فقط طبيب
- فورا.. "علي" .. تماسك أرجوك ولا تتحرك، سأكون عندك ومعي الطبيب فورا، ثم ننتقل لمستشفى لو نصح بهذا
- تمهلي في القيادة .. أرجوك
حين أتاه صوتها عبر المحمول أحس أنها ليست النهاية، فهدأ قليلا، قصتهما لم تنته بعد .. هكذا كان قلبه يحدثه: قصتنا لم تنته بعد، ولا أحسبها ستنتهي في بئر الحرمان هذا ، فلابد لطول الليل من صباح
...
(14)
راعية الفـــؤاد
"علي" جالس في فراشه تحيطه الوسائد وقد بدل البيجاما الممزقة بأخرى، في يده كوب من شراب الكركديه الدافيء، و"ماري" جالسة على حافة الفراش تجفف قطرات العرق على جبينه بمنديل ورقي وتقول: اتصلت بالجامعة وأبلغتهم، وجدت رقم زميلك الدكتور "مراد هاشم" وأمام اسمه الحروف الأولى من اسم الجامعة، عادتك في تسجيل الاسم مع الجهة التابع لها كانت مفيدة، عذراً لانتهاك الخصوصية، لكن كان لابد من ترتيب الموقف
قال وهو ينظر لها بنظرة حملت الشكر والامتنان فضلا عن الحب المعتاد: فعلت عين الصواب
- صحيح، لماذا الحرفين أمام اسمي المسجل في محمولك؟ (ML) .. فكرت كثيرا ولم أفطن لماذا يرمزان؟
- رغم أنها شفرة بسيطة ومباشرة للغاية، (ML ) تعني My Love .. حبيبتي، وهل هناك صفة أهم من تلك؟
ابتسمت ونظرت بعيدا للحظة في خفر لذيذ، قبل أن تنظر نحوه فتحتوي وجهه بنظرة رائعة، جمعت حبا وتقديرا وحنانا، ثم مدت يدها تربت على خده وأعلى عنقه، وأطالت النظر بعينيه، زمت شفتيها لحظة كمن قررت أمراً، قبل أن تهدي بشفتيها قبلة طويلة لخده الأيسر، ثم تعتدل لتقبل طرف سبابتها اليمنى وتضعها على صدره فوق القلب تماما، وتقول: ليسلم قلبك اللؤلؤي الجميل
- لا تخافي .. عمر الشقي بقي
- لكنك لست شقيا، ولهذا يجب أن نخاف ونتصرف بحرص، لنشكر الرب أنها ليست جلطة في شريان تاجي، لكن لا يمكنك الاستمرار في حياة الدخان والقهوة والشاي والتفكير والأحلام حتى تحدث الجلطة، لاحظ أن هناك ضيق في الشريان أدى لقصور طفيف مع الإرهاق، لا يمكن إهمال هذا، لقد أبلغت زميلك أنك في إجازة مرضية لمدة أسبوع ووعدني أن يدبر الأمر، وأنا أيضا انتهزت الفرصة وحصلت على إجازة رعاية طفل .. لأرعاك
- كلمة شكرا تبدو بلا معنى ولا قيمة أمام ما فعلت وتفعلين
قالها وهو يلتقط كفها فيقبلها بإجلال وامتنان، ثم نظر في عينيها لحظة ثم قال: حين سمعت صوتك على الهاتف، شعرت بشريان جديد يفتح بقلبي، بدأت في التعافي فور سماعي لصوتك وتيقني من رؤيتك بعد لحظات، ربما تكون الرغبة في الحياة التي يتحدث عنها الأطباء
ردت ممازحة فقالت: لا، بل صوتي به نيتروجلسرين موسع للشرايين
مدت يدها فتناولت الكوب الفارغ من يده واستأنفت قائلة: لقد ندبت "مادلين" لزيزينيا لتجلب لي بعض أغراضي، فقد قررت القرار المت.. المتطفل التالي (دائما ما تجد صعوبة في تتالي حرفي التاء والطاء في العربية)، توجد غرفة إضافية هنا، وسوف أستعملها لمدة أسبوع حتى تتعافى، والاحتجاج بحديث الرجل والمرأة والشيطان[19] غير مقبول في هذه الظروف
كان وجودها قريبة منه أكثر مما يتمنى، للحظة خطر له أن هذا القرب قد يذيب جليد الوعد الفاصل بينهما، فأجابها: بالعكس، كنت أفكر كيف أبلغ الخبر لعزة حتى تأتي لترعى أخاها طريح الفراش، وكنت قلقا من فكرة إبلاغها بالهاتف، أعرف أنها ضعيفة الأعصاب بلا حدود، تعرفين الظروف التي مرت بها، فشكرا لك يا حلالة العقد
- صحيح .. كيف تفهم حديث خلوة الرجل والمرأة؟
هم أن يجيب وقد أخذه الحماس، فوجدها تضع يدها على فمه وتقول: كم أنا غبية، قال الطبيب أنك يجب أن ترتاح حتى من الكلام لبضعة أيام
- للطبيب أن يقول ما شاء، لا أستطيع الحياة بغير كلام، بغير الحديث سيتوقف قلبي تماما
- اليوم على الأقل؟
- لا بأس، لكن بعد أن أجيب سؤالك، الحديث رواه الإمام "أحمد" و"الحاكم" وصح عندهما بإسناد قوي، ولو نظرنا للموضوع بنظرة عملية بعيدا عن مثاليات المثقفين، لوجدنا الواقع أن اجتماع رجل وامرأة .. بينهما ألفة أو ميل متبادل، يمكن أن يكون .. موحيا بعض الشيء، أليس كذلك؟
قامت "ماري" ممازحة من جانب الفراش لتجلس على الفوتيه المقابل له وهي تضحك وتقول: مادام موحيا فالفوتيه أسلم من طرف الفراش
ضحك لرد فعلها وقال: حتى لو جاء شيطان .. لا يصلح الشيطان ما أفسده الدهر
- الدهر لم يفسد شيئا، لا تتحدث وكأن عمرك مائة عام أيها الأربعيني المتشيخ! نعود للحديث
- هذا هو مضمونه، المقصود بوجود الشيطان هو الجو الموحي في رأيي، وليس معنى هذا حتمية حدوث علاقة لمجرد أنهما انفردا ببعضهما، فكما أن هناك شيطان هناك وازع خلقي وديني وإرادة إنسانية، مع ملاحظة الاختلاف الزمني، ففي الزمن الذي قيل فيه الحديث كانت المرأة عند أغلب الرجال أحادية المضمون والجوهر، ومرتبطة حتميا بالفعل الجنسي، لكن الأمر اليوم يختلف، وهاك الدليل، ها نحن وحدنا نناقش حديثا شريفا
هكذا شرح قبل أن يقف لحظة ثم يواصل مبتسما: لكن هذا لا ينفي أن الشيطان موجود معنا، أراه يحرك ذيله بخبث برغم الضباب في عينين أرهقهما المرض
ضحكت لدعابته، ثم اتخذت ملامحها سمتا جادا وهي تقول: خطير أن نبرر كل شيء بالفارق الزمني، سيأتي يوم ويقول أحدهم: لو أن الدين لم يعد قابلا للتطبيق في زماننا، فلماذا نحتاجه؟ لماذا لا نفكر بعقولنا وحسب؟ التبرير الزمني قد يفرخ فكر الاستغناء عن الدين بالقيم الحضارية والعقلية
- الدين ليس محدودا في الأمور الخلافية، نحن نتكلم في الخلافيات أكثر مما نتناول الأفكار السامية والرؤى الفلسفية الخالدة لأنها لا تحتاج للنقاش وليست محل خلاف، وهذه الأفكار هي صلب الدين، فجوهر العقائد هو تأسيس شخصية إنسانية تفهم هدفها وطريقها في الحياة وتتمسك به
قالت وقد قامت من جلستها لتسدل الأستار على النافذتين المتقابلتين في حجرة نومه: الموضوع يحتاج نقاشا أطول، سأضعه على جدول أعمال أول جلسة على البحر بعد أن تتعافى، أما الآن فتصبح على خير، وأنا أيضا سأخلد للنوم، فنحن لم ننم ليلة أمس تقريبا، سأستعير كتابا من المكتبة في الصالة لأقرأه قبل النوم
- تصرفي كأنك في بيتك، المكتبة كلها لكتب والدي رحمه الله، كتبي آتي بها معي وأعود بها
- أحلام سعيدة
- كفاني من الأحلام وما تجلب الأحلام! تمني لي نوما معتما بغير أحداث ولا أحزان