10.12.09

حلم المشرق



مشروع حضاري يجمع الفرقاء
واقعنا أننا أمم ذات تجارب سيئة مع الوحدة والتكتل، رغم أننا نعيش في عصر الكتل والتحالفات، وقد سادت الأجواء في الآونة الأخيرة نبرة ساخرة من الفكر الاتحادي في صورته العروبية، بعد مشاحنات الجماهير المصرية والجزائرية عقب مباراة قدم، فوجد فيها القائلون بالانكفاء للداخل والتقوقع في الشأن المصري ضالتهم وشبعوا لطما، وانسابت تعليقات من عينة "كفانا من العرب" و"ماذا فعل لنا العرب" ... إلى آخر قائمة الهلوسة التي لا تمت لعالم العلاقات الدولية بصلة، ذلك العالم الذي لا يعرف المجاملات ولا المعايرة، ولكنه يعرف العلاقات الاستراتيجية والتحالفات التكتيكية والمناورات السياسية التي تجعل في مصلحة دولة في وقت محدد أن تساعد دولة أخرى، في تلك الهوجة لم أسمع صوتا عاقلا إلا للأستاذين إبراهيم عيسى في جريدته وحمدين صباحي في لقاء تليفزيوني، إذ تناولا مصر والدول المحيطة بها من منظور الدولة في مجالها الاستراتيجي ونطاقها الجغرافي-السياسي الطبيعي، والطريف أننا لو رجعنا بالذاكرة بضعة شهور للوراء واستدعينا أزمة غزة 2008 وما دار خلالها، واستعدنا تعليقات الجماهير المصرية التي نادت بفتح المعابر بغير ضوابط لأن الفلسطينيون إخواننا، ثم قارنا الصورتين، لفهمنا على الفور أننا نتعامل مع انفجارات عاطفية لأمة بغير ثوابت، إما تطرف في الانصهار مع مصالح الغير وإما تطرف في النفور من الآخر، وفقا للظروف الآنية والمشاعر اللحظية، وتلك لعمر الحق سمة الأمم الغير مثقفة سياسيا وحضاريا، أما الأمم التي نضجت فانخرطت في تكتلات منها ما هو اقتصادي بحت كمجموعة الثماني ومنها ما هو اقتصادي سياسي وتشريعي لكنه غير فيدرالي كالاتحاد الأوروبي، ومنها ما هو فيدرالي كالولايات المتحدة الأمريكية، فماذا عنا؟ ما هو أفقنا في عالم التكتلات والعمالقة؟ حتى لا نلق مصير النمل تحت أقدام الأفيال؟

لو نظرنا في العلاقات الاستراتيجية للدول العربية، لوجدنا السعودية مرتبطة بالولايات المتحدة ارتباط يصل لحد ارتهان المملكة ، ومثلها قطر والكويت، أما الإمارات العربية فتابعة للمملكة المتحدة، وكذلك الحال في البحرين وعمان، هذا عن المشرق العربي، أما المغرب العربي فلديه مشكلة تحديد الهوية في المغرب والجزائر على الأقل، وكذلك مشكلة الفقر المتفاقمة في المغرب ومشكلة الصراع الاجتماعي في تونس، وفي كل هذا للمغرب العربي حساباته وتوازناته الخاصة به، فضلا عن ارتباطاته بفرنسا وإيطاليا حضاريا واقتصاديا، وقد أثبتت تجارب الستينات أن الرهان الوحدوي على المغرب العربي أو المشرق الخليجي كليهما بلا جدوى، ولهذا تبقى لدينا دول القلب العربي وهي: مصر والسودان والأردن وسوريا ولبنان والعراق، فضلا عن دولة الجوار الاستراتيجي والامتداد الحضاري إيران، ولأن تجربة الستينات تقول أن الوحدات الانصهارية أقرب للفشل منها للنجاح، حتى لو وجدت رغبة الشعوب في الوحدة كما كان الحال بين مصر وسوريا، ولأن تجربة البعث العراقي تثبت لنا أن إنكار التنوع العرقي لا يلغيه ولكن يلهبه، ولو أخذنا في الاعتبار النموذج الحضاري الرائع للاتحاد الأوروبي، وتخيلنا مشروعا اتحاديا بين الدول السبع في شكل "اتحاد المشرق" على غرار الاتحاد الأوروبي، بحيث تحتفظ الدول بكياناتها وأنظمتها مع وجود أعلى درجات التنسيق الاقتصادي والسياسي بينها من خلال برلمان اتحادي ومجلس قمة دوري على مستوى الرؤساء والملوك، لوجدنا لذلك المشروع العديد من الفوائد لكافة الدول فيه

فاتحاد المشرق بطبيعته المؤسسة على المنفعة العامة والتقاء مصالح الشعوب يستطيع جمع طاقات تلك المنطقة كما لم تفعل أية محاولة وحدوية من قبل، فهو لا يقوم على أساس قومي يهمش أبناء هذه المنطقة من الفرس والأكراد والآشوريين وغيرهم، ولا يقوم على أساس ديني يهمش مواطنيها من المسيحيين واليزدانيين وغيرهم، ولا ينحاز لطائفة شيعية أو سنية ولا لمذهب أورثوذكسي أو بروتستانتي، بل يجمع الكل في بوتقة هي قلب العالم القديم ذاته، وفي إطار تعددي نموذجي يصنع كتلة ذات طاقات جبارة بشريا وطبيعيا وجغرافيا، وإليك بعضا من الأرقام شديدة البلاغة في تعبيرها عن قوة مثل هذا التكتل الإقليمي، لنتخيل معا، ولو من باب الحلم، مجرد الحلم، مدى عملقة ذلك الكيان الذي أراه حلما مشروعا لدول المنطقة
  • مساحة متصلة من اليابسة تقترب من ستة ملايين كيلومتر مربع، تحديدا 5,878,697 كم مربع
  • سواحل بحرية تمتد لأكثر من ستة آلاف كم على البحرين الأحمر والأبيض والبحر الميت وكذلك الخليج
  • أراض زراعية مروية بمياه الأنهار تصل لأكثر من 200 ألف كيلومتر مربع
  • طاقات بشرية تصل لأكثر من ربع مليار نسمة، بما في ذلك الكوادر المدربة المهنية والعمالية والزراعية وغيرها، مما يجعل الاتحاد مكتفيا ومصدرا للطاقات والمهارات المدربة
  • إجمالي الناتج القومي للاتحاد سيعادل تريليون وستمائة واثنين وأربعين بليون دولار أمريكي سنويا بمعدلات عام 2009م
  • إنتاج طاقة كهربائية وقدرها 410 بليون كيلو وات / ساعة
  • وختاما احتياطي بترول مؤكد وقدره 263 بليون برميل، ولنتخيل قدر الرقم علينا أن نعرف أن الولايات المتحدة تختزن احتياطيا لا يزيد عن 21 بليون برميل، وذلك فضلا عن كنوز الغاز الطبيعي الذي 3 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي
وحتى نفهم طبيعة اللعبة القذرة التي تدار الآن، لزيادة الفجوة بين الدول العربية وايران، علينا أن نعرف أن الأرقام الخاصة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية وهي علنية على الويب تقول أن إيران تمثل لمثل هذا التكتل السباعي ثلث عدد سكانه وسواحله، ونصف إجمالي الناتج القومي فيه، وأربعين بالمائة من أراضيه المنزرعة، فضلا عن نصف احتياطي البترول، تلك الأرقام تفسر لنا لماذا حرصت الولايات المتحدة دوما على التفرقة بين العرب وإيران وبث العداء بينهم سواء بطريق مباشر أو من خلال أذنابها في المنطقة وعلى رأسهم آل سعود في المملكة العربية، كذلك تفسر لنا الأرقام سر لعبة التسعينات واستدراج صدام لتصفية طاقات العراق، ولعبة الألفية الجديدة في السودان، والتحرش بسوريا، والقادم دوما ألعن طالما بقينا على حالنا

وليس ما يحول بيننا وبين مثل هذا الاتحاد العملاق حكامنا، فالشعوب عندما تريد حقا تعرف كيف تفرض ارادتها، لكن واقعنا يقول أننا شعوب جاهلة حتى البلاهة ومغيبة حتى الموت، وما يحول بيننا وبين اتحاد المشرق الحلم هو ذلك الجهل المركب في شعوبنا، وهو أخطر صنوف الجهل، جهل من لا يعرف بجهله ولا يعترف به ويطلب تغييره، فهو جهل ملاك الحقيقة المطلقة كما عبر الدكتور مراد وهبة في عنوان كتاب له


6 comments:

The Z. said...

عزيزي الدكتور اياد،
عند قراءتي للفقرة الثانية من تحليلك لهذا الموضوع انتابني اندهاش من اتجاهك الى منطق تعميمي لا يمت للواقع المعقد بصلة رابطة...فكلامك عن مشاكل الهوية في المعرب العربي متجاوزة في شكلها الاجتماعي منذ عقود بعيدة، اما عن شكلها السياسي فهذا امر عادي في كل بلاد الدنيا، و لا تجد بلدا في العالم يخلو من مجموعة تحاول فرض رؤاها السياسية على الباقي و هو امر بديهي و قد يكون صحيا احيانا لضمان دينامية سياسية ديمقراطية...اما عن الارتباط بالخارج فاني اسآلك سؤالا مضادا: اليست مصر مرتبطة الان بل مرتهنة لامريكا و اسرائيل؟؟ اليست الوساطة اكبر مناورة سياسية يمكن لها ان تقوم بها الان و بالاذن الامريكي حتى؟؟ هل للسودان المسكين، الذي تناساه العرب و تلقفته الماكينة الصينية الرهيبة اي تآثير حتى على داخله؟؟؟ كلنا يا عزيزي في الارتهان شرق و دول القلب كما سميتها لا تعدوا كونها جزءا من الكل المرتهن الكبير...اما عن مشاكل الفقر، فدول القلب كدول المغرب لاعبون اوفياء فيه، لا تفاضل بينهم، لا بل يمكن القول ان الحال في بعض البلدان المغاربية احسن من حال المشارقة، و يمكنك ان تطلع على ارقام تقرير البنك الدولي و وكالات الامم المتحدة المختلفة للسنة الماضية...كي اكون صريحا معك يا استاذ اياد، اني جد متآثر لكلامك الذي وجدت فيه لكنة شعوبية لا تليق في حالنا المشؤومة هذه...ارجو ان اكون على غير صواب في فهمي لما كتبت

تحياتي
زكرياء

Unknown said...

اعتقد يا دكتور من وجهة نظرى المتواضعة ان مشكلتنا اننا اوطان تتكلم اكثر مما تفعل لو تحولنا للفعل هنتحد وهنتعاون لااننا فى الوقت دة هنلاقى اهمية بجد من الاتحاد والتعاون لانى هبقى محتاج جارى بجد وهو محتاجنى انما كل منتكلم اكتر كل منبعد اكتر ومنعملشى حاجة خالص فى حين الى حوالينا بيكبروا يوم بعد يوم واحنا بنصغر

Anonymous said...

عندما كنت ادرس الجغرافيا فى الصف الثانى الأعداى وبالخصوص جغرافيا الوطن العربى وثرواته وطبيعيته كنت دائما اتخيل منذ صغرى وحدة هذا الكيان الهائل من موارد ومن طبيبعة ومن ثروات حلم طفولة كنت احلم به وان ارى الحواجز التى فرضها الأحتلال علينا تذوب وتتلاشى ونكون دولة قوية
وعندما كبرت استيقظت على واقع غريب واقع شراذم وقطع، واقع دول ليست مختلفة عرقيا ولا دينيا ولا لغويا ولكن متخلفة عقليا
ساد التفرق بينهم وبدلا من الوحدة ظهر الصراع بيننا وكل دولة منهم بدأت فى تقديم الأخرى لعدوها لكى يلتهما وينشغل عنها ونسيت أن الدائرة ستدور عليهم
شعوب متخلفة وجاهلة ،شعوب سلبيبة لدرجة التسليم ،شعوب منهارة لدرجة البلاهة
عزيزى لا أظن أن الوحدة ستقوم بسبب وجود الجهلاء وانصاف المتعلمين وأيضأ بسبب وجود عملاء من حكام العرب
فكلهم عملاء إما لأمريكا أو بريطانيا أو إسرائيل فأصبحت إسرائيل الدولة الصديقة الخفية لبعض العرب.
الشىء الوحيد الحسن الذى تعلمته من التاريخ أن الدول العربية لا تقوم لها قائمة كلها إلا بصحوة مصر وشعبها
فإذا استفاقت مصر فاق العرب وإذا نهضت مصر نهض العرب
وعلى الله قصد السبيل

Dr. Eyad Harfoush said...

الأخ العزيز أستاذ زكرياء
ليس لشعوب المغرب العربي ولا لشعوب الخليج العربي ذنب في هذا، فالخليج العربي مرتهن لأمريكا والمملكة المتحدة بسبب أسر حاكمة تقليدية بنت شرعيتها على مدافع الجيوش الانجليزية عشية الحرب العالمية الثانية، أما ما قصدته بأن للمغرب خصوصيته فهذا لا يعني دونية ولا شعوبية يا صديقي لا سمح الله، ولكن أولويات، فلأقطار المغرب العربي تركيبة سكانية وبنية اقتصادية وتاريخ مشترك ونسق حضاري يجعل الأولى بها أن تندرج أولا في تعاون إقليمي مغربي يضم الدول الثلاث في إطار تعاوني، وكذلك المشرق، ثم يأتي تقارب الاتحادين في مرحلة لاحقة، لقد كانت علاقة مصر والجزائر يوما في الستينات بالغة القوة، حتى حاربت قوات جزائرية مع اخوانها المصريين جنبا لجنب في حرب عام 1973، بعدما ساعدت مصر الجزائر في معارك التحرير، لكن بعد موت الرجال الكبار أثبت الشعبان أن التقارب كان فوقيا وهشا للغاية، بني على عقيدة واستنارة ناصر وبومدين وليس على قاعدة شعبية مثقفة تحمي فكر التوحد من العابثين
أرجو أن أكون قد بينت وجهة نظري، فما قصدت قوله أن الدول السبع التي رصدتها أنا بمقالي أقرب وأحوج لبعضها من غيرها
تحياتي وتقديري وشكري لتعليقك

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي أيوية
لديك حق بالطبع، فقد رزقنا الجدل ومنعنا العمل فزنا ضلالا يوما بعد يوم
تحياتي وتقديري وشكري

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزي الغير معرف
أشكرك لتعليقك وأوافقك على كل ما جاء به عدا أمر واحد، هو أن العرب لا تقوم لهم قائمة بغير مصر، فمصر منسحبة من الشأن العربي منذ أربعين عاما إلا قليلا ومازالت هناك دول ثابتة على مبدأها كسوريا، ومصر متدهورة اقتصاديا وهناك دول عربية في تحسن مطرد
تحياتي وتقديري وشكري