لست أناقش هنا كتاب غادة عبد العال الساخر خفيف الدم "عايزة أتجوز" في ذاته، ولا أناقش كذلك حرفيات سيناريو وحوار المسلسل الكوميدي الذي أراه أضعف من الكتاب وعابته مبالغات استجداء الضحك المألوفة، وإنما أناقش موضوعهما، موضوع زواج الفتاة التي تمثل قطاعا عريضا من المجتمع هو فتيات الطبقة المتوسطة المثقفة المصرية، وما أريد إيجازه هنا، هو لماذا لن يقبل معظم الرجال (بعيدا عن النماذج المشوهة التي يعرضها المسلسل) على الارتباط بالدكتورة علا بطلة المسلسل، وسأدع جانبا الطبيعة المستفزة لشخصية علا التي قدمها المسلسل، والتي تجعل من مصلحة البشرية ألا تتزوج علا أو تنجب حتى لا تستمر المأساة ببث مادتها الوراثية في جيل جديد
ضحايا الرجل وازدواج المعايير
مشكلة علا ومثيلاتها هم الرجال في مجتمعنا، فقد وضع المجتمع لهن معيارا واحدا للقيمة والنجاح، هو الفوز بعريس لقطة، (التعبير الغبي الذي يساوي الرجل بكنبة مستعملة أو فوتيه أثري يمكن الحصول عليه لقطة من صالة مزادات في وسط البلد)، فمنذ طفولتهن تسمع الفتيات سؤالا سمجا هو : هتتجوزي مين لما تكبري؟ شريف ولا عبد الرحمن؟ وإذا تمنى لهن أحد مستقبلا باهرا قال لإحداهن: يا رب أشوفك عروسة، أو يا رب أشوفك متهنية في بيتك (كأن بيت أبويها ليس بيتها بالفعل، كأنها لاجئة أو لقيطة)، أو يا رب أشرب شربات فرحك (رغم أن موضوع شربات الفرح نفسه لم يعد موجودا)، وحتى تحقق الفتاة هذا النجاح وتحرز هذه القيمة بالحصول على عريس لقطة، تسير منذ صباها الباكر على صراط المجتمع المستقيم، فتجد في دراستها وتتخرج في إحدى كليات القمة، وتلتزم في تعاملها مع الجنس الآخر سلوكا يتجاوز الالتزام الخلقي إلى حد الوسواس القهري والتزمت، وترتدي الحجاب عن اقتناع أو بغير اقتناع لأنه صار أحد مقومات الزواج في العقود الأخيرة، وهي تتصور في كل خطوة من تلك الخطوات أنها تضع رصيدا قابلا للصرف في خزينة المجتمع، وحين تتخرج وتمر السنوات سريعا دون أن يظهر ابن الحلال الذي يساوي كل ما بذلته من جهد في مرحلة الإعداد والتأهيل الاجتماعي، والتي طالت بطول عمرها، عندئذ تبدأ الفتاة بالكفر بالمجتمع الذي نصب عليها أول مرة بتصوير الزواج بأنه الجنة الموعودة، وثاني مرة حين منعها من دخول تلك الجنة المزعومة
تكتشف المخدوعة أن عنترة الذي فرض عليها سلوكا شبه متزمت ليمنحها لقب "محترمة وبنت ناس" قد تنازل فجأة عن هذا اللقب كشرط في العروس المنتظرة، وخطب زميلتها اللعوب لأنها عرفت كيف تعزف له على أوتار الأنا الذكورية المتورمة، وتكتشف أن الشاب الثري الذي كان يضع الحجاب في مقدمة مواصفات فتاة أحلامه يسعى للارتباط بفتاة "ستايل" حتى يتم علامات وجاهته، كأن جمال الزوجة الظاهر دبوس ماسي في رابطة عنقه، فالزوجة الجميلة الستايل أحد علامات الوجاهة الاجتماعية في العصر الاستهلاكي كالسيارة الفارهة والساعة فيليب شاريول، كذلك تكتشف المسكينة أن شريحة العرسان من ضباط الشرطة ووكلاء النيابة والمحامين والمحاسبين التي كانت تحفى لترتبط بعروس صيدلانية لفتح صيدلية باسمها قد عزفت عن الصيدلانيات لأن الصيدلية لم تعد مشروعا مربحا، أما العرسان اللقطة فهم بين طائفتين، الأولى رجال ارتبطوا بالفعل خلال سنوات الدراسة وتزوجوا فور التخرج بصاحبة نصيب لم تتجنب الزملاء الشباب كأنهم جرب، والطائفة الثانية رجال لن تلفت فتاتنا المجتهدة والملتزمة نظرهم ولو حرصت على هذا، لأن درجة نضجهم تجاوزت مرحلة زواج قضاء الحاجة بمراحل
عايزة أتجوز وتشييء الرجل
كثيرة هي الأقلام التي تحدثت عن تشييء المرأة في المجتمع الشرقي، بتنميطها في صورة أداة لمتعة الرجل أو خدمته، لكن أحدا لم يتناول التشييء المضاد الذي تمارسه المرأة ضد الرجل برغبتها العامة في الزواج والغير مرتبطة بشخص ولا حتى بمجموعة عناصر ذات خصوصية تشكل فتى الأحلام المنتظر، فالعبارة التقليدية: مؤدب وابن ناس وبيصلي ومابيدخنش وعنده شقة وعربية و........الخ ليست مواصفات فتى أحلام بل مواصفات بطاقة رقم قومي مناسبة لكتب الكتاب، واسم مناسب ليوضع على بطاقة الدعوة لحفل زفاف، فرغبة الفتاة في الثوب الأبيض دون أدنى اعتبار لشخصية حشو البذلة السوداء بجوار هذا الفستان كفيلة بنفور أي رجل سليم الفطرة، فمن ترغب في رجل بمواصفات التابو الاجتماعي السابقة هي في الحقيقة لا ترغب في رجل ولكن في الوضع متزوجة والوضع أم، من حق أي رجل وأي امرأة غير مرتبطين أن يحلما برفيق العمر، ويترقبا ظهوره، ولكن هذا الترقب لابد أن يؤسس على منظومة من المعايير المميزة، وغياب تلك المعايير واحلال مقاييس المجتمع العامة محلها هو سبب حالات الطلاق التي لا تنتهي في مجتمعنا، فمتى نتعلم؟
لماذا لن يتزوجها؟
لو فكر رجل في شخصية علا، وحاول إجابة السؤال: لماذا لن أتزوجها، فسيجد عددا لا نهائيا من الإجابات يزدحم برأسه، شريطة أن يكون رجلا عاقلا راشدا متعمقا في فهم الحياة وعلاقات البشر، وتلك الإجابات يمكننا أن نتصورها كما يلي
لن يتزوجها لأنها كافرة بالحب، بعلاقة المودة والرحمة التي وإن كانت نادرة التحقق بين الأزواج عامة فهي مستحيلة التحقق لو كفر أحد الزوجين بها وادعى باستحالتها
لن يتزوجها لأنها تريد ضل حيطة والسلام، أو في أحسن الفروض تريد ذكر نحل ليقوم بمهمة الإخصاب حتى تصير أما، وهو لا يقبل لنفسه هذه الصفة ولا تلك مادمنا اتفقنا أنه رجل عاقل راشد
لن يتزوجها لأنها لا تملك رؤية مستقلة في حياتها، وبالتالي لن تكون قادرة على مشاركته في رؤيته وطريقه، ولن يشاركها رؤيتها، فتصبح الحياة شكلا من أشكال تمرير الأيام الذي نجيده في مصر كما لا نجيد غيره
لن يتزوجها لأنها مسطحة التفكير واستعلائية، ترى نفسها أفضل من الجميع لولا سوء الحظ والطالع، وتحكم على كل من حولها من فتيات وكأنها قاض، لا تشتغل بعيوب نفسها وهي كثيرة عن عيوب غيرها، ولا تدرك الفارق بين ظروفها وظروفهن، وبين حياتها وحياتهن، فهذه رومانسية بلهاء، وتلك منحلة ومتهتكة، وهكذا لتصبح هي الوحيدة المثالية
لن يتزوجها لأن فهمها لتركيبة الرجل النفسية لا تزيد عن صفر، وبالتالي سوف تتعامل من منطلق تركيبتها هي دون أدنى اعتبار للاختلاف بينها وبين الآخر
لن يتزوجها لأنها كعقلية تعد نموذجا لعقلية القطيع، فهي تسير مع تيار المجتمع دون أدنى قراءة نقدية لمعطيات المجتمع، يجرحها أن يزوج أبويها أخوها الأصغر قبلها في تابو اجتماعي عبيط، وتجرحها كلمات الناس العابرة كأنها كيان هش كالزجاج
لن يتزوجها لأنها نموذج نمطي لامرأة تنكح .. ولا يقترن بها، وهو مادام رجلا بحق يسعى للقران وليس النكاح فحسب
وختاما، يوجز كل ما سبق أن أقول أنها تمثل المرأة في مجتمع يعيش عصرا من عصور الانحطاط، ولا أقول أن هذه سمات كل نساء مصر اليوم، لكنها السمات الشائعة إلا من رحم ربي، سمات الفتاة في مجتمع استهلاكي بيعت ثوابته في مزاد علني منذ أكثر من ثلاثة عقود، ففقد البوصلة وفقد التوجه جماعات وأفرادا، مجتمع قدر له أن يكون الرجال فيه أشباه رجال والنساء أشباه نساء، وبين الأشباه والأشباه لا يوجد قران ولكن يوجد نكاح، لا توجد شراكة بناءة ولكن تنافس في الهروب من المسئولية، لا توجد ممارسة حب وإنما يوجد سفاد، فيتكون لدينا مجتمع تمرير الأيام على نمط: نولد، نتعلم، نتخرج، نعمل، نتزوج، ننجب، نموت، مجتمع قدرنا أن نعيشه، لاننا جيل لم يأت في موعده مع القدر، فقد سبقته الأقدار