انحرف السائق بالسيارة الأمريكية الفارهة يمينا ليهبط من فوق كوبري أكتوبر عبر مخرج الشهيد "عبد المنعم رياض" في طريقه للبرلمان، كان "زياد" في مقعده الخلفي يطالع أوراقه التي سيلقي منها طلب الإحاطة الذي تقدم به لرئيس المجلس، موجها لكل من وزير الثقافة ووزير التعليم العالي بصفتهم، وأدرج على جدول أعمال المجلس في جلسته الصباحية التي تنعقد في غضون الساعة
يقطع تفكيره صوت السائق وهو يسأل: هل أمر على هيلتون النيل لتشرب قهوتك؟
أجابه دون أن يرفع عينيه عن الأوراق: المجلس مباشرة .. لا وقت لدينا اليوم
يمد "زياد" يده لعلبة صدفية بين المقعدين الأماميين للسيارة ويسحب سيجاراً، يشعله ويفتح النافذة الزجاجية قليلاً لتقلل من تراكم دخانه قوي الرائحة، تواجهه نسمة صباح منعشة في أواخر الخريف، يعود لأوراقه لتقع عينه على الاسم الكامل لعلي الإمام في الصفحة الأولى، ينظر له لحظة ثم يشرد .. "علي الإمام" .. لماذا أنت دائما في طريقي؟ مجرد مغرور، هذا هو أنت، تعيش في وهم النبل الرومانسي ظاهرياً، بينما باطنك الاستعلاء على كل من حولك، من اليوم الأول لم تحبني ولم تردني زوجاً لها، لماذا؟ من تظن نفسك؟ وماذا حققت في حياتك؟ مجرد فتى محظوظ ولد في أسرة هادئة ميسورة الحال فوجد وقتاً يهدره في التفكير في أحاجيه التي لا تفيد وكتاباته السقيمة، هذا هو أنت، لو جربت المبيت في مستوصف في عين شمس القبلية مقابل خمسة جنيهات لليلة كاملة، لعرفت أن في الحياة ما هو أهم من الخوارج والمعتزلة، لو تجرعت علقم اليتم صغيرا، ولو جربت النوم على فراش مشترك مع ابن خالتك الأكبر منك بعشرة أعوام، وعاينت الحياة في كنف زوج خالة لاختلفت حياتك تماماً، أنا تفوقت برغم كل هذا وأصبحت الأغنى والأنجح والأكثر نفوذاً، فلماذا كنت دائما تنظر إلي تلك النظرة؟ حتى بعد أن سبقتك في كل شيء؟ .. يفيق من شروده على توقف السيارة أمام بوابة المجلس الخارجية، فيهبط منها بعد أن لملم أوراقه مسرعا في حقيبته الجلدية السوداء، ويتجه نحو المبنى التاريخي المهيب، عليه أن يسرع ليشرب فنجانا من القهوة قبل الجلسة حتى يكون رائق الذهن وهو يلقي بيانه الخاص بطلب الإحاطة، أجرى جراحتي قسطرة علاجية اليوم من الخامسة والنصف فجراً حتى الثامنة، كلما زادت المسئوليات قلت ساعات نومه وقل عمق النعاس، كأنه يخطف منه خطفا مسرعا، لماذا يتعين علينا في هذا البلد إما الجري دائما أو الوقوف التام؟ لماذا لا يوجد وسط في أي شيء؟ ثراء فاحش أو فقر مدقع، تطرف ديني أو لاديني، حملة دكتوراه بلا عدد وأميون بلا عدد! ذات يوم سيرحل عن هذا البلد، إلى بلاد تشرق فيها الشمس فلا يحجبها الغبار، ويقبل الناس فيها غيرهم كما هو، دون وضع أنوفهم في أدق خصوصياته، سيرحل .. هو واثق من ذلك، ولكن متى؟ تلكم هي المسألة؟ فهذا البلد برغم كل شيء له ميزات بلا حصر عندما تملك ما يكفي من المال والنفوذ، يمكنك حينها أن تحي حياة لا يحياها مليارديرات العالم، لأن المال هنا يشتري أشياء لا تباع ولا تشترى في بقية بلاد الله!
في غضون الساعة كان يقف في القاعة الرئيسية ليلقي بيانه حول كتاب "النهروان أولاً"، والمودع في دار الكتب والوثائق القومية برقم 721115/2005م، من تأليف الأستاذ الدكتور "علي عزمي الإمام"، وقد وجه طلب الإحاطة لكل من وزير الثقافة ووزير التعليم العالي، أما وزير الثقافة - وهو رجل أعمال بارز وصديق شخصي لرئيس الوزراء - فبصفته المسئول عن الحفاظ على السلام الفكري للمجتمع كما ذكر في طلب إحاطته، السلام الفكري! عبارة بلا معنى، لكن لها بريقا يروج في دنيا السياسة والإعلام، هكذا علمته التجارب، وأما وزير التعليم العالي فبصفته الجهة التابع لها المؤلف وظيفيا، حيث يشغل منصبا تعليميا ييسر له نشر فكره المسمم بين شباب الوطن، ووزير التعليم العالي كما هو معروف كان عضوا في جماعة إسلام سياسي محظورة، قبل أن ينتقل لعضوية الحزب الحاكم قبيل اختياره كنائب رئيس جامعة بشهرين، ومعروف بميله المستتر مع تيار الإسلام السياسي
بعد الديباجة التقليدية استأنف "زياد" بيانه قائلاً: الكتاب موضوع الإحاطة تم طرحه في المكتبات من خلال دار الشهاب للنشر والتوزيع منذ شهرين تقريباً، ونجده أولاً يحتوي على أطروحات تاريخية مضللة ومخالفة لحقائق التاريخ الإسلامي كما يرد في كل المراجع التي وافق عليها مجمع البحوث، معتمدا بالأساس على مصادر ومراجع رافضية[1] متعصبة، تشوه التاريخ الأغر للإسلام عمداً، وهذه المراجع يذكرها الكاتب نفسه ضمن قائمة المراجع في نهاية كتابه، ثانياً: الكتاب يهدد السلام الفكري والاجتماعي للوطن، ويستعدي أبناء الوطن على بعضهم بعضا من خلال الطرح الأساسي للكتاب، وهو دعوته لمواجهة التطرف الديني بالحسم الكافي، فمن يحدد الخط الفاصل بين ما هو تطرف وما هو التزام؟ وما نوع الحسم الكافي في نظر سيادته؟ ثم تأتي ثالثة الأثافي، الأستاذ الجامعي يشبه من يخلط الدين بأمور الحكم بالخوارج، ممن كان شعارهم: لا حكم إلا لله! سبحان الله! سبحان الله! يا سادتنا الدستور المصري في المادة الثانية ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، والاعتراض على عبارة "لا حكم إلا لله" وادعاء أن من يقولها يكون خارجيا، معناه تحريض الشعب ضد الدستور، ودعوته لمواجهة التطرف كفرض عين على كل مسلم معناها تهديد السلام الاجتماعي للوطن! هذا لا يمكن أن يسمى فكراً .. بل تخريب وتحريض على القلاقل! إما أن نكون علمانيين مثله وإما نكون خوارجا ويجب على المسلمين مواجهتنا! الإسلام دين ودولة، والدستور المصري يؤيد ذلك، وسنظل نقول هذا ما بقيت في صدورنا أنفاس تتردد، الإسلام دين ودولة، وسنبقى محاربين من أجل إعلاء كلمة الحق في هذا الوطن ولو كره الذين ظلموا! كيف يريدون مصر؟ كيف يريدونها يا نواب الأمة؟ يريدونها علمانية إباحية تناسب هواهم، لا والله إنا لهم بالمرصاد
يمد "زياد" يده لكوب الماء أمامه فيرشف جرعة ثم يجفف العرق الذي تجمع فوق جبهته بمنديل وهو يقول: سيدي الرئيس، أرجو عرض الموضوع على اللجنة الثقافية في المجلس الموقر للحصول على رأي مجمع البحوث الإسلامية في الكتاب، كذلك أهيب بالسيد وزير التعليم العالي، لاتخاذ ما يلزم من تدابير لتجنب الأثر التخريبي لوجود صاحب هذا الفكر المشبوه في هيئة التدريس بكلية الآداب، فمثل هذا ..
يقاطعه رئيس المجلس من منصته وهو يستند برأسه إلى كفه المضمومة ويقول بغير اهتمام: وقف أستاذ جامعي ليس بهذه البساطة، السيد وزير الثقافة يتفضل بالرد على طلب الإحاطة، بإيجاز لو تكرمت يا سيادة الوزير، فمازال بالجدول الكثير من الأعمال
يضع الوزير أربعيني العمر نظارة القراءة المذهبة ماركة "فريد" على عينيه ويبدأ بالديباجة التقليدية، ثم يشرع في الرد: بالنسبة للكتاب موضوع الإحاطة، تم انتداب لجنة قراءة من الوزارة فور تقديم الطلب وتقرير اللجنة معي الآن، اللجنة ترى أن مراجع الكتاب كلها معتمدة، ووجود بعض المراجع الشيعية بينها لا يدين الكاتب، لأن المذهبين الجعفري والزيدي - اللذان استعان ببعض مراجعهما - معترف بهما من الأزهر الشريف كمذاهب فقهية لا تخالف صحيح الدين[2]، ثانيا لا يوجد إنكار لمعلوم بالضرورة كما أشار العضو في طلب الإحاطة وفقا لتعريف المعلوم بالضرورة، والذي أفاد به مجمع البحوث في حالات سابقة، لكن لا مانع لدينا في كل الأحوال من عرض الموضوع برمته على المجمع لابداء الرأي المتخصص ثم نتخذ قرارنا على ضوء هذا الرأي
يرد رئيس المجلس قائلاً: شكرا سيادة الوزير، يحول الموضوع للجنة الثقافية بالمجلس لعرضه على الجهات المعنية بإبداء الرأي، طلب الإحاطة التالي المقدم من السيد العضو..
لم يسمع "زياد" ما جاء بعد ذلك، فقد سبح بذهنه بعيداً، لقد اتسم رد فعل الوزير بالبرود، لكن المهم أنه ألقى الكرة في ملعب مجمع البحوث، وهذا هو دوره المطلوب منه، أما طلبه وقف "علي" عن العمل فمفهوم ضمنا أنه مستحيل، كان مجرد إحماء للجو، وهذه مرحلة لها ما بعدها، فحين يقول مجمع البحوث رأيه يكون لكل حادث حديث .. هكذا هنأ نفسه على الإنجاز الكبير، ومناها بمكافأة على هذه الإجادة، فأرسل رسالة قصيرة لصديقه الشاب "عبد الله" يسأله عن ارتباطاته في المساء، ثم انقضت بقية الجلسة الصباحية هذا اليوم وهو نائم مفتوح العينين، فلديه بعدها اجتماع في مجلس القسم، وبعده العيادة، حياة كفاح وتعب وعرق لمساعدة الناس بعلاجهم وتخفيف آلامهم، وليست حياة أوهام كحياة ذلك المأفون! هكذا كان "زياد" يردد في نفسه حين وصله الرد من صديقه .. بالإيجاب
...
(16)
مرض اسمه الغرض
السبت، الثامن من سبتمبر
استقر "علي" في جلسته المفضلة في شرفة شقته على ترام الإسكندرية، تبدو على وجهه ملامح اهتمام وهو يستمع لمحدثه على المحمول، ثم يرد قائلاً: لن يجد المجمع شيئا يبرر التوصية بالمصادرة كما يحلمون، الكتاب مؤسس على مرجعيات صلبة
يتطلع للشارع أسفل الشرفة، ويراقب الترام الذي هدأ من سرعته ثم توقف وهو ينصت لصاحب دار النشر الذي يجيبه قائلا: بالأمس طلب الإحاطة واليوم تغطية كاملة في جريدة الهلال الأخضر، فضلا عن مقال رئيس تحرير جريدة الأمس المتعاطف معهم، حدسي كناشر يقول أن الموضوع يستحق القلق
- وحدسي ككاتب هو العكس، ربما كانت هذه الدعاية المجانية لصالح الكتاب، فسارع بإعداد الطبعة الثانية
- كل هذا يمثل ضغطا على قرار المجمع؟ سمعت أن لهم يد طولى داخله؟
- زوبعة في فنجان، وإنما يراهنون على صلابة أعصابنا كدأبهم، أعد الطبعة الثانية على ضمانتي الشخصية، وأنا متكفل بأي خسائر تترتب على قرار المجمع
- لست قلقا من خسائر، لكن قلقي عليك، تعرف تاريخهم مع الدكتور "نص[3] وغيره
- كان قانون الحسبة القديم يمكن كل من هب ودب من الشق عن قلوب الناس، لكن الزمن تغير، لهذا قدموا طلب الإحاطة، مجرد ظاهرة صوتية
- فلتكن مشيئه الله
- ونعم بالله، وشكرا لاهتمامك، فلولاك ما علمت بالأمر
يأتي صوت "ماري" من خلفه فور إغلاقه للخط قائلة: ألم نتفق على إجازة لمدة أسبوع؟ ستضطرني لمصادرة محمولك لو استمرت المشاغبات
- إنه ناشري، يخبرني بطلب إحاطة حول كتابي في البرلمان، قدمه طليق أختي "عزة"
ترتسم على وجها علامات الدهشة والاهتمام وهي تجلس على كرسي الخيزران المقابل له في الشرفة، وتقول: ألم يكن جراحا؟ ماله وكتاب كهذا؟
- ألا ينتمي للتيار الذي يناقش الكتاب شرعية وجوده على الساحة السياسية
- هذا دافعه، فما هي صلاحياته؟
- من حقه كنائب برلماني أن يقدم طلب إحاطة لأي وزير، يحيطه علما بموضوع في دائرة اختصاصه لاتخاذ ما يلزم بشأنه، وهو مخلب قط لا أكثر، أحسبهم اختاروه لعلاقتنا السابقة، لعله مع تصاعد الحملة إعلاميا يلقي بأي ظلال على حياتي الخاصة، فلو عجزوا عن منع تداول الكتاب يسببون لي ضررا أدبيا أو نفسيا
تقلب شفتها السفلى في امتعاض وتقول: منع تداول؟ هل هناك من يفكر بهذه الطريقة في زماننا؟ لو منعوه مطبوعا فكيف سيمنعوه على شبكة الإنترنت؟ ألا يفهمون معنى السموات المفتوحة؟
- لا تهمهم فاعلية المنع، ولكن صدور قرار المنع في ذاته، ففيه إظهار لنفوذهم وردع لغيري من الكتاب ودور النشر، استعراض عضلات لا أكثر، ولنفس السبب يهتمون بانتخابات النقابات والمحليات واتحاد الطلاب، فنحن نعيش مرحلة التمكين وفقا لمخططات بعض فصائلهم
- قلت لك حين قرأت المسودة أن الكتاب سيسبب مشاكلا بلا حصر .. لا حدود لعنادك الذي يورطك في المعارك
- أحب أغنية من أغاني الستينات تقول "يا أهلا بالمعارك .. بنارها نستبارك .. ونطلع منصورين"
هكذا رد مبتسما، فعلقت: ألا تكفيك أشباح الأحلام لتستدعي أشباح الحاضر؟
- كلهم سواء في الماضي والحاضر، فالخوارج والمرتزقة على موائد الأمويين أمس هم البروفة الأولى للمتطرفين والانتهازيين اليوم، وما بين مؤامرات الخوارج وفساد المرتزقة يختفي كل جميل ونظيف في حياتنا
ينظر بعينيه لأسفل للحظات كعادته حين يخطر له أمر، ثم ينظر نحوها ويسألها: هل تسمح لي راعية فؤادي باستخدام الكمبيوتر لمدة ساعة واحدة؟ أحتاج للرد عليهم بمقال ينشر بأسرع وقت
- لا فائدة، تصادمي للنهاية
- لو لم أرد على الهجوم الصحفي فلن يقفوا عند حد، سيغريهم السكوت ويحسبونه ضعفا
تقول و على وجهها تعبير الاستسلام: أنت أدرى بهم، لتكن ساعة واحدة أرجوك
- أعدك يا خيزراني[4] العزيزة ألا أتجاوزها، أعطني دقيقة لأجري مكالمة ثم ابدأي العد التنازلي
يعبث بأزرار المحمول حتى يطلب رقم صديقه "إبراهيم موسى"، وهو رئيس تحرير إحدى الصحف المستقلة في زمن قل فيه الاستقلال، ينتظر لحظات حتى يرد "إبراهيم" على الجهة فينطلق صوت "علي" قائلا: لا أصدق أن جناب رئيس التحرير يرد من أول محاولة؟
- أنت من يغلق هاتفه لأيام، حاولت مكالمتك أمس حين قرأت طلب الإحاطة في التغطية البرلمانية، ماذا تنوي؟
- أنوي الرد طبعا، فهل أجد مكانا لنشر ردي؟ أم أنك شفيت من إدمان المشاكل؟
- لو أقلعت أنا عن المشاكل لن تقلع هي عني، فأنا زوجها وعشيقها الأول، تنقل فؤادها هنا وهناك، ثم تعود وتستقر في كنفي
قالها "إبراهيم" ضاحكاً فضحك معه "علي" طويلاً، "إبراهيم" صحفي جريء يهز بقلمه قلوب المصريين كل صباح، وله اهتمامات قريبة من اهتمامات علي في التاريخ والتراث الإسلامي وإن لم يكن متخصصا فيه، غير أن السياسة والكتابة فيها يستغرقان أغلب وقته
رد "علي" بعد فاصل الضحك القصير قائلاً: ثلاث مقالات، أولها سأسميه طلب اعتذار، ألا يدعي بعضهم اليوم الاعتدال ونبذ العنف؟ أليس من حق المجتمع قبل قبولهم كفصيل سياسي مدني أن يسمع اعتذارا رسميا منهم على جرائم الماضي؟ اغتيالات سياسية، وتصفية حسابات مع القضاة، عليهم الاعتذار للمجتمع ولأسر ضحاياهم، والإقرار بأن مرتكبيها مضللون وليسوا شهداءً
- كاعتذارات الفاتيكان تقريبا؟
- بشكل ما نعم
- الموقف مختلف، اعتذار كهذا لو قالته كوادرهم السياسية فستلتهمها كوادرهم ال.. التي يسمونها نوعية، لن تجد مجنونا منهم يفعل هذا
- وهو المطلوب إثباته، أنهم مازالوا فصيلا يعتنق فكر العنف
يرد "ابراهيم" وقد راقته الفكرة: الفكرة قوية، متي ستكون جاهزا بمقالك؟
- غدا صباحا حتى يمكنك نشره في العدد الأسبوعي، قد يصل لنصف صفحة بسبب التغطية التاريخية لأعمال العنف في تراثهم الأسود، أنوي التركيز على القاضي الذي اغتالوه وحكموا على قاتله عمدا بالدية! دية في قتل عمد وبغير موافقة ولي الدم! ويدعون الحكم بما أنزل الله وما حكموا بغير الهوى والغرض قبل الوصول إلى السلطة، فماذا ينتظرنا لو وصلوا إليها؟ ماذا سيحدث لو نالوا غرضهم الذي صار مرضهم ومرض الوطن؟
- سأنشره حتى لو اضطررت لحجب مقالي أنا شخصيا في العدد الأسبوعي
- شكرا يا صديقي العزيز، لكن إياك وحجب مقالك حتى لا يكرهني من يستيقظون على سطورك كل يوم، المقال بالصور الأرشيفية يصلك غدا على البريد الالكتروني بمشيئة الله
يغلق "علي" الخط وينظر لماري منفرج الأسارير لسعادته بحملته التي انتواها، ويقول: ألم أقل لك .. يا أهلا بالمعارك
...
(17)
جبل الجليد
الخميس، الثالث عشر من سبتمبر
في هذا الصباح المشمس من خريف الإسكندرية، جلس في الشرفة يتصفح الجرائد، طالع مقاله الثاني في جريدة صوت مصر، والذي تناول فيه الأبعاد الخفية لعلاقة الولايات المتحدة بتنظيمات الإسلام السياسي، بعد أن كتب مقاله الأول عن الاعتذار المطلوب من الجماعات التي تدعي الاقلاع عن العنف قبل قبولها كلاعب في الحياة السياسية، أخذ يطالع العناوين الجانبية التي وضعها صديقه "إبراهيم" لمقاله بالفنط الأحمر الكبير "وثائق جديدة حول علاقة أحد الجماعات بالمخابرات المركزية .. ما سر القيادي الذي دعته أمريكا لزيارتها عام 1953م؟ .. مراكز نشطة من باكستان لسويسرا بأموال نفطية وخبرات مخابراتية أمريكية تحت ستار مقاومة الشيوعية .. اعترافات أعضاء سابقين بمؤامرة عام 1965م .. زيارة ثلاثة قياديين لقاعدة العضم الأمريكية في ليبيا قبيل الخامس من يونيو 1967؟ .. لماذا حاربوا للحفاظ على مصالح أمريكا في الخليج العربي؟" وقد كشف "علي" في مقاله ضمن ما كشف سر ولعهم بموضوع حرب اليمن، فكلمة السر لفهم دورهم السياسي في الستينات هي تلك الحرب، قاموا بكل ما وسعهم لقلب نظام الحكم عام 1965م حتى يسقط النظام المصري وينسحب جيش مصر من اليمن، ليعود الإمام "البدر" للحكم وتظل عروش البترول آمنة، ومعها الأمان التام للمصالح الأمريكية، فالولايات المتحدة كانت تدرك يقينا أن نفوذا لناصر في الخليج يمثل تهديدا أكبر من تهديد الدكتور "مصدق" في إيران، وحين فشلت المؤامرة الانقلابية القريبة من مؤامرتهم ضد "مصدق"، كانت ضربة عام 1967م بينما عدة فرق من الجيش المصري تحارب مرتزقة عروش البترول في اليمن! وقد اعتمد "علي" في مقاله على عدد من الوثائق اشتراها من صالة مزادات متخصصة في وثائق التاريخ الحديث في لندن، لهذا توقع ردود فعل قوية، فحتى من كان يعرف هذه العلاقات نساها مع الحادي عشر من سبتمبر الذي قلب الموازين
نظر لمقاله بعين راضية واستقبل عدة مكالمات من زملاء وأصدقاء، البعض هنأ والبعض ناقش والبعض لام، لكن الكل بلا استثناء حذر من دخول عش الدبابير! كان "علي" يرد بكلمة يحبها من فيلم "ناجي العلي"، حين قال لزوجته "يا مرة خليهم خايفين مني .. ليش بدك تخوفيني منهم؟" يعلم في قرارة نفسه أن هدفه ليس هجوماً عليهم، كان هدف كتابه هو خلق حالة وعي بين الطبقة الوسطى بحقائق العالم الذي نعيشه، وأول تلك الحقائق ذلك التحالف القديم الجديد بين الرأسمالية المتطرفة والتيارات الدينية المتطرفة حول العالم، كان كتابه أول خطوة في هذا السبيل، لكنهم تعجلوا بنقل المعركة على مستوى الصحف ورجل الشارع، فكان لهم ما أرادوا
وضع الجرنال على الطاولة الخشبية الصغيرة بعد أن تأكد من صحة كلمات مقاله دون أخطاء مطبعية، ثم تناول جريدة الأهرام وهو يشعل سيجارة مع قهوة الصباح، "ماري" تعطيه خمسة سجائر يوميا فقط، لهذا أصبح دقيقا في اختيار متي وكيف يدخن، طالع الصفحة الأولى بملل .. أخبار سياسية تتكرر على مدار العام كأن الزمن قد توقف، وضع الأهرام ليمسك بجريدة القانون فيجد على صفحتها الأولى مانشيتا يقول "الشيخ نادر التل يصرح من الكويت أن احتلال العراق كان شرا لابد منه، وأن التعامل مع قوات الاحتلال ليس حراماً" .. جرى بعينيه فوق سطور المقال في اهتمام في البداية، ثم ما لبثت علامات الاهتمام على وجهه أن تحولت إلى ابتسامة ثم ضحكة، ثم انتابته نوبة ضحك هستيرية، جاءت "ماري" على صوت ضحكاته من المطبخ وهي ترتدي مريلة منزلية، تسائلت عن الخطب، فأجابها من بين ضحكاته قائلاً: لدينا مثل يقول هم يضحك وهم يبكي
أشار لمقال الشيخ الأزهري المصري الذي يملأ الفضائيات ببرامجه الدينية، التقطت الجرنال بيدها بعد أن جففتها في مريلة المطبخ في حركة تلقائية تتفق فيها كل نساء الدنيا، جرت على الأسطر بعينيها بينما أشعل "علي" سيجارة في تبذير كبير بعد الانتهاء من الأولى بلحظات .. رفعت عينيها عن الجرنال وعلقت: قد تكون له وجهة نظر ليست واضحة لك
- بل واضحة كشمس الضحى، الصلاة هنا والغذاء هناك
- لا أفهم؟
- حلقات مفرغة ندور فيها منذ قرون، في مواجهة "علي" لجيش الشام، حدثت هدنة لدخول الشهر الحرام، فكان نفر من جيش "معاوية" ينتقلون للصلاة خلف "علي" في وقت الجماعة، ثم يعودون لمعسكرهم آمنين في ظل الهدنة، فلما سألوا لماذا لا ترضونه لدنياكم لو كنتم ترتضونه لدينكم؟ أجاب بعضهم فقال "الصلاة خلف علي أقوم، وسماط معاوية أدسم"[5]
تضحك "ماري" وتعلق: منطق غريب
- ومثله منطق فضيلة الأستاذ، يخطب في الناس عن الصحوة الإسلامية وإنقاذ الأمة، ثم يطير شرقا للقاء طوال العمر، وهناك تحرر باسمه الشيكات، فيفتي بناء على حجية هذه المراجع البنكية بأن "صدام" كان طاغية أما أمريكا فأمنا الرؤوم! يذكرني بأستاذ له، لكنه مخضرم عتيق في حمامات النفط، يلعن مصر الستينات ويرى هزيمتها في يونيو عادلة لأنها كانت تستعين بالسوفييت الملحدين، واليوم يرى قاعدة العديد[6] الأمريكية من شرفة منزله فلا يلق بالا، طبعا لأن السوفيت الملحدين لكن الأمريكان من أولياء الله الصالحين! مدد يا سيدي "رامسفيلد"
كان وجهه يزداد احتقانا مع كل كلمة، وإن حافظ على نبرة صوت منخفضة الحدة، وعلى وجهه ترتسم ملامح غيظ مكظوم، فسألته: مالك يا "علي"؟
قالتها بقلق وهي تنظر في وجهه، فلم تكن حالته الصحية مناسبة لهذا الانفعال، نظر إليها، وأطال النظر برهة بعينيها ثم ابتسم ابتسامة خضراء نضرة، وما هي إلا لحظات حتى زال احتقان وجهه واسترخت عضلاته التي كانت مشدودة كعادته حين يتحمس أو يتميز غيظاً، شعرت بهذا من اختفاء رعشة يده التي تمسك السيجارة، ثم تحركت شفتاه ليقول بعد لحظات من الصمت: لو أن العالم كله صادق كعينيك لدامت سعادتي، لكنها أرض النفاق يا مريمي، وأنا بشر، كثيرا ما ينتابني ملل من كل شيء، ويقتحمني سؤال قاهر: هل هناك نتيجة ترجى؟ هل سيأتي يوم يرى فيه الناس الحق حقا فيتبعوه؟ أم ستبقى دنيانا مرتهنة لكلاب الذهب وعبدان السوط؟ هل ستأتي أنوار المسيح أو المهدي أم ستسود ظلمات الدجال؟
- ولم كل هذا؟ ماذا جد؟ ألست راضيا عن نتائج الحملة الصحفية؟
- بل نجحت أكثر مما توقعت، إلا أن قلبي سقيم! "إنها الحرب .. قد تثقل القلب .. لكن خلفك عار العرب"[7]
فهمته فعلت وجهها علامات اشفاق على هذا المحارب رغم أنفه، وأنصتت إليه وهو يستأنف قائلا: أكره الحرب، لكني مضطر للترحيب بالمعارك لأن كرهي لفسادهم أكبر، الحرب تخرج أسوأ ما فينا، والحب ينبت أجمل ما فينا، ويوما بعد يوم، تتزايد الحروب ويذبل الحب حولنا
قالها شاخصا ببصره لسماء الصبح الصافية، فلم يشعر إلا وهي تتقدم نحوه وتمد يديها فتضم رأسه لصدرها بحنان، انتابته قشعريرة وارتبك للحظة، ثم ما لبث أن أغمض عينيه .. يالها من لحظة لا يحصي كم تمناها! كل هذه السنوات يحلم بأن تتجسد فيها أمه لتغمره بأمواج الحنان من صدرها، انتظرها طويلا واشتاقها مرفأً آمناً وسط عباب الحياة، اشتاق للحظة سكون معها .. سكون، ما أغربنا نحن البشر؟ ننتظر لحظة بعينها ألف يوم ونتخيل كل يوم ماذا سنفعل حين تأتي، وحين تأتي اللحظة ويصبح الخيال حقيقة .. لا نفعل شيئاً، تماماً كما هو الآن، وماذا عساه يفعل حيال فتنة عمره وخاتمة النساء؟ هل يشكر القلب الذي أعلن احتجاجه على طول الحرمان فاقتربت؟ في أنواء هذا الكون كم يحتاج إليها؟ طفل عنيد يرفض أن يلوثه زمن قبيح، ولكن أي طفل مهما بلغ عناده يحتاج لدفأ أمه في آخر اليوم، ليستطيع النوم دون أن تفسد الأحلام والهموم نومه! هكذا كانت الأفكار تختلج بصدره، وهو يرفع يدها ويدنيها من فمه فيقبلها، كم كان محتاجا لهذه الضمة؟ ابتعدت قليلاً، فشعر بلوعة الفطام، نظرت في عينيه وهي تقول: لكنها حرب تنوير، أنت تفعل الآن وهنا ما كان يفعله "توماس مور" و"ميلتون" و"كوبرنيكوس" و"جاليليو" و"بيكون"، كل العمالقة خاضوا معاركا حتى نرى نحن النور، وها نحن نعيش بنورهم بعد رحيلهم بقرون! الحرب التي تثقل القلب هي حرب تخوضها لهدف شخصي، أما التنوير فلابد أن تفخر به، لأنه تماما كالحب، يخرج أعظم ما فيك
يتأملها بامتنان ويقول: أمس كنتُ مثل "جان بول مارا" و"جيفارا" واليوم أصبحت مثل "مور" و"ميلتون"، سأتمزق غرورا في الغد لو رأيتني مثل "الإسكندر الأكبر"
ابتسمت وأطرق هو قليلا ثم قال: العمر يجري يا غاليتي، وبوادر الأزمة القلبية ذكرتني بجريه بسرعة الصوت، هناك قصيدة للدكتور "إبراهيم ناجي" يقول فيها "حان حرماني وناداني النذير .. ما الذي أعددت لي قبل المسير؟ زمني ضاع وما أنصفتني .. زادي الأول كالزاد الأخير .. ري عمري من أكاذيب المنى .. وطعامي من عفاف وضمير"
- الأطلال؟
يهز رأسه موافقا ويقول كمن شرد في عالم آخر "آه من يأخذ عمـري كله .. و يعيد الطفل والجهل القديما" .. ثم يعلق قائلا: كان "ناجي" طبيبا، وكانت له عيادة بوسط البلد، وبذات المبنى كانت صيدلية الدكتور "نقولا حداد"، أول من ترجم النسبية للِّغة العربية، وكان بينهما اتفاق جنتلمان، لو وجد "ناجي" مريضا غير قادر رد له أتعابه ويضع على وصفته العلاجية علامة، يصرف بمقتضاها "نقولا" علاجه مجانا، ثم يقتسما تكلفة العلاج بينهما، كان هؤلاء أدباء وعلماء زمن التنوير
- لكل زمن جماله ورجاله، وقد تكتب مستشرقة انجليزية ذكرياتها عن مصر يوما، فتكتب حكايات كثيرة رائعة عن مؤرخ شاعر رقيق، عقل جميل وقلب جميل
- لا حرمنا الله عذب اللسان
قالها وهو ينظر لعينيها بنظرة تقول: لماذا لا توافقين يا حبيبتي ليصبح الوجود أجمل والشمس أدفأ والبحر أكبر؟ لأنعم بالسكن والسكون؟ حنان صدرك يا ماريتي هو سكني الذي خلقه الله لي، فلماذا تمنعين عني هبة الرب يا سمية العذراء؟ .. تنتفض فجأة وهي تقول: معنى هذه الرائحة أن طعامنا تحول لفحم من العصر الحجري
قالتها وهي تعدو نحو المطبخ، فضحك وقد تحسنت معنوياته كثيراً، ثم وقعت عيناه على الجرنال الذي وضعته "ماري" فوق الطاولة، فرأى صورة الداعية الفضائي بابتسامته الباهتة، تذكر كيف غادر خطبة الجمعة في مسجد قريب ذات يوم عام 2006م خلال العدوان الصهيوني على لبنان، كان الخطيب عظيم اللحية يقول أنه لا يجوز لمسلم سني أن يدعو لحسن نصر الله بالنصر، لأنه رافضي كافر! ولا يجوز لمسلم أن يتعاطف مع حزب الله لأنهم روافض وقتلاهم في النار، يومها قال "علي" بصوت مسموع وهو يقوم فينتعل حذاءه: وهل قتلى الصهاينة في الجنة؟ أستغفر الله العظيم
سمع وهو ينصرف همهمات من بعض المصلين خلفه، صلوا خلفه أنتم لو أردتم، أما أنا فأراه معتوها لا تجوز خلفه صلاة!
حين ولد "علي" عام 1966م كانت فلسطين وحدها محتلة، اليوم فلسطين والعراق والجولان وشبعا على قائمة الاحتلال، والبقية تأتي، يتذكر أبياتا لمظفر النواب، يقول فيها "لعلي يتوضأ بالسيف قبيل الفجر .. أنبيك علياً .. ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف .. ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف .. ما زالت عورة ابن العاص[8] معاصرة وتقبح وجه التاريخ" لقد عرض هذه الأبيات في رسالة الدكتوراه ضمن أمثلة على رسوخ الطبيعة السياسية الاقتصادية للفتنة الكبرى في العقل الجمعي للمثقفين، يتذكر تلك الأيام الجميلة الماضية فتمتعه الذكرى، وتتداعى لذهنه ذكريات مناقشة رسالته للدكتوراة في شيفلد