أستمع الآن لاسطوانة أشجان مصر .. ليست اسطوانة تباع و تشترى ، لكنها كوكتيل شخصي أحفظه في سيارتي و مكتبي دوما، اسمعها كثيرا و أنا مسافر على الطريق الزراعي بين القاهرة حيث أعيش و طنطا حيث مسقط رأسي، بينما مشاهد الريف المصري تتوالي على يميني و شمالي، أو ما تبقى من الريف المصري لو شئنا الدقة، و أول ما فيها أنشودة كتبها الأبنودي و غناها علي الحجار، الرجل الذي يغني بأوتار قلبه و فيها يقول
راحل .. من تاني راحــــــل
تردني السواحــــــــــــــــــل
فايت قلبي في حـــــــاراتك
فــــــايت صوتي في سكاتك
و خضــــــــــــرتي في نباتك
يا مصـــــــر .. و تني راحل
***
و مهما أنزل بلــــــــــــــــــد
بانزلها بالجســــــــــــــــــــد
لكن القلب راحــــــــــــــــــل
له في السواحــــــــل ساحل
في غيرك .. ما انوجــــــــــد
و تليها أغنية أخرى لنفس الشاعر و من نفس المسلسل و بصوت الحجار لا تقل وجدا و لا شجنا
يالولا دقة اديكى .. ما انطــــــــــرق بــابى
طول عمرى عارى البدن.. وانتى جــلبابى
ياللى سهرتى الليالى يونسك صـــــــــوتى
متونسة بحس مين .. يا مصر فى غيابى؟
ثم تختم الأغنية بالبيت الدامي المدمي عندما تسمعه بصوت علي الحجار
أسكت الجرح يسكت .. ينطق التانى
أتذكر بصوت صلاح جاهين رباعيته الجميلة ، فيملكني الشجن ، الشجن ، تلك النعمة أو النقمة التي لا يشعر بها الا من كانت له نفس شاعرة
قالوا ابن آدم روح و بدنه كفــــــن
قالــــــــوا لأ .. بــــــــــــــــــــــــــدن
قالــــــــوا: لأ .. ده روح في بـــــدن
رفرف فؤادي مع الرايات في الهوا
أنا قلت لأ .. روح في بدن في وطن
هل حقاً نحن روح في بدن في وطن؟ لقد جربت الأسفار ، جميلة شائقة حين تكون جولة بعد جولة، نعود بعدها الى أحضان الوطن، و جربت الاغتراب الطويل عن مصر ، اي الاقامة خارجها و زيارتها في اجازات ، فوجدتها مريرة مؤلمة ، و أشهد أنني خلال عام و نصف قضيته خارجها ، و برغم أني زرتها خلال هذه المدة القصيرة أربعة مرات، قد كنت بالفعل أشبه برجل بلا روح، لكن ، ماذا نفعل؟ مصر حالة شديدة الخصوصية بالنسبة للمصريين ، وطننا الذي نتعذب فيه ، فاذا ابتعدنا قليلا .. نتعذب به ، و نشعره في فؤادنا وخزا مستمرا و في رؤوسنا صداعا مزمنا، ثم ألوم نفسي قائلا: و ماذا ينقصك لترحل؟ هناك من يرحل لطلب الرزق ، و هذا رحيل لابد منه ، و هناك من يرحل لطلب العلم ، و هذا مبرر معقول ، و هناك من يهاجر لأنه بلا مستقبل هنا ، لكن انت لماذا ترحل؟ كان هذا الحديث لنصفي المنطقي المنظم التفكير بالورقة و القلم ، فيقهقه نصفي الشاعر ، و يترنم اولاً بقصيدة صلاح جاهين ، اجمل من عبر عن حالنا نحن المصريين مع هذا الوطن
على اسم مصر التاريـــخ يقدر يقول ما شاء
أنا مصـــــــــر عندي أحـــــب وأجمل الأشياء
باحبها وهي مالكــــــه الأرض شرق وغــرب
وباحبهــــــا وهي مرميه جريحــــــــــــة حرب
باحبها بعنف وبرقة وعلى اســــــــــتحيــــــاء
واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الــــــــــداء
واسيبها واطفش في درب وتبقى هي ف درب
وتلتفت تلاقيني جنبهــــــــــــــــــــــا في الكرب
والنبض ينفض عروقي بألف نغمـــــة وضرب
آآآه يا عم صلاح ، يتنهد نصفي الشاعر و يرد على نصفي المفكر قائلاً: عاوز أسيبها علشان هم سابوها يا أبو العريف
المفكر: هما .. هما مين؟
الشاعر: المصريين ، البلد ماعدش فيها مصريين يا مولانا
المفكر: لا يا شيخ، امال فيها مين ؟ أمريكان؟
الشاعر: ياريت ، و الله يا ريت أي أمة ، بس يكون لها طعم و شكل و لون ، كنت هابقى مفتقد المصريين صحيح، المصريين بخفة دمهم ، و شقاوة عيونهم ، و ذكاء فطري في تصرفاتهم ، و تحايلهم على اكل العيش بكل شكل و لون ، لكن برده كنت هالاقي شعب تاني أعيش معاه على الأقل، لكن الموجود دلوقت ده ، لا شرق و لا غرب و لا وسط ، ده كبيره طبق سلاطة، القاسم المشترك الوحيد فيه هو التطرف، تطرف ديني أو تطرف لا ديني ، نقاب أو عري ، تطرف يساري و تطرف يميني ، فقر بدون دعم من الدولة ، أو غنى بدون دفع ضرائب ، كنا بلد اشتراكي ، النهاردة امريكا اكثر منا اشتراكية ، على الاقل من ناحية الضمان الاجتماعي
المفكر: كل ده كويس ، بس دي بلدنا ، لازم نحاول نتأقلم معاها، و لا ايه؟
الشاعر: في عرضك بلاش البقين دول ، انا عايز أعيش حياة طبيعية، انت مش واخد بالك انا و انت بقينا عاملين ازاي يا استاذنا؟ ده احنا داخلين في اكتئاب؟ نخلص الشغل ، ننفرد ببعضينا في غرفة المكتب مع كتاب او مع الكمبيوتر، ملينا انا و انت من بعض ، احنا عشنا عمرنا كله في حوار ، انت نفسك كنت بتقول "على درب سقراط أسير ، حياتي هي الناس ، و موهبتي هي الحوار" ، مش برده سقراط كان بيخرج بافكاره من حواره مع الناس في شوارع أثينا، لا عاد فيه ناس و لا عاد فيه حوار و لا أفكار
المفكر: يعني ، لسة على الاقل فيه حوار الكتروني الشاعر: أيوة ، حوار الكتروني ، من حق اي حد فيه ان يظهر في حياتك حتى تحسبه صديقا، ثم فجأة و بدون أي مبرر أو سبب تلاقيه اختفى من حياتك فجأة زي ما ظهر فيها فجأة، حوار الكترونات، لا ترى فيه وجه محدثك ، لا تلاحظ لفتاته و لغة عينيه، حوار غير انساني يا عزيزي، انت مقتنع بيه؟
المفكر: يعني عاوزني أحاور مين؟ ماهو على ايدك ، منين أجيب ناس؟ فيه ناس علشان تقيم معاهم حوار لازم يرجعوا بطن امهم و يتولدوا من اول و جديد و يتربوا من تاني ، و بعدين نشتغل على نضافة ، انت ممكن تتحاور مع حد مختلف عنك في الفكر و الاتجاه ، بس يكون عنده في دماغه بنية تحتية ، يكون مد كابلات كهربا و مواسير مياه ، و احنا محاطين ببشر مجاري دماغها ضاربة ، يبقى نحمد ربنا على الشوية اللي باقيين أونلاين من غير مجاري ضاربة و عندهم كهربا و مية
الشاعر: طبعا لازم الناس مجاري راسها تضرب ، ما هم مرضى بالثلاثي
المفكر: ثلاثي ايه؟
الشاعر: أبو تريكة و خالد الجندي و هالة سرحان ، الكورة و مشايخ الفضاء و برامج النص التحتاني ، مهرجان لاي ماتش خايب كسبته دولة محتلة مرة في قارتها و كأننا فتحنا عكا ، و افندية عاوزين يشربونا بول الابل و يرضعونا و احنا بغال ، و شلة نسوان ضايعة من اللي لابسة جوانتي اسود و عمالة تاكل في نفسها و تتكلم على المرأة و هي مالهاش أي علاقة بالمرأة من أصله، للي تابت فعاوزة تخلي كل أشكال البوظان حلال علشان تبقى منحرفة بس شرعي ، للمعلمة الكبيرة اللي دايما باقول انها خدت الكاريير الغلط، و لو كانت اتولدت في الزمن الصح كانت هاتبقى زعيمة في وش البركة
المفكر: خلاص ، كفاية ، كأبتني، بس تعرف، ممكن يكون عندك حق ، ممكن يكون الحل هو الفراق ، الهجرة من مجتمع لسة بيخبط و بيناقش الاساسيات لمجتمع استقر على طريق و بيناقش التحسين للافضل ، تقدر تقول هجرة ثقافية يعني، على الاقل الجيل الناشيء يخرج في وسط أفضل و مايمرش بنفس المعاناة
الشاعر: يعني مقتنع؟
المفكر: انت عارفني ، لازم افكر و اتناقش قبل ماخد قرار ، بس في النهاية عندي شجاعة الاعتراف بالحق ، و انت كلامك مقنع، و حالة المجتمع واضحة للعبيط ، حاولنا الاول نعمل هجرة داخلية، مجتمع صغير من المستنيرين، فكرة حالمة عبيطة من بقايا حماس الشباب اللي في النزع الاخير، و فشلنا، يبقى مافيش غير الهجرة الخارجية الشاعر: بس تفتكر ممكن نسيبها بالسهولة دي .. دي برده مصر
المفكر: انت هاتشتغلني؟ نفتح الباب تقول نقفله ، نقفله تقول نفتحه
الشاعر: مانت برده عارفني ، قلب متقلب و بمية حالة ، عصب مكشوف على الهوا مباشرة ، الهوا ، فاكر الهوا هوايا؟
المفكر يبتسم بشجن ، و يقول : أيوة فاكر ، و اشغل لك عقد غالي ، يضوي بأحلى الصبايا ، آآآه زمن عجيب
الشاعر: هانلاقي فين حليم جاي صوته من بلكونة بنت سهرانة مع النجوم؟ هانلاقي فين هناك صوت الشيخ رفعت من الراديو في رمضان؟ و لا صوت ثومة صاحبة العصمة لما نسهر معاها في ليالي الصيف ؟ صوت ترام اسكندرية في ليلة شتاء؟ ريحة البطاطا المشوية على البحر عند السلسلة ، سبيط و جمبري أبو أشرف و القطط تحتك تاكل حتة و تديلها حتة، علشان تتألف قلبها حرصا من انقضاضة جوع على الطبق باللي فيه؟ الجرائد من محطة قطار طنطا بعد الفجر ، صلاة الفجر في مسجد السيد البدوي ، الشاي و شيشة التمباك على القهوة الأحمدية امامه؟ الساعة ثلاثة ميعاد خروج مدرسة قاسم أمين للبنات و قوافل الصبايا في شارع الفالوجا بطنطا ، و يا بنت يا ام المريلة كحلي
المفكر: يا اخي احترم نفسك ، بنت ايه و مريلة ايه؟ احنا بقينا في منتصف العقد الرابع من العمر ، ثم اطمئن ، كل ده خلاص يا اما باظ يا اما تحت التخريب ، الموسيقى و حرموها ، حنى الشيخ رفعت حل محله مشايخ السعودية مع المؤثرات الصوتية و الايكو، السيد البدوي حرام علشان القبور في المساجد بدعة، الشيشة طبعا دي فسق مش عايزة كلام ، و البنات دلوقت ممكن تغنيلها يا بنت يا ام النقاب الكحلي ، يا ضلمة كابسة و حالة من الكولة ، لو قلت عنك في الغزل قولة ، هايقيموا علينا يا حلوة الحد احنا الاتنين
الشاعر: يعني فكرك كده يا ابو الافكار؟ نسافر؟
المفكر: ايوة يا ابو الاشعار ، فاكر البيت اللي بيقول
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الـــــــرأي أن تـتـرددا
ده الفرق بينا يا جميل ، انت ممكن تعزم مية مرة و تتراجع ، انا لأ ، صعب ، علشان باحسبها كويس ، حتى لو هناك كمان في بعض المعاناة ، على رأي الأبنودي، قتيل في غربة بيفرق عن قتيل الدار
الشاعر تنظر عيناه بعمق اللا-شيء، بينما دمعة تترقرق من عينيه، ثم يقول
مفارق يا مصـــــــــــــــر
و قبل الهجـــــــر أشتاق
مفارق يا مصـــــــــــــــر
و ما كل الفــــراق بغض
و لا كل العشق التصاق
قد آن للرضيــــــع فطام
و آن للحليل ..طــــــلاق