8.4.08

البحث عن السعادة

رحلة كل العصور

ما هي السعادة؟ و كيف نصل إليها؟ سؤالان كانا دوما مناط البحث و التفكير البشري منذ انطلاق الشرارة الأولى و حتى اليوم، فقد حاول الإنسان الأول أن يجيب، فخرجت للوجود تلك الأديان البدائية الأولى كباكورة محاولات الإجابة، ثم كانت التجربة اللاهوتية المصرية ، ديانة مصر القديمة، خطوة بعيدة الأمد بهذا المضمار، حيث تم تصور السعادة في عالم ما بعد الموت بحالة الخلود الأبدي بعد المرور من محكمة أوزيروس، و بعدها نشأت العديد من الميثولوجيات من الهند للشرق الأدنى لليونان و شمال أوروبا و غيرها، ثم ظهرت الفلسفة اليونانية، و تباينت تصورات السعادة بها ما بين أفكار أفلاطون و سقراط و أرسطو و ديمقريطس، ثم جاءت الأديان السماوية بمبدأ سعادة الدنيا و الآخرة، و بمنهج متقارب فيما بينها لمساعدة الإنسان في الوصول إليها، و لعلنا من مجمل هذه الأفكار من فلسفات بشرية إلى وحي إلهي، نستطيع تبين بعض الخيوط التي قد تساعدنا في تحصيل قدر أكبر من لحظات السعادة، نقول قد تساعدنا، لأن من الغرور أن ندعي أننا نأت بما لم تستطعه الأوائل في هذا المضمار و نجزم بذلك، و نقول لحظات لأن السعادة ليست براً نرسو عليه و ننصب الخيام، بل لحظات تلو لحظات في الحياة، و نكون جد محظوظين لو تخللت هذه اللحظات حياتنا كثيراً، و لو لم يتخللهابالمقابل كثير من الألم، فالسعادة ليست مرحلة عمرية و لا حالة ثبات، حين كنا صغارا، كنا تعتقد أن الكبار الذين يقررون متى وقت اللعب و متى وقت القراءة و متى يخرجون و ماذا يطعمون، هم السعداء و لا ريب، و حين كبرنا ، عدنا نتمنى لو نصبح صغاراً، و نرى في اللا-مسؤولية الطفولية قمة السعادة، كذلك كنا قبل المدرسة نرى السعادة في اليونيفورم و الحقيبة ، و بعدها نتمنى لو لم نذهب أبداً، و هكذا الأمر حين نحب، و حين نتزوج، و هكذا و هكذا، نؤجل سعادتنا على الدوام لاعتقاد وهمي أن السعادة هي مرحلة سنصلها، و بهذا نقلل الاحتمال القائم دوما للسعادة اللحظية، لحظة صدق، لحظة وجد، لحظة عشق، لحظة ايمان، ضحكة من القلب، قبلة من الحبيب، ابتسامة طفل، ذكرى جميلة، لحظة إحساس بالسمو و الترفع عن الدنايا ، هذه هي سعادة البشر المتاحة فوق هذه الأرض، أما نظريات السعادة الدائمة فهي محض أكاذيب لو كنا نتحدث عن هذه الحياة بمعطياتها
و لو كان بيدي أن أصل لوصفة سعادة تدوم لاستكثرت من الخير لنفسي، و لما انتابتني موجات الهموم و الحزن و الميل للعزلة، الموجة تلو الموجة، لكنني رجل عشت ما عشته طولا و عرضا و ارتفاعا، فحصدت بهذا شيئا من الرأي في الحياة و أحوالها، و اجتهدت فقرأت قليلاً، و خلوت فتفكرت في الحياة قليلاً، و خرجت مما عرفت قراءة و تجربة و فكراً، ببعض مما يجوز أن نسميه وصايا السعادة، نهديها للأصدقاء الأحباء من رواد المدونة ، و خاصة الزميلة "شيرين" التي سألتني سؤالاً عن مدى سعادتي خارج مصر، في تعليق لها ، ففكرت بهذا المقال

حدد رؤيتك و رسالتك
لو كانت الرؤية الواضحة و الرسالة المحددة هامتان لكل مؤسسة، فهما ليستا أقل أهمية للفرد في هذه الحياة، فمن عادة الإنسان أن ينظر لما مضى من عمره مقيماً لإنجازاته، و يقلل من إمكانية سعادته كثيراً أن يرى ما حققه ضئيلاً، و يزيد منها لو كان راضياً عما أنفق فيه ماضي أيامه، فأي الرسالات أجدر؟ و سنتناولها هنا من منظور فردي بحت و ليس من منظور مثالي و عام، ذلك أننا نبحث سعادة الفرد بالمقام الأول، و يقول لنا عالم النفس الكبير "ابراهام ماسلو" واضع الهرم الكبير للإحتياجات البشرية، أن الهدف النهائي لكل منا في حياته هو تحقيق الذات ، فمنا من يحقق ذاته بالثراء، أو المكانة، أو السلطة، أو الإبداع، و تختلف ميولنا و مشاربنا في هذا، لكن تحقيق الذات، و يمكننا أن نعرفه بشعور الإنسان بالرضا عن واقع حياته و ما ينجزه فيها، فنرى أقرب الطرق إليه، هو الإسهام في مهمة البشر الكبر بشكل إيجابي أياً كان قدره، المساهمة في مهمة الخلافة في الأرض

لقد سبق خلق الإنسان على هذا الكوكب رؤية إلهية و مهمة حددها الله له، و نجدهما معاً في الحوار الذي دار بين الخالق و ملائكته قبل بدأ الخلق، و هو كما ورد بسورة البقرة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" و هذا الحوار سبق خلق الإنسان العاقل بصورته الحالية، فأما الرسالة ، فهي الخلافة في الأرض، فكيف يخلف الإنسان الله عز و جل في أرضه؟ خلافة الخالق لا تكون إلا بالإبداع، فالإبداع هو النموذج المصغر للخلق، فالله يخلق من عدم ، و بقدرة لا متناهية، و الإنسان يبدع من موجودات و مفردات و بقدرة متناهية، لكنها متنامية، فكانت مشيئة الله أن يخلق هذا الكائن المفكر المبدع، على قمة ما خلق من موجودات ، فقمة الخلق أن تبدع مبدعاً، كما كانت قمة تطور الإنسان أن اخترع الذكاء الصناعي، و لهذا كان الإنسان أكرم من جميع المخلوقات، و على من يعترض على وصف الإنسان بالخلق أن يعيد قراءة الآية الكريمة "فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ" فبها يعلم أن الله أحسن الخالقين لأنه خلق كائنات مبدعة تجلى عليها ببعض هذه الصفة، كما تجلى عليها ببعض رحمته فتراحم بها الناس
فأما رؤية الله في الإنسان، فهي قدرته على أن يخلف ظنون الملائكة، فيصل بطور من أطواره لمرحلة التوازن بين الفرد و المجتمع، فلا يكون هناك سفك دماء و لا فساد في الأرض، و لهذا أجاب تعالى الملائكة حين قاسوا الانسان على ما سبق من مخلوقات ، بما فيها الحيوانات بمختلف فصائلها ، و استنتجوا أنه سيسفك الدماء و يفسد ، فقال الله عز و جل "إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" فالله يعلم أن تركيبة العقل مع الإرادة الحرة ، مع الأنا و الأنا العليا، و التي زود الإنسان بها، خليقة بأن تصل به لمرحلة التوازن بمضي الوقت، و قد نقول ما نشاء عن فساد الكون و الظلم في عصر الهيمنة الأمريكية، و كله صحيح، لكن من يراقب منحنى الإفساد و سفك الدماء في مجمل العالم عبر التاريخ، يجده في تناقص مطرد، و على هذا دليل من القرآن في قوله تعالى من سورة يونس "حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" فنهاية البشرية لن تكون إلا بعد إنفاذ رؤية الحق جل و علا، بعد تحقيق الخلافة بتطوير الحياة و الوصول بها لأسمى الدرجات، و النهايات الأسطورية التي تنحط فيها البشرية و تتصدع حضارتها هي نتاج عقول منحطة جاهلة، تتمنى أن يتهدم العالم المتطور الذي لا يفهمونه و لا ينتمون إليه، و القيامة بنص الآية لن تقوم الا بعد اكتمال تطور الأرض، و ظن الإنسان أنه حل مشاكله جميعاً بها و أصبح متمكنا من إدراة حياته بها، بعد هذا فقط، و ليس ضروريا أن يكون بعده مباشرة، ياتي أمر الله أينما شاء، و ليس بهذا تعارض مع الحديث الشريف "يأتي على الناس زمان فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر" فحالة الازدهار التي تعم الأرض ستكون كما تقول كل الشواهد حضارة هي مزيج من المنهج التجريبي و المنهج المنطقي البحت، و من لم يتمكن من عقد الصلح الداخلي بنفسه بين إيمانه الروحي و حضارته المادية، سيكون حتما كالقابض على الجمر الملتهب، فالحديث لا يتناول نهاية العالم و لكن مرحلة معينة، نراها تمتد ما بين عصر التنوير الى اليوم، لكننا نعتقد أن نهاية الدنيا ستكون في ظل حضارة مادية مزدهرة، لها جانبها الروحاني ، لهذا دعونا و ندعو دوما لمنهج العقلانية الروحية الذي ننتهجه و نرى أن خلق هذه الحالة كانت الرسالة الجوهرية للإسلام ، العقيدة المتجددة بآلية السببية و الإجتهاد

العقل القائم على السببية و النقد + الإرادة الحرة + الأنا + الأنا العليا = نماء البشرية و تطورها لتحقيق رؤية الخالق

فما هي مهمة كل منا في نطاق هذه المهمة العامة للجنس البشري؟

مهمتنا أن نكون إضافة للحياة بأي قدر، مهما كان هذا القدر، كل على قدر طاقته، فالله لا يكلفنا ألا ما بوسعنا، و كل منا مهمته ببساطة أن يحاول أية إضافة إيجابية لعمله و لأسرته كلما تمكن من ذلك، أن يحاول التطوير و الإسهام في حركة البشرية للأمام من خلال عمله و ابداعه، و هنا ستقابلنا مشكلة تحديد الاتجاه الصحيح للأمام، فهناك من يذبح الأطفال و هو يحسب أنه يؤدي مهمة مقدسة و يدفع الأرض للأمام، ، فعلينا أن نأخذ معيارنا من الآيتين السابقتين، كل ما يقلل الفساد في الأرض و يحقن الدماء و يطور في حياة البشرية و العمران فهو في طريق الله، فكل الحق و الخير و الجمال طريقه تعالى شأنه، و كل ما يفسد أو يسفك الدماء أو يعرقل تطور البشرية فهو طريق الشيطان، فقد كان التصور الأولي للملائكة، أن نظل حبيسي المرحلة الحيوانية، و هو ما يجب علينا أن نثبت عكسه لنحقق الرؤية الربانية

فالمجال الإجتماعي الأولي لكل منا هو مناط مهمته الأساسية، أن يأخذ عمله و أسرته و المحيطين به، الخطوة تلو الخطوة إلى الأمام، فإذا وهب الله لأحدنا قدرة أو موهبة أو طاقة للعمل العام ، كان مكلفاً أيضاً أن يوظفها في طريق الحق و الخير و الجمال، فناً أو أدباً أو فكراً، الكل في طريق الخير و النماء، و سأضرب مثلاً متطرفاً لهذا، جمال المرأة مثلاً، فقد ترى إمرأة جميلة في شكل و نمط سلوكي مبتذل، فتثير بنفسك خيالات مريضة، و قد تراها هي بذاتها بشكل وقور فلا تقول إلا: تبارك الله أحسن الخالقين، و نفس الشيء صادق في الفن و الأدب و الفكر و الفلسفة، فمنها ما يدفع للامام و منها ما يجر خلفاً، منها ما يسمو و منها ما يقود لأسفل، فمن كان موهوبا بفن أو أدب أو فكر، فلينظر أين يوظف موهبته لخير البشرية كلها، و آيتنا في هذا هي الكم الهائل من آيات الذكر الحكيم و التي تتحدث عن قيم العمل و التآخي و الإحسان، و الالتزام بنماء البشرية و تطورها سهل ميسور، فضلا عن كونه مهمة عادلة تكفل لكل من يجتهد في سبيلها قدرا وافرا من تحقيق الذات ، فالمدرس الذي يغير في سلوك تلميذ بشكل ايجابي قد عمل عملا ضخما بتغيير حياة انسان، و العاملة بفندق تضيف للبشر أيضا لو هيأت الغرفة لك لترتاح بصورة أفضل فتعمل أفضل ، و الطبيب الذي يعطي حقنة مسكنة قد وفر المعاناة عن انسان، و كلها أعمال جليلة و يستحق من يعملها كل تقدير من نفسه و ممن حوله

فأما من يقولون أن الحياة هي ممر للآخرة ، و يحسن بالمرء أن يفرغها الا من عبادة الله، فنقول لهم ، عفواً، الحياة و ان قصرت ليست ممرا للآخرة و لو كانت أبدية، فالهدف الذي كلفنا به هو هذه الحياة، و الأبدية هي جزاء عن هذا التكليف خيرا بخير أو شرا بشر، و لو لم تكن الحياة هي الهدف لما قرر الله خلقنا للخلافة بنص القرآن، و لو كانت عبادته هدفا بذاتها لخلقنا ملائكة، و لمن يستشهد بالآية الكريمة "وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون" على كون العبادة هي هدف الخلق، نقول أنه فهم لغة الآية بشكل غير دقيق، فالعبادة هي حق الخالق على المخلوق و ليست علة الخلق، فقد تقول لولدك "أنا لم أنجبك الا لتعينني في كبري" فهل ننجب حقا بنية ايجاد مساعدين لنا في الكبر؟ لا بالطبع، لكن مفاد الآية أن هذا البر من حق الأب على ابنه و ليس هدفا لاقامة النسل ، و من حديث رسول الله، يحسم الأمر قوله صلوات الله عليه "لو قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" فهل هذا قول من يفهم الدنيا على أنها كوريدور نمر منه للآخرة؟ أم قول من يفهم تماما أن مهمة الانسان على الدنيا هي النماء و أن هذا من أعظم ما يثاب المرء عليه؟

3 comments:

Desert cat said...

الموضوع كبير ومتشعب
بالنسبة لمفهوم السعادة من وجهة نظرى المتواضعه فهى تكمن فى رضا الله ثم الرذا عن الذات
تحياتى

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي قطة الصحراء

أما رضا الله تعالى ، فقد أردنا أن نوضح أنه يكون أكثر ما يكون من نصيب من يتفانى في طريق الخير و النماء لكل البشر ، و أما الرضا عن الذات فهو ما أشرنا له بتحقيق الذات عن طر يق تلك المساهمة ، و كما قلت الموضوع متشعب لذلك نتممه في عدة مقالات ان شاء الله تعالى

Unknown said...

السعادة كلمة صغيرة ذات مضمون كبير جدا
احينا بشعر انها شى خيالى ليس لها وجود فى دنيانا واحينا بحس انها فلسفة كبيرة لا يصل لها الا كل ذو عقل مفكر واحينا بحس انها موجودة فى حياتنا بس مش حاسين بيها والسعادة نسبية فالذى يسعدك قد لا يسعدنى لكنى اشعر ان السعادة هى الرضاء والرضاء ليس معناة فى نظرى الاستكانة للوضع الحالى انما الرضاء هو تقبل كل امر سئ او حسن برضاء والاستمرار فى الحياة ومحاولة التغير للاحسن فى كل الاحوال
السعادة
ه لـو أنا ومحـبوبى جــزنـا الفضـا

فى سفينـه وحـدينـا ...وأشيـارضا

سـاعـه صفـا تعجبنـا نـرجع لهـا

والهم قبل ما ييجى ....يبقىمضى
عجبى!!ا
انا بحب الرباعية دة وبحس انها بتدينى سعادة