18.7.08

تاريخ الوعد

العالم السري عبر العصور

للكبار فقط

لا هو وعد بلفور و لا أي وعد عليه القيمة، أتذكرون الفنانة "ملك الجمل" تلوي شفتيها و هي تلعب دور القوادة في "شفيقة و متولي" و تقول "و احنا فيه في ايدينا حاجة؟ ده كله وعد و مكتوب" ، إنه الوعد بلغة أهل الكار، و تجارة الرقيق الأبيض بلغة صفحة الحوادث، و الآداب بلغة البوليس، و البغاء في الفصحى، و المشي البطال في لغة أولاد البلد، و الدعارة في لغة المثقفين، مع تاريخ الدعارة نلتقي اليوم، نعم ، فلقاع المدينة أيضاً تاريخه، و للجواري أيضاً تراثهن الممزوج برائحة العرق و الخمر الرديئة و البنكنوت، و قاع المدينة هذا دائما ما يروي حدوتة الوجه الآخر، ذلك الذي لا نحب أن نراه فينا، و لا نحب أن نعترف به في إطار الإزدواجية العتيدة، لكن هذا لا ينفي وجوده، و لا ينفي أن التاريخ كما يحفظ سيرة العظماء و النبلاء، يحفظ شذرات من تاريخ ملح الأرض، الناس العاديين و ما تحت العاديين، و هذا جانب مثير للبحث، و لعل من أجود الأبحاث فيه ما قام به الدكتور "عبدالوهاب بكر" في بحثه الشيق بعنوان "مجتمع القاهرة السري من عام 1900م الى 1951م" و هو بحث تاريخي قيم أتاح للدكتور و رجل الشرطة السابق النفاذ لأعماق هذا المجتمع المنبوذ ، من خلال وثائق حكومية بوليسية غير منشورة ، و من هنا أهميته، غير أني أردت أن أصحبكم في جولة أقدم من تاريخ البحث قبل النفاذ إلى موضوعه، لأننا نحن أبناء الطبقة الوسطى المصرية، من نلعب دور المضحوك عليهم دائما في حركة التاريخ، حيث تربينا على مثل لا تتمسك بها سوى هذه الطبقة ، أو بعض منها لو أردنا الدقة، و قدمت لنا هذه المنظومة على أنها السائدة في بلادنا، و لقمنا منذ الطفولة الحشيشة المخدرة التي محتواها أن الغرب له العلم و التقدم و نحن لنا الأخلاق ، فتعالوا بنا ننظر لقاع مدننا و بلادنا عبر التاريخ، لنعرف أن مجتمع الفضيلة لم يوجد بعد على سطح الأرض، و لن يوجد

الدعارة و السيادة الاقتصادية

ما أقوله هنا هو رؤية و تأملات خاصة لا أنسبها لأي مرجع آخر، لكنني أجد التاريخ يقول لنا أنه في المجتمعات الأمومية التي كان للمرأة فيها سيادة اقتصادية و بالتالي اجتماعية على الرجل، و جدت و انتشرت الدعارة الرجالي، للترفيه عن الأنثى المتعبة و المكدودة، الشقيانة بالبلدي، و يبدو أن إناث هذا الزمن وجدن من التبريرات مثل ما يجده الرجال اليوم لسلوكهن هذا، فكن يقلن أن رجل واحد لا يكفي و أن المرأة بطبيعتها تميل للتعدد، و من أمثلة هذه المجتمعات الأمية ، كما تقول بعض النظريات، مجتمعات مثل اليونان ما قبل 7000 قبل الميلاد، أي ما قبل العصر البرونزي، و نحن نقبل هذه النظرية لأنها بداية طبيعية للمجتمعات البشرية نظرا لتسود هذه الطبيعة في مجتمعات الحيوان و الطيور، و لكن بالنسبة لذكر الإنسان، فقد أعانه اختراعه للآلات و السلاح على السيادة الاقتصادية مبكرا في التاريخ، و بالتالي التسود الاجتماعي ، فحلت دعارة الإناث محل دعارة الرجال، و هذا للترفيه عن السيد صاحب رأس المال، الذي ادعى كما ادعت النساء سابقا، و في العصر الحديث، بعد أن استعادت المرأة بعضا من سيادتها و امتلكت النساء رأس المال ثانية، عادت الدعارة المذكرة للظهور، من إيطاليا لمصر لأسبانيا لجنوب أفريقيا، في صورة الجيجولو التقليدي صديق النسوة العجائز ، و لهؤلاء الآن مقاهي خاصة في كل من مارينا و شرم الشيخ

الدعارة المقدسة في مصر القديمة

لم يكن الجنس عند الفراعنة أحد التابوهات الإجتماعية كما هو اليوم، فقد آمن المصري القديم بوجود الجنس حتى في الحياة الأخرى، كما وجد اعتقاد مشابه للاعتقاد الهندوسي في التطهر بالجنس للوصول لحالة الصفاء الروحي ، و قد عرفت مصر القديمة الدعارة المقدسة كالعديد من الشعوب القديمة، و عندما نقول دعارة في هذه الحقبة، يجب أن ننفي من عقولنا الصور التي نتخيلها دوما من واقعنا المعاصر لهذه السيدة المتهتكة الهلوك ، فنحن الآن أمام سيدة محترمة جدا في زمانها، و قريبة الصلة بالعديد من الآلهة، على رأسهم "بس" رب المرح و الترفيه، و "هاتور" ربة الجمال و الحب ، و كما يقول موقع علم المصريات بجامعة آيوا، كان الزي الرسمي للدعارة وقتها هو فستان من نسيج أشبه بشباك الصيادين (الصورة من متحف بيتري) مع وضع أحمر الشفاه الثقيل و الكحل المرسوم بعناية، و كانت من ضمن مهام عاهرات المعبد هاتيك ، تدريب الشباب المقبل على الزواج و الفتيات على الجنس بأسلوب "بيان على المعلم" و كن يحرصن كذلك كما تضيف مصادر جامعة تورنتو ، على دق الوشم في أماكن كالصدر و الفخذين ، خاصة وشم الإله بس ، و بينما يعرف الكثيرون عن آثار كواجيهيرو الهندية المليئة بالأيقونات الجنسية، نجد القليل فقط من المصريين من يعرف شيئا عن" بردية التورين" التي صورت الأوضاع الجنسية المختلفة في شكل احتفالي إلى حد كبير ، كذلك بردية لإمرأة ترتدي التاج الملكي و يرجح أنها حتشبسوت في لقاء جنسي مع رجل ، و كما قلنا لم تكن مصر وحيدة في هذا و لكن مثلها مثل بابل و الهند و اليونان القديمة و غيرها

الرايات الحمر في قريش

لطالما ارتبطت الدعارة المؤنثة بالأديان الوثنية القديمة، و لم تكن مكة في الجاهلية استثناء من هذا الأمر، بل كانت أحد المجتمعات التي عرفت الدعارة المقدسة ، و لم يكن العرب يعتبرون ممارسة الجنس مع عاهرة زنا، لكن الزنا ما كان مع زوجة رجل آخر أو امرأة حرة عامة، لما يترتب عليه من إحساس بالعار لدى قبيلة معينة، نظرا للإعتداء على ممتلكاتها ، باعتبار النساء من ضمن هذه الممتلكات، و قد كره العرب هذا اللون من الزنا لأنه يجر عليهم الحرب و الدماء، أما المحترفات فكن يعتبرن كجواري من لا جواري له، و كلنا يعرف تعبير صاحبات الرايات الحمر في مكة ، و التي ألغاها الإسلام مع فتح مكة، و بسبب هذا التفريق بين الزنا مع الحرة و بين وطء صاحبات الرايات الحمر ، جاء تحريم الدعارة و التشجيع عليها في القرآن مستقلا و منوهاً عنه برغم التحريم العام للزنا من قبله، بينما نجد في الكتاب المقدس سيرة لمضاجعة واحدة ظنها الشيخ فتاة من فتيات الدعارة حول المعبد بدون الإشارة إلى تحريم و لا تجريم، و الطريف في أمر فتيات مكة هؤلاء، أن بعضهن كن جوارِ مملوكات لسادة قريش الذين يتبارون على الشرف و الوجاهة ، و يعملن لصالح هؤلاء السادة، و يأتي في مقدمتهم حرب بن أمية و من قبله والده أمية بن خلف، و كانت واحدة من جواري حرب تعمل بالدعارة في الموسم ثم تعود لكنف حرب بن أمية باقي العام، و قد ولدت له فأنجبت، ولدت "أبا سفيان بن حرب" سيد قريش و سيد المحاربين لدعوة الشرف و النور حين بعثها الله على نبيه ، و لكن لم يكن أبو سفيان يستشعر العار من هذا كثيرا، ففي الجاهلية كان العرب بينهم بيوت شرف كهاشم، و بينهم بيوت لها المال دون الشرف كأمية، فلم يكن أبو سفيان وحيداً في هذا العار، و لا كان إنجابه للمدعو "زياد بن أبيه" بنفس الطريقة مستغربا عليه، و زياد هذا هو من وعده "معاوية" بعد ذلك بنسبه لأبيه و رفع العار عنه ، لو أعانه زياد على خصومه، فصار زيادا ابن أبي سفيان

دعارة القرنين الثامن و التاسع عشر

كان لكل منطقة من مناطق القاهرة وقتها ما يسمى "شيخ العرصة" و منه يشتق اللفظ العامي المعبر عن الديوث، و هو عبارة عن وظيفة إدارية مثل شيخ الحارة، لكن منطقته أوسع و مهنته أحقر كثيرا، فكانت مهنته تنسيق علاقات العاهرات بالدولة السنية، و التي كانت لم تشرع العهر بعد، لكن لم يمنعها ذلك من جمع الضرائب من العاهرات و المندارين، و عندما جاء إلى مصر "عبد الله بونابرته" الشهير بنابليون بونابرت، و كان قد ادعى لنفسه هذا الاسم لما علم ان المصريون "منط" و لا يشترطون لحكمهم إلا أن يكون الرجل مسلماً، فادعي الإسلام و تسمى باسم إسلامي (ناقصين بلاوي احنا؟) و قد أنشأ في عهد سيادته الرشيد "كارخانة" لعسكر الفرنسيس ، و ألحق بها الراقصات و العاهرات، و كانت تعرف باسم "غيط النوبي" لأن شيخ العرصة بها كان نوبياً، و حين تولى "محمد علي" باشا سمح بالدعارة لفترة، لأن الكثيرين من "أولاد الناس" ، و هو اللقب الذي كان يطلق على المماليك و أولادهم، كانوا يستثمرون في شراء الجواري لتشغيلهن في الدعارة، فلما قضى على المماليك، نفى العاهرات لمدينتي إسنا و الأقصر و قنا في الصعيد، و الذي لم يكن محمد علي يهتم به بصفة عامة، و لكن حين تولى عباس الأول، سمح دولته بعودة رعاياه من البغايا للقاهرة الساهرة العامرة

دعارة التاريخ الحديث

في القرنين التاسع عشر و العشرين، كانت حركة الثقافة في مصر على أشدها، فقد أفاق الواعون من أبناء البلد يحاولون أن يصلوه بالعصر الحديث و آدابه و علومه، و بينما كان هؤلاء المساكين من المتطلعين نحو العلا يلهجون الأنفاس طلبا للعلم و النور، و كفاحا من أجل الاستقلال و بناء اقتصاد وطني و غيرها من ساميات الأهداف، كعادة أبناء الطبقة المتوسطة المصرية، في ذلك الوقت، كان قاع المجتمع يفور بأحداثه الخاصة، حيث مثل جنود الاحتلال الانجليزي سوقا مستهدفا ضخما للعاهرات، و أرجو أن ننفي من رؤوسنا صورة البغي الشريفة (زي مادلين طبر في الطريق إلى إيلات كده) و التي كانت تمارس البغاء مع الانجليز لهدف قومي، فصاحبات الإنجليز هاتيك كن أخلص للجنيه منهن لآبائهن فضلا عن الوطن، على هذا تربين، فنشأن بنات مخلصات لبيئتهن الأم

لقد عرفت مصر المحروسة الدعارة المشروعة و المرخص بها قانونا من عام 1900 و حتى عام 1949 حين صدر قانون بمنعها، و في خلال هذه الفترة، صدر عام 1905 م ما يسمى بلائحة تنظيم بيوت العاهرات، و بعدها لائحة البيوت العمومية عام 1916م كما يورد الدكتور عبد الوهاب في مرجعه القيم، و يروي كذلك أن الانجليز اهتموا بالعاهرات كثيرا للحفاظ على صحة جنودهم، فكان مندوبو السرية الطبية البريطانية يجلسون أمام الطوابق الأرضية للمواخير حيث يسلمون كل جندي واقيا ذكريا وعلبة مرهم وكراسة بالتعليمات!!! نعم كراسة التعليمات مش هزار

و كان للوعد ساحاته و ميادينه، فكانت مناطق مثل كلوت بك، الوسعة، وش البركة، و درب طياب (جاء ذكره في فيلم درب الهوى) و عطفة جندف، درب المصطفي في القاهرة، و كانت منطقة ما وراء الحقانية و جبل نعسة و بعض حارات المنشية فضلا عن حي اللبان هي مناطق الدعارة ، اما في باقي المحافظات فكان منها سوق اللبن في المحلة الكبرى، كفر القرشي في طنطا، الخبيزة في الاسماعيلية و شبين الكوم و غيرها كثير، أما عن السعر، فكانت أرخص المواقع تقع في منطقة "عرب المحمدي" و يصف الدكتور عبد الوهاب في كتابه قائلا "وكانت 'محلات الممارسة فيه لاتتجاوز حفرة في الأرض ممهدة للقاء وتغطي من أعلي بستارة تثبت ببعض الحجارة من أطرافها بواسطة القواد أو القوادة' وعندما يفرغ العميل من مهمته يتم رفع الحجارة وازالة الستارة لدخول عميل جديد! أما منطقة الأزبكية طبقا لتقرير بوليس مدينة القاهرة عام 1893 فقد كانت تضم أعلي نسبة من الفنادق والغرف المفروشة، بينما كانت منطقة الوسعة ووش البركة في الأزبكية تضم عشرات البيوت المقسمة لغرف أو حتي دكاكين مغطاة بستائر، وسعر الممارسة كان يتراوح في العشرينات بين شلن و 15 قرشا مكتوب علي الباب، كما كانت هناك بيوت أخري مغطاة بقضبان حديدية تجلس خلفها المومسات بوجوههن المصبوغة. وعندما صدر الأمر العسكري عام 1942 باغلاق منطقة وش البركة لجأت العواهر في ممارسة، نشاطهن مع جنود الاحتلال إلي المقاعد الخلفية في عربات الحنطور، أما نظام المحاسبة فكان اكثر إثارة للتقزز والبشاعة، ففي منطقة عرب المحمدي كان اللقاء الجنسي يتم في حفر نعم مجرد حفر مجهزة في التلال. وكان العميل يدفع أولا للقواد، وفي نهاية اليوم وحتي تحصل المومس علي اجرها كانت تقدم للقواد حصيلة انتاجها وهي كيزان ممتلئة بالسائل المنوي للعملاء الذين افرغوا في جهازها التناسلي ويدفع القواد مبلغا محددا لقاء كل كوز.. لا أظن أن هناك أكثر بشاعة أو إثارة للتقزز من هذا الامتهان الفظيع" و على ذكر الحنطور، ألم تتساءل أبدا ما هو أساس موضوع "علي عوض" هذا و لماذا يضايق اسمه العربجية؟ خاصة اذا ذكر مقترنا بكرباج ورا يا أسطى؟ فاتت هذه النقطة أستاذنا الدكتور عبد الوهاب في بحثه الشائق، و المروي بخصوصها أن علي عوض، و هذا كلام سمعته أنا من عربجي و العهدة عليه، كان أحد شيوخ العربجية، و كان مشهورا بالتنسيق بين العاهرات و العربجية و قبض عمولة على عملية السمسرة هذه، فعير به العربجية

مصطلحات وعدية عريقة

كما لكل مهنة مصطلحاتها، و تخصصاتها، كذلك كان الحال عندما ازدهرت أقدم مهنة في التاريخ في مصر المحروسة، فكانت هناك تخصصات و أدوار موزعة بدقة، و عمل يمتاز بروح الفريق العالية جدا في خدمة ... في خدمة الشباب و طلاب العلم و المعلمين و الفلاحين و الأفنديات من رواد اوكار الدعارة أو جالبي الداعرات، فكانت هناك الاختصاصات التالية

  • المومس: و هذه معروفة للجميع، فهي لب الموضوع و السلعة التي تباع للمستهلك النهائي
  • المندار / الخنت: و يعني في مصر قديما الشاذ المخنث، و كانت الفحوص الطبية التي تجرى للكشف عليه تسجل نتيجتها بكليشيه رسمي يكتب فيه "مستعمل من الخلف و يهوى كما تهوى النساء" و مازالت فيم أظن تكتب في اختبارات الجيش حتى الآن، و يعفى من كان كذلك من التجنيد
  • البادرونة: و هن صاحبات البيوت الحاصلة على رخصة الدعارة ، و هي مأخوذة من "باتروناج" الفرنسية أو "باترونة" الايطالية
  • السحاب و السحابة: و هو الموكل باستلقاط البنات المرشحات للعمل و اقناعهن بالعمل في الدعارة
  • القواد: المكلف بفرز الناس في الشوارع المحيطة و اختيار الزبون (المليان) ليكون من نصيب فريقه
  • العايقة: و هي العاهرة بعد الخمسين و التي لا يرخص لها بممارسة الدعارة بعدها، و غابا ما تعمل سحابة أو قوادة حسب مهاراتها
  • البرمجي: لا مش مفرد برمجيات، ده بضم الباء، و هو عشيق المومس و الحارس الخاص لها، فهو بلطجي متخصص أو حارس شخصي، و كان على كل مومس أن تملأ عين البرمجي الخاص بها و تطعمه و تجلب له الدخان و الكيوف، و الا هجرها الى غيرها، فاذا كان خلفه ضعيفا، أصبحت هي و هو هفية في حي البغاء
  • البلطجي: و هذا لا دور له لكنه يفرض اتاوة على المومسات و البرمجية، بقهر عصابته، و قد بدأ هؤلاء أتراكا، و أصل الكلمة من فرقة البلطجية بالجيش العثمانلي، و كان دورها تقطيع الغابات لمرور الجيش التركي في غزو أوروبا، فكانوا ضخام الجثث يجيدون الضرب بالبلطة و لا يجيدون فنون القتال، و حين أصبحت تركيا الرجل المريض، سرح هؤلاء فانتشروا بين مصر و الشام يرتزقون بالبلطة و الارهاب بها

زمن القمة: الصيني نزل المهندسين

نستطيع بكل الفخر و الكبرياء أن نقول أن مصر تشهد أزهى عصور الوعد، فبعد "وعد" الرئيس المؤمن رحمه الله لنا بالرخاء و الرفاهية، حقق وعده و انفتحنا على الآخر، و طغت سيرة شارع الهرم على الهرم ذاته في بلاد الغترة و الشماغ ، و بعده لم نتوقف أبداً، بل استمرت المسيرة في العلو و الصعود لمكان الصدارة الوعدية، فهذه هي المهندسين قد غدت اليوم أحد أسخن بقاع الدعارة على مستوى القارة ربما، فتصبح شوارعها مساء في الصيف لا تطاق من كثرة الأشمغة و إماء الدولار و الدرهم و الريال، و الغريب أن هناك شتائم خاصة بين العاهرات و بعضهن، فتقول واحدة لأخرى "يا بتاعة العرب" مشيرة لممارستها مع السواح من الأشقاء العرب، طيب هو فيه منهم بينقي يعني؟ آه فيه، يقول من يدعي العلم ببواطن الأمور أن هناك متخصصات في الأجانب و هؤلاء يقطن منطقة المعادي و الزمالك و غيرها، و يرافقن الزبون مدة وجوده أو جزء منها بمقابل راتب يومي أو شهري ثابت، منها دليل و منها كل حاجة، و منهن بتوع العرب، و هؤلاء بالليلة او الأسبوع، أما أحط الأنواع فيقال لها "بتاعة الطلبة" و هذه عادة ما تكون في النزع الخير من عمر أنوثتها، و زهيدة السعر، فيكنى عن هذا بانها في متناول الطلبة

المصيبة الجديدة بقى، الصين دخلت معانا ع الخط يا رجالة، الغزو الصيني بعد أن احتل مرافق و أسواق البلد في كل شيء، جاب من الآخر و بعت لنا الكتاكيت بتوعه، و يقال أن الظاهرة على مستوى اقليمي شرق-أوسطي تعاني منها لبنان و مصر و الإمارات العربية و المغرب، و هن بالطبع يحطمن الأسعار تحطيما، فضلا عن شبابهن و رشاقتهن الغير متوفرة في الصنف المحلي، و بدأ الأشقاء ريقهم يجري على الصيني بعد غسيله، و يبدو ان البساط بدأ يسحب من تحت يد المنظومة المصرية الحالية من السحابين و القوادين و المومسات، و هذا العنصر الوافد يعمل بطريقة البيع المباشر للجمهور بدون وسطاء و لا سحابين و لا غيره، لهذا فالمنافسة السعرية ساحقة، المشكلة ليست في الصين و من جاء منها و حسب، لكن المأساة في المنافسة المحلية من الهواة، فكلنا سمعنا عن شبكة دعارة العذارى قريبا في الصحف و المواقع، ده فضلا عن وجود بعض السائحات من دول الغترة و الشماغ أيضاً يردون القلم و يمارسون اللعبة مجانا مع الشباب المصري و غيره هنا في ذات الأماكن التي يعبث بها رجالهن! فهل هذه هي السياحة التي نحرص عليها و لدينا كل ألوان السياحة الدينية و الثقافية و العلاجية؟

16.7.08

لآليء القرآن-05

القبس الخامس

قال تعالى (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) المائدة: 105
هذه القاعدة الإيمانية التي تطرحها الآية، بتحديد المسؤولية الشخصية لكل فرد عن معتقداته و عن أعماله تهمنا من أكثر من جانب، و لها في حياتنا أكثر من مهمة و أكثر من تطبيق ، أولها التزام النفس، و الانشغال بها عما سواها و عن العيوب التي فيمن حولنا ، فننشغل بعيوبنا أكثر من انشغالنا برصد عيوب الناس من حولنا و نقاط ضعفهم ، فذاتنا هي محط مسؤوليتنا، فضلا عمن نرعاه من القاصرين، بسبب تبعيتهم لهذه الذات، فلو شب هؤلاء عن الطوق انطبقت عليهم الآية و رفعت عنا مسؤوليتهم ، أما القول بحساب الرجل عن أعمال النساء من أهل بيته فقول لم يأت به القرآن، بل أتى بعشرات الآيات التي تنفي هذه المسؤولية، و كذلك في سيرة المصطفى، لو كانت النساء توابعا لما كان هناك داع لأن يبايعهن النبي بيعة مستقلة، و لا أن يخصص لهن يوم الثلاثاء في المسجد لتفقيههن في الدين ، اما القاعدة الثانية التي تخلص إليها من الآية فهي الاقتصار عن الناس، فلا يقيم الواحد من نفسه قاضيا على الناس يقول لهذا أنت أحسنت و أنت أسأت و أنت فعلت كذا و كذا و هذا فيه كيت و كيت، أما الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيكون فيما له تأثير على المجتمع و ليس في السلوك الشخصي، فلو رأيت رجلا يقود سيارته عكس اتجاه السير فهذا منكر يجوز لك تنبيهه إليه و أن تطلب منه تغييره، لأنه منكر عام يشكل ضررا محتملاً أو محققا عليك شخصيا و على الناس عامة ، و لو وجدت رئيسا في العمل يأتي بما يضر الصالح العام فلك حق النقد و طلب التقويم، لأنه أتى بمنكر قد يضرك من خلال الإضرار بعملك و موضع رزقك، أما ما كان من الناس سلوكا شخصياً ، أو عقيدة أو عبادة، فهو أمر يخص هداهم أو ضلالهم و لا سلطان لك عليهم فيما يخصه، إلا أن تسأل النصيحة فتنصح ثم تعود للإقتصار عن الناس، و الدرس الثالث هو التطبيقات في السلوك المؤسسي، فمن الآفات الشهيرة في الأفراد أنك عندما تطلب مثلا من مرؤوس تعديل سلوك معين أو مستوى عمل محدد، تراه يجيب " و لكن فلان و فلان يفعلون مثلي و لم يطلب منهم أحد مثل هذا التعديل" فهذا لن تجد ما تجيبه به خير من هذه الآية الكريمة ، فمن عادة البشر أن يستغلوا المقارنات الغير منضبطة و القياسات الغير-دالة للهروب من تكليف في العمل أو تبرير سلوك غير مرغوب فيه و خارج عن الإطار العام

قال تعالى (وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الأنعام:98
أما نشأة الناس من نفس واحدة ، فهو أمر قد يصعب تخيله مع تعداد العالم الحالي الذي تعدى الستة مليارات و نصف المليار إنسان، و لهذا مثلا تصور الدكتور محمد شحرور في كتابه القيم "الكتاب و القرآن" أن يكون آدم اسم جنس و أن تكون النفس الأولى هذه أيضا معبرة عن اسم جنس، و لكننا نرى غير هذا الرأي، فمن خلال المنحنى المبين أعلاه، نجد أن البشرية تراوحت من شبه ثبات في الزيادة السكانية خلال الفترة من عام 1750 م و حتى عام 1900، ثم بدأت زيادة متصاعدة حتى وصلت إلى زيادة قدرها 100% خلال العقود الأخيرة مع ارتفاع مستوى الرعاية الصحية و انخفاض معدلات الفقد في الحروب و أزمات الغذاء نتيجة للتطور العالمي ، فلو افترضنا نسبة زيادة في التجمع البشري قدرها خمسة بالمائة كل نصف قرن ، و هي نسبة معقولة نظرا لمجتمعات الحروب و الأزمات في العصور القديمة، ثم عدنا للوراء لحساب كم يلزمنا من السنين للوصول لحالة الزوج الأول، لوجدنا أننا رياضيا نحتاج إلى 21000 سنة فقط للوصول لهذه الحالة، و هي فترة تقل عن عشر العمر المقدر للإنسان على الأرض ، و هذا الفارق بالطبع لأن البشرية تعرضت لنكسات جسيمة في الأرواح في عصور الحروب و الاضطهاد الديني كان الضحايا فيها يقدرون بمئات الآلاف و بالملايين، و من الغريب حقا أن مصر و الصين تحديدا كانتا عبر تاريخهما كثيرتي التعداد، و القاسم المشترك بينهما كان وجود سلطة مركزية قاهرة تقلل سفك الدماء الذي كان قدراً طبيعيا يتعرض له الإنسان في بلاد الغال و غيرها من بقاع أوروبا، و بسبب هذه الحياة القاسية، تكون النسبة الافتراضية التي وضعناها كبيرة جداً في هذه الحالة، و الشاهد مما قلناه هنا أن العلم و المنطق الرياضي و الإحصائي يؤيدان بداية الإنسان من الزوج الأول آدم و حواء، بينما يفسر الانعزال و الطفرات التطويرية هذا الثراء الجيني الذي جد على الإنسان عبر السنين ، و نحن نرى لفكرة الخلق من نفس واحدة، هدفا ساميا، لأنها تعين البشرية على الالتقاء يوما على الحق و في سبيل السلام، ضمن فكر لا-عنصري يضاد النزعات الآرية و السامية و الضد-سامية و السلافية و غيرها، فقاعدة كلنا لآدم و آدم من تراب تعيننا على التواضع لله، و تعيننا على قبول الأخر المختلف عنا لوناً او جنساً بعيدا عن الصرعات العرقية البغيضة
الأرض مستقرنا و مستودع رمادنا
في التفاسير التراثية، كثر تأويل المستقر بأنه الرحم و المستودع بأنه صلب الرجل، و هو قول مردود من أكثر من جانب ، أولها أنه غير مدعوم بأي إشارة دالة على هذا التخريج من القرآن أو السنة عدا الأخبار المنقولة، و ثانيا أن التسلسل الزمني لا يستقيم بقولنا من نفس واحدة فالرحم و الصلب، لأن الجنين يستقر في الرحم كبويضة مخصبة في مرحلة لاحقة على التخصيب الذي يشترك فيه المني من الرجل، و بهذا يكون المستودع سابق على المستقر و الأولى أن يأتي قبله في بناء الجملة، كذلك حرف العطف الواو بين المستقر و المستودع لا يفيد التعاقب الزمني

و نحن نرى أنه في لغة القرآن وصفت الأرض بأنها مستقر لنا في قوله تعالى (وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ) ، و الأرض مستقر للإنسان في حياته، و الحياة هي حالة الحركة، لأن تعبير مستقر لا يكون إلا للمتحرك، ثم تكون مستودع لجسده بعد أن يفارق الحياة و يصبح جثة هامدة بلا حركة، لأن أودع و استودع يغلب عليها الاستخدام للأشياء و الجمادات ، و في هذه الآية يتكامل المعنى وفقاً لهذا الفهم ، فالسر الإلهي، و هو الروح التي أودعها الله في آدم ، خارج عن نطاق الآية الكريمة، لأنها تتعامل في نطاق الموجودات الأرضية و المرتبطة بالحياة الدنيا فقط، و ليس التي لها أبعاد الهية أو أخروية، فالنفس تختلف عن الروح، النفس هي الطاقة الحيوية للجسم الحي و هي موجودة في كل كائن حي من انسان لحيوان لنبات، و هي اشتقاق من التنفس، الوثيق الارتباط بحياة الخلية و وظائفها الحيوية، اما الروح فهي السر الإلهي الذي أودعه الله في آدم و توارثناه من آدم، و هو ما لا نعرف كنهه لأنه مرتبط بذات الله عز و جل ، لهذا قالت الآية الكريمة من سورة الإسراء ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) و على هذا، يستوي معنى الآية بأن الله أنشأ البشرية من كائن حي واحد و هو آدم، ثم جعل الأرض مستقرا لهذا الجنس البشري، أو بمعنى أدق الأحياء منه، و فيها كذلك مستودع لرفات و رماد الأموات منهم، فالروح لها مهمة ربانية تنتهي بموت الإنسان فتعود الروح لبارئها، بينما الجسد مرهون بهذه الأرض مستقر له حيا و مستودع له ميتاً

قال تعالى ( وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام: 108
هنا تأديب راق للمسلم بألا يسخر من عبادات الآخرين و من معبوداتهم و مقدساتهم بالتبعية ، و بطبيعة الحال من لا يسخر لن يحطم أو يدمر معبودات أقوام آخرين، و لقد التبس على البعض و على رأسهم مهاويس طالبان، أمر تحطيم الرسول لأصنام قريش حول الكعبة، و هذا أمر منطقي، لأنه لا يعقل أن يحتوي بيت الله على أرضه و معقل التوحيد أصناما، و هي من قبل و من بعد حجارة و أنصاب بلا قيمة لا فنية و لا تاريخية، اما تراث البشرية خارج الأرض المقدسة في مصر و العراق و سورية فلم تنله يد التحطيم من صحابة الرسول الذين فتحوها، ببساطة لانهم فطنوا للفرق الذي لم يفطن له الأفغان ، ثم تبين لنا الآية عاقبة السخرية من دين الآخر أو سبه، و هي رده لهذه السخرية بمهاجمة الإسلام و كتابه و رسوله أو تجاوز هذا إلى سب الذات العلية، لأن النور المطلق عند البوذي هو أقدس المقدسات، فلو سببته و سب هو الله عز و جل، يكون قد فعل عن جهالة لأنه يجهل قدر الله الحق

ثم توضح الآية قاعدة هامة في قوله تعالى (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) فمن فرط الغباء أن تعتقد كما يقول بعض السفهاء، أن غير المسلم يعلم أن الإسلام هو الحق و لكنه يكابر، لأن كل إنسان ينشأ على دين و مقدسات، غالبا ما يلقنه إياها أقدس المصادر إليه و هما الأب و الأم، فتترسخ عنده هذه المقدسات في منطقة محظورة من أغراس الطفولة المبكرة، لا يمسها عقله إلا لمما، و لا يسمح لأحد أن يمسها، بل يحاول فقط أن يرى مواطن الجمال في عقيدته تلك، فلو لم يجدها يخترعها اختراعا، و هذا معنى قوله تعالى (زينا لكل أمة عملهم) فالله لم يزين للكافر كفره مباشرة، و لكنه فطر الإنسان على الإعتزاز بمقدساته و الانتماء إليها، و أهداه العقل مع هذه الفطرة ليوجهها نحو الصواب ، و بهذا يكون الله زين للمسلم و غير المسلم عقيدته و أعماله بأن خلق الإنسان ميالاً للانتماء و فزعا من المساس بالمقدسات و الثوابت و الموروثات ، فلا يحسبن أحد أن البقرة عند الهندوسي أقل قداسة من الصليب عند المسيحي أو المسجد عند المسلم، ثم يؤدبنا الله بأدب التعددية الدينية، فيعلمنا أن البيان النهائي للصواب و الخطأ و الحقيقة المطلقة هي حق محصور للخالق عز و جل، و لا يحل لكائن من كان أن يدعيه لنفسه أو يحاسب غيره على عقيدته، لكن بطبيعة الحال لا يخضع التفكير النقدي لأي فكر ديني و علم الأديان المقارن و غيرها لهذه القاعدة، لان هذه الدراسات الجادة ليست هزلا و لا سبا و لا سخرية، و لا تثير نفس أحد إلا الجهلاء و السفلة

قال تعالى (وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) الأنعام: 120
و قد حملت الكثير من التفاسير لفظة الإثم في الآية الكريمة على كونها الزنا!!! و لا نرى لهذا مبررا في التوظيف اللغوي للقرآن، إذ ورد الإثم تعبيرا عن تبديل كلمات الله و عن الإجحاف في الوصية و عن السكر و القمار، و عن القتل ، و عن اتهام الناس بالباطل و غيرها من الخطايا الخلقية الظاهر منها و الباطن، و ليس مقبولا على هذا أن نحدده في الزنا تحديدا، فنحن نرى الإثم تعبيرا قرآنيا عن كل فعل يندرج في قائمة الشرور و المنكرات، فيما عدا الظلم و الانحرافات الجنسية، فلو قارنا سورة الأعراف و سورة النحل ، وجدنا الآيتان الدالتان على أنواع الشرور في عالمنا و هما قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ) الأعراف:33 ، و كذلك قوله تعالى (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل: 90 و بمقارنة الآيتين، نخلص إلى تصنيف الشرور وفقا للنص القرآني كالتالي

الفحشاء: و هي الزنا و كافة الانحرافات الجنسية و الزواج الباطل و كل ما يقوم مقامها و يقاس عليها ، و الظاهر منها هو ما كان زواجا باطلا مثلا، او من كان يجاهر بالخطيئة أيا كانت، و الباطن خلاف ذلك و هو الأكثر شيوعا، و بالتالي الأشد خطراً و من هنا كان التأكيد بالاقتصار عن الظاهر و الباطن من الفواحش

المنكر/ الإثم: هو جميع ما تعارف الناس على كراهته و سوئه من قول أو فعل و غيرهما، و هو بلغة عصرنا، و بما ان المجتمعات تعقدت، يتم من خلال نواب الأمة في عمليات التشريع، فهو ببساطة القانون المعمول به في البلاد، و لو عدنا لقائمة المحظورات التي عبر عنها القرآن بلفظة الإثم ، فسنجد أن القانون يمنع منها أمورا كثيرة، و يمنع أمورا أخرى جدت مع الزمن، مثل المرور و مخالفاته مثلا، و التي يمكن لبعضها تعريض حياة الناس للخطر، كالقيادة عكس اتجاه السير المروري و كسر الإشارات الضوئية و القاء المهملات في الشارع و غيرها، فكل ما يحرمه القانون وجب على المسلم الامتناع عنه لأنه أصبح منكرا بعد أن أقر انكاره نواب الأمة ، و هناك أمور لا يمنعها القانون، مثل القمار مثلا و شرب الخمر و الاجحاف في الوصية، و لكنها تظل آثاما علينا الالتزام بعدم السقوط فيها، لانها منكرة و مؤثمة في المجتمع، و على هذا، فمفهوم المنكر مفهوم مرن يتزايد مع الوقت لتحقيق أقصى التزام مدني و خلقي للفرد، في اطار مجتمعه و ما يناسبه، لذلك أرجعه الله لما ينكره الناس، و ان منع حلالاً، مثل قانون المرور، و مقابله المعروف، و هو ما تعارف الناس على حسنه على ألا يحل حراما، فلو تعارف الناس على الخمر لا يحل لمسلم شربها مع هذا، لأنها واقعة في قائمة المحرمات المباشرة



البغي: البغي هو الظلم الإرادي، أو بمعنى أدق الظلم المقصود المتعمد، ظلم الناس، و حقوق العباد، و منها ما يمنعه القانون و يشرع له لمحاولة الردع عنه، و منها ما لا يستطيع القانون أن ينفذ اليه، كظلم الأب أحد أبناءه، أو ظلم الأستاذ لتلميذه، او الرئيس لمرؤوس، فمن الوارد أن يظلم الفرد غيره عن جهل أو سهو أو خطأ، لكن هذا لا يعد بغياً طالما افتقر لشرط التعمد و تبييت النية على الظلم بهدف محدد يهدف اليه الظالم

13.7.08

لآليء القرآن-04

القبس الرابع


قال تعالى (لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) النساء: 148
لقد قصرت العديد من كتب التفسير التعبير القرآني "الجهر بالسوء" على الدعاء على الغير بسوء، و هذا غير ظاهر من نص الآية الكريمة، بل تتناول الآية كل ما يقال، و تفيدنا ان الله لا يحب لنا أن نقول بسوء، سواء في ذلك ذم انسان، أو لفظ كريه، او دعاء بشر على أحد من الناس، إلا أن يكون ذلك نتيجة لظلم وقع على القائل من هذا الشخص، لأن الإحساس بالظلم يحرك النفس و يطلق اللسان، فيجوز للمظلوم أن يدعو الله جهرا على ظالمه، و أن يحدث الناس بهذا الظلم، و قد حدد الله الجهر بالسوء، لانه من الجائز أن تجيش النفس بالسوء لواحد من الناس ضايقنا في أمر من أمور حياتنا، أو حتى رجل لا نستحسن كلامه أو فعله، فمن الصعب عندها أن نتحكم فيما يدور بعقلنا من وصف سيء له يرسخ في ذهننا ، لكن من الواجب أن نجتهد في إمساك اللسان حتى لا يشي بهذا الوصف، فمثلا، قد ترى رجلا يتحدث أو يتصرف برقاعة ، فيدور برأسك قول "يا له من رجل رقيع" و لا سلطان لك على عملية تكون الانطباع هذه، لكن بيدك أن تمسك لسانك، فلا تقول لمن بجوارك "انظر لهذا الرقيع" هنا تكون قد جهرت بسوء، و بما أن الله لم يعينك قاضيا على غيرك، فهذا أمر ليس لك و لا هو من حقك ، و أنا أقر بأن كف اللسان هنا أمر صعب، فهي عادة شرقية عتيدة، عادة التعليق على الآخرين تلك، و التي تجاوزناها اليوم إلى ما هو أقبح من سباب في الشوارع و معارك المرور، و لا أبريء نفسي من هذا، لكن علينا جميعا أن نجتهد بالسيطرة على لساننا في هذا الأمر، و هذا أجدر من الامتناع عن قول "و النبي" أو الامتناع عن التغني بنشيد "أحلف بسماها و بترابها" لو كنا نريد الالتزام بأمر القرآن، الذي أوضح الله فيه كراهة الجهر بالسوء كما أوضح عفوه المسبق عن لغو الأيمان

قال تعالى (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً) النساء: 164

الآية الكريمة ذات أهمية علمية قصوى، لانها تخدم التوافق بين العلم و العقيدة، فلعل أهم مشاكل العهد القديم أنه حاول تقديم رؤية كاملة للتاريخ من خلال النبوات، فأرخ للبشرية ما يفيد بأن عمرها على الأرض لا يزيد عن ستة آلاف عام، و هذا تأريخ متهافت تهاوى مع اكتشاف حجر رشيد، حين تبين أن حضارة مصر وحدها تجاوزت هذا التاريخ، ثم ازداد بيان تهافته مع اكتشافات القرن العشرين التي قدرت عمر الحياة على الأرض بثلاثمائة مليون سنة، و عمر البشرية في صورة الإنسان كما نعرفه اليوم في قرابة الربع مليون سنة، و من هنا كانت ضرورة هذه الآية، التي أفادت أنه سبحانه قد قص علينا قصصا مختارا من قصص الأنبياء الذي يحتوي على أحداث و معان محددة نستعين بفهمها في دنيانا، و أن هناك عدد غير محدود من الأنبياء ما بين آدم و نوح و ما بين نوح و إبراهيم لم نعرف عنهم شيئا ، ربما لأن أحداث رسالاتهم تشابهت مع غيرها من النبوات، فلم يكن هناك ما يدعو لتكرار القصص، لان الهدف تعليمي و تأديبي و ليس هدفا علمياً تأريخياً، و لهذا نقول دوما أن القرآن كتاب هداية و ليس كتاب تاريخ طبيعي و لا فلك أو جيولوجيا كما يدعي البعض من محترفي الشاشات و المساحات المدفوعة في الصحف القومية

و من ناحية ثانية، تهمنا الآية الكريمة من زاوية احترام كافة الأديان، و كافة رموزها، فلا نسب و لا نسخر، ببساطة لأنه ليس بإمكاننا أن نجزم بأن أساس أي دين لم يكن رسالة سماوية حرفت حتى وصلت لحالتها الراهنة، لقد كان عرب الجاهلية أحفاد نبي الله إسماعيل، بدأوا موحدين أحنافا، ثم قادهم تعلقهم بالبيت العتيق بمكة إلى صناعة نماذج له من حجر يصحبونها في السفر تبركا، ثم تقادمت العصور فخرجت الحكايات حول هذه النماذج، ثم تحور شكلها إلى أيقونات حجرية ثم أصنام، و الآن، و في ضوء هذا التاريخ لتطور الوثنية من ديانة سماوية في ظل غياب الكتابة و التوثيق للفكر الديني، هل نستطيع أن نجزم أن أديانا كالبوذية و الزرادشتية و الهندوسية ليست أديانا سماوية في الأساس، ثم حرفت بمرور الزمن؟ هل يمكننا القطع بأن بوذا و زرادشت و غيرهما من رموز هذه الأديان ليسوا من الأنبياء الذين لم يحدثنا عنهم القرآن؟ لا يمكننا القطع بالإثبات و لا بالنفي، و لكن يدعم الاحتمال، عدم معقولية خلو آسيا المتمادية في القدم و العمران البشري من النبوات عدا في أقصى غربها ، كذلك الحال في أوروبا و أفريقيا، لقد فسر الماديون التشابه بين الأديان في التيمات الأساسية مع بعض الخصوصية لكل دين وفقا لبيئته و مجتمعه بأنها نتاج بشري، و نحن نرى التشابه و الخصوصية فنفسرها بتفسير مغاير، هو وحدة الأساس التي خلقت التشابه، و تقادم الزمن الذي خلق الخصوصية من تفاعل البشر مع الدين في المجتمعات المتباينة، فأضيفت الأفكار البشرية و الأخيلة و العادات المرتبطة بالبيئة لهذه الأديان، لهذا يكون الأحوط دوماً أن نحترم كل رموز الأديان و لا نسخر من أي منها

قال تعالى (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) المائدة: 46
لقد ذكر الإنجيل في القرآن الكريم عدة مرات معطوفاً على التوراة، و في هذه الآيات استخدم لفظ الإنزال لهما معاً نظراً لتقدم التوراة في الترتيب، و ذلك مثل الآية الكريمة (نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ) فغلب القرآن صفة التوراة المنزلة عليهما معاً، و لكن حين ذكر الإنجيل منفرداً كما في هذه الآية الكريمة و كذلك في الآية من سورة الحديد (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) استخدم لفظ "آتيناه" و هو تعبير دقيق فيما يخص الإنجيل، لان الانجيل كما نعرفه اليوم مروي عن أربعة من حواريي المسيح هم متى و مرقس و لوقا و يوحنا، و هو روايات مختلفة لقصة السيد المسيح و حياته على الأرض و أقواله و قصصه و تعاليم نبوته، تتفق في الجوهر و تتباين في بعض التفصيلات، و لهذا فالإنجيل ليس كتاب منزل بحرفه، و لكن ملهم بمعانيه من الله للسيد المسيح في مواقف معينة ، فكان استخدام فعل الإتيان أقرب من فعل التنزيل بسبب طبيعة الإنجيل ككتاب ملهم، و هو ما لم يفطن إليه أي من المفسرين سابقا، ربما لقصور العلم و الإلمام بالإنجيل ، لكننا لا نراها أبداً مصادفة لغوية أن يستخدم القرآن لفظ التنزيل للتوراة و الإنجيل مجتمعين و للتوراة بمفردها و يستخدم الإتيان للإنجيل ، لقد بقي موضوع إنزال الإنجيل و التوراة يحيرني فترة لعلمي أن الإنجيل ليس منزلا بلفظه، حتى هداني الله لهاتين الآيتين

قال تعالى (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون) المائدة: 48
الشق الأول من الآية الكريمة يتناول علاقة القرآن بالتوراة و الإنجيل من قبله، و يثبت للقرآن أنه جاء مصدقاً لكليهما، أما مهيمنا، فهي من الهيمنة بمعنى الحفاظ على الشيء، و احتوائه، و بهذا يكون المعنى المقصود ان القرآن جاء مصدقا للتوراة و الإنجيل و محافظا على المعاني و القيم التي وردت بهما ، من خلال شمولها في النص القرآني من حيث المعنى، و قد حفظ الله القرأن بنصه بالآليات التي تحدثنا عنها سلفاً، ثم تخبرنا الآية الكريمة أنه برغم توحد الأديان السماوية ، اليهودية و المسيحية و الإسلام في المضمون الأساسي و هو التوحيد عقيدة و طريق الحق و الخير سلوكاً، إلا أن الله شاء أن يجعل الشرائع بين هذه الأديان الثلاثة مختلفة ، و قد كان خلافا مبنيا على اختلاف العنصرين الزمني و المكاني بين الرسالات الثلاث، و كذلك اختلاف الهدف من كل منها، فمثلاً، بينما نجد تركيزا كبيرا في اليهودية و الإسلام على التوحيد و العبادات، نجد المسيحية تركز على الأخلاق و مضمون العبادات، ذلك أن بيئة اليهودية و و الإسلام الأولى كانت وثنية في الحالتين، بينما أرسل عيسى لليهود و هم موحدين و عابدين، غير أنهم أفرغوا العبادات من مضمونها الأخلاقي، كذلك ضمن الله سبحانه في الإسلام الآليات اللازمة لضمان استمراره و تطوره لمواكبة تطور الإنسان، ذلك أنه خاتم الأديان ، و هكذا تباينت الشرائع و العبادات في كل دين وفقاً للهدف الأسمى و هو نشر عقيدة التوحيد و مكارم الأخلاق بين البشر حتى تتحقق المهمة الكبرى في التحضر و التطور الإنساني ، أما الشرعة فهي الطريق الأساسي و يقصد به العقيدة، و اما المنهاج فهو من النهج ، و النهج هو الأسلوب، فيكون أقرب لمعنى العبادات و السنن التي تمارس في كل دين من الأديان

قال تعالى ( إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) المائدة: 69
هذه الآية الكريمة حيرت المفسرين و النحاة في تأويلها، و ذلك لأن "الصابئون" و هي معطوف على اسم إن جاءت مرفوعة و الأصل فيها النصب لتصبح "و الصابئين" فعلل بعض النحاة و منهم الفراء بقوله أن "إن" الناصبة ضعفت لطول العطف، و علل البعض بالتقديم و التأخير بأن أصل الترتيب يكون "إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك" و منهم سيبويه ، لكننا مع قبولنا لرأي التقديم و التأخير لا نرتاح للسياق المقصود كما افترضه سيبويه لأن فيه افتعالا شديدا، و رأينا في الآية الكريمة بين أمرين ، الأول: التقديم و التأخير، على افتراض السياق بدون تقديم يكون "الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى ، إنهم من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون" و بهذا النمط الافتراضي يستقيم الاعراب و يحتفظ السياق بمنطقيته و سلامة معناه ، و هو ما لا نراه متوفرا في فرضية سيبويه، و في فرضيتنا تصبح الصابئون معطوف على مبتدأ مرفوع بالواو، و تكون إن جملة في محل خبر ، و اسمها ضمير مستتر تقديره هم عائد على المبتدأ، و خبرها جملة "من آمن ....." و بهذا تنتفي الإشكالية الإعرابية ، الاحتمال الثاني: و هو أن تكون القراءة المعروفة عن الصحابي الجليل "عبد الله بن مسعود" هي الصحيحة حيث قرأها "و الصابئين" و بهذا أيضا تنتفي الإشكالية الإعرابية ، و يؤيد هذا الرأي ورودها بالسياق ذاته في سورة البقرة منصوبة في قوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون" ، و من المعروف أن الأحناف قد اعتدوا بقراءة ابن مسعود من مصحفه في العديد من المسائل كالقنوت و غيرها كمرجع فقهي يجوز الرجوع إليه ، و لا يجب أن تكون لدينا حساسية في هذا الموضوع ، فحين نأخذ في الاعتبار أن المصاحف الأول كتبت غير منقوطة و لا مشكلة بحركات عليها، فليس أمرا جللا أن يكون عندنا ثمان أحرف في القرآن كله يختلف فيهم القراء من مصاحفهم المختلفة ، فهذا أمر هين لا يغير في معنى الآيات شيئا و لا تعارض فيه مع قاعدة الحفظ الإلهي للذكر الحكيم

من هم الصابئون؟
تفاوتت كتب التفسير بين أقوال متفاوتة ، فقال بعضهم أنهم قوم يعبدون الملائكة و هذا لا يعقل لأنهم ذكروا مع أهل الكتاب و المسلمين، و قال البعض أنهم فصيل من اليهود أو النصارى، و لو كان الأمر كذلك لاستغني بذكر الأصل عن ذكر الفروع، و قال البعض أنهم كالمجوس و هذا لا يعقل لذات السبب الأول، فماذا نقول فيهم؟ سبب الخلط الذي وقع فيه القدماء هو تعقيد عقيدة الصابئون هؤلاء، فهم يؤمنون بالله الواحد، و هم يتجهون بالحديث للملائكة كوسيط ، و هذا خلل في توحيدهم و لا ريب، مما روج لفكرة أنهم يعبدون الملائكة، كذلك يجعلون لكل ملاك رمز من النجوم، و لهذا حسب أنهم يعبدون النجوم، و قد تأثروا كثيرا بسيرة يوحنا المعمدان ، خاصة في فكر المعمودية ، و لكن التأثر بيوحنا كان متأخراً بعد نشأتهم لأن تاريخهم أقدم من المعمدان نفسه، اذ يرجعون للألف الثالثة قب الميلاد، و يهتمون اهتماما خاصا بالتعميد بالماء و الاغتسال بشكل طقسي جماعي و بملابسهم، لهذا الخلط مع المسيحية، فهم يغتسلون لمحو الخطايا، و لا يعترفون بالعنف كوسيلة مشروعة لحل النزاعات، و يحرمونه في كافة الظروف حتى المقاومة المشروعة

و تقوم عقيدة الصابيان أو المانديين على الصلاة و الصوم و الصدقات من حيث العبادات و الطاعات، و يقوم على الإيمان بالله الواحد و الإيمان بنبوة كل من آدم و شيث و نوح و ابنه سام بن نوح و يحيى ابن زكريا أو يوحنا المعمدان و هو آخر أنبيائهم ، و لهم كتب مقدسة هي كتاب "الجينزا-رابا" و هم ينسبونه لنبوة آدم و ابنه نوح، و كتاب آخر فيه كلمات و مأثورات عن يحيى عليه السلام، و هم يحرمون الختان، و الكحوليات ، و يقدسون الزواج كواجب ديني و لا طلاق عندهم ، و يتميزون بموقف شديد التحضر من المرأة و مساواتها بالرجل، و لا يزيد عددهم في العالم كله اليوم عن مائة ألف صابي

و لا أساس من الصحة لما ورد بكتب التفسير، و على موقع الأستاذ عمرو خالد من أن الصابئة مشتقة من فعل صبأ ، ببساطة لأن العكس هو الصحيح، الصابئة أو الصابيان مشتقة من فعل "صابا" بمعنى اغتسل و اسم "ماصبوتا" بالآرامية و معناه المغتسل، فأغلب الظن أن الفعل "صب" كصب الماء و غيره هو جذرها في العربية، أما صبأ فقد قيلت لمن غير دينه في الجاهلية و أصبح صابيا، أي اتبعهم، ثم عمت لكل من قال بالتوحيد و أعرض عن آلهة قريش، و مازال الصابئة موجودن ليومنا هذا كما نرى في الصور في جنوب العراق و جنوب سوريا، لكن أعدادهم في تناقص مطرد، و البعض يرجع هذه العقيدة لدين إبراهيم الخليل بعد أن حرف متأثرا بالزمن

مضمون الآية الكريمة
هذه الآية هامة للغاية لفهم طبيعة الفئة الناجية من منظور قرآني، و هل هي فئة واحدة أم فئات، و هل تتوحد درجة النجاة أم تتفاوت ، و لكن لصعوبة شرحها مستقلة عن بقية الآيات المرتبطة بها فسنوردها في مبحثنا عن الدار الآخرة في الجزء الثاني من كتابنا هذا

قال تعالى (قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة: 100
هي آية من أجل الحكم التي يمكن أن ترسخ في ذهن الإنسان فتغير سلوكه تغيراً جذرياً كاملاً، لأنها تعبر عن قانون إلهي قدره الله في كونه، و هو قائم إلى أن يرث الله الأرض و من عليها، و بداية نقول بأن الخبيث هنا هو كل ما خبث من الصفات و الأفعال و السلوكيات و الأشياء، و الطيب هو كل ما طاب منها، فالشجاعة و الحكمة و الكرم و الصدق صفات طيبات يقابلها الجبن و الحمق و الشح و الكذب كخبائث، و الرشوة و الفساد و النفاق خبائث يضادها النزاهة و الصلاح و الترفع كطيبات، فتعالوا ننظر لحال الناس من الطيب و الخبيث في هذه الدنيا

بتقديرنا أنه في أي مجتمع بشري طبيعي، موفور العدد، يكون هناك نسبة لا تتعدى العشرة بالمائة من الناس يتبعون الطيب حيث كان تحت أي ظروف و مهما كان الاغراء و الترهيب، هؤلاء هم الصفوة الأخلاقية للمجتمع ، و لكن الأخلاق ليست قاصرة عليهم، و كاتب هذه السطور لا يرى نفسه واحدا منهم لأنه أضعف من ذلك، لكنه لا يعد نفسه كذلك خبيثا بالكلية، و على نقيض هؤلاء، هناك نسبة تقارب العشرة بالمائة خبثاء بالسليقة، و هم من اصطلح علماء النفس على تسميتهم بالسايكوباتيين، و هم يرتكبون الخبائث حبا في الشر و الدمار و الخراب بدون نفع يطلبونه أو ضرر يهربون منه، ثم تأتي الفئة التي تكون سواد المجتمع الأعظم و هو الثمانين بالمائة، و هؤلاء متدرجون، ففيهم من هو أميل للخير و من هو أميل للشر، و بدرجات متفاوتة، و هؤلاء لو حسن المجتمع من ناحية نزاهة حكمه و صرامة قوانينه و ارتفاع مستواه الحضاري، يميلون بالضرورة لأعلى فيكون المجتمع صالحا يكثر فيه الطيب، و العكس صحيح، فلو هبطت هذه العوامل انحدروا للخبائث حتى يغلب الخبث على المجتمع
الآية الكريمة تخبرنا أنه في الحالات التي تسود فيها صفة أو سلوك أو ممارسة خبيثة كالرشوة أو التحلل الخلقي أو السرقة و غيرها في مجتمع بشري، كما هو حال الفساد عندنا اليوم، يجب على المؤمن أن يتمسك بصفاته المضادة لهذه الآفة المنتشرة، فلا يغتر بكثرتها و تفشيها فيقول لنفسه " و لماذا أكون أشرف من هؤلاء" او يقول كما في الحديث الشريف "انا مع الناس" لأن كثرة الشر لا تقلبه خيرا بل تجعله شرا كبيرا، و كثرة الظلم لا تجعله عدلا بل حوبا كبيرا، و الكثرة قد لا تعني الكثرة العددية فقط، و لكن تعني المكانة التي يصل إليها الشر ممثلا في أتباعه، فقد ترى منهم الأثرياء و الوجهاء و الساسة، فتعجبك هذه الوفرة في مال الخبيث أو منصبه أو حظه من الدنيا، لأن الدنيا ليست دار عدل نهائي، فقد قدر الله لها أن تسير بمقاييس سببية معينه قد يثرى الخبيث بها، و قد يسود الجبان و الأحمق، إذا صادفتهم أسباب النجاح ربما عن غير جدارة ، أما دار العدل المطلق فهي الدار الآخرة، و للإيمان بهذه الدار و عدالتها يوصينا الله في الآية بالتزام التقوى كواق من الانحرافات التي تخايلنا، لان الشر لو لم ينته بصاحبه لسوء المآل في هذه الدنيا، فسيحدث هذا في دار البقاء

9.7.08

الزعيم و الممثل الهزلي

مصر بين عصرين
أجبرني سؤال وجهه الصديق "خالد طوبال" على كتابة هذا البوست رغم أنني تناولت الموضوع مرارا و تكرارا، فقد كان سؤال الصديق العربي حول ما يجد من هجوم المصريين على شخص الزعيم خالد الذكر "جمال عبد الناصر" ، لماذا يجد الكثير من الهجوم على الزعيم من المصريين، في ذات الوقت الذي يطبل فيه كثيرون لأنور السادات؟ رغم مكانة ناصر التي اعترفت بها الدنيا؟ و تعلمها الصديق من أحاديث والده الذي حظي بمعاصرة الرجل الكبير؟ فنكأ سؤاله عندي موضعا حساسا، و وجدتني أتساءل معه، لماذا لا توجد كرامة للأنبياء في أوطانهم؟ لماذا يصدق في المصريين قول أبو الطيب المتنبي أكلما اغتال عبد السوء سيده فله في مصر تمهيد؟ و هي أسئلة مهمة و ليست ترفاً تاريخياً، و لعل من أسباب ما وصلنا إليه اليوم، اننا لا نجيد احترام الزعماء و من ضحوا في سبيل الوطن، و هذه ليست حالة عامة لكل الشعوب، فنحن فيها بكل الأسف متفردون ، جرب أن تشتم "جيفارا" وسط أحد الميادين الرئيسية في كوبا ، جرب أن تتهكم على "هو شي منه" في جلسة يحضرها فيتناميون، أو أن تذكر "شارل ديجول" باحتقار في معرض الحديث مع فرنسي، أو جرب إنكار وطنية "تشرشل" أمام بريطاني، و سترى رد الفعل الذي تتعلم منه كيف تفرض الشعوب احترام أبطالها القوميين و زعماء التحرير بها، بينما نحن ما تركنا لنا رمزا إلا شوهناه، فسعد زغلول مقامر، و مصطفى كامل عميل تركي، و محمد فريد زير نساء، و جمال الدين الأفغاني ماسوني صهيوني ! و جمال عبد الناصر دموي سفاح ! و الأعجب، أن الظاهرة الكوميدية الأكثر هزليا في تاريخنا، و هي الرئيس السابق "أنور السادات" لا تجد ما يكفي من الأقلام لبيان حقيقتها، و لا ما يكفي لتوضيح لماذا لا يعد السادات زعيما، و لماذا فقد بطولته التي حققها في أكتوبر 1973 قبل أن يقتل في أكتوبر 1981 م

ناصر في وجدان الشعر العربي

ذات ليلة حالكة من سبتمبر، و بعد أن أرهق الرجل الجليل نفسه في حقن الدم العربي بإيقاف مهزلة الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية و الأردنية، فأضنى عضلة القلب التي كانت تعاني قبلها بالسهر المتواصل، و بعد أن ودع آخر من حضر القمة العربية و هو امير الكويت، لفظ الرجل الكبير آخر أنفاسه، مات زعيم التحرير الوطني و زعيم العروبة الأوحد في العصر الحديث ، مات الرجل نظيف اليد، عظيم الهمة، المؤمن بمبادئه و غاياته، مات "جمال عبد الناصر" الطود العملاق الذي يتفنن بعض أنصاف و أرباع المثقفين في الهجوم عليه اليوم، عن جهل أو تجاهل لدوره الذي غير وجه الشرق و شارك في تكوين الخارطة السياسية للعالم في زمانه، و من وجدان الشعب العربي الذي قهرته الصدمة، خرجت أجمل قصائد الرثاء في العصر الحديث، فعبر الشعراء بوجدانهم عن العلاقة الحميمة بين ناصر و شعبه العربي، بينما تفنن المرتزقة من أشباه الرجال و أشباه المثقفين في تدبيج المديح لولي نعمتهم الجديد، لم يتأثر الشعر بالمد و الجزر السياسي كما تأثرت مقالات كتاب الحكومة في هذا الوقت، و انطلقت الأصوات باللوعة من كل أرجاء الوطن العربي تنعي بطل العرب، و آخر زعمائهم الكبار، في رثائه قال "نزار قباني" الشاعر السوري الأشهر قصيدته الشهيرة "قتلناك يا آخر الأنبياء" و التي نختار منها تلك الأبيات
قتلناك يا جبل الكـــــــــــــــبرياء
و أخر قنديل زيتٍ .. يضيئ لنا فى ليالى الشــــــــــــــتاء
وأخر سيف من القادســـــــــــية
قتلنـــــــــــــــــــــــــــاك نحن بكلتا يدينا .. وقلنا :المنية
لماذا قبلت المجىء الينا؟ فمثلك كان كـــــــــثيراً علينا؟
سقيناك سم العروبة حتى شـــــبعت
رميناك فى نار عمــان حتى احترقت
أريناك غدر العروبة حتى كـــــــفرت
لماذا ظهرت بأرض النفـــــــــــــــــــــاق؟ لماذا ظهرت ؟
فنحن شعوب من الجــــــــــــــاهلية
ونحن التقلب .. نحن التذبذب .. والباطــــــــــــــــــــــنية
نبايع أربابنا فى الصباح ... ونأكلهم حين تأتى العــشية












لعل من أجمل ما قيل عنه كذلك، ما خطته المهرة العربية الأصيلة، سعاد الصباح، الشاعرة الكويتية، هذه الساحرة التي تعبر عن زمن كانت فيه الكويت تتحدث بلغة ناصرية، على حد تعبير الصحف الكويتية عشية وفاة عبد الناصر، قالت الشاعرة الجميلة في قصيدتها "من إمرأة ناصرية إلى جمال عبد الناصر" أبياتا انتقينا منها

كان كبيراً كالمسافات، مضيئاً كالمنارات

جديداً كالنبؤات،عميق الصوت كالكـــهان
وكان في عـــــــــــــــــــــــــينيه برق دائم
يشبه ماتقوله النيـــــــــــــــــران للنيران
***
يا ناصــــــــــر البعيد.. قد أوجعنا الغياب
نبحـــــــــــــــــــــــــث عن عينيك في الليل
ولا نمسك إلا الوهم والســــــــــــــــــراب
يا ناصر العظــــــــــيم..أين أنت.. أين أنت
بعدك لا شعرٌ, ولا نثرٌ, ولا فكرٌ, ولا كـتاب
بعدك نام السيف في قرابه واستنسر الذباب
أما أروع ما قيل فكانت قصيدة فورية مجهولة المؤلف، ألفها عبقري مصري فور الوفاة، و تناقلتها الجماهير لتصدح بها وسط أصوات البكاء و العويل، و انتشرت بين الجماهير كالنار في هشيم، لتكون خاتمة الرجل عالي الهمة ما يستحق، و إن كانت ذكراه لم تجد بعد ذلك من يتحمس لحمايتها، عندما أظهر السلطان نابيه القبيحين مهددا كل من يذكر لناصر مآثره التي ذكرتها لها الدنيا، كانت كلمات القصيدة العفوية هي

الوداع يا جمال.. يا حبيب المــــــــــــــــــــــــــلايين

ثورتك ثورة كفــــــــاح .. عشتها طــــــــول السنين
الوداع .. انت عايش في قلوبنا.. يا جمال الملايين
انت ثورة .. إنت جمــــــــــــرة.. لاجل كل الشقيانين
الوداع .. يا فقير يا بن الفقير .. إنت أب الكــادحين
يا جمال .. إنت نوارة بلادنا .. واحنا شوقنا الحنين
يا جمال إنت قلة مية صافية.. تسقي كل العطشانين
إنت قنديل الغــــــــــــلابة .. تهدي كل المحــــرومين

فهل كانت هذه الأشعار دفقات عاطفية ليس لها ما يبررها؟ أم تعبير عن التقييم العميق لجمال عبد الناصر في وجدان الشعب العربي؟ نظرة سريعة لتاريخ الرجل قد تفيدنا في الإجابة على هذا السؤال ، و لكن هذا ما لا نستطيع هنا ، فالحديث عن ناصر و انجازاته يحتاج إلى ستة عشر كتابا بعدد سنوات حكمه المكتظة بالأحداث و الانجازات ، و في كتابات المصريين و العرب و الأجانب على السواء ما يكفي لإدراك حجم القائد الذي كان، قبل أن يأتينا الزمن الرديء مع البتاع ، لكننا هنا سنعدد نقاطا محدودة من بحر عبد الناصر، لعل الجيل الذي لم يعرف يتحمس فيقرأ و يعرف، و لعل الجيل الذي عرف يتذكر فلا ينخدع بالدعايات المضادة




جمال في نقاط

  • عام 1952 م القيام بحركة الجيش التي سماها الفقيه القانوني المصري الكبير "عبد الرازق السنهوري" ثورة ، و لم يسمها كذلك صاحبها و قائدها كما يدعي أنصاف المثقفين
  • عام 1953 ألغى الملكية و أعلنت الجمهورية
  • عام 1954 أقصى الرئيس محمد تجيب لتصاعد علاقاته مع الإخوان المسلمين، و تحقق جلاء المستعمر الإنجليزي في نفس العام بعد 70 عاما من هوان الاحتلال بتوقيع اتفاقية الجلاء ، و بداية دعم ثورة الجزائر ، و انفصل السودان عن مصر باختيار أبنائه بعد استطلاع رأيهم
  • عام 1955 تألق في مؤتمر باندونج كأحد ألمع قادة حركة عدم الانحياز العالمية مع تيتو و نهرو، و لمن يدعون أن ناصر ارتمى في حضن الروس، عدوا بغير علم، لقد بقيت مصر دولة من دول عدم الانحياز حتى وقع السادات اتفاقية الصداقة بينها و بين السوفيت لأول مرة
  • عام 1956 أمم قناة السويس ردا على سحب تمويل السد العالي ، و تم صد العدوان الثلاثي إلى أن انسحب المعتدون بعد الانذار الروسي و الأمريكي
  • عام 1958 أقام الوحدة مع سوريا و قامت الجمهورية العربية المتحدة برئاسته، و كانت وحدة متعجلة لتردي الأوضاع بسوريا و زيادة احتمال سقوطها في سياسة الأحلاف التي جابهتها مصر دوما، و في نفس العام حسم ناصر أزمة سياسية في لبنان تشبه أزمة الأمس القريب بدعمه لقائد الجيش فؤاد شهاب
  • عام 1960 تم تحويل مجرى النيل و انشاء التليفزيون المصري
  • عام 1961 قرارات يوليو الاشتراكية الداعمة للطبقى الوسطى و طبقة العمال و الفلاحين ، و لمن يتحدثون بالأساطير، لقد حققت مصر معدلات نمو متوسطها 11% سنويا، و هي الأعلى في تاريخنا في الستينات، رحم الله القطاع العام الذي كان
  • عام 1962 تأسيس الاتحاد الاشتراكي و صدور ميثاق العمل الوطني، و بداية حرب اليمن لدعم الثورة اليمنية، و ذلك للبعد الاستراتيجي لليمن على باب المندب الحاكم لقناة السويس و كذلك وقوعها جنوب العربية السعودية بؤرة النفوذ الأمريكي في المنطقة، و في ذات العام تحررت الجزائر بسواعد أبنائها و بالدعم المصري لها
  • عام 1964 حققت مصر أعلى معدلات تنموية في تاريخها في التنمية الاقتصادية و البشرية معا، و لم تصل لهذه المعدلات ثانية حتى يومنا هذا، كذلك تم توقيع اتفاق الوحدة مع سوريا و العراق، لكنه لم ينفذ بموت الرئيس العراقي الوحدوي عبد السلام عارف
  • عام 1965 تجدد انتخابه رئيسا للجمهورية
  • عام 1967 كانت هزيمة يونيو الشهيرة و تنحي عبد الناصر ثم عودته بعد اعادة الشرعية لحكمه من خلال المطالبة الشعبية بعودته، ثم زيارة بودجورني لمصر لاظهار التأييد السياسي و الدعم العسكري، و تم دعم سلاح الجو المصري بمائة و عشرين طائرة ميج فورا و ستين طائرة بعد شهور
  • عام 1968 بدأت حرب الاستنزاف ضد اسرائيل، و من وقائعها ضرب المدمرة ايلات، و عملية تدمير بيت شيفع و بات يام و الرصيف الحربي، و معارك شدوان و راس العش و معركة الطيران و غيرها من الأحداث البطولية للجيش المصري
  • عام 1969 قبل عبد الناصر مبادرة روجرز لوقف اطلاق النار و ذلك للانتهاء من بناء حائط الصواريخ لحماية العمق المصري، و رفض مشروع روجرز للسلام و الذي عرض شروطا أفضل مما تمت الموافقه عليه بعد ذلك في كامب ديفيد
  • عام 1970 حقن الدم العربي في أحداث أيلول الأسود بعد أن خلصت طائرة مصرية ياسر عرفات من الحصار الأردني و جاءت به لمؤتمر القاهرة ليوقع صلحا مع الملك حسين ملك الأردن
أيام البتاع

محمد أنور السادات ، عضو الضباط الأحرار الذي جاء من العريش بناء على تلغراف مشفر من جمال عبد الناصر بموعد التحرك، ثم أخذ زوجته و ذهب للسينما بدلا من انتظار جمال في منزله كما اتفقا مسبقا، و في السينما اصطنع مشاجرة و توجه لقسم البوليس لاثبات الواقعة، او بمعنى أدق، لاثبات وجوده بعيدا عن الأحداث لو فشلت الثورة و سقط الأحرار ، كذلك كان موقفه في أزمة مارس عام 1945م مبهما، لا هو مع نجيب و خالد محيي الدين المدعومين من جماعة الإخوان بوضوح، و لا هو مع باقي أعضاء مجلس الثورة بموقف واضح، رجل رمادي المواقف كعادته، و هو كذلك نائب رئيس الجمهورية الذي عينه جمال عبد الناصر نائبا له، و تلك كانت ثاني أكبر سقطات جمال عبد الناصر برأينا في اختيار الأفراد بعد المشير عبد الحكيم عامر، فبينما قضى عامر على انجازات ناصر العسكرية في 1967م ، قضى السادات على بقية الانجازات و في شتى المجالات، عندما سار على خط عبد الناصر بأستيكة كما قالت النكات وقتها ، ليعود بمصر لنقطة تحت نقطة الصفر، قضى على ما حققه ناصر، الذي انحنى السادات أمام تمثاله يوم حلف اليمين في حركة مسرحية حسبت عليه و ليس له لما فيها من تقديس مبالغ فيه، و لن أسهب في ذكر خطايا السادات التي يضيق عنها المجال، فكلها مما يمكن أن نتسامح فيه عرفانا بفضل قراره بالتحرك عام 1973، لكن ما لا يمكننا التسامح فيه هو ثلاث خطايا

خطايا السادات
بعث التطرف الديني من إساره: مع تحرير عمر التلمساني و صحبه و تشجيعهم على مناهضة الشباب الناصري و اليساري في الجامعات و العماليات مدعومين بالسلطة و رجالها، و اشترك مع التلمساني و حسن التهامي في الخطة الأمريكية الشهيرة التي سميت باسم "نادي السفاري" و سميت في الملفات الأمريكية باسم "حرب الأشباح" ضد السوفيت، حلفاء العرب و أعداء أعدائهم، و التي عملت على بعث التطرف الديني لمواجهة المد اليساري في المنطقة، و كان من أهم آثارها حرب أفغانستان و تفريخ الإرهاب الدولي، و عصر ما سمي بالصحوة الدينية و هي ليست سوى صحوة أمريكية، و في نطاقها تم تشويه عصر عبد الناصر من خلال خطة علاقات عامة وضعها بيت خبرة انجليزي ممول من الولايات المتحدة و السعودية شراكة، و لبس السادات إهاب الدين و سمى نفسه "الرئيس المؤمن" في سابقة عجيبة لوصف رئيس، و تكررت على لسانه كلمات مثل "نشور أحونا فيصل" الذي كان أخوه الأكبر من ظهر أمريكا و إمامه في الركوع لها

الفتنة الطائفية في مصر و موقفه مع البابا شنودة: حيث احتاج السادات لسفر أفواج مصرية لزيارة اسرائيل، فاقترح موسى صبري سفر المسيحيين للحج في القدس، فرفض البابا بصلابة زيارة أي مسيحي للقدس المحتل، و من وقتها بدأت التحرشات التي انتهت به واقفا يقول "شنودة لازم يفهم إني رئيس مسلم لدولة مسلمة" و كان هذا على هوى حلفائه الاخوانيين، و وقتها بدأت هجرة الشباب القبطي للمهجر و ظهور موضوع أقباط المهجر، و عزل السادات البابا و حل محله مجلس كنسي لم يعترف به أي مسيحي مخلص، و تداعت الشروخ و تعاظمت في الزاوية الحمرا و غيرها من الأحداث الطائفية
معاهدة كامب ديفيد: و ليس تحفظنا على السلام، و لكن على الموافقة على شروط شديدة الاجحاف، أهمها انتقاص سيادة مصر على سيناء فيدخلها الصهيوني ببطاقته الشخصية و يمنع الجيش المصري من دخولها و التدريب فيها!!! و كذلك الالتزام في ملحقاتها بالتطبيع الكامل و كذلك بتغيير التوجه الاقتصادي المصري لحضن أمريكا ، و الانفشاخ الاقتصادي العنيف الذي حولنا من شعب منتج بدأ التصنيع قبل الصين بسنوات إلى شعب استهلاكي كشعب السعودية، غير أن موارده لا تقارن بموارد السعودية

السادات في الشعر العربي

لعل أصدق ما لخص أيام السادات كانت قصيدة "البتاع" لأحمد فؤاد نجم ، الشاعر الذي سماه السادات "الشاعر البذيء" و التي مازالت لليوم تضحكنا و تبكينا، و بها يقول عمنا الفاجومي

أزاي هاتفتح بتاع في وسط ناس بتقــــول
بإن هذا البتاع جاب الخراب بالطـــــــــول
لأن حتة بتاع جــــــــــــــاهل غبي مخبول
أمر بفتح البتـــــــــــاع لأنه كان مسطول
***
وبعد فتح البتاع ، جابوا الهواء المنقول
نكش عشوش البتاع ، و هد كل أصــول
وفات في غيط البتاع قام سمم المحصول
وخلى لون البتاع اصفر حــــزين مهزول
***
وساد قانون البتاع ، ولا عله ولا معلـــــول
القاضي تبع البتاع، فالحــــــق ع المقتـــول
الجهل زاد في البتاع ولا مقري ولا منقـــول
والخوف سرح في البتاع خلا الديابه تصول
أدي اللي جابه البتاع جاب الخراب مشمول
لانه حتة بتاع مخـــــــــــــــــلب لرأس الغول
باع البتاع بالمتاع وعشان يعيش علي طول
عين حرس بالبتاع ، وبردة مات مقتـــــــــول
***

أما التدليس الأكبر عن السادات، فهو حين يقول قائل من هنا أو هناك أنه كان بعيد النظر، حيث سبق الجميع للسلام مع اسرائيل، و هذا منطق معوج، فخروج مصر من معادلة المنطقة هو الذي فرض سلام الذل على الباقين، يا سادة ليس في منطقتنا قوى ضاربة سوى الجيش المصري و العراقي و إلى حد كبير السوري، العراق ليس من دول المواجهة و ليس لديه التغطية للعمليات مع اسرائيل لعدم وجود أرض محتلة له حينها، فلا يستطيع الا المشاركة و ليس الانفراد، سوريا لا تستطيع منفردة لعظم الفارق العسكري بينها و بين اسرائيل في التسليح و العتاد و الخبرة العسكرية، و مصر خرجت، فأي صمود يمكن بعدها؟ لقد عبر الشاعر أحمد مطر عن هذا أجمل تعبير في قصيدته "الثورة و الحظيرة" فقال

الثور فر من حظيرة البقر .. الثور فر
فثارت العجـــــــــــــــــول في الحظيرة
تبكي فرار قائد المســــــــــــــــــــــيرة
وشكلت على الأثر ، محكمة ومؤتمر
فقائل قال : قضـــــــــــــــــــــاء وقدر
وقائل: لقد كفر .. وقائل: إلى سقــر
وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة
لعله يعود للحظــــــــــــــــــــــــــيرة
وفي ختام المؤتمــــــــــــــــــــــــــر
تقاسموا مربطه، وقسموا شعيره
وبعد عام وقعت حادثة مثيــــــــرة
لم يرجع الثور
ولكن ذهبت وراءه الحظـــــــــيرة


السادات و الكاميرا و عقدة النجومية

لآليء القرآن-03

القبس الثالث

قال تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ) البقرة: 269

فما هي الحكمة التي تحدثنا عنها الآية الكريمة؟ و التي وصفها الله بأنها الخير الكثير لمن تحلى بها؟ أول البعض الحكمة في الآية بأنها القرآن و علومه، ناسخه و منسوخه، و محكمه و متشابهه، و قال البعض بل هي الفقه في الدين بوجه العموم، لكننا لا نجد سببا من سياق الآيات و من لفظ الآية المحكم الصريح يجعلنا نركن للتأويل، فالحكمة هي الحكمة كما يعرفها الجميع، هي القول المناسب في الوقت المناسب، و الفعل المناسب في الوقت المناسب، هي مراعاة مقتضى الحال في كل زمان و مكان، و هذا ما رجحه بعض المفسرين كالطبري رحمه الله في جامع البيان ، و كثيرا ما يقع الخلط من الناس بين الخبرة و الحكمة، فيحسبونهما صنوان و هم في ذلك واهمين، فهناك من يملك الخبرة الوافرة، و نصيبه من الحكمة قليل ضئيل، و هناك من يملك خبرة قليلة و نصيبه من الحكمة وافر شديد الوفرة، فلماذا؟ لأن القدرات الذهنية و الملكات في كل فرد تتحكم في قدر الحكمة التي يستطيع أن يستخلصها من الحدث، فقد يمر الرجلان بنفس الظروف و التجربة العملية، فيخلص واحد منهما لخلاصة التجربة و ما فيها من دروس مستفادة، من خلال تحليله الدقيق لجوانبها و أشخاصها و عناصرها، بينما قد لا يدرك الثاني من أمرها إلا الظاهر الواضح الجلي، لذلك قد تجد شابا يافعا يدير مؤسسة إدارة ناجحة تأخذها للأمام، و قد ترى رجلا أسن منه بعقد أو اثنين يقودها فيتجه بها نحو الهاوية، فهذا هو الفارق و الشتان بين أقدار الرجال، و الحكمة موضوع يضيق به المجال هنا، فلا نطلب تغطيته و لكن الإلمام السريع ببعض جوانبه ، و لعل من أهم جوانبها ما قاله الرسول (ص) من أن رأس الحكمة هو أن نرقب الله في كل قول و عمل، و أن نرقب الله في اقوالنا و أعمالنا يعني أن نتمسك بجانب الخير و الصلاح قدر الجهد، و أن نواجه الشرو الخطأ قدر الإستطاعة و الجهد، و هو تقريبا نفس ما قاله نبي الله سليمان في العهد القديم، حين وصف معرفة الله بأنها رأس الحكمة، ثم عرف معرفة الله بأنها كراهية الشر في هذا العالم

و تعرف الموسوعة البريطانية الحكمة، بأنها التطبيق العملي للمعرفة و نتائج الخبرة التي نحصلها بحياتنا ، و هذا أمر من المفيد و لا شك أن نتذكره دوماً، الحكمة ليس أن تعرف فقط، و لكن أن تعرف لتعمل بما عرفت، فلا خير في معرفة لا ترفع من مستوى عملك و أداءك في هذه الحياة، و لا تخدم مهمتك السامية التي أسندها الله لك في إعمار الكون و تحقيق السلام للعالم ، و كما نرى، فتعريف الموسوعة البريطانية ليس كبير البون من تعريف الرسول و الكتاب المقدس للحكمة، إلا في تجاوز جانب التقوى و الحرص على الخير إلى غيرها من التطبيقات العملية للمعرفة في شتى الميادين، و بما أن لفظ الحكمة في الآية الكريمة جاء مطلقاً ، فالأحرى بنا أن نتحراها في كل القول و العمل ، ما كان منه خاصا بأمر الدين أو بأمر الدنيا، فالحكمة هي ثروة المرء الذهنية التي يحصلها في حياته، و هي ما يبقى معه بعد هذه الحياة، حين يفنى الجسد، و يبقى الوعي الإنساني الذي يمثل ماهية الشخص و كينونته

قال تعالى (لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) آل عمران: 92

لم يستثقل ضعاف الإيمان بعد موت الرسول صلاة و لا صياما و لا حجاً، لكنهم استثقلوا أن يشركوا غيرهم وجوبا في أموالهم! فرفضوا دفع الزكاة في إطار أحداث الردة و منع الزكاة الشهيرة إبان خلافة الصديق رضي الله عنه، و هذا نموذج متكرر في حياتنا، غير أن الإنفاق الذي تتحدث عنه الآية هنا لا يخص الزكاة، لأن الزكاة فريضة إجبارية على المسلم، و هي الحد الأدنى، أو أضعف الإيمان لو جاز القول، فربع العشر هذا في زكاة المال و غيره في زكاة العروض و الزروع و ما إليها، هو حق للفقير في مال الغني، و لا ينال المرء البر بأن يعطي لكل ذي حق حقه و كفى، فالبر هو تجاوز توفية الحقوق إلى التفضل بغيرها ، فالآية تحدثنا عن أوجه الإنفاق فيما فوق الزكاة المفروضة، و هذه لها أوجه عديدة و منها

الصدقات: و يجب فيها أن نلتزم بما وصفته الآية هنا "مما تحبون" فلا نتصدق بالمرقع من الثياب و نحسب هذا براً، و لا نتصدق بالمال الهين الذي لا يضر و لا ينفع ، فكما قال الإمام علي رضي الله عنه (إذا أعطيت فأغني) بمعنى أن يكون عطاءك كافلا لأن يغني السائل عن مذلة السؤال للآخرين و لو وقتيا، فتعطه ما يكفيه مدة يوم لطعامه مثلاً، أو تعطه ما يحميه من البرد، أما الأفضل من هذا كله، أن تعينه على الكسب بتوفير مسلك من مسالك الكسب الحلال له، من خلال فرصة عمل، أو أداة من الأدوات التي يستعين بها على الإنتاج البسيط كتلك المشاريع الحميدة التي توفر ماكينات الخياطة و التريكو، او الأكشاك الخشبية و غيرها ، و نحن ان نقول أن هذا شرط من شروط الصدقة، و لكننا نقول أن هذا ما يحسن بالمسلم الفاهم لقوله تعالى "مما تحبون" و كذلك لقوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) فأن تنفق أو تطعم مما تحب، معناه أنك تنفق كما ما يحب الجشع أن يحتفظ به، فهذا لا ينطبق على القروش، و أن تطعم مما تحب، معناه أن تطعم من طعامك الذي تشتهيه، عند هذه الدرجة تكون الصدقات من البر المأجور من الله بعظيم الأجر

التسامح في المعاملات المالية : قال الرسول الكريم (رحم الله رجلا سمحا إذا باع و إذا اشترى و إذا اقتضى) فهذا التسامح في البيع و الشراء، هو وجه من أوجه الإنفاق غير المباشر، و هناك خلط يقع كثيرا بين المرونة التجارية و هي أمر لا علاقة له بالبر و لا بالسماحة، لأن هدفه في النهاية هو تحقيق العلاقة الدائمة مع العميل مثلاً، و هذا من أمور قانون المنفعة التي لا تخضع للتسامح، لكن التسامح أن تبيع لرجل مقدر عليه الرزق، فتتسامح في جزء من الثمن و أنت تكن في صدرك أنك تحتسب هذا الجزء إنفاقا في سبيل الله و تكافلا مع الرجل المعسر، و كذلك تشتري من الفقير فتجزل له الثمن بنفس النية، و إذا اقتضيت دينا من فقير أن تمهله في السداد، او تعفو له عن الجزء أو الكل و أنت تضمر أن هذا لوجه الله

توفير الحياة الكريمة لمن تعول: حين يقول الرسول الكريم ( من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة) فلا يجب أن يفهم من يقتر على بيته و ولده و زوجته، فينفق عليهم القليل و هو قادر على الكثير أن هذا الحديث يشمله ، فنحن نرى أن تحقق الثواب في نفقة الرجل لأهل بيته، يأتي من خلال شرطين، مع ملاحظة كلمة "يستعف بها" في الحديث الشريف، الشرط الأول، أن يكون الإنفاق متناسبا مع الدخل و مستوى الفرد الاقتصادي ، كل على قدر جهده و استطاعته، و الشرط الثاني هو ألا تكون نفقة يقصد بها الرياء، كأن يشتري سيارة لزوجته أو ولده ليعطي انطباعا بالغنى و الرفاه لمن حوله، فيجب أن يكون القصد اسعاد و راحة أهل بيته حتى تكون النية نية خير، فيحتسب له بها خيراً

قال تعالى ( ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ) آل عمران: 173

هذه الآية تؤدبنا بأدب لو تحلينا به و فهمناه حق فهمه، و آمنا به إيمانا حقيقيا، لكان الحال غير الحال، و لكان مآلنا لغير ما نحن عليه الآن في كافة أمورنا السياسية و الاجتماعية و الفكرية، فالآية تؤدبنا بأدب الشجاعة في الحق، فلا يخاف الإنسان على حياته أو رزقه أو ممتلكاته خوفا يجعله يحيد عن طريق الحق الذي أراده لنا الله، منهجا في هذه الحياة و صراطا، و ذكرنا بقراءته سبعة عشر مرة في اليوم و الليلة، فمن يعتقد في نفسه أنه يسير على صراط الحق، يجب عليه ألا ينحرف عن هذا الطريق لوازع من الخوف تسرب إلى قلبه، فالخوف على النفس و المال غريزة طبيعية، لكن مهمة الإيمان بالحق و صلابة هذا الإيمان هو التغلب على هذه الغريزة و ترويضها ، و نرى من أهم ما يخوف به السائر على طريق الحق في زماننا قوتان هما تيار التطرف المتأسلم و ليس من الإسلام في شيء، ثم السلطة الغشوم

تيار التطرف الديني

فالتزايد العددي المستمر لجحافل التطرف الظلامي في مجتمعاتنا المبتلاة بهم، مع ضعف يد الحكومات عن السيطرة عليهم و مواجهتهم بما يستحقوه من بطش عندما يتجاوزون حدود ذاتهم، و يتدخلون في حريات الناس و حياتهم، جعلهم أشبه بمراكز القوى، و هم يعتمدون على كثرتهم العددية هذه، و هي كثرة كغثاء السيل تماما كما قال الرسول الكريم، فليس منهم رجل رشيد، في إرهاب من يختلف معهم فكريا، و لهذا تتعالى أصواتهم لتطمس على صوت العقل و صوت الضمير في المحافل العلمية و الأدبية ، و كذلك يعتمدون على خلل القوانين، كقانون الحسبة المشين الذي تم الغاؤه مؤخراً، ليرهبوا كل من يختلف عن صوتهم النشاز فكريا، و هكذا فعلوا مع الدكتور نصر أبو زيد، أستاذ التفسير بجامعة القاهرة سابقا، فإذا لم يسعفهم هذا الطريق، رجعوا لطريقهم المفضل، فخلعوا قناع التمدين و كشفوا عن وجه الإرهاب الحقيقي، فيعتمدون على التصفية الجسدية، و هكذا فعلوا مع القاضي أحمد الخازندار قديما، و مع نجيب محفوظ و فرج فودة حديثا، و كل من يواجه هذه الجحافل الظلامية حتى من المغمورين من أمثالي، يجد ممن يحبونه و يحرصون عليه من يحذره، و هكذا حذرني إخوتي و العديد من أصدقائي هنا ، لكنني أكاد أقول أن مواجهتهم واجب ديني و حضاري في آن واحد

أما الواجب الديني، فهو ما أفهمه من حديث رسول الله (ص) حين يقول (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون في قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم‏) و قد فهمه المسلمون قديما على الخوارج، و ما يصدق على الخوارج من صفات بالأمس، نراه صادقا على التيارات المتطرفة اليوم، ألا يهتمون بتجنيد الشباب الغرير أكثر من غيره ليكون لهم أداة طيعة، فيكون مجموعهم بهذا من حديثي السن؟ ألا ترى سفه عقولهم في أي حوار عقلي، فإذا افتقروا للحجة، و كثيرا ما يفتقرون، صرخوا و أرغوا و أزبدوا؟ أليسوا أكثر الناس رواية للحديث الشريف، ما يستقيم منه مع متهج سيد الخلق و ما لا يستقيم؟ ألا يقرأون القرآن و يحثون الناس على ذلك و يمنعونهم من تدبره و التفكر فيه بحجة التخصص؟ فلا يجاوز القرآن حناجرهم لعقولهم؟ و لهذا الحديث مجال آخر نفصله فيه بأمر الله ، فأما الواجب الحضاري، فقد وقعت البشرية في تجربة الحكم الكهنوتي ففاضت بحور الدم و ساد الشر أوروبا قرونا، حتى اجتازت البشرية هذه المرحلة، و أن يوجهنا هؤلاء نحو هذه الهوة السحيقة ثانية، ثم لا نواجههم، كل على قدر جهده، فهذا هو عين الخيانة للإنسانية جمعاء

السلطة الغاشمة

الأدلة العقلية و النقلية على وجوب مواجهة السلطة الغاشمة بقول الحق و الإصرار عليه أكثر من أن نحصيها هنا، فيكفينا حديث الرسول صلوات الله عليه حين جعل قول الحق عند السلطان الجائر هو أعظم الجهاد ، فكيف نواجه السلطة بالحق؟ دون أن نخرج عن إطار احترام القانون وفقا لقاعدة المعروف القرآنية؟ نرى أن ذلك يكون باستخدام القنوات الدستورية لنصرة الحق كما نراه، و منها الجهد الفكري كتابة و خطابة بهدف رفع الوعي العام، و تثقيف الشعب، فلا وجود لطغيان مع شعب مثقف مستنير، و كذلك الاضرابات السلمية هي وسيلة دستورية مشروعة ، و كذلك الاعتصامات العمالية و غيرها، بدون أدنى مساس بالممتلكات العامة أو الخاصة، و أذكر هنا يوما تحطمت فيه سيارتي تماما في نطاق مظاهرة همجية في جامعة الإسكندرية، حيث كنت أقيم وقتها بجوار الجامعة، فتعجبت كثيرا لدرجة الإضرار العمدي بملكية خاصة لفرد من المجتمع، لا تنم عن تصرف يقوم به صاحب حق يطالب بحقه، و لكن بلطجي يفرغ طاقة الكبت و القهر بداخله، و هنا يخرج الرجل من المعروف للمنكر، بل و لحد الجريمة التي يعاقب عليها القانون، و هذا ليس منهج المسلم كما أراده الله

قال تعالى ( وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) النساء:86

لعل الأمر الذي تعالجه هذه الآية يكون أمراً بسيطاً في ظاهره، إلا أننا نراه بالغ الأثر في المعاملات الاجتماعية، فعلى سبيل المثال عندما يقول لك زميل في العمل أو غيره "صباح الخير" كيف ترد عليه؟ الطبيعي و المنطقي أن ترد هذه التحية بمثلها ، أو تزيد عليها قائلا "صباح الخير، كيف حالك و حال أسرتك؟" ، نعم، لقد أضاف الإسلام للسلوك الإجتماعي تحية رقيقة جميلة هي تحية تتضمن دعاء بالسلام و الرحمة و البركة لمن تحييه، و جميل أن تبدأ بها السلام لو كنت انت الباديء، و ترد على من حياك بها قائلاً " و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته" لكن لو افترضنا أن زميلا حياك بتحية الصباح فرددت عليه أنت برد تحية السلام، أو العكس، حياك بتحية السلام فرددت بتحية الصباح، ألا يكون هذا ضربا من ضروب السماجة؟

عندما ننظر للهدف من الآية الكريمة نراه ازكاء محيط اجتماعي جيد من خلال التحية الحارة الطيبة، التي تترك في نفس من حياك انطباعا عن ترحيبك به و بشخصه، فينعكس هذا على معاملته معك ، و على أسلوب حديثه فيما جاءك فيه من أمر، أليس كذلك؟ جميل جداً، فهل يحقق الأسلوب السمج في رد التحية بتحية مغايرة تماما هذا الهدف؟ بالطبع لا، بل يخلق حاجزا نفسيا غبيا لا داعي له، فأن تدعو ضمنيا لصاحبك بأن يكون صباحه صباح خير ، هو دعاء طيب، لا يقول عنه عاقل أنه مكروه ، و أن تدعو له بالسلام و الرحمة و البركة فهو دعاء طيب كذلك ، و افشاء السلام لا يتحقق بهذه السماجات في المعاملة، بل بالعكس، و الآية الكريمة لم تلزمنا بلفظ التحية، لكنها ألزمتنا بأن تكون مماثلة لما حيينا به أو أفضل و أكثر حرارة، و هو المقصود هنا "بأحسن منها" فالأحسن منطقيا هو الأقدر على تحقيق الهدف، و الهدف هو المودة و اظهار الترحيب، و هذا لا يتأتى من مغايرة التحية ، و لكن بمماثلتها و الزيادة عليها

و ما ينطبق على اللفظ ينطبق على المصافحة، فمصافحة الرجل للمرأة في حدود المصافحة الاجتماعية العادية هي أمر لا شيء فيه ، لكن الامتناع عنها بعد أن يمد الطرف الآخر يده يفسد هدف التحية، فيوقع الطرف الآخر في حرج يشكل حاجزا نفسيا بدلا من رفع الحاجز النفسي و كسره ، و لقد أكثرنا من البحث لعلنا نجد علة منطقية واحدة تمنع مصافحة الرجل للمرأة فلم نجد، فهناك خلاف حول مصافحة الرسول للنساء في بيعتهن من عدمه، فقال البعض و منهم أم عطية الأنصارية أنه صافح، و قال البعض لم يصافح، و قال البعض صافح بعد أن غطى يده بمحرمة، و هذا كله لا يقوم منه دليل على المنع، فالرسول (ص) لم يأكل الضب لأنه ليس بأرض قومه و لم يكن هذا تحريما ، أما من يتذرعون بملامسة النساء، و أنها تنقض الوضوء ، فهذه مال الغالبية من المفسرين أنها الملامسة الجنسية، او الملامسة مع الاشتهاء، و هذا ليس واردا في المصافحة الا للمهووس جنسيا، فمن كان كذلك لا يقاس عليه

التحية و المجاملات الاجتماعية بصفة عامة هو وسيلة هامة لنشر روح المودة في المجتمع، و أن يحاط الإنسان بروح المودة هو أمر يجعله أميل للخير في تصرفاته، لأنه يكون أميل للهدوء في نفسه، و التفتح على الحياة بقلب مبتهج، فيغلب عليه أن يحسن القول و العمل، في هذا الإطار يجب علينا أن نفهم المضمون الكلي للآية ، و الذي يجعلها من لآليء القرآن النادرة، لأنها تتعامل مع أمر بسيط الظاهر عميق الباطن ، فليكن هدف السلام الإجتماعي هذا واضحاً أمامنا، و عندها لن نحتاج للعديد من الأدلة لنفهم كيف نتصرف مع الآخرين ، و افشاء المودة بيننا و بين من حولنا له دور كبير في اعطاء صورة مشرقة عن المسلم، لذلك ذكرنا الله أننا محاسبون على هذا في قوله تعالى "إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً" حتى لا نستهين بهذا الأثر الذي تتركه التحية و المجاملة بالقول في النفوس

قال تعالى ( يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) النساء:135

هذه الآية الكريمة واسعة التطبيقات في حياتنا المعاصرة، فهي لا تقتصر على الشهادة القضائية، و لكنها تتخطى ذلك لكل موقف يتطلب القول الحق أو الرأي الصادق في العمل أو في شؤون الناس أو في أمور المجتمع و غيرها، و قد بينت لنا أمور عدة لعل أهمها الإنصاف من النفس، و هذا نراه أعلى درجات العدل و الالتزام به، ألا تنحاز لنفسك، فتنصف الناس من نفسك لو كنت على خطأ، و صعوبته تكمن في تمكنك من الحكم على تصرفك بأنه خطأ، فهذا يقتضي أقصى درجات الموضوعية، و الوصول إلى هذه الدرجة من الموضوعية ليس ميسوراً، لكنه ممكن جداً ، لو أراد الإنسان أن يشعر بإحساس السمو الذي يهبه العدل للعادل و المنصف من نفسه ، فإذا شعر به مرة أدمنه فلا يستبدله بمال الدنيا و جاهها ، ثم يأتي الإنصاف من القريب و النسيب و الصديق، فلا ننحاز لهم على حساب الحقيقة، و لكن نحسن النصح لهم أن ينصفوا من أنفسهم و ننصف منهم نحن لو قدرنا ، ثم يأتي عدم الإنحياز لفقير رحمة و لا لغني تقربا، ألم تر يوما مديرا يقيم موظفا، فيعطه أكثر مما يستحق لأنه يراه محتاجا لعلاوة أو مكافأة؟ فيكون بهذا من لا يملك أعطى لمن لا يستحق، لهذا تأمرنا الآية بالعدل و القسط عندما نقوم مقام شاهد العدل في أي أمر، و ألا ننحاز لفقير رحمة به على حساب قول العدل و الحق، و لا ننحاز لغني تقربا له أو خوفا من سطوته ، و ما ينطبق على الغني و الفقير ينطبق قياسا على القوي و الضعيف، على المهمش و صاحب السلطة و السلطان، و هذا في شأن العدل، مع عدم تعارضه مع مبدأ التراحم و الإحسان عموما، فعليك أن تشهد على الفقير في قضية قد يغرم فيها مالاً، و لك بعد هذا أن تعطه من مالك ما يدفع به هذه الغرامة، لا أن تضلل العدل بحجب شهادة الحق ، فالعدالة يجب أن تعمى عن القرابة و الفقر و الغنى و غيرها حتى يتحقق العدل، ثم بعد العدل تأتي الرحمة


قال تعالى (إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) النساء:138

كأن الله سبحانه قد أهدانا هذه اللؤلؤة القرآنية لتكون حجة دامغة على من يتقولون بقتل المرتد المغير لدينه، فكيف تغلب القائلون بالقتل من الدمويين على هذه الحجة الربانية الدامغة، انظر معي لما قالوه في تفسيرها، و كيف لا يستقيم لغة و لا معنى، فقد قالوا أن المعني في الآية هم اليهود الذين آمنوا بموسى ثم كفروا و النصارى الذين آمنوا بعيسى ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد (ص) !!!!!!! فأي قول هذا؟ أليس قول الغرض و الترقيع؟ الآية تتحدث عن جماعة واحدة و ليس عدة جماعات، فهذه الجماعة تؤمن ثم تكفر ثم تعود فتؤمن ثم تكفر و تزداد لجاجة في الكفر، و الآية بغير هذا الفهم لا تستقيم لغويا و لا بلاغيا، فلماذا حاولوا مثل هذا التاويل الغريب؟ لأنه يقطع بأن حرية العقيدة كانت دوما حقا مكفولا للجميع، فالآية ذكرتهم يتذبذبون بين الكفر و الايمان بغير عقاب دنيوي، و لم تتوعدهم الا بعقاب الآخرة، أما بقية الآيات المؤيدة لهذا، و قولنا في الأحاديث المدعاة سندا لقتل المرتد فمكانها في مبحث حرية العقيدة من الجزء الثاني من هذا العمل