نبهني الصديق العزيز الدكتور "رفيق نخلة" لمقالين في غاية الخطورة نشرتهما صحيفة أخبار اليوم وكتبهما السيدان "محمد حسان" و"أبي إسحاق الحويني" حول فاجعة كنيسة القديسين، ولم يتجاوزا فيهما المألوف في خطاب مثلهما من مفاهيم "أهل الذمة" و"المعاهدين" وعدالة الإسلام معهم، ولكنهما والحمد لله لم يتطرقا لموضوع اضطرار الذمي لأضيق الطريق ولا ركوب الفرس. وقد فند العديد من كتابنا المرموقين تلك الموضوعات انطلاقا من منطق المواطنة والدولة المدنية، لكننا اليوم سنفندها من طريق آخر هو الطريق الشرعي نفسه. ليتبين الرشد من الغي لكل رجل رشيد
المؤلفة قلوبهم وأهل الذمة ومقتضى الحال
كان الفاروق عمر (رض) يعلم وجوبا أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وتنبع صلاحيته من شموليته التي تجعل في إمكان المجتهد أن يستنبط منه المنهج الذي يناسب مقتضى الحال وتغيره على مر الزمان، لهذا لم يقف مكتوفا أمام النص في قضية أنصبة الزكاة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم الوارد بنص القرآن المباشر في قوله تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل"، لأن الإسلام على عهده صار عزيزا لا يحتاج لكسب ولاء الأشياع والأتباع ممن لم يرسخ الإيمان في قلوبهم بمال. وهنا يسأل أحدنا: كيف كان هذا والقرآن صالح لكل زمان ومكان؟ فنقول له أنها صلاحية مقترنة بتشابه مقتضى الحال، فلو تشابهت الظروف وأراد مؤسس دولة أن يكسب دعما من جماعة من الناس للصالح العام، جاز له أن يكسب ولاءهم ببعض المزايا المادية من المال العام وفقا لمفهوم تألف القلوب القرآني
فماذا عن مفهوم أهل الذمة أو المعاهدين؟
الأمر نفسه، هو مفهوم انقضى زمنه بانتهاء الظروف التي دعت لوجوده، وبتغير السياق ومقتضى الحال، فقد كان عصر الرسالة عصر إمبراطوريات، والخيارات محدودة في أن تكون الدولة تابعة أو متبوعة، ولهذا كان على دولة الإسلام الأولى أن تتوسع جغرفيا في محيطها بالفتوح، وتحتفظ في كل قطر تفتحه بحامية عسكرية، تحمي القطر وتكون في نفس الوقت مددا لغيرها من الجيوش المسلمة في أنحاء الإمبراطورية الوليدة حين يستدعي الأمر ذلك، ومن هنا كان تجنيد أهل الأمصار المفتوحة غبنا وضيما، فليس من العدل أن يحارب الشامي في مصر ولا المصري في خراسان بعيدا عن وطنه، وهو لا ينتمي لرابطة الدين التي تربط أجناد تلك الجيوش وتوحدها مع الهدف العام، فكان مفهوم الجزية التي تدفع كبدل مادي عن الجندية كما كان الحال في مصر قبل الثورة، وصار لمن يدفعها حقا وذمة وعهدا في عنق الجيش المسلم بالدفاع عن أمنه وأمن وطنه.
كانت الجيوش الإمبراطورية كما كان حال الرومان في مصر، لا تدافع عن الولاية التابعة لآخر قطرة دم، لأنها كانت تعتبر الولايات أملاكا وضياعا لا تستحق تدمير الجيوش في سبيلها، فكانت تدافع على حرف، ثم تغادر على متون سفنها لو صار الدفاع مكلفا في المال والعتاد، وكان تشديد الرسول (ص) في أحاديثه على حقوق الذميين نهيا عن هذا التعامل مع الأمصار كضياع وممتلكات، ليصير الدفاع عنها كدفاع الرجل عن أهله. اليوم تغير مقتضى الحال والسياق، ومعالم التغيير هي
- بوفاة رابع الراشدين انتهت الدولة الإسلامية التي استحقت هذا الاسم (عدا حقبة خامسهم)، والتي كان محورها الكفاية والعدل، فلا محل اليوم لتعبير "دولة إسلامية" الذي يصفون به مصر، فهي دولة بها أغلبية مسلمة وحسب. فهي دولة صنعتها حقائق الجغرافيا والتاريخ ولم تصنعها العقيدة كدولة المدينة المنورة قديما
- صار لكل دولة جيشها الوطني الذي يضم كل أبنائها على اختلاف مللهم، ومهمته محدودة في حماية الدولة ومصالحها، فلا محل اليوم لحديث عن ذميين وجزية وما إلى ذلك من تجديف
.من هو الذمي اليوم؟
العديد من الشعوب العربية والمسلمة المغلوبة على أمرها تدفع اليوم الجزية للجيوش الأمريكية، فكل من السعودية وقطر والبحرين والإمارات والعراق وتركيا وأفغانستان وباكستان بها قواعد أمريكية متفاوتة العدد والعتاد، وكل من تلك الدول تدفع من مال الشعب تكاليفا باهظة للحاميات الأمريكية التي "يفترض" أنها تحميها، والحقيقة أنها تدمرها باطنا أو ظاهرا أو الاثنين معا، يعني ليسوا ذميين وحسب ولكن ذميين بلا حقوق ولا حماية، أما بقية الدول ومنها مصر بكل أسف فتدفع جزية أصغر في صورة ثمن السلاح الباهظ وتكاليف الخبراء الأمريكيين المضاعفة لأمريكا مصدر تسليحنا الوحيد اليوم، والتي تحتفظ لعدونا بتفوقه علينا في المقابل، يعني كلنا في ذمة أمريكا وأمريكا لا ذمة لها ولا عهد! فكفوا بالله عليكم عن لهجة الاستعلاء والفروسية بلا معنى ولا مضمون، لعلنا ذات يوم نركب طريق الأمم الصاعد مرة ثانية جميعا كمواطنين مصريين متساوين في الحقوق والواجبات، بعد أن أفسدتم على الناس دينهم ودنياهم إلا قليلا.
8 comments:
الله
الله عليك يا صديقي اهلا بك
تفتكر يا دكتور فى حد بيسمع الكلام ده ولو سمعه بيقتنع !!
حضرتك لما بتتكلم عن الاسلام بلاقيه جميل غير اللى بشوفة
او غير المفهوم المنتشر حاليا للاسف
أشكرك يا عزيزتي
هناك القليل يقرأون ويشاركون، ربما لو زرت صفحتي على فيسبوك لوجدت أن مصر مازالت ولادة ببشر في غاية الجمال، لكنهم منتثرون متباعدون
أما الإسلام يا عزيزتي فنحن مشكلته وليس العكس، نحن العيب في ديننا وما لديننا عيب سوانا
تحياتي وتقديري وشكري
طيب و الخل يا دكتور ازى هنعيش واحنا ممكن نعمل زى تونس ونصحا من نومنا اللى طول اوى
يعجبني في أستاذي الدكتور إياد حبك للدين ومحاولاتك تبيين وجهه الجميل الحقيقي ولكن (وهذا خلافي معك) أنك تستدل وتقيس وتجتهد من نفسك دون الرجوع لأهل العلم مع أن الدين ليس موضوعا فلسفيا يقبل النقض من كل احد وكما هو معلوم أنك إذا أردت أن تعرف حكم الدين في معاملة ما فإنك لا تعمل ما تراه أنت بل مايراه أهل العلم الذين هم أدرى الناس بأحكام و مقاصد الشرع فكيف لا يرجع لهم في سيسة الدنيا ؟؟؟؟ هل لأنك ترى أن الدين مكانه في المسجد وفقط ولا دخل له بحياة الناس (وهذا خطأ جسيم) لأن الله كما شرع لنا أحكام عبادته شرع لنا أحكام حياتنا الكاملة بهذا الدين وطالما أن الأمر كذلك فيجب العودة لعلماء هذا الدين في العبادات و المعاملات والسياسة والنظم وعدم القول في ذلك إلا عن علم شامل لأحكام الشرع و مقاصده و أحكام الواقع ومستجداته لاهذا فقط ولاذاك فقط وأدعوك لزيارة موقع أنا السلفي للإطلاع وأنا واثق من قدرتك على توجيه مواهبك لخدمة وطنك بدين الله وهي أعظم خدمة تقدم لأجيالنا القادمة
@Anonymous
ها نحن قد فعلنا يا سيدي
@حسن أبوزيد
أشكرك يا سيدي لتعليقك الكريم
أما العلم فهو في كتاب الله الذي أنزله قرآنا عربيا لا مطلسما ولا باطنيا، وفي سنة الرسول وسيرته وتاريخ الصحابة والتابعين الدال على صحيح فهمهم للدين، فلم يجعل الله بيننا وبين العلم حجاب ولا طلب منا التوسل بوسيط في صورة عالم
تحيتي وشكري
Post a Comment